رواية في ارض النوبة الفصل الخامس عشر 15 بقلم نورهان حسني – تحميل الرواية pdf

رواية في ارض النوبة الفصل الخامس عشر 15 بقلم نورهان حسني
الفصل الخامس عشر
مع دقات الساعة معلنة منتصف الليل..رفعت “قمر” وشاحها الأسود علي وجهها لتفتح شرفتها بحذر لتجد “بسام” المختبئ خلف الشجرة المجاورة للشرفة ليشير ل”قمر” بيده بأن تهبط بسرعة..
ولأن المسافة بين الشرفة والأرض لا تعتبر كبيرة استطاعت “قمر” بسهولة الهبوط إلي الأرض ليمسك “بسام” بيدها بقوة متسللين خفية خارج أسوار المنزل..
شعور الفضول الممزوج بالقلق كان يزين وجه “قمر” المتخفي بوشاحها الأسود وهي تتابع السير خلف “بسام” الذي يتعامل بحرفية عالية..و بدون أية مقدمات تجمدت “قمر” فجأة في موضعها تنظر حولها بصدمة ممزوجة بشوق..
نبرة غضب مكتوم ممزوجة بضيق نبعت من شفاه “بسام” الهامسة وهو يقول:”قمر” هيا بسرعة قبل أن يرانا أحد
علامات من الفرحة الممزوجة بالشوق اتحدت مع ابتسامة “قمر” الباهتة تحت وشاحها لتقول بنبرة هامسة أوشكت علي البكاء:هنا رأيته أول مرة
أغلقت “قمر” رموشها بهدوء لتعود بذكرياتها إلي أول مرة رأت فيها “فادي” كان في ذاك المكان عندما تراقص وشاحها أمام عدسة الكاميرا الخاصة به..
اجتاحت صدمة كهربية قلب “قمر” لتزف له خبر سعيد أخيراً برؤيتها للمكان الذي جمعها أول مرة بمن يدق القلب من أجله لتلألأ دمعة ألم ممزوجة بشوق بين جفون “قمر” التي فتحتها إثر سماعها لنبرة “بسام” الهامسة وهو يقول:هيا يا “قمر” أرجوكي
زفرت “قمر” بطمأنينة اكتسبتها من رؤيتها لذاك المكان لتزيد من تمسكها ب”بسام” ليكملوا السير حتى وصلوا إلي منزل مهجور في أقصى القرية..
دلفت “قمر” إلي المنزل بفضول ممزوج بخوف قائلة بنبرة قلق:”بسام” ذاك المنزل مهجور منذ سنين لماذا أتينا إلي هنا؟!
مسح “بسام” علي يد “قمر” بحنان لترتسم ابتسامة هادئة علي ملامحه وهو يقول بنبرة مطمئنة:لا تقلقي أنا سأجلس في الحجرة الجانبية حتى تنهي المفاجأة
ما إن أنهي “بسام” حديثه حتى انسحب من جانب “قمر” حاملاً معه هاتفه الذي كان يضئ بهو المنزل ليرتعد جسد “قمر” خوفاً لتقول بنبرة باكية:لا أريد تلك المفاجأة ولكن أعدني إلي المنزل
ما إن أنهت “قمر” حديثها حتى تسلل شعاع ضوئي خافت يقترب من “قمر” تدريجياً..
أحاطت “قمر” يدها حول كتفها لتقلل من حدة رعشة جسدها الخائف وهي تحاول الوصول إلي من يحمل مصدر الضوء ذاك..
