رواية جمعية حب الفصل السابع 7 بقلم شمس محمد – تحميل الرواية pdf

بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على الرسول الكريم..
سبحان الله وبحمدهِ، سبحان الله العظيم..
|| صلوا على الرسول الحبيبﷺ ||
_الرجاء الدعاء لـ “نسمة” ولكل أموات المسلمين بالرحمة
والمغفرة.
____________________________________
ألا زِلت تذكرني أيها الرفيق؟..
لقد جئتُ لكَ اليوم برسالة أملٍ، رُبما أنكَ قد تتعجب لكن هذه هي الحقيقة، جئتُ لك اليوم كي أناولك بصيصًا من الأملِ، أتعلم ذات مرةٍ سهرتُ ليلًا طويلًا حتى كِدتُ أظن أن ليليِّ الطويل هذا لن يعقبهُ شمسٌ، حسبت شَّمسي انطفأت وطال ظلام دربي، وقتها تمنيت أن أغمض جفوني وتطيل نومتي لحين أرى بأم عيني شعاع الشمسِ، خشيت طوال ليلي وأنا أحسبه ليلًا لن يَّمُر،
لكن حين هجرني النوم وزاد سهري وجدتُ نفسي اتأمل الظلام حولي، أتأمل الخوف الساكن في كل شيءٍ يُحيط بي كأني غريقًا في بقاعِ المُحيط ووصولي للشاطيء بات مُستحيلًا..
فتعجبت لمَّ ازداد سهريّ هذه الليلة؟ هل كي أُصادق الخوف رُغمًا عنيِّ؟ طال سؤالي بغير جوابٍ، لكن أتعلم متى وصل الجواب؟
حين رأيت بعيني شعاع النور يأتيني من رحمِ الظلام، في دُجنةِ الليلِ حين كنت أحسب أن النور لن يأتيني، رأيت بعيني نورًا يتفشى ويعود لأرضهِ كما النازح الذي أجبره المُحتل على الرحيل، فلا تيأس يا صديقي لعلك في هذا الحين تبيتُ ليلَك ساهرًا كي تُجبر برؤية شمسك تعود،
وبالتالي سوف تشرق أنتَ أيضًا..
<أنتِ الحبيبة، أنتِ القريبة، أنتِ الهوية ولم تكونِ غريبة “>
أتتذكرين حين قُلتُ لكِ أن الكابوس سوف ينتهي؟..
سوف أعانقك كما يُعانق الحُلم جفوني، سوف اراكِ نصب عيني كما يرى الطير عُشه، سوف التقط يدكِ في الزِحامِ كما يلتقط الصغير يد أمهِ خوفًا من الضياعِ، سوف أعود لكِ كما يعود دالنازح لأرضهِ ويُرابط فوق رُكام بيته، حتى ولو كان خرابًا، سوف أعود لكِ وأخبركِ أنكِ باقيةٌ كما أغصان الزيتون..
_أيوة مين معايا؟.
لفظها “آدم” مُستفسرًا بنبرةٍ جادة عملية، ولم يصله الرد؛ بل طال الصمتُ وكاد أن يُغلق الهاتف وعلى آخر لحظةٍ وصله صوتها باكيةً وهي تقول بلهفةٍ كأنها تستجديه:
_أنا يا “آدم”..أنا “عُـلا”.
توسعت عيناه وفرغ فاهه وفي ثوانٍ تحولت ملامحه وهيئته وكأنه لم يصدق أن ماضيه قد عاد، ولم يصدق أن العودة تلك المرة تخص الحبيبة الأولى لأيام عمرهِ، تجمدت ملامحهُ وجفَّ حلقهُ، حتى أنه أخرج حديثه عنوةً عنه وكأنه لم يُصدق الصدفة التي أتت له على طبقٍ من ذهبٍ:
_أنتِ، أنتِ “عُـلا” بجد؟.
_أيوة والله، فاكرني؟ وحشتني أوي يا “آدم”.
احتل الدمعُ عينيه وكاد أن يزرف البكاء مدرارًا لكنه تمالك نفسه وسحب نفسًا عميقًا يُردعُ به حركة عبراته وقال بسخريةٍ مريرة أعادت كل الذكريات الصعبة له:
_فاكرك؟ هنساكِ إزاي بس، طمنيني أخبارك إيه؟.
لم تجرؤ وتخبره كذبًا بحالها، لذا قالت بخيبة أملٍ عاتية عليها:
_محتاجالك، ينفع؟.
تحدثت وكأنها حقًا لم تَعد تَملكُ أيْة حيلٍ تُذكرُ، أفضت له خلال كلمتين موجزتين بحالها؛ وهو لم يكن في حاجةٍ صعبة كي يفهم عليها، فقال بتضامنٍ معها يفتح لها أبوابه بالكامل مُرحبًا بها داخل أرضه:
_عنوانك وقبل الشمس ما تطلع هتلاقيني عندك يا “عُـلا”.
سألته بلهفةٍ مستنكرة حديثه وكأنها لا تُصدق، بينما هو فقال بتأكيدٍ لحديثه كأنه لن يتراجع قط عن قرارٍ أخذه لأجلها هي:
_ودي فيها كلام يا “عُـلا” يعني؟ هسيبك لوحدك كدا وأديكِ ضهري؟ أيًا كان اللي حصل أنا خلاص مش هسيبك تاني، قوليلي أنتِ فين ومالكيش دعوة بأي حاجة تانية.
أخبرته بعنوانها وجلست في انتظارهِ كمن ينتظر عودة الأسير مع شمس الصبيحة، تابعت السماء الحالكة بعينيها كمن يبحث عن القمرِ، تنهدت بثقلٍ وألقت حِمل رأسها فوق درابزون الشُرفةِ وعيناها لم يبرحهما الدمعُ، لقد بكت حتى ملَّ البكاء مسكنه في عينيها وقرر أن يهجرها بغير راحةٍ، ياليته كان هُنا أو ياليتها هي معهُ مُنذ بداية الدربِ، تبًا للعالم وتبًا لتلك القوانين التي تَحرِم الأرواحَ من مساكِنها وتتركها كما رُكام بيتٍ غير آهلٍ للسُكانِ..
وعلى النقيض انطلق هو كما الطير من محبسهِ، كأن رأسه تحمل الطيور وجسدهُ مُقيدٌ بالأغلالِ، شعر كأن أسرهُ انفك ونال الحُريةِ، كأنه وجد صومعةً في مضيقِ جبلٍ وهو بمعزلٍ عن الناسِ أجمع، صعد لمكتبه يرتدي سترته ثم سحب متعلقاته وركب سيارته يشق بها الطريق شقًا وهو يُراجع العنوان مرارًا، ظل يحفظه خوفًا من أن ينساه، طريقه معها منذ البداية كان شائكًا لكنه لن يقبل أن تضيع منه كما الماضي، تلك المرة إمَّا يستعيدُ الرَّوح وإما يفديها بالروحِ..
وخلال الطريق ظلت لقطات من الماضي تميض وتخبو كما ضوء كاميرا تلتقط مشاهد مسرحية مُعينة وتعرضها على شاشة عرضٍ كبيرة، وتلك الشاشة هي عقله الذي وجد الظلام في كل ذِكرى معها، هو الشخص الذي لقىٰ الرفضَ في كلِ سبيلٍ، وفي كل بيتٍ وفي كل يومٍ، حتى حسبَ نفسه همًّا فوق القلوب وليس فردًا..
