Uncategorized

رواية جمعية حب الفصل الرابع 4 بقلم شمس محمد – تحميل الرواية pdf


|| الفصل الرابع ||

|| رواية جمعية حُب ||

بسم الله الرحمن الرحيم،

والصلاة والسلام على الرسول الكريم..

سبحان الله وبحمدهِ، سبحان الله العظيم..

|| صلوا على الرسول الحبيبﷺ ||

_الرجاء الدعاء لـ “نسمة” ولكل أموات المسلمين بالرحمة والمغفرة.

____________________________________

عزيزي أيها الإنسان وجاري العزيز في كوكب الأوجاعِ..

أولًا كيف حالك يا رفيق؟

وثاني شيءٍ دعني أخبرك معلومة قد تكون جهلتها أنتَ وسط زِحام الحياة الزاخمة، فتلك الحقيقة يا عزيزي قد تصدمك، فهل تخيلت ذات يومٍ أنتَ أنك ترى بسمة شخصٍ يجلس بجوارك والنيران في قلبه تملأ ميدانًا بأكمله؟ رُبما تكون اعتدت على رؤية النيران في عيني المُحترق، لكن الحقيقة المخبوءة خلف عباءة الخداع والوهم؛

هي أن الاحتراق قد يكون في قلب شخصٍ يجاورك كل يومٍ وبسمته تُشرق كآشعة الشمس، لكنك أبدًا لن تلمح من خراب مدينة قلبه شبرًا واحدًا، فاحذر فيما بعد أن تُراهن على بسمةٍ ساطعة، قد تحسبها شمسًا أشرقت،

وفي قلب صاحبها النيران التهبت واحرقت..

<“لم يكن الدم ماءً ذات يومٍ؛ بل لم يكن موجودًا من أساسه”>

أن تولد فردًا واحدًا دون حشدٍ حولك قد يسلب منك خصالك كإنسانٍ يتمتع بصفات البشر، لكن ماذا عنك إذا كنت أنتَ من تخلى حشده وترك يده وأنسلت من بينهم؟ ماذا عنك إذا كنت أنتَ وحدك من أراد الهزيمة لنفسه؟ حيث تقف وحدك كما الجدار بغير سندٍ ولا عمدٍ ومع ضربات الرياح تسقط أنتَ أولًا..

اقترب الرجل الكبير منهم بوجهٍ يكاد يكون مُنبسطًا لكن ما إن اقترب ولمح “آدم” و “أدهـم” توقف بموضعه يحدجهما بذهولٍ ونظراتٍ يتطاير منها الشرر، وفي حين انتبه له “أدهـم” هبَّ منتفضًا بشكلٍ جذب أنظار الجميع وقد قالت “رئـيفة” باستنكارٍ خالطه الخوف بسبب قدومه:

لم يُنصت لها، بل ركز بعينيه على حفيده المتكبر الذي رفع حاجبه له كأنه يتحداه بنظراته ثم انتبه لوجود “آدم” وأرشقه بنظرة كُرهٍ وقال بثباتٍ:

_ماكنتش أعرف إنك عندك ناس غُرب، كنت جاي أسلم على “غسان” حفيدي بمناسبة رجوعه من السفر.

يتهمهم أنهم مجرد غُرباءٍ عن المكان في أرضهم، لذا رد عليه “أدهـم” بدلًا عن الجميع حين قال بهدوءٍ كاذبٍ:

_إحنا مش غُرب ولا حاجة، دا بيت خالتي وجوز خالتي، ووجودنا هنا مرغوب فيه، الدور والباقي على اللي جاي من غير عزومة ومحدش عاوزه في المكان.

هل تسمعون عن الحرب الأهلية؟ استعدوا معي كي أريكم نسخة أخرى تصغيرًا لها، هُنا حيث الصراع بين الحب والكرهِ وبين الإخلاص لحق ميتٍ وبين الركض خلف حقوقٍ وهمية، سوف تجد حربًا مفروضة بغير جنودٍ وكأن الفرد فيها جيشًا، والبادي فيها أظلم، لكن العين هُنا لم تكن بالعينِ، هنا العين فيها القهر..

انتفض “طـاهر” من موضعه وقال بهدوءٍ بانت فيه بوادر عاصفته المخبوءة خلف أشجارٍ بدأت الرياح تهز ثباتها:

_بعد إذنك يا عمي مفيش داعي للكلام دا، “أدهـم” و “آدم” ولادي وزيهم زي “غسان” هنا، وحضرتك على عيني وعلى راسي كمان، بس هما مش غُرب.