صدمة ممزوجة بعدم تصديق جعلت عيني “قمر” تتسعان وكأنها تريدان التحول إلي ميكروسكوب للتأكد مما تراه أمام عينيها..تحول خوفها إلي صدمة وتجلب شعورها بعدم التصديق علي قلقها ليتسرب شعور الطمأنينة إلي كيانها تدريجياً ليغلب شعور الخمول الممزوج بالارتجاف علي يدها المحيطة بكتفها لترفع يدها اليمني إلي طرف وشاحها بصدمة ليهبط ذاك الوشاح ببطء ومعه تهبط دمعة لؤلؤية من عيني “قمر” التي حركت شفتيها بصدمة قائلة: “فادي”
وضع “فادي” مصدر الضوء علي الطاولة ليطلق تنهيدة راحة ببطء وهو يقترب رويداً من “قمر” ليتيح لعينيه التي باتت أيام تشهد النجوم علي شوقه لمعشوقته ..يتيح لها الآن الفرصة لإخماد شوقها للنظر إلي تلك العينين التي أوقعت بقلبه الذي باتت دقاته تضخ الدم إلي أوصاله ببطء وكأنها تضح الطمأنينة لكيانها بهدوء لتشعر كيانه بكل جزء من تلك الطمأنينة الممزوجة بالشوق…
ابتسامة شوق ممزوجة بهدوء ارتسمت علي شفاه “فادي” الذي قال بهدوء:كل عام وأنتي بجانبي
ارتفع شهيق و زفير “قمر” تدريجياً في محاولة لاستيعاب أن ما تراه حقيقة لترتسم ابتسامة هادئة علي وجهها لتقول بنبرة هادئة:اشتقت لك كثيراً يا “فادي”
بالرغم من حاجة قلب “فادي” لسماع تلك الكلمات التي تبعث السعادة إلي أوصاله إلي أن ابتسامة “قمر” كانت هي المطمع الأكبر لقلب “فادي” الذي أخرج علبة صغيرة من جيبه قائلا بنبرة مزاح:هي هدية بسيطة ولكن كما أخبرتك أني أدخر المال لزواجنا
أخبأت “قمر” وجهها بكفيها الصغيرين لتخفي دموعها التي تشق الطريق ببطء إلي خديها وما هي إلي ثوان حتى أخفضت كفيها عن وجهها بعد أن صرخت عينيها بها بأنها لم تستكفي بعد من النظر إلي “فادي” لترتسم ابتسامة فرحة علي ملامح “قمر” التي قالت بنبرة مرحة:زواج ميكي وميني أليس كذلك؟!
قهقهة خافتة نبعت من “فادي” الذي مدً يده بالعلبة قائلا:بالطبع
التقطت “قمر” العلبة بفضول ممزوج بفرحة طفولية لتفتحها بشغف لتجد أنها قلادة من الذهب مكتوب عليها “فليحفظك الله لي” ..
مرر “فادي” أصابعه بين خصلات شعره قائلا بنبرة إيمان ممزوجة بثقة:أنا متأكد من أن الله سيحفظك لي إلا أن يأتي موعده ونتزوج
ابتسامة طمأنينة ارتسمت علي ملامح “قمر” وهي ترتدي القلادة قائلة بنبرة ثقة:وأنا متأكدة من أنك لن تتركني وسنتزوج
ما إن “قمر” حديثها حتى خرج “بسام” من الحجرة ليقول بنبرة قلق:هيا يا “قمر” حتى لا يشعر أحد
بالرغم من الألم الذي بات يتسلل إلي كيانه مرة أخري وبالرغم من خوفه مما سيحدث لها عند مواجهتها لذاك المعتوه حاول “فادي” رسم ابتسامة مطمئنة علي ملامحه وهو يقول:هيا يا “قمر” و انتبهي علي نفسك جيداً مفهوم انتبهي علي نفسك جيداً
أومأت “قمر” برأسها بإيجاب وعينيها يرتعدان حزناً ممزوج بألم لتعيد رفع الوشاح علي وجهها بيدها المرتعشة لتقول بنبرة أوشكت علي البكاء:سأنتظرك يا “فادي”
أمسك “فادي” بزمام الأمور ليقضي علي شعور العجز الذي كان سيتحكم به ليمسح علي وجهه بسرعة قائلا بنبرة مطمئنة ممزوجة بإيمان:لا تقلقي سنجتمع عندما يشاء الله ولكن انتبهي علي نفسك مرة أخري
نبرة حزن ممزوجة بطلب نبعت من شفاه “بسام” الذي مسح علي جبينه قائلا:انتبه أنت علي نفسك في طريق عودتك وبمجرد أن تصل إلي منزلك أبعث لي برسالة سأنتظرك
أومأ “فادي” رأسه موافقاً ليمسك “بسام” بيد “قمر” وبيده الثانية يمسك بمفتاح الباب وهو يشعر برعشة يد “قمر” الرافضة للذهاب ويري في عيني “فادي” الرغبة في ضم حبيبته ولو للحظات..ليفتح “بسام” باب المنزل قائلا بنبرة تحمل حزنه:هيا يا “قمر” هيا
ضمة للحظة واحدة كانت هي المطلب الأخير للعاشقين..
ضمة للحظة واحدة ليستعيدوا قوتهم علي استكمال تلك الحرب..
ضمة للحظة واحدة ستعيد إحياء قلوب عاشقة تتألم من الفراق الذي سيدوم إلي أجل غير مسمي..