تذكر حين ذهب بعد وفاة والدهما هو و”أدهـم” وكيف أصبح هشًا وضعيفًا من دونهِ، وقتها كان يشعر بالغرابةِ والغُربةِ على حدِ السَّواءِ، فكيف له أن يكون وسطهم مرفوضًا بهذا الشكل الغريب؟ وقتها كان مع “أدهـم” في زيارة لبيت “داغـر” الذي أصر على قدوم حفيده، ولأن الارتباط بينهما كان وطيدًا منذ الصِغرِ قام “أدهـم” باصطحاب “آدم” معه وبمجرد أن ولجا البيت معًا تيبس جسده..
حيثُ كان البيت مُرعبًا، هالته ضخمة، يليق برجلٍ عسكري قيادي في الجيش _سابقًا وقتذاك_ وقد خطفته هالة الجَدِ حين وقف فوق الدرج وقال بفظاظةٍ وسلاطة لسانٍ:
_أنا قولت حفيدي اللي هو أنتَ ييجي يقعد براحته في بيت جده، بس أنا مش فاهم جايبه معاك ليه وبأنهي صفة، وجوده هنا مش مُرحب بيه.
توسعت عينا الاثنين وتخشب جسد “آدم” بينما “أدهـم” فتقدم يواجه جده بحدةٍ في حركته ورفع صوته ليبدو منفعلًا بقولهِ العنفواني:
_أنا جيت علشان أنتَ صممت أجيلك ووقفت لعمتو وعلشان خاطر عم “عـرفه” بس دا مش معناه إني هسيبك تغلط فيه وتقلل منه، دا أخويا غصب عن أي حد، ولو أنتَ مش قابله فأكيد مش قابلني، خلاص يبقى انسى بقى إنك ليك حفيد طالما بتفصل الناس على دماغك.
التفت “أدهـم” يوليه الدُبر ويرحل برفقة أخيه فضرب “داغـر” الأرض بعصاهِ وهدَّر بغضبٍ وجموحٍ وعنفوانٍ:
_لو خرجت من هنا مش عاوز أشوف وشك تاني، ولا تدخلي بيت طول ما أنا حي، ولو عاوزني معاك وتبقى في ضهري وحمايتي ترجعه من مطرح ما جيبته.
توقف “أدهـم” قبل أن يُكمل السير ثم التفت له وقال بخيبة أملٍ احتلت عينيه وملامحه حين تذكر أمر أمه الراحلة وتذكر كيف عانت هي بسبب جده الذي كان وبكل أسفٍ أكبر جلادٍ لها على حياة عَّينها:
_كنت عرفت تِحمي بنتك وتبقى أنتَ في ضهرها قبل ما تطلب مني أكون في ضهرك، على العموم كدا كدا عمري ما استعنيتك، أنا اللي يهمني هو “آدم” وبس من بعد أبويا، كفاية اللي راحوا بسببك.
خرج “آدم” من شروده على صوت هاتفه حين صدح عاليًا فتنهد بثقلٍ ثم أطفأ الصوت حين وجد المُتصل موضع عمله وأكمل سيره نحو الطريق المنشود الذي يفصله عن روحهِ ونفسه بضعة كيلومترات، حتمًا سيجتازُها ويَعبُرُ نحو المكان الذي يُريد ويحتضن الحياة التي يرغبها، ويضم نفسه الغائبة عنه بعناقهِ..
____________________________________
<“كيف ابني الدار من بين الرُكامِ والقصف ترك ناره في قلبي”>
أنظر هُنا حيث الحُلم الذي سعيتَ لأجلهِ..
اطلع عليه وقارن ما أنتَ عليه وما كنت تتمناهُ لحُلمك، ستجد حياتك أمست رُكامًا فوق بعضها، انهدم البيت فوق رأس صاحبه وحُلمه ضاع بيد رفاتٍ حديدٍ؛
أمَّا عن أمله فلم يبقَ منه إلا الحُطام..
الجلوس في المشفى تحت قائمة الانتظار في غاية القسوة ولا شك في قتل النفس بغير رحمةٍ، وهو يجلس في غرفةٍ قام بدفع أجرتها حتى يكون بجوار شقيقه، كان معه قلبًا وقالبًا، لم يبرح محله حتى يبلغ السلامةَ له، لكن الشيء الوحيد الذي طمأنه أن “أدهـم” لم يتركه وحده منذ الصباح، حتى أمور العمل يُديرها هو بالإنابةِ عنه، وقد هدأت نيران “سُليمان” كثيرًا بوجود خليلهُ..
أتى “أدهـم” وجلس بجواره داخل الشُرفة وقال بهدوءٍ:
_عارف إنه غصب عنك بس صدقني لازم تقوم وتروح البيت، تغير هدومك وتشوف والدتك وتسرح شعرك وتظبط شكلك كدا، هو لو واعي للي حواليه مكانش هيقبل بشكلك دا، وياسيدي تعالى طمن ولاده عليه، لسه “سليم” مكلمني وبيعيط، قوم علشان خاطري.
لم يملك “سُليمان” قُدرةً للجِدالِّ بل وافق على مضضٍ وتحرك من مكانه لأنه لمح بصيص الحق في حديث صاحبه، بدونِ توريةٍ أو خفاءٍ عليه أن يصمد أكثر من ذلك، تحرك جنبًا إلى جنبٍ بجوار “أدهـم” حتى ولجا السيارة بصمتٍ، التزم الصمت لكن على النقيض كانت الأفكار تغلي داخل رأسه، لم تصمت ولم يكف قلبه عن النبض الحزين، وصورتها هي وحدها تحتل الكادر الأكبر في كل المشاهد، كأنه لتوهِ استفاق على خُذلانه منها.
توقفت السيارة أمام بيت أمه وأدرك هو ذلك حين صدر صوت وقوفها فزفر بثقلٍ والتفت حوله ثم نزل من السيارة وعَّقبه “أدهـم” الذي وقف بجواره وقال بحنوٍ بالغ الأثر:
_عارف إنك مش فايق للكلام ولا لأي حاجة، ودا حقك على فكرة مش بلومك، وعارف إن مهما قولت إن الموضوع مش في دماغك ومش شاغلك أنه مش راحمك، ازعل يا “سليمان” وخد وقتك في الزعل، أنتَ إنسان مش حجر.
رفع “سُليمان” عينيه لرفيقه فلمح الآخر وهجهما مُنطفئًا، طالت النظرة بينهما بصمتٍ قطعه سؤال “سُليمان” حين قال بحيرةٍ حقيقية:
_مش عارف أنا زعلان منها ولا زعلان على نفسي، ولا يمكن يكون مش فارقلي وأنا مش حاسس، بس فيه يا أخي سؤال مش راحم عقلي، كان ناقص إيه تاني أعمله علشانها وماعملتهوش؟ ليه تقولي كدا وتعمل فيا كدا؟ قرف !! على آخر الزمن وقوفها جنبي في الأزمة دي بقى قرف؟.
تحدث أخيرًا وأخرج البركان من داخل صدرهِ، وقد تركه “أدهـم” يتحدث كيفما يشاء، لكن الآخر ضرب كفيه ببعضهما ثم مسح بهما فوق وجهه بحركةٍ عنيفة وقال بمقتٍ لها:
_إزاي حطيت أمل فيها؟ أنا مكسوف من نفسي.
وكأنه يتحدث عن حال رفيقه، كلاهما في الأغلب قام بتجربة الشعور القاسي ذاته، كلاهما يعلم مرارة الخذلان، طفق الضيق يظهر في عيني “أدهـم” بينما “سُليمان” أعاده لخيبة الأمل ذاتها حان قال مستفسرًا بيأسٍ:
_بننسى إزاي يا “أدهـم” الاحساس دا؟.