اقترب “داغـر” منهم ووقف يتحدى “أدهـم” بعينيه ثم زفر متهكمًا وثنىٰ رُكبتيه يجلس على المقعد مستندًا على عصاه المتينة وقال بثباتٍ بعدما طاف بعينيه ورمق ابنته بنظرةٍ قوية:

_طب البيه وفاهم إنه هنا بصفته حفيدي ودا بيت خالته، الأستاذ بقى هنا بصفته مين؟ بقى فرد مننا بأي شكل وخلاص؟.

شعرت “رئيفة” بالخوف منه، هي تخشاه ولن تُنكر ذلك، لكنها ترفض الصمت والجُبن، تعلم أن الساكت عن الحق شيطانٌ لا يُحق له شرف الحياة، فقالت بثباتٍ واهٍ:

_بنفس صفة أخوه، عمري ما فرقت بين “أدهـم” وآدم” ولا هفرق، الاتنين أخوات وواحد عندي، بلاش كلامك دا لو سمحت.

ارشقها بنظرةٍ نارية جعلتها تزدرد لُعابها بقلقٍ حتى أن الحديث هرب وفلَّ من طرفها، بينما “طـاهر” فالتزم الصمت لحين إشعارٍ تالٍ، وعلى صعيدٍ آخر كانت هناك قلوبٌ تتلظىٰ بنيران الألم، نيرانٌ طالت الأخوين حيث صمت “آدم” ونظرته الفارغة من الحياة، ونظرة “أدهـم” المحترقة له وكأنه يعتذر عن شيءٍ لم يَبدُر منه هو له.

كانا في وادٍ غير الوادي، يسبحان في عالمٍ خاص بهما فقط، نظرة “آدم” تحدثت عنه وإن لم يُفصح هو بلسانهِ عن ذلك، ولم يتيقن من ألمه إلا النصف الآخر منه؛ وخاصةً حين قال “آدم” يوجه الحديث لـ “رئيفة” بقوله الذي لم تبد عليه أية تعابيرٍ:

_الحمدلله على سلامة “غسان” وربنا يبارك في لمتكم.

ألقى حديثه وأنسحب كما كومة قشٍ ضربتها الرياح فتثرتها هُنا وهُناك، خرج من الحديقة دون أن يتريث ولو لوهلةٍ، فيما وقف “أدهـم” يراقبه بعينيه ثم اقترب بخطواتٍ واسعة قطعها حين مال على جده يهمس له بوعيدٍ وشرٍ انتواه له:

_والله العظيم، ورحمة أمي اللي ماتت بحسرتها منك لأخليك تحصلها وتموت بحسرتك أنتَ كمان، وهتشوف بنفسك.

ابتسم “داغـر” يستهزيء به ثم رفع رأسه بشموخٍ يتحداه، أما الآخر فقد خرج مهرولًا خلف أخيه يتبع خطواته وهو يعلم أن قلبه ينزف الآن، يعلم أن روحه كُسِرت بالفعل، وما إن خرج وجده يركب السيارة فاندفع يجاوره بصمتٍ لاهثًا كي يلتقط أنفاسه، فيما تهجمت ملامح “آدم” وشق الطريق بالسيارة في صمتٍ تام صبَّ القلق في قلب “أدهـم” لكنه التزم الصمت لحين عودتهما للبيت سويًا..

بمجرد أن عادا معًا ولج “آدم” الشقة يخلع سترته بعنفٍ يلقيها فوق الأريكة، يقوم بفك أزرار قميصه بذات العُنفِ وهو يرميه بطول ذراعهِ، ووقف متحررًا من ثيابه العلوية قبل أن يدخل مرحاض غرفته، وقد وقف “أدهـم” يراقبه ثم لملم الثياب وانتظره حتى مرت ساعة بالتقريب وخرج “آدم” وهو يقول بصوتٍ جامدٍ:

_مش عاوز كلمة، خلاص الموضوع خلص والليلة قفلت، وأنا أبقى *** لو سمعت كلامك تاني في مشوار يخص عيلتكم، قولتلك أنا بالنسبة ليهم مش زي ما أنتَ فاكر، هفضل ابن خدامة جت البيت هنا تخدم العيلة وأبويا عطف عليها واتجوزها، وأنتَ حمار عمال تخسر في الكل بسببي، خسرت “لـمار” وسيبتها، وخسرت جدك وعيلتك بسببي، أنا قولتلك بلاش تحطني معاك في الصورة، أنا مش عاوز أحس إن محدش قابلني كل شوية.