تلك الضمة التي كانت ستخفف أوجاع كثيرة ماضية وحاضرة ومستقبلية لم يحظي بها العاشقين اللذان يخفيان آلامهما في ابتسامة باهتة ليحرك “فادي” شفاهه قائلا:في أمان الله
عاد “بسام” متسللاً ب”قمر” التي باتت شاردة طوال الطريق وكأنها مغيبة عن العالم لتصل أخيراً إلي شرفتها لتدلف إلي حجرتها عن طريقها وقبل أن تغلق باب الشرفة..
نبعت من “قمر” نبرة هامسة تحمل الشكر الممزوج بالفرحة لتقول:أنت أعظم أخ علي وجه الأرض
ابتسم “بسام” مودعاً ل”قمر” ليتجه كلا منهما إلي فراشه سريعاً..لتبدل “قمر” ملابسها بسرعة لتدثر جسدها بالغطاء وهي تحتضن قلادة “فادي”…
بينما علي الجانب الآخر..استطاع “فادي” برعاية الله الخروج من القرية بأمان ليستقل سيارته متجهاً إلي القاهرة ونظرة عيني “قمر” المحفورة في ذاكرته تضخه في كل لحظة بالعزيمة والإصرار..
…
تسرب شعاع ذهبي معلن بداية يوم جديد..ذاك اليوم الذي لم تضعه “قمر” في حسبانها مطلقاً ليداعب شعاع الشمس تلك الفتاة التي تجلس علي فراشها شاردة محتضنة بكفيها قلادة حبيبها وعينيها تتلألأن بالدموع لثوب الزفاف الموضوع أمامها..
زادت “قمر” من قبضتها علي قلادة “فادي” كأنها تريد أن تهبها القوة التي تجعلها قادرة علي استكمال ذاك اليوم المشئوم وارتداء ثوب الزفاف لأحد غير “فادي”..
لتهمس “قمر” في القلادة قائلة بنبرة أوشكت علي البكاء:فلتحفظني له يا الله ولتحميني من ذاك المعتوه
ما إن أنهت “قمر” حديثها حتى بدأت أصوات الغناء ترتفع تدريجياً معلنة بداية مراسم الزفاف لتقوم “قمر” من موضعها تدريجياً وعينيها تدقق النظر في ثوب الزفاف وكأنها تريد إرسال لهيب من نار جهنم لتحويله إلي رماد..
طرقات غضب علي باب الحجرة جعلت عيني “قمر” تنصرف عن ذاك الثوب لتأذن بالدخول ليدلف إلي داخل حجرتها والديها..لترسم “قمر” ابتسامة باردة علي ملامحها وهي تلقي السلام علي “منير” بينما تحولت ابتسامتها إلي طمأنينة وهي تلقي التحية علي “ناهد”..
عقد “منير” حاجبيه بتعجب ممزوج بغضب ليحرك شفاهه قائلا بنبرة تساؤل:ما تلك القلادة؟!
صدمة كهربية نبعت من كلام “منير” لتصوب مباشرة إلي كيان “قمر” الذي ارتعد بخوف ولكن سرعان ما تحول ذاك الخوف إلي طمأنينة عندما تحركت شفاه “ناهد” قائلة:تلك القلادة منحتها إيها بمناسبة ذكري مولدها
التفت “منير” بنظره إلي “ناهد” قائلا بنبرة غضب مكتوم ممزوجة بعدم تصديق:حقاً!!لم تخبريني عنها
اتجهت “ناهد” إلي ابنتها لتمسح علي كتفها بحنان لتتحرك شفاهها بنبرة ثقة قائلة:لأنك ستلقي بابنتك في التهلكة
وإذا أخبرتك بأمر تلك القلادة التي أرجو من الله أن يتحقق ما منقوش عليها ستمنعني من منحها إياها لأنك إن أردت أن يحفظها الله ما زوجتها ل”محب”
صندوق خشبي صغير الحجم نسبياً كان يمسكه “منير” ليضعه علي الطاولة بغضب ليرتفع صوت ارتطامه بالطاولة ليقول “منير” بنبرة غضب:لولا أن اليوم الزفاف لكنت لقنتك درس لن تنسيه يا “ناهد” الأهم الآن أن تجهزي تلك الفتاة للزواج
ما إن أنهي “منير” حديثه حتى دلف خارجاً من الحجرة وهو يطرق الباب بغضب ليتجه إلي تجمع الرجال حيث بدأت مراسم الزفاف..بينما في داخل حجرة “قمر”..