تلاقت الأعين مع بعضها في لحظة انكسارٍ حقيقية لم يجرؤ أحدهما على الهربِ منها، كأنه يفرض سؤالًا بغير جوابٍ، لكنه قال بصدقٍ أوضح فشله في النسيان وتخطيه للحدث عظيم الأثر على قلبهِ:
_وهو بالسهل ننسى عمايل اللي كنا بنحبهم فينا؟.
قال جملته ثم زفر بقوةٍ وقال بضيقٍ ملأ قلبه وملأ وجدانه كونه شعر بتلك الغصة التي عادت لتذكره بخيبته الكُبرى وفي خسارته للرهانِ عليها وفي النهاية خسر الرهان ومعه خسر جزءًا من قلبه، وقد تحدث “سُليمان” بضيقٍ وقال مؤكدًا قول صاحبه:
_معاك حق، أكيد مش هننسى، بس هبقى عارف إني استاهل الأحسن، وهبقى عارف إني عملت بأصلي مع ناس مالهاش أصل، ولحد آخر لحظة هبقى عارف برضه إني مكانش ينفع استنى حد يمدلي إيده علشان يكون معايا، العيب فيا إني ماخدتش بالي من الأول وكملت في طريقه أخره سد يمكن أوصل في نهايته لحاجة.
ربت “أدهـم” فوق كتفه وقال بهدوءٍ غلبه وغلبَ طوفان قلبه:
_ربنا يعوضك باللي فيه خير ليك، ويفرحك برجوع أخوك من تاني، يلا اطلع ارتاح شوية وبكرة الصبح هجيبلك “سليم” و “سدره” يروحوا يتطمنوا عليه، عاوز حاجة؟ هروح ارتاح شوية علشان أجيلك بكرة.
تركه والتفت ذاهبًا للسيارةِ فوقف “سُليمان” لبرهةٍ تائهًا لا يعلم أين العنوان، لكن القلب همس له أنه يحتاج لأمانٍ سوف يجده مع رفيقه، لذا نطق يوقفه قبل أن يلج السيارة بقوله:
التفت بعجبٍ فاقترب الآخر منه مُتمَّهلًا بخطواتٍ مرتدة بين المضي والتأخر للوراءِ، لكنه اقترب ووقف أمامه لثانيةٍ ثم خطفه لعناقه، كان يحتاج للأمانِ الذي يأخذه منه، يحتاج أن يُطمئن قلبه أن الأمور سوف تُصبح على ما يُرام، يؤكد لقلبه أن الرفيق الذي ظن فيه الخير لازال حيًا يُرزقُ فوق البريةِ، كان العناق غريبًا لكنه أبلغ في الوصف من كل كلامٍ يُقال، مثله كمثل نظرات العين لا تُكَذَبُ..
عاد “سُليمان” للخلف أولًا وقال بثباتٍ وبسمةٍ بشوشة:
_كويس إنك لسه معايا، آخر حاجة باقيالي مني.
ابتسم “أدهـم” بالتبعيةِ ثم ربت فوق كتفه بغير حديثٍ وولج السيارة كأنه عجز عن رد الحديث بحديثٍ، عجز عن التعبير عن مشاعره لكنه رحل قبل أن تفور المشاعر من عينيه، رحل وولج السيارة وهو يتذكر كيف كان حُبه أعظم خيبة اقترنت بأيام عمره، وتذكر تلك الليلة بوجهٍ خاص حين عاد من معركته وسط الغابة ويوم أن رجع وجد عرشه يحتله غيره..
وقتها قرر أن يُعيد لتجارة والده رونقها من جديد، حيث كان محله كاد أن يوقف نشاطه التجاري بعد أن امتلأ السوق بالعديد من المحالِ التجارية وهو بينهم كان صغيرًا لم يزل يتعلم خطوات المشي داخل حلبة التجار، فقرر أن يُسافر لواحدٍ من أصدقاء والده القُدامىٰ يساعده في العملِ، رجلٌ يفتح له أبواب النجاح داخل سوق العملِ وسط حيتانٍ بشريةٍ..
سافر بعد أن تشاجر مع “لمار” وكاد أن يُنهي علاقته بها، كان جُرحه لازال حيًا لكنه كان يحاول كسب أي شيءٍ يساعده في التخطي، لكن حديث “آدم” وعمته وكل أفراد عائلته عن علاقته بها جعله يُعيد ترتيب أفكاره خلال سفرته تلك، رُبما يكون الشجار بينهما كان حادًا لكنه سوف يُعيد أفكاره فقط لأجلها، وكان آخر وعدٍ يقطعه لأخيه قبل الرحيل هو:
_أوعدك هفكر في موضوعي معاها تاني، بس بشرط تعتذرلك وتوضح إن اللي هي قالته دا ماينفعش يتقال وإن قبل أي حاجة أنتَ ابن عمها زيك زيي، غير كدا خلاص مش هقبل إنها تيجي عليا وعليك أكتر من كدا.
ربت وقتها أخوه فوق كتفه وقال بحبٍ وهدوءٍ:
_فكر تاني بس، هي باين عليها أنها زعلت من اللي حصل، بعدين أنتَ أدرى بيها من أي حد، دي حب عمرك كله، يمكن دا سوء تفاهم بينكم بس، فكر علشان خاطر خلينا نفرح بقى.
وعده ورحل، وطوال رحلته كان يُفكر في الأمر، حتى أنه في الليل كان يتبرع لربهِ أن يرزقه بها إن كانت خيرًا له وأن يعوضها خيرًا منها إن كانت شرًا لدُنيته ودينه، استخار ربه في أمره وترك كل وسائل التواصل بينه وبينها حتى يُعيد التفكير فيها، فكر كيف يغفر لها الخطيئة الكبرى في حقه وحق أخيه، فكر كيف يشرح لها أن وجود “آدم” هو السبب لتواجده هو بذاته، فكر كيف يشرح لها أنه لم يبخل عليها، لكنه يُحب أن يراها ناجحةً بالمكانِ الذي يليق بها..
وبعد مرور أسبوعٍ عاد للبيت وصفَّ سيارته بالخارج أمام مجمع البنايات، ترجل من السيارة يرتدي بدلة شتوية رياضية سوداء اللون، كأنه تخلى عن الرجل العصري صاحب الملابس الرسمية وعاد بهيئته كما هو، كان حُرًا من كل قيدٍ حيث تحقق مبتغاه وعاد من طريقه بنجاحٍ لم يتوقعه، حتى أمر علاقته بها سوف يأخذ خطوةٌ له، وقبل أن يلج البيت وجد “آدم” يركض له فارتمى هو عليه وقال بلهفةٍ:
_وحشتني أوي، أول مرة أغيب عنك المدة دي كلها، الحمدلله جيبت بضايع وهفتح باقي المحلات، بكرة اسمه هيرجع السوق تاني وينور زي ما كان، وهتبقى معايا بنفسك، مش هحلك من الطلعة دي.
ابتسم له “آدم” بحزنٍ ثم اقترح بطريقةٍ أثارت ريبة الآخر:
_ألف مبروك، طب ما تيجي نروح نحتفل بقى؟ يعني نفرح شوية وهأكلك من أيدي، نفسك تاكل إيه؟ أعملك مشاوي؟.
طالعه “أدهـم” بغرابةٍ وقد انتابته الشكوك وقبل أن يسأل وجد “عـرفه” يخرج من مجمع البنايات وهرول له يعانقه بحرارةٍ ألهبت خوفه، شعر كأن العناق أتى من جوفِ الخوفِ، فسألهما بقلقٍ:
_مالكم يا جماعة حصل إيه؟ مالك يا عم “عـرفه” عمتو كويسة؟ “ورد” حصلها حاجة؟ يا جدعان ساكتين وشكلكم يقلق ليه طيب؟ “لمار” طيب حصلها حاجة أو عمي أو أي حد طيب؟.