تركه “أدهـم” يتحدث ويزبد في كلماته لعله يرتاح _رغم اعتراضه_ لكنه تركه يتحدث حتى يرتاح من ثقل همه، وقد اقترب منه وربت فوق كتفه وقال بثباتٍ هاديءٍ:

_قول اللي تقوله، غصب عن الكل أنتَ أخويا وفي رقبتي، اللي عاجبه على عيني وراسي، اللي مش عاجبه يخبط راسه في أتخن حيطة تعجبه، بس آخر مرة تقول إني خسرت بسببك، أنا قولتلك مكسبي كله أنتَ.

لمعت العبرات في عيني الآخر لكنه لم يرد لحالة الضعف أن تتلبسه، لذا مسح وجهه بعنفٍ وقال بثباتٍ واهٍ يعتذر لأخيه:

_حقك عليا، كل حاجة في حياتك بقت بتخرب بسببي.

في لمح البصر كان “أدهـم” خطفه في عناقه مُربتًا على ظهره ويود لو يمحو كل تلك الأفكار التي تطوف في خاطرهِ، يريد أن يحارب العالم فقط لأجلهِ هو، لأجل ضحكته، لأجل سلام نفسه من وسط حروب الدُنيا، يريد أن يكون بوصلة الطريق له قبل أن يتيه في دروب الحياة، ولذلك يأويه في عناقه كي يشد عضده..

____________________________________

<“قالوا اليوم اسكندرية تعاني من الحُزن فتأكدت من عينيكِ”>

يومٌ تراني بخفة الفراشات

ويومٌ بثقل الجبال،

وبين اليومين لن تجدني

_ كما عهدتني_

وكأني طفرة وسط عالم البشر

يومٌ أَقهِر، ويومٌ أُقهر.

تجلس في شُرفة بيتٍ قديمٍ مُتهالكٍ يطل على البحر في مدينة الاسنكدرية، تتابع الموج بعينيها وهي تتخيل نفسها موضع تلك الصخور التي تتلاطم بالموج ويزيدها رهبةً ليل الشتاء، تتنهد بثقلٍ وتمد يدها تلتقط قدح القهوة تحاوطه بكفها البارد وتتمنى لو يمر الدفء بقلبها، لازالت تفتقد عناق جدتها وحنانها عليها، تفتقد الحياة لفتاةٍ مثلها، تفتقد شعور الحُرية رغم كونها حُرة بالفعل من كل قيدٍ، هي يومٌ تراها بخفة الفراشات، ويومٌ تراها بثقل جبلٍ..

نزل الدمعُ يواسيها على الفقدِ والفقدان،

تُرى لمَّ الناس قالوا أن الدمعَ ضيفٌ غير مُرحب به؟ كيف وهو أول من يواسي ويحضر عند الحزن والقهر؟ كيف وهو الذي يمر فوق الخديْن فيربت بصمتٍ على ألمٍ طال كل إنشٍ في الجسد؟ مسحت عبراتها وضمت العباءة السوداء الفضفاضة على جسدها، فأتت جارتها تقول بصوتٍ غلبه الحزن والتعاطف:

_يا بنتي بطلي عياط بقى، دي عالم عرر والله العظيم مايستهلوش دمعة واحدة منك، عند ربنا يا حبيبتي واللي عند ربنا مبيروحش، والله يا بنت الحرام مابينفعش، فلوسك وحقك دول هيدخلوا عليهم بالخراب، هما لو فيهم خير كانوا رموا لحمهم بنت البنوت في الشارع كدا؟.

انتبهت لها “عُـلا” وقالت بصوتٍ عَلُقَ به أثر البكاء:

_ماقولتش حاجة والله غير الحمدلله، بس صعبان عليا نفسي منهم أوي، دا أنا عمري ما بخلت على حد فيهم، وعلى يدك اللي جاي من شغلي كله رايح عليهم وعلى عيالهم، حتى جدتي عمري ما بخلت عليها بحاجة، ومنعوا المعاش يكون معاها وبرضه ماقولتش حاجة، بس ليه؟ ليه يرموني كدا وأنا والله معملتش فيهم حاجة وحشة، أنا ماكنتش عاوزة حاجة غير وجودي معاهم والله، بس وخلاص، أهو يبقى عندي عيلة، دا أنا كنت راضية بالهم والهم طلع مش راضي بيا.

انهارت باكيةً وهي تتحدث وكأن كلماتها تحولت لأشواكٍ جرحت حلقها، وقد جلست بجوارها جارتها وضمتها لعناقها وهي تربت فوق رأسها وقالت بصوتٍ مغلوبٍ على أمرهِ في حال تلك الفتاة:

_وحدي الله يا حبيبتي، وحدي الله ربك مبيرضاش بالظلم، وأنتِ يا حبيبتي شوفتي معاهم الويل كله، ربنا يراضيكِ ويعوضك، قومي ريحي شوية لحد ما أحضرلك لُقمة تاكليها، قومي يا حبيبتي وغيري العباية السودا دي، بقيتي وردة مطفية خالص.