تنهدت “قمر” براحة لتقول بنبرة إحراج ممزوجة بتردد:تلك القلادة يا أمي…
لم تمنح “ناهد” ابنتها فرصة لاستكمال حديثها لتقاطعها بنبرة حزم ممزوجة بحنان:الأهم الآن يا ابنتي أن تجهزي لذاك الزفاف لذلك أحضري ملابسك لتأخذي حماماً دافئا ومن ثم أرتدي الثوب لتأتي السيدات لتزينك
…
بينما علي الجانب الآخر..قرر “فادي” إخماد ثورة التساؤلات القاتلة التي نشبت في عقله باعتكافه علي العمل لساعات متواصلة بدون أن يكترث لعقله الذي بات يشتعل رويداً رويداً من الجهد المبذول في العمل والجهد المبذول ليقلل من حدة توتره تلك ولحسن حظ “فادي” أن “ياسر” كان في زيارة مع وفد سياحي فبالتالي لم يعلم بأفعال صديقه المجنونة ولا بطاولة مكتبه التي باتت مستوطن لأكواب القهوة وملفات العمل..ومن حين إلي آخر كان يتلقي “فادي” رسائل من “بسام” ليطمئنه علي الوضع في النوبة ليزداد إصرار “فادي” علي إيجاد حل للقضاء علي ذاك المعتوه ويخلص “قمر” منه..
ارتشف “فادي” قليلاً من القهوة ليغمض عينيه بإرهاق محركاً رقبته يميناً ويساراً لتأتيه نبرة متسائلة نبعت من شفاه مديره في العمل قائلا:”فادي”؟! أما زلت هنا؟!!لما لم تذهب لراحة الغذاء أنت تعمل من السابعة صباحاً الآن باتت الساعة الثانية ظهراً
فتح “فادي” عينيه بثبات ليقف مصافحاً مديره وهو يقول بنبرة ثابتة:تعلم حضرتك أنني لا أكترث للغذاء طالما “ياسر” في مهمة و بالإضافة لأنني مشغول بإنهاء بعض الملفات
عقد المدير حاجبيه بتعجب وعينيه تتفحص كمية الملفات الموضوعة علي المكتب وأكواب القهوة ليقول بنبرة تعجب ممزوجة بعرفان:أية ملفات؟! أنت لا تؤجل أية أعمال مطلقاً يا “فادي” وبتلك الملفات التي أمامك أنت تنهي عمل الشركة لسنة مقبلة وليس لأيام فقط
ارتسمت ابتسامة خافتة علي ملامح “فادي”التي يبدو عليها الإجهاد واضحاً ليقول:ذاك عملي لا أكثر وبالمناسبة أنا أنهيت البرنامج الخاص بالوفد الروسي المقرر وصوله بعد أسبوع إلي الأقصر يتطلب من سيادتك فقط المتابعة و من ثم سأعرضه علي المرشد الذي سيصاحبهم ليرتب أموره
علامات من الرضي الممزوج بالجدية ارتسمت علي ملامح المدير الذي قال:أتعلم يا “فادي” منذ أول مقابلة جمعتني معك أنت و “ياسر” كنت أظن أنكم كغيركم من شباب جيلكم ولكن بتعاملي معكم والشكر الذي أتلقاه دائماً من كل وفد تكونون أنت أو “ياسر” المسئولين عنه تزداد ثقتي وتقديري لكم لذلك منحتك أنت وصديقك مهمة وضع البرنامج السياحي ولذلك ستصرف لكم مكافئة قيمة ليلة غد علي ما تقدموه للشركة
ابتسامة باهتة اجتاحت ملامح “فادي” الذي حرك شفاهه بنبرة شكر ممزوجة بحكمة:ذاك عملنا لا أكثر يا فندم
قام المدير من موضعه ببطء وهو يقول بنبرة هادئة:لذلك أنا أريد الجديد منك دوماً أنت و”ياسر”
انصرف المدير إلي استكمال عمله بينما مكث “فادي” لساعة أخرى ينهي الملف الأخير ومن ثم اتجه لأداء صلاة العصر في المسجد لينهيها متجهاً إلي النادي الرياضي ليهرب من تفكيره الذي قارب علي الفتك بأعصابه بممارسة رياضته المفضلة وهي الركض ليمكث “فادي” قرابة الساعتين وقدمه لم ترتاح ولو لثواني..