نظرا لبعضهما بحزنٍ لم يفهمه لكن تصرف أخيه كان هو الأكثر غرابةً حين دفعه وقال بصرامةٍ بعض الشيء:
_تعالَّ معايا بس من هنا، أمشي يا “أدهـم”.
كان يدفعه نحو السيارة حتى وقف الآخر ورفع صوته في وجهه:
_أنتَ مجنون يالا ولا إيه؟ في إيه يا “آدم”.
_قولتلك يلا من هنا وهقولك بعدين، أمشي بقى.
هدر شقيقه في وجههِ بغضبٍ وانفعالٍ كونه يخشى عليه من شيءٍ يُدمر قلبه، كان يعلم كيف ستكون هي السكين الذي يطعن المحارب في قلبه، ستكون خيانة عُظمى كما خيانة قائد الجيش وتسليمه جنود حربه لخِصمه، وقبل أن يجيب صدح صوت الزغاريد عاليًا يجذب انتباههم، التفت “آدم” يلعنهم جميعًا في سريرته بينما “عـرفه” قال بقلة حيلة:
_يابني كل شيء قسمة ونصيب وأنتَ عارف، “لـمار” اتخطبت النهاردة.
توسعت عيناه ووزع رأسه بينهما بتساوٍ كأنه لم يُصدق، بينما “آدم” فمسح فوق وجهه وحرك كتفيه بخيبة أملٍ كأنه لم يقصد له هذا الجرح، وقد وقف هو حائرًا في الأمرِ، يظنه مجرد مزاح سخيف وسوف يمر، فابتسم وقال حين أدرك لعبتهما:
_يا دماغ أمي على هزاركم، خلاص يا جدعان هراضيها حاضر، بس بلاش المقلب السخيف دا الله يكرمكم، جيبتوا بقى الدبل أطلع البسهالها تاني؟ ولا هجيب جديد وخلاص.
نظرا له تلك المرة بشفقةٍ خاصةً حين ظهر الأمل في عينيه وفوق محياه لكن في هذه اللحظة ظهر “حلمي” وهو يمسك يدها ويتجه بها نحو السيارة، كان “أدهـم” في حالة ذهولٍ وصدمة قوية وهو يرى رفيقه يمسك كف التي أحببها في يده ويخرج بها من بنايته، نظر لها وهي تضحك وتبتسمُ مع الآخر وكأن ما كان بينهما ما كان ذات يومٍ..
كان كما الجُندي العائد من الحرب وذهب ليجد بلدته تُكرم الخائن الذي باع قلبه وأرضه للمستوطنِ، وقتها وقف بتيهٍ لا يعلم أين نام وماذا فعل قبل نومه كي يرى كابوسًا بتلك القسوة، وأي ذنبٍ ارتكب قبل نومه كي يكون العقاب ثقيلًا عليه لهذه الدرجة؟..
خرج “أدهـم” من شروده حين وصل لبيتهِ، قرر أن ينفض غبار الماضي الذي عَلُقَ فوق كتفه ثم تنهد بمرارةٍ وتحرك نحو شقته وما إن ولج وجدها فارغة من أخيه، بحث عنه مُناديًا بصوتٍ عالٍ لكنه لم يجده، لذا خرج وذهب لشقة عمته يسأل عنه، وكانت المفاجأة حين قالت بحيرةٍ:
_بس هو ماجاش هنا، أصلًا عربيته مجاتش هي كمان.
انتاب القلق قلبه فأخرج هاتفه يتصل به لكن المفاجأة كانت من نصيبه حين وجد الهاتف مُغلقًا، تواصل مع إدارة المطعم فجاوبت السكرتيرة عليه لتسمع سؤاله القلق:
_مساء الخير يا “جيهان” معلش ممكن تخليني أكلم “آدم”.
_والله يا مستر “أدهـم” هو مش هنا، جاتله مكالمة من شوية وفجأة خد حاجته وركب العربية وطلع مستعجل حتى مبالغش أي حاجة والمطعم خلاص قفل ومش عارفة المفروض نعمل إيه.
ازداد قلقه أكثر ونفخ وجنتيه معبرًا عن ضجره ثم قال مضطرًا:
_تمام يا “جيهان” تقدروا تقفلوا المطعم ولو فيه حاجة كلميني.
أغلق معها الهاتف والتفت لعمته يقولُ بضجرٍ وأعصابٍ تالفة:
_طب قوليلي أنتِ أعمل إيه معاه؟ البيه مش عارفله طريق واختفى و”جيهان” بتقولي مشي محدش عارف هو فين، ١٠٠ مرة قولتله اتزفت رن عليا أو عبرني حتى برسالة وقولي أنتَ هتتزفت على فين، بس هو عايش علشان يموتني أنا بدري.
وصل الصوت داخل غرفة “ورد” التي ركضت وهي تضبط حجابها فوجدت “أدهـم” يسألها بلهفةٍ بمجرد أن لمحها:
_”ورد” ماتعرفيش الزفت دا راح فين؟.
حركت رأسها نفيًا بخوفٍ من هيئة “أدهـم” الذي ضرب الطاولة الموجودة بجواره وتحرك نحو الأعلى بعدما ترك الشقة، لم تكن المرة الأولى لأخيه التي يمشي فيها بتلك الطريقة، وفي كل مرةٍ تعقبها كوارث، مرة فعلها وذهب يتشاجر مع عائلة كاملة بمفردهِ وانتهت الليلة في قسم الشرطة، ومرة أخرى في مشاجر مع شبابٍ داخل مطعمه ذهب على إثرها للمشفى، على ما يحسب “أدهـم” أن تلك المرة سوف يذهب للقبرِ بلا شك..
صعد يطمئن على “سيمبا” كلبه الوفي، فهرول الكلب نحوه يعلن شوقه له، ضمه “أدهـم” لعناقهِ ومسح فوق رأسه ثم جلس بقربه يشكو له أفعال أخيه بقوله:
_عجباك عمايله فيا؟ هيموتني مجلوط بدري بدري.
نبح الكلب مؤيدًا قوله فتنهد “أدهـم” وقال بسخريةٍ:
_شكلك بتدافع عنه، طبعًا ما هو اللي بيأكلك.
قضى وقته مع الكلب يرعاه ويستأنس بصحبته وقلبه مشغولٌ بالأخِ المشاغب، الأخ الذي سوف يدفع حياته ذات يومٍ ثمنًا لتهوره وأفعاله غير المحسوبة، الأخ الذي يضيع في الحياة والحياة بذاتها تتيه بداخلهِ، وهو كما الدرويش فيها، يُساير كل يومٍ بنكهةٍ مختلفة..
____________________________________
<“البحر في عينيكِ وموجه في سهامٍ نظراتك”>
كنتِ لي بحرًا أشتهي الغرق فيه..
فوجدتكِ موتًا لا حياة منه، لم أحسب يومًا أن فراق عينيك جحيمًا ولم أظن أن لمسة يدكِ عمارًا،
والآن رحلتي أنتِ حين غرقت أنا وتركتِ لي داري خرابًا، قُلي لي بربك ألم استحق أنا منكِ نظرةً تُحييني؟.
كعادته جلس في الظلام وكأنه صادقه ورافق كآبة الليل، كان طوال عمرهِ يشتهي الظلام، لكنه أصبح مهووسًا به، سحابة رمادية شكلتها لُفافة تبغه تحوم من حوله وهو ينفض سيجاره في مرمدة السجائر؛ ثم يسحب أخرى يُشعلها، أصبح يُدخن بشراهةٍ غريبة، أشبه بمدمنٍ لم يجرؤ على تفويت يومٍ بدون جُرعة مخدرة، لكن الغريب أنه حتى هذه اللحظة لم يجد أي مُخدرٍ يُبعد عنه ألمه وآلامه..