يركض بكل ما لديه من قوة وكأنه يري ما حدث في الفترة الماضية من حياته في شريط سينمائي يمر من أمام عينيه بسرعة تفوق سرعته في الركض..
أزال “فادي” سماعة أذنه لينحني بيده ليدلك ركبته بحركات دائرية وهو يلتقط أنفاسه رويداً رويداً لترتفع نغمة هاتفه معلنة قدوم رسالة من “بسام” حملت في محتواها أن مراسم العرس ستبدأ الآن وأن “بسام” سيحادثه بعد انتهاء تلك الليلة..
شعور يعتبر خليط من الألم..القلق..الخوف..الغيرة..الإصرار..تلك الأحاسيس أو ربما أكثر منها اجتاح كيان “فادي” دفعة واحدة وكأنها وقود ازداد اشتعال رأسه أضعاف مضاعفة..
منذ أسبوع و”فادي” يهيئ نفسه لتلك الليلة التي سيقام فيها عرس حبيبته علي شخص غيره..منذ أيام وهو يحاول تدريب كيانه في التحكم علي ردود فعله ولكن أيقن “فادي” أن التدريب علي شئ ما لن يكون بصعوبة ممارسته..
ليتجه “فادي” إلي دورة المياه الخاصة بالنادي ليخفض رأسه تحت صنبور المياه الباردة لعلها تخفف من اشتعال رأسه الذي بات يمثل مراسم إتمام الزفاف أمام قلب “فادي” ليزيد “فادي” من قبضة يده في محاولة منه لاستعادة قوته المعتادة وبرودة أعصابه لتمر ثواني لم يعلم “فادي” عددها ولكنها كانت كافية ليتذكر الإصرار الممزوج بالثقة الذي نبع من عيني “قمر”..ليتذكر الماضي الذي كان السبب الأول فيما يحدث الآن..
ليرفع “فادي” عينيه إلي المرآة لترتسم ابتسامة تعجرفه المعتادة علي ملامحه وهو يجفف قطرات المياه من علي شعره ليحرك شفاهه بطريقة هامسة قائلا بنبرة ثقة ممزوجة بإيمان:أنا استودعت “قمر” عند الله ليرعاها بعينيه فلترني الآن يا “محب” كيف تقرب منها بسوء وهي تحت رعاية الله
….
امتطئ “محب” جواده بماهرة عالية ممزوجة بثقة لترتفع أصوات الدفوف رويداً رويداً لتتلائم مع كلمات الأغاني النوبية المخصصة للزفاف لتبدأ الزفة التي تضم أصدقاء “محب” وأهل القرية ذاهبين إلي منزل العروس..
ارتسمت ابتسامة خبث ممزوجة بفرحة علي ملامح “محب” وهو يتراقص علي جواده بشعور من النصر يتحكم من أوصاله وسط ابتسامة فرحة تحمل في طياتها ضيق كان أو ضجر والقليل جداً ما تجد فرحته نابعة من قلبه لينطلق صدي طرقات الدفوف والغناء ليصل إلي جميع أركان القرية..
بينما في منزل “منير” حيث تجلس العروس في حجرتها تنهي وضع مساحيق التجميل باحتراف لتمحي كدمات وجهها التي تبوح رفضها التام لتلك الجريمة..أنهت “قمر” وضع أحمر الشفاه لتتنهد بحزن ممزوجة بإيمان لتحتضن قلادة “فادي” وهي تهمس بها:هذا اليوم ما هو إلا جريمة فيا الله أحفظني يا الله
بمجرد أن أنهت “قمر” حديثها حتى توالت طرقات الفرحة علي باب حجرتها لتدلف إلي الحجرة بنات خالات وخلان “قمر” وصديقتها من القرية وهم يوزعون الزغاريط في كل أركان الحجرة ليبدوا بأصواتهن تلك السم في جروح “قمر” التي لم تشفي بعد..
استجمعت “قمر” قواها لدي رؤيتها لوالدتها تقف علي باب الحجرة تنظر لها بحزن يظنه الجميع بأنه الحزن الذي يدب في أوصال أي أم لدي زفاف ابنتها ولكن في الحقيقة أن حزن “ناهد” لم يكن علي زفاف ابنتها بل كان علي أن ذاك لم يكن العرس الذي تمنته لابنتها..لم يكن “محب” من تأمن ابنتها عليه…لم تكن ترجو يوماً بأن تكون ابنتها مجرد صفقة أجرها والدها وأن يغصبها علي الزواج من ذاك المعتوه..
اقتربت “قمر” من والدتها بثبات وابتسامة الثقة ترتسم علي وجهها لتحتضن “قمر” والدتها بكل ما أوتيت من قوة لتهمس في أذنها بنبرة إيمان:لا تحزني عليً أنا يا أمي بل أحزني علي عذاب ذاك المعتوه الذي سيبدأ من الليلة
تنهيدة راحة نسبية أطلقتها”ناهد” وهي تمسح علي ظهر ابنتها برفق لتقول بنبرة قلق:عذاب ذاك المعتوه هو ما أتمناه لذلك انتبهي علي حالك جيداً
معالم الفرحة الممزوجة بالطمأنينة ارتسمت علي ملامح “قمر” لتذكرها “فادي” وهو يوصيها بالانتباه علي نفسها لتغمز إلي والدتها بحركة طفولية ومن ثم تخفض طرحة الزفاف علي وجهها…
خرجت “قمر” من حجرتها وسط زغاريط لم تهدأ من النساء وضحكات فرحة تطلقها صديقتها و”قمر” شبه مغيبة عما يدور من حولها تحاول جاهدة أن تلهي كيانها بتذكر أية ذكري لطفولتها أو لها مع “مريم” و”فادي”..
ولكن سرعان ما كان يجب علي “قمر” الإفاقة من أجل تمام تلك الجريمة المسماة بزفاف..لتأتي نبرة ابنة خالتها تهمس في أذنها بفرحة قائلة:لقد بدأت زفة “محب” تقترب
رفعت “قمر” بصرها ببطء لتلقي نظرة عابرة علي ما يحيط حولها..سيدات كثيرات بعضهن تراهم لأول مرة تتعالي أصوات غنائهن والبعض الآخر يجلس يصفق ويتابع موكب العريس الذي يتقدم بينما الفتيات من سنها تحيط بها وعينيها تتشوق فرحة بأن يأتي اليوم الذي ترتدي فيه ثوب العرس..
وبفضل باب المنزل المفتوح علي آخره..استطاعت “قمر” رؤية أعداد الرجال التي لا حصر لها و والدها الذي يقف في مقدمتهم يحاول رسم ابتسامة فرحة بينما معالم الغضب الذي يخفي شعور من الندم بات واضحاً أمام عيني “قمر” التي تنهدت بلامبالاة لتلتفت بنظرها إلي “بسام” الذي يقف وسط مجموعة من أصدقائهم يحاول تلاشي النظر إلي موكب العريس حتى لا ينقض عليه..
بدأت أصوات الدفوف ترتفع بصورة ملحوظة وأعيرة النار تطلق بسعادة فور هبوط “محب” من علي جواده ليذهب إلي “منير” محتضناً إيها بشعور من النصر الممزوج بالتكبر كان واضحاً من نبرته التي هنئ “منير” بها ليقف “منير” إلي جواره ليتقدموا بخطوات ثابتة إلي داخل المنزل وسط أصوات الدفوف الصاخبة..
وكعادة الزفاف النوبي بأن يقدم للعريس كوب من اللبن فور دخوله إلي المنزل..ليلتقط “محب” كوب اللين من خالة “قمر” ليتجه بخطوات ثابتة تجاه “قمر” بينما وقف “منير” بجانب زوجته التي همست في أذنه قائلة بنبرة عتاب:إذا تعذبت ابنتي فأنت السبب ولن أسامحك أبداً علي أوجاعها تلك
نثر “محب” قطرات من اللبن فوق طرحة “قمر” التي تخفي وجهها كعادة الزفاف النوبي ليرتشف قليلاً من اللبن وابتسامة الانتصار الخبيثة تزداد تدريجياً علي وجهه المشتاق لرؤية علامات الضعف الممزوج بالانكسار يزين ملامح “قمر”..
أمسك “محب” بطرف الطرحة وهو يرفع الطرحة رويداً رويداً ليتحطم غروره أمام عند “قمر” و تضرب قوة “قمر” خبثه وتتحطم مطامعه الخبيثة في ليلة سينعم فيها بجسدها أمام ملامح “قمر” الواثقة بأن الله سيحفظها وابتسامتها الباردة التي اكتسبتها من “فادي”..
لتتسع عيني “محب” تدريجياً بصدمة من رؤية هيئة “قمر” الواثقة تلك علي عكس ما كان يتوقع تماماً..
كان متوقعاً بأن يري أنثي ضعيفة مهزومة منكسرة ترفع راية الاستسلام..ولكن!! ما رآه هو تحدى وعزيمة وإيمان ينبع من عيني “قمر” التي تتوعد له..