صدح صوت هاتفه فتململ هو في جلسته ومال للأمام يلتقطه فوجد رقم النجاة الوحيد في حياته، تنهد بقوةٍ ثم جاوب على المتصل بعدما حمحم بقوةٍ يُجلي حنجرته ويَتبع ذلك بقوله:
_إزيك عامل إيه؟.
_بخير يا حبيبي الحمدلله، طمني أنتَ عليك وعلى “رحيق” كويسة؟ مرتاح عندك ولا فيه حاجة مضايقاك؟.
تنهد بقوةٍ وقال بتهكمٍ مريرٍ:
_والراحة هتيجي منين في وضعي دا، بس كويس يا خالي ماتقلقش عليا.
تنهد خاله وحاول أن يُمهد له الحديث قبل أن يتفوه به، ظل يُبرمج الكلمات على طرف لسانه قبل أن ينطق، لكنه حين وجد أن الموت واحد مهما تعددت الأسباب؛ قال:
_بص أنا عارف إن مش وقته أقولك وأخليك تقلق على حاجة زي دي، بس دي أمانة برضه لازم أوصلهالك، أبوك تعبان في المستشفى وأنا روحت زورته، الحمدلله فايق وبيتكلم بس مش عاوز غيرك، وعمال يحلفني أوصلك ليه، لو هتعرف تتصرف عرفني وأشوف صِرفة توصلك ليه.
أغمض عينيه في محاولةٍ منه كي يتمالك نفسه لكنه فشل في ذلك، وقد تنهد بقوةٍ ثم قال بتيهٍ:
_صرفة إيه بس؟ ولو جيت أكيد محدش فيهم هيسيبني، عاوز تَفهمني إنهم مش عاملين حسابهم إني ممكن آجي وساعتها ماضمنش هيعملوا فيا إيه؟ لو عليا مش مهم، بس بنتي مش هخليها معاهم، مستحيل أخليهالهم وهما بيحاولوا يفهموها إني قتلت أمها.
وجاء الرد عليه بتوترٍ أكثر حين اهتز صوت خاله عند قوله:
_ماهو دي الحاجة التانية اللي عاوز أقولك عليها، رجالة العيلة كلها هناك وكلهم واقفين مستنيين حضورك، عارف إن كلامي ضد بعضه بس أنا بعمل اللي عليا وفي النهاية مستحيل أضرك وأسيبك لوحدك، أنا معاك في اللي تقرره، وممكن أخليك تكلم أبوك وتطمن عليه، بس مسألة حضورك دي صعبة أوي.
كان الأمر في غاية الصعوبة عليه، هو فعليًا بين نارين والمفر بدون ممر، لم يجد حلًا لتلك المعضلة، لو ذهب لهناك من المؤكد أنه سيكون أسيرًا لهم، ولو ظل هنا يخشى رحيل والده بغير وداعٍ، تنهد بثقلٍ وأغلق الهاتف مع خاله وجلس يتذكر ماضيه، يتذكر الليلة التي أُجبِر فيها أن يرحل ويترك بيته ومدينته، وقتها حمل الحقائب ونزل الدرج بقهرٍ وكتفين متهدلين، بينما ابنته فكانت تقف على الدرج تحتضن دُميتها باكيةً وهي تتابعه يغادرها وحدها معهم.
وقبل أن ينزل الدرج لآخرهِ التفت لها بعينين مقهورتين يناظرها بوداعٍ قتله وقتلها آلاف المرات، حتى أتى صوت عمه مُجلجلًا بقوله:
_أنتَ كدا اشتريت نفسك واشتريت بنتك، بس بخروجك من هنا تنسى إنك ليك بنت وتنسى إنك ليك حاجة هنا من الأصل، ولو شوفتك تاني يا “يحيى” أو حاولت تقرب من “رحيق” والله روحك ورميتك في السجن مش هتكفيني، خروجك من هنا معناه موتك.
القهر وما أعتى منه يسكن قلبه، لم يعلم ماذا فعل كي يُعاقب بتلك الطريقة، لم يروه وحده المذنب في تلك الحكاية؟ حينها التفت يواجه عمه وقال بثباتٍ واهٍ:
_كدا كدا أنا ميت ومش فارقة معايا، بس لو فكرت شوية بعقلك وسيبت عواطفك هتعرف إن بنتي من مصلحتها تكون معايا، بنتي أنا أحق وأولى بيها منك أنتَ، بس والله العظيم لو بنتي حصلها حاجة روحك أنتَ كلها مش هتكفيني، ولا بيتك دا كله هيفرق معايا، هولع فيكم صاحيين، ومش علشان أجبرتني أمشي يبقى هتجبرني أسيب بنتي، بس متأمنش ليا علشان قلبتي وحشة.
أنهى الحديث حين جرَّ شنطته ورحل من المكان، زعزع ثباتهم وشتت أمنهم كما سردت له أمه عن جده الفلسطيني وما كان يفعله أمام اليهود، وُلِدَ فلسطينيًا بفطرته لأمهِ، يملك تمرد صاحب الأرض، يتميز برفضهِ للخنوع، يتصف باستماتة مقاتلي غزة، حتى حين خرج من المكان ولج السيارة الخاصة به وعند شروق الشمس كانت ابنته بين أحضانه..
قام خاله بتهريبها لأجله عن طريق حارس البناية، أخرجها وسط الثياب المتسخة ووضعها بداخل السلةِ وأخرجها في العربة البلاستيكية الصغيرة في صباح اليوم التالي ثم أعطاها للرجل الذي أخذ الصغيرة منه وأعطاها لوالدها وقال بلهجةٍ مُحذرة شديدة:
_بنتك معاك أهيه، تاخدها وتمشي على القاهرة وماشوفش وشك في وجه بحري خالص، وإياك تفكر ترجع عند المينا تاني، سيب كل حاجة وأمشي يا “يحيى” من هنا، حتى أبوك بلاش تقوله مكانك، هتروح عند واحد صاحبي في القاهرة اسمه “عـرفه الزيني” صاحبي من زمان، هو هيساعدك هناك وهيأجرلك شقة جنبه، وهيظبطلك شغل، بس لو عرفت أنك فكرت تيجي ليهم أو حتى تتواصل معاهم صدقني هتبقى دمار على دماغ الكل.
ضم “يحيى” ابنته لعناقهِ وولج السيارة التي استأجرها له خاله حتى لا يتتبعوه عن طريق سيارته وخلال نفس اليوم أصبح في جُب الهاويةِ، لم يجدوا له أثرًا، قاموا بتمشيط كل المُدنِ ولم يجدونه، حتى حين ذهب عمه لتقديم بلاغٍ ضده؛ جاء الرد من ضابط الشرطة بقوله:
_أنتَ واعي عاوز إيه؟ عاوزني أقدم بلاغ ضد واحد كل تهمته إنه أخد بنته ومشي من بيت العيلة؟ دي تهمة جديدة دي؟ يعني لا فيه حكم محكمة بالوصاية على البنت، ولا فيه وثيقة ولا أي ورقة تديك الحق دا، جاي عاوز تقدم بلاغ ضده؟ أنا مش فاهمك بصراحة يا “حسين” بيه.
وقتها قال “حسين” بكل غصبٍ وعنفٍ:
_يا فندم حضرتك مش فاهم، دا ولد طايش وتحركاته مش محسوبة، دا اتسبب في وفاة أمها، عاوزني أسيبهاله يموتها هي كمان؟ كان لازم أحميها منه ومن طيشه.
تنهد الضابط وقال بصوتٍ أهدأ عن السابق وقد أعلن شفقته وتضامنه مع المتحدث بكلماتٍ عاقلة:
_شوف يا “حسين” بيه أنا عارفك بشكل شخصي، وعارف حضرتك سواء على مستوى الشغل أو السمعة اللي محدش يقدر يختلف عليها، وكلنا عارفين حادثة بنت حضرتك الله يرحمها، بس دا مافيهوش أي إثبات إن أستاذ “يحيى” متسبب في الوفاة دي، وعارف إن حزنك على المرحومة صعب، بس رجاء مني بلاش توصل الأمور للدرجة دي، في النهاية البنت مع والدها، وقانونًا دي مش تهمة، طالما هو رشيد ومفيش خلل في تصرفاته يبقى خلاص، بعدين هو بالفعل خضع لاختبارات عقلية واجتازها ببراعة، يبقى ليه كل دا.
أغلق عليه الطريق حتى شعر “حسين” أن “يحيى” يربح عليه للمرةِ التي لا يعلم عددها، منذ أن وضع في مقارنةٍ معه عند ابنته وربحها “يحيى” حين أحبته هي، شعر أنه دائرة خطرٍ تُحيط ابنته، وقد كان شعوره حين توفت ابنته وتركت زوجها يواجه وحوش أبيها وحده..
خرج “يحيى” من شروده حين شعر بالسيجار الساخن يلمس يده فأطفأها في مرمدة السجائر ثم تنهد بقوةٍ وتحرك نحو غرفة ابنته، وقف يراقب ملاكه الصغير، فتاة شقراء بوجنتين مُحمرتين وقد أغمضت جفونها وأسدلت ستائر أهدابها عن جنتيه بعينيها، فاقترب ينام بجوارها ثم ضمها لعناقهِ ورضخ لهدنة سلامٍ بعد حروبه مع الذكريات حين عاد خاسرًا كل شيءٍ حتى نفسه..
____________________________________
<“ياليتك كنتِ معي منذ بداية الحياة، ياليتكِ كنتِ لي الحياة”>
في بعض الأحايين تُجبر على أخذ خطوة ترغم فيها قلبك وعقلك وكل ما فيك عليها، تأخذها وأنتَ مجبورٌ على سلك دربها، وقتها لا تشعر بهزيمة السقوط ولا حتى بربح الانتصار،
لأنك ليس بمهزومٍ ولا منتصرٍ،
أنت عالقٌ في المنتصف بين الأشياء ونقيضها..
لم يعلم كم مر من وقتٍ عليه كي ينتقل من مدينة القاهرة للاسكندرية وكيف صمد طوال الليل وهو يقود السيارة، كل ما يعرفه أن موطنه ناداه وهو ذهب يُلبي النداء، وصل عند البناية القديمة المتهالكة بمنطقة “المكس” في الاسنكدرية، وصل هناك وسط مباني قديمة متهالكة، كان يبحث بعينيه عن رقم البناية الذي حفظه قبل أن يقطع هاتفه تواصله بعدما فقدت بطاريته طاقتها..
ظل يبحث عن البناية حتى وجدها أخيرًا فاندفع داخلها وصعد للطابق الثالث بها، طرق الباب بخفةٍ نظرًا لحلول الليل وتخطي الساعة الثالثة صباحًا، وقد خرجت له “عُـلا” التي لم تُصدق أنه حقًا أتى، وقفت أمامه تلحظه بعينيها بينما هو ففاض الحنين من عينيه لها، وقف يراقب ملامحها المنمنمة وابتسم ما إن تأكد من هويتها وقال بوجعٍ:
_لسه حلوة زي ما أنتِ، بس بهدلوكِ.
ارتمت عليه تعانقه بقوةٍ وهي تسمح لنفسها أنها تنهار أخيرًا، تعلقت به كأنها وجدت مصدر الأمان أخيرًا، كان تشبثها به غريبًا حتى أنه تعجب منه لكنه ضمها بقوةٍ، ضمها يغلق عليها داخل ذراعيه وقال يُهدهدها كأنه فتاة صغيرة وجدها تائهة بمنتصف الطريق:
_بس خلاص يا “عُـلا” أنا معاكِ، خلاص أهدي مفيش حد تاني هيقرب منك، بس والله العظيم حقك هييجي قبل ما أمشي من هنا، ومش هيفرقلي حد، هطربقها على دماغهم ومن غير ما أعرف عملوا ليكِ إيه، والمرة دي مش هسيبك ليهم، والواد خطيبك دا هموته قبل ما أمشي، أنتِ ملزومة مني أنا وبس.
عادت للخلف وقالت تستجديه بقولها:
_أنتَ نسيت لما جيت مع باباك عملوا فيكم إيه؟ رفعوا عليه السلاح وكانوا هيضربوك، وبعدها مشيوا ومحدش عرف يوصلهم، أنا خايفة عليك يا “آدم” وصدقني أنا ماليش غيرك في الدنيا دي، لو ليا غلاوة عندك بلاش مشاكل، لو تقدر تاخدني خدني وأنا معاك وأنا هتصرف هناك والله، مش هتقل عليك ومش عاوزة منك أي حاجة.
اندفع في وجهها بقوله يردع قولها ويمنعها من التكملةِ:
_بس هبل في الكلام، أنتِ هتيجي معايا ومش هسيبك هنا وهتبقي ملزومة مني وفي رقبتي وفي بيتي ومش هتخرجي منه، ودلوقتي هنمشي، أنا ما صدقت لاقيت طريقة توصلني ليكِ يا “عُـلا” بلاش تصعبيها عليا.
أومأت له بحزنٍ فمسح بطرف إبهامه عينها ثم أعادها من جديد لعناقهِ كي يجعلها تأمن في عناقهِ، لا يعلم كيف انتهى بها المصير بينهم، لكنه على يقينٍ أنها رأت بعينيها العذابَ أضعافًا، فعسى القادم من حياتها يكون كما رياح الربيع يمر برفقته خُفافًا..
____________________________________
<“أرضى بغُربتي عنكِ لكني أرفض غُربتي فيكِ”>
أشرقت الشمسُ وأضاءت الدرب بأكمله في كل حينٍ..
حتى عند من يجلس في غربته يقوم بتحضير نفسه لأجل الذهاب إلى العملِ، الجميع يُسايرون الحياة بكل ما فيها من ثقالٍ ومساويء حتى ينتهي اليوم بسلامٍ، لكن يبدو أن الحروب سكنت النفوس فلم تعد قادرةً على تخطي يومٍ بغير نزاعٍ..
كان “منتصر” يُراسل زوجته وهي تختار له الطقم الذي سوف يرتديه قبل أن يذهب لعمله، ينتقي من بين ثيابه وينتظر اختيارها كي يُهندم طقمًا يليق به، يشاركها في كل الخطوات منذ باكورة الصباحِ حتى حين يذهب لنومهِ، تكون هي آخر شيءٍ يدخل عقله وذاكرته.
أنهى تحضير الثياب ثم أرسل لها رسالة صوتية مفداها:
_ألف شكر على الواجب دا، هلبسه على ضمانتك.
_ماتقلقش هيكون حلو علشان أنتَ هتلبسه.
ردت عليه بذلك وأرسلت غمزة مشاكسة جعلته يضحك بسعادةٍ ثم كتب لها أخيرًا قبل أن يرحل نحو العمل:
_حلو المزاج دا من رأيي تخليكِ عندك علطول.