ولكن سرعان ما استعاد “محب” قوته الممزوجة بخبثه من جديد ليقترب من “قمر” بهدوء وهو يحيط عنقها بقلادة ليهمس في أذنها بثقة:سأنعم بأروع لحظات حياتي وأنا ألتهمك يا “قمر”
مدًت “قمر” ذراعها بثقة ليحيط “محب”بمعصمها بسوار من الذهب لتتحرك شفاه “قمر” بنبرة هامسة استطاع “محب” فقط أن يسمعها وهي تقول ببرود:لن تستطيع أكلي يا “محب” لأنني سأقف في حلقك وأنهي حياتك
ما إن أنهت “قمر” حديثها حتى ارتفعت أصوات الدفوف والغناء من جديد ليودع “محب” “قمر” بنظرة توعد لتقابله “قمر” نظرتها بالثقة لتبدأ حلقات الغناء والرقص خارج وداخل منزل “منير” معلنة بداية حفلة الزفاف
…
حجرة من المفترض أنها مخصصة للنوم تحولت إلي حجرة تعج بأكواب القهوة الموضوعة علي طاولة المكتب وأمام المرآة وبجانب الفراش..ذاك الفراش الذي تحول إلي مخزن لملفات ومستندات تخفي معالمه وجهاز اللاب توب الموصل بمقبس كهربي بجانب الفراش ذاك المنظر الفوضوي أصبح سائد في حجرة “فادي” من أسابيع بل الأحق من شهور فأصبحت عادة “فادي” فور العودة من عمله يأخذ قيلولة سريعة ويبدأ في فحص تلك الملفات وتسجيل الملاحظات علي جهاز الحاسوب الخاص به..ولأن ما حدث ل”قمر” من أسبوع جعله ينشغل قليلاً عما يقوم به فبتمام الزفاف الليلة أصبح إصرار ضعف الضعف ليعكف علي تلك الملفات بدون الانتباه إلي صحته ولا إلي كمية القهوة التي يرتشفها كل ليلة..
ارتفع صوت نغمة هاتف “فادي” ليعبث بيده بين الأوراق ملتقطاً إيها ليغلق الملف الذي أمامه قائلا:هل وصلت لشئ؟!
نبرة إرهاق ممزوجة بقلق نبعت من شفاه “وائل” الذي قال:أتعلم يا “فادي” ما الذي سيحدث إذا علم رؤسائي بما أفعله؟!
ارتشف “فادي” قليلاً من القهوة ليقول بنبرة هادئة:ستفصل من العمل كحد أدني وبحد أقصى ستحاكم أنت و”بسام” للعبث بأوراق رسمية
ضرب “وائل” جبينه بيده ضربة سخرية وهو يقول بنبرة ضحك خافتة:وأنت لن يصيبك أية مكروه
ألقي “فادي” نظرة سريعة علي الأوراق التي تملأ فراشه ليقول بنبرة مرحة:بكمية الأوراق التي معي تلك بالتأكيد سيرأف القاضي بي لتحملي لتلك الأوراق ويحكم عليً بإعدام كحد أقصى وأدني معاً
قهقهة خافتة نبعت من “وائل” الذي حرك رقبته يميناً ويساراً بإرهاق ليقول:لا أعلم ما الإضافة التي ألحقت بالقضية من تصويرنا نسخ لأوراق رسمية وتحقيقات ولا أعلم كيف وافقت علي جنونك ذاك أنت و”بسام”
نبرة مزاح ممزوجة بإرهاق نبعت من “فادي” الذي أسند ظهره إلي الخلف بألم ليقول:ذاك ليس وقتاً للندم فأنت يا صديقي كما يقولون أدبست رسمي
نبرة ضحك ممزوجة بتساؤل نبعت من شفاه “وائل” الذي قال:كنت أتمني أن أربي أبنائي..الأهم الآن هل توصلت لشئ؟!