رحل قبل أن ترد هي عليه وقصد الذهاب لعمله، ولج لهناك بطاقةٍ امتلأت كون يومه بدأ بها هي، كونها بدأت معه الصباح كأنها ورد المزهرية بجوار شرفة غرفته، كان يضحك ويبتسم من مجرد حديثٍ معها، فماذا عن الحياة بجوارها؟ صعد لشركة عمله لكن هاتفه صدح باسم والدته، عقد حاجبيه وجاوبها بأدبٍ وهدوءٍ؛ فوجدها تقول بتأنيبٍ فج:
_لسه فاكر ترد؟ ما أنا بكلمك من إمبارح يا أستاذ، مش عاوز ترد عليا، مراتك هتفضل كتير عند أمها؟ يابني أبوك محدش عارف يتعامل معاه غيرها، وأنا مش قادرة على الخدمة كل دا، حتى اللقمة مش عارفة أعملهاله.
توسعت عيناه بذهولٍ وقال بتيهٍ وقلة حيلة:
_طب يا أمي ما هي تعبانة برضه ومش هقدر أفرض عليها تيجي عندكم، هي من حقها ترتاح برضه يومين كتر خيرها شايلة فوق طاقتها، وأنا مباعملش حاجة ليها غير إني متقل عليها بقالي سنتين، يبقى نتحمل كلنا معلش، وبابا خلي بالك منه وخلي “خلف” يوديه للدكتور.
_أهو مباخدش منك غير كلام في حقها والدفاع عنها، عمومًا براحتك، بس أنتَ اللي سيبت كل حاجة ورا ضهرك ومشيت يا ابن بطني، ورميت أبوك وأمك ومش عاوز حتى تشوف حل علشانهم، أنا كدا عملت اللي عليا خلاص.
كان هذا هو ردها عليه الذي جعله يشعر بالثقلِ فوق صدرهِ، كاد أن يصرخ في وجهها لكنه تمالك أعصابه وقال بهدوءٍ:
_يا أمي هي الله يراضيها شالت كتير معايا، ومش فرض عليها تتحمل معايا كل دا، في البيت مضغوطة بينكم وبين شقتها، يا أمي أنا سايب مراتي بقالي سنتين وأنا عريس جديد ومشيت علشان أقدر أصرف على البيت، وبدفع الضريبة دي غربة وبهدلة وتعب ومراتي مش معايا ولوحدها من غيري، بدل ما تساعديني بتزودي عليا؟ هي من حقها ترتاح ومش من حقي أفرض عليها تيجي، هبعتلك فلوس وشوفي هتعملي إيه لحد ما هي تيجي.
سكتت في النهاية حين سمعت بأمر المالِ، هذه السيرة التي تفهمها هي جيدًا، دعت له بالتوفيق والكرم ثم أغلقت الهاتف معه، بينما هو تنهد بثقلٍ وعاد للعمل لكن تلك المرة بمشاعر سلبية، تبدلت طاقته كُليًا كأنه زهرة فقدت رحيقها وأصبحت ذابلة في نظر الرائيين، لا يعلم لمَّ أمه قاسية معه لهذا الحد، ولا يعلم لمَّ حياته في غاية الصعوبة بتلك الطريقة، هو حقًا لا يعلم أي شيءٍ غير أنه يُعاني بكل شكلٍ، ومصدر راحته الوحيد تفصله عنه الحدود..
____________________________________
<“خُلقن النساء ضعيفات لكن قوتهن قوة محاربات”>
النساء دومًا في رقة الفراشات..
لكن القوة في داخلهن تُشبه قوة المُحاربات،
هؤلاء اللواتي ستجدهن دومًا في كل ساحات الحروب بقوة جيوشٍ كاملة، لكن الغريب أن قلوبهن برقة جناح الطير الكسير..
عادت أخيرًا من المحكمة بعد مشوارٍ طال عليها هناك، لكن يومها كُلِلَ بالنجاحِ ما إن رأت بعينيها الجاني يُعاقب، حيث واحدٌ من أشباهِ الرجال قام بضرب زوجته في الشارع أمام الناس كي يأخذ منها مفتاح شقته والضرب أفضى إلى عاهة مستدامة في وجهها المُتعب، استطاعت أن تأتي له بأقصى عقوبة في قانون الجُنحِ وحُكِم عليه بالحبسِ ثلاث سنوات ودفع غرامة مالية..
صدح صوت هاتفه “رحمة” برقم “صابرين” فسحبته تجاوب عليها بطريقةٍ رسمية لتجد الأخرى تقول بتوترٍ:
_مساء الخير يا أستاذة “رحمة” أخبارك إيه؟ معلش لو بكلمك فجأة كدا بس المفروض نعمل إيه دلوقتي؟ أنا كدا معايا الحكم وعاوزة أجيب ولادي يكونوا معايا، المفروض أروح إزاي؟.
_ولا يهمك يا مدام، هتروحي بورقة المحكمة معاكِ وهناخد الناس بتوع تنفيذ الأحكام الجبرية علشان لو حد اعترض أو حصل هجوم، يعني على حسب كلامك هو مش موجود، والمُحضر كان بيروح ومحدش بيستلمه، دا معناه إنه بيهرب عن قصد، وأكيد أخوه متواطيء أو عارف حاجة وهيمنع ولاد أخوه يبعدوا عنه علشان الميراث، متقلقيش هكون معاكِ، ربنا يطمن قلبك على ولادك ويرجعوا حضنك من تاني.
تنهدت “صابرين” وهي تؤمن خلف الدعاء بلهفةٍ، بينما “رحمة” أغلقت معها ثم رمت الهاتف وهي تتمنى أن ترى محرقة هتلر كي تحرق فيها كل الرجال، لكنها وجدت حلًا غير ذلك، أدركت أن أكثر ما يكسر قوة وتجبر الرجل هو الذُل والإخضاع لأحكام القانون، جميعهم يشبهون الطاووس في تكبره وتعاليه وغروره، لكن القانون وحده من يكسر هذا الغرور ويمحو جنون عظمتهم.
ضحكت أكثر حين تذكرت جنون انتقامها، لم تنتقم بالقتل ولا بالصراخ ولا حتى بالشكوى الكثيرة، لكنها فعلت الأكثر صعوبة عليهم جميعًا وعلى معشر الرجال، حيث سايرتهم جميعًا وخضعت لهم ليومٍ بأكمله تستمع لكل كلماتهم التي لم ترحمها، وهربت واختفت من المكان بأكمله، رحلت وتركت خلفها كارثة لحقت بهم عارًا جعلم يدسون رأسهم في الأرض من فرطِ الخجلِ..
تنهدت “رحمة” بقوةٍ ثم قامت بفتح هاتفها تتفحص صفحة ابنة عمتها من الحساب الزائف الذي صنعته؛ فوجدتها أضافت منشورًا منذ ساعتين بالتقريب تتحدث عن إهمال زوجها لها، تتحدث عن ألم المرأة من رجلٍ تحبه حين يهملها، توسعت بسمتها أكثر بتشفٍ ثم أغلقت الهاتف وهي تقول بسخريةٍ:
_كان نفسي أدعي ربنا يهديلك الحال، بس أنا اللي بدعي ربنا كل يوم ينتقم منك ويردلي حقي منك أضعاف تريح قلبي، يلَّا من أعمالكم.
تبدو كأنها تتغذى على ضعف الأخرى وهشاشتها، تتغذى على ضياعها وفقدها لذاتها، رغمًا عنها تتشفى بها تسعد لحزنها، ليس ظلمًا ولا تجبرًا على أحكام الخالق، لكن رغمًا عن قلبها المقهور الذي رأى ما لم يرهُ في كل غابات البرية، لذا أقل انتقامٍ أن ترى قلة حيلة خصمها في أرض المعارك وكل الحروب ضده وحده..
وعلى طرفٍ آخرٍ كانت تلك المحاربة تُلملم شتات نفسها من بعد رحيل والدها وهي تحاول أن تعود مكانه، تحاول أن تملأ مكانه الفارغ رغم صعوبة ذلك عليها، لذا بدأت بالطريق من بدايته، حيث الجمعية الخيرية التي أنشأها والدها وفنى عمره لأجلها، بدأت من المكان الذي أسسه والدها بكل شغفه، لكن الوضع هناك كان غريبًا، ربما قاسيًا عليها..
وجدت خللًا في إدارة المكان، تكاسل بعض العاملين، تسكع بعض الموردين، قلة في الأموال والموارد، كل شيءٍ أصبح غريبًا، فقد المكان رونقه كانت كمن عاد لبيته من بعد الحرب فوجده رُكامًا فوق بعضه، الجميع يطالعونها بشفقةٍ، نظراتهم تنطق بما لم تُفصح به الألسنةُ، دارت حول نفسها فلم تجد إلا “طاهر” الذي اقترب منها وقال بأسفٍ:
_حقك عليا يا بنتي، بس للأسف الناس من بعد وفاة والدك سابوا كل حاجة والمكان زي ما أنتِ شايفة حصله إيه، علشان كدا قولتلك لازم ترجعي، على الأقل تكوني مسئولة عن اللي هنا، وأنا معاكِ بس فهميني عاوزة مني إيه يا “نـوف” شوفي يا بنتي ناقصك إيه وأنا عينيا ليكِ.
هرع الدمعُ من عينيها وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
_عاوزة بابا يا عمو “طـاهر”.
توسعت عيناه واحتلهما الدمعُ فتنهدت هي وقالت:
_مفيش حاجة ممكن تصلح من غير وجوده، أنا ماعرفش هو كان بيعمل إيه بس هو كان حنين وشاطر أوي، أكيد كان أشطر مني مليون مرة علشان يقدر يدير كل الحاجات دي، يبقى صدقني أنا مش عاوزة غير وجوده معايا بس، بس هو مش موجود.
أولته ظهرها سريعًا كي تهرب من أمامه قبل أن تبكي، قررت أن تختلي بنفسها، ولجت غرفة مكتبه وجلست فيها تبكي وهي تتمنى أن تراه ولو لمرةٍ أخيرة، تتمنى أن ترتمي في عناقه وتخبره أن العالم في الخارج قاسيًا عليها، ياليته كان معها ويخبرها كيف تتصرف مع عالمٍ موحشٍ بهذه الطريقة وهي التي لم تُخلق إلا مُدللةً بين ذراعيه..
وفي مكانٍ آخر كان “أدهـم” في مقر عمله فوصلته مكالمة هاتفية جعلته يعقد حاحبيه بدهشةٍ، هو حتى الآن لم يفهم لمَّ الأيام تأتيه بأحداثٍ غريبة بهذا الشكل، فمنذ الأمس لم يرَ أخيه وحتى العودة تأخر عليها، والآن “حلمي” يتصل به !! هل هناك مؤامرة كونية تُحاك ضده؟ جاوب على المكالمة على مضضٍ فوجد المتصل يقول باندفاعٍ:
_الحركة الناقصة اللي أخوك عاملها إمبارح دي لو حد عرف بيها على النت ولا فكر ينزلها في حتة أقسم بالله لأخربلك بيته، هقفله المطعم اللي فرحان بيه دا، ولو طلعت أنتَ اللي وراها هخليك تدور على كوبري يلمكم مع بعض يا “أدهـم”.
توسعت عينا “أدهـم” ورفع صوته يرد على المتصل بجمودٍ:
_اسمع يالا أنا مش عاوز هبل، لم لسانك ولم نفسك وأنتَ بتتكلم عن أخويا، ولو فكرت بس يا “حلمي” تقرب منه وربنا لأحرق قلبك طول العمر، خليك في حالك وكُل عيش مش ناقصين بلاوي تتحدف علينا، يلا في داهية.
أغلق الهاتف في وجهه ثم انتفض يسحب حاجته وقرر أخيرًا أن يذهب للبيت، فإن وجد أخيه فهو من سوء حظ الآخر وإن لم يجده فهو سوء حظه هو وحده، لا يعلم ماذا فعل لكنه يعلم أنه لم يترك فرصة واحدة إلا ودمر فيها سكون “حلمي” وزعزع ثباته وهدم استقراره، لذا قاد السيارة مُسرعًا وبداخله اشتعلت نيران بركانٍ حدَّ الغليان..
وفي نفس التوقيت كان “آدم” لتوهِ دخل الشقة بصحبة “عُـلا” التي ولجت معه على استحياءٍ، كانت تشعر بالخوف والاضطراب، لكنه سحبها من كفها وأدخلها الشقة ثم أغلقها وقال بثباتٍ:
_مش فاهم خايفة من إيه؟ أنتِ معايا وأنا الوحيد اللي أمان ليكِ يا “عُـلا” أنا ماوحشتكيش طيب؟ حضني موحشكيش؟.
ضحكت رغمًا عنها واستسلمت لعناقهِ بينما مسح هو فوق رأسها كي يبثها الأمانَ، وفي هذه اللحظة ولج “أدهـم” بنيرانٍ مشتعلة حين وجد سيارة أخيه بالأسفلِ وأدرك أنه عاد، وما إن فتح الباب رفع صوته يهدر عاليًا:
_أنتَ هببت إيه مع “حلمي” يالا..
قبل أن ينطق فرغ فاهه حين لمحه يحتضن فتاة بوسط الشقة وهي بعناقهِ مستسلمة، توسعت عيناه كأنه يرى مشهدًا يخدش حياءه وقال باندفاعٍ وعنفٍ وغضبٍ:
_يا وقعة أهلك سودا !! بقى أطلب منك إمبارح أكلة سمك والنهارده ألاقيك جايب واحدة في البيت؟ وفي الصالة يا بجح؟.
ارتدت “عُـلا” للخلف بخوفٍ واضطرابٍ بينما “آدم” هدر في وجه أخيه بغضبٍ يوقفه عند هذا الحد:
_ماتلبخش بكلامك يا “أدهـم” وخد بالك بتقول إيه؟.
وجاء الرد بغضبٍ أعمى:
_بقول إيه؟ جايبلي واحدة في البيت وتقولي مالبخش؟ أنتَ مجنون ولا مخك ضرب يالا؟ مين دي؟ جايبها من أنهي داهية ولا شاقطها من أنهي شارع؟ رد عليا دي مين؟.
نزلت عبرات “عُـلا” وتمسكت بقميص “آدم” وهي تتخبأ خلفه فصرخ “أدهـم” فيها يوبخها بقوله:
_أنتِ بجحة يا بت؟ بدل ما تطلعي تجري بتستخبي فيه؟ ما أنا ممكن أكسر عضمكم أنتوا الاتنين، بتعيطي ليه؟ خايفة من الفضيحة؟.
عند هذا الحد واكتفى “آدم” فاقترب منه ودفعه في منكبيه وقال بنفس العنف والغضب بصوتٍ عالٍ معبرًا به عن ضيقه:
_لم لسان أمك دا واحترم نفسك وأنتَ بتتكلم عنها، دي “عُـلا” أختي يا أستاذ يا محترم.
نزع الفتيل وفجرَ القُنبلة في وجه أخيه وما عقب دوي الانفجار صوت صمتٍ قاتلٍ وأنفاس تتلاحق بعنفٍ خلف بعضها، كانت كارثة الموسم أو كذبة إبريل لكن يبدو أنه تأخرت وأتت مع موسم الخريف، كانت صدمة لحقت بهم حتى أن الطير حلق فوق رأس كل الحاضرين، والسبب في خبرٍ حصري قدمه أحدهم بغير تمهيدٍ.