نبرة ضيق ممزوجة بإرهاق نبعت من شفاه “فادي” الذي قال:لا توجد أية معلومة وحاولت الدمج بين المستندات التي بعثتها لي منذ البداية للوصول لأية معلومة ولكن لا أستطيع
نبرة نعاس ممزوجة بإرهاق نبعت من شفاه “وائل” الذي قال:ليس أمامنا سوي انتظار “بسام” حتى يأتي لنجتمع سويا نحن الثلاثة بالإضافة إلي “ياسر”ً لإيجاد حل وبالإضافة لذلك ما عادت لي طاقة للنظر لأية أوراق وأريد النوم
نبرة شكر ممزوجة بتقدير نبعت من شفاه “فادي” الذي قال:أعذرني يا “وائل” فأنا أشركتك في موضوع لا علاقة لك به من البداية وللأسف تورطت أنت و”بسام” بأخذكم نسخة من الأوراق تلك
نبرة عتاب ممزوجة بلامبالاة نبعت من شفاه “وائل” الذي قال:من الواضح أن القهوة باتت تضعف عقلك..من البداية وأنا أخبرتك أنه لا يوجد أي دليل يثبت أننا أخذنا نسخة منها وبالإضافة أن التخلص منها سيكون بعود ثقاب فقط و”بسام” عندما شاركنا في الأمر من البداية وهو يقول ذلك ولكن الأهم أن نجد حل فقط يا صديقي
أعاد “فادي” شكره لصديقه لينهي المكالمة ويضع هاتفه بالشاحن ويبدأ في تجميع الورق من علي فراشه ليضعه في حقيبته الخاصة ويغلق عليهم بالمفتاح واضعاً تلك الحقيبة أعلي خزانة ملابسه..ليبدأ في تجميع أكواب القهوة ليتجه بهم المطبخ لتنظيفهم…
تنهدت “فادي” بقوة ليفتح صنبور المياه ومعها يبدأ عقله في عقد محاكمة عاجلة لتلك الملفات التي أنهي قرأتها منذ دقائق في محاولة لتجميع المعلومات لإيجاد حل ما…
ومن بين تلك المعلومات الغامضة قفزت صورة “قمر” في خيال “فادي” لتطيح بأية أفكار أخرى كانت تشغل عقله من لحظات ليرسم “فادي” ابتسامة خافتة علي ملامحه وهو يتخيل “قمر” بعندها وقوتها التي ستقضي علي “محب” حتمياً..
ولكن لم تدم تلك البسمة طويلاً لتتبدل ملامح وجه “فادي” سريعاً متحولة إلي القوة الممزوجة بالإصرار لينفجر بركان الغضب داخل كيانه لأن شيطانه وسوس له بأن من الممكن ل”محب” بأن يفتك ب”قمر” نظراً لقوة بنيانه الجسدي وألاعيبه الشيطانية..زاد “فادي” من قبضته علي الكوب ليصبح علي بٌعد سنتيمترات من تحطيمه ولكن سرعان ما بدأ إيمان “فادي” الممزوج بتعجرفه المعتاد يتسرب تدريجياً إلي أوصاله ليخدم نار غضبه بلمح البصر لترتسم ابتسامة التعجرف المعتادة من “فادي” وهو يتخيل ذاك اليوم الذي سيضع “محب” تحت قدمه..
قطرات من المياه نثرها “فادي” علي وجهه وهو يحادث نفسه بسخرية قائلا “يقولون أن الفتيات فقط من يتخذن قرارات مصيرية عند تنظيفهم للأطباق ولكن إذا أخذ الشباب فرصتهم لتجربة تنظيف أكواب فقط ما كنا نحتاج إلي المكوث في جو معتم للوصول إلي قرار”
ما إن أنهي “فادي” حديثه مع نفسه حتى آتته نبرة “حمدي” التي تحمل غضباً مكتوم ليقول:ألن تكف عن تلك القهوة والسهر أمام شاشة حاسوبك
وضع “فادي” الكوب الأخير في المكان المخصص له ليقول بنبرة هادئة:في ظرف شهور معدودة أو أسابيع الله أعلم ستنتهي تلك المسألة بل وسأزف لك خبر تنتظره منذ مدة
عقد “حمدي” حاجبيه بتعجب ممزوج بفضول ليقول:أي خبر ذاك؟!
جفف “فادي” قطرات المياه من علي يده ليقول بنبرة هادئة:بمجرد أن أنهي ما أفعله هذا سأتزوج
تهللت ملامح وجه “حمدي” فرحاً ليقول بنبرة صدمة ممزوجة بسعادة:تتزوج!!أخيراً يا “فادي” ستحقق حلمي ولكن قٌل لي من هي؟!
ابتسامة الغموض التي لم يستطع “حمدي” تفسيرها تمكنت من ملامح “فادي” تدريجياً ليقول:سأخبرك يا أبي بكل تأكيد ولكن بمجرد أن انتهي من عملي هذا أعدك