كادت أن ترفض لكنها تحركت من الشُرفة تسير بثقلٍ فوق الأرض ثم ولجت الغرفة ترمي بثقل جسدها على الفراش والعبرات الساخنة تمر فوق خديها بلا توقفٍ، وقد لمحت الحقيبة الصغيرة كُحلية اللون موضوعة بجوار خزينة الثياب، اقتربت منها تلتقطها ثم وضعتها بجوارها وفتحتها لتجد ثيابها وبعض المتعلقات الخاصة بها حين كانت تضعها في غرفتها بشقة جدتها، بحثت عن أشياءٍ هامة فوجدت غُلافًا باللون الأبيض وبمجرد أن فتحته وجدت فيه أوراق قديمة ترك الزمن أثره عليها..

وجدت أرقام هواتف منزلية، عناوين جديدة، عناوين قديمة تم الشطب عليها، ظلت تقرأ الأوراق بعينين دامعتين، نظرت نظرة كأنها تعانق الحياة من بعد الممات، توهجت نظراتها بوميضٍ لامعٍ، قفزت من موضعها تبحث في بقية الحقائب عن أي شيءٍ فوجدت بطاقة تعريفية حديثة الصُنع باللون الأسود، ظلت تُحملق في البطاقة وعبراتها تهبط من موضعها ثم ضمت البطاقة لصدرها تنتحب باكيةً بصوتٍ عالٍ؛ بكت لكن شتان بين بكاءٍ للصبرِ وبين بكاء الجبرِ..

كل الخيانات مُرة، لكن وحدها خيانة الصحة تظل الأكثر مرارةً، أن يخونك عضوٌ منك فيتركك وحدك عالقًا بين المنتصف لا أنتَ تنعم بجهالة البدايات، ولا أنتَ مسترح من كبد النهايات، وتلك المسكينة خانها عقلها وتواطأت معه ذاكرتها حين طارت بكل ذكرى وتركت لها الفُتات تتعايش به، تجلس المُسنة في بيتٍ تجهل معلمه وعقلها يحفظ اسمًا يردده هو فقط لا سواه..

_”عُـلا” يا “عُـلا” أنتِ فين؟ يا “عُــلا” !!.

زعقت بملء صوتها وقد كان صوتها مُضجرًا بحالٍ ملولٍ وهي تنادي بغير استجابة وقد دخلت لها ابنتها وهي تقول بنفاذ صبرٍ ويأسٍ منها:

_ياما عاوزة إيه !! والله لسه مارجعتش، ريحي يا حبيبتي.

_شوفيلي “عُـلا” الله يباركلك، أحسن تكون في الشارع ولسه ماكلتش، العيال بيضربوها وبترجع معيطة، قوليلها ستك هتديكِ جنيه لو طلعتي، أجري بس.

لوت ابنتها فمها بتهكمٍ ثم رفعت كفيها تحركهما باستهزاءٍ واختفت لدقيقتين أو أكثر ثم ولجت بابنتها النائمة وهي تقول كاذبةً على أمها:

_خدي ياما “عُـلا” أهيه نايمة، خليها في حضنك ونامي يلا، أحسن تسيب حضنك وتجري منك والعيال تضربها تاني، يلا يا حبيبتي ونامي علشان نروح بليل نجيبلك هريسه.

طالعتها “ياقوت” بتيهٍ ورمشت بوهنٍ والتزمت الصمت، ثم أخفضت بصرها نحو الصغيرة التي تقبع بين ذراعيها وبحنوٍ مسدت فوق رأسها ثم ربتت على ذراعها لكنها لم تجد الدفء ذاته الخاص بعناق “عُـلا” كأن الأخرى كانت شمسًا شارقة على أيام عمرها وها هي تغرب في الأفق البعيد حتى بدون أن تترك لها شفقها الأحمر قبل الوداع، وتلك المسكينة هَّا هُنا تبحث عن دفئها رغم علمها أنه لن يعود كما فلت عنها ذاكرتها ولم تعُد هي الأخرى…

____________________________________

<“رحلة الحياة قضية يخسرها من لا يُقاضي خصمه”>

هي لم تكن في حاجةٍ يومًا لفلسفة خاصة بالحياة..

هي اختلقت الفلسفة الخاصة بها هي، حيث تعلم أن الحياة بأكملها قضية يخسر فيها من لا محامٍ له، وهي تُناصر الضعيف، تقف خلف كل سيدةٍ تشبه الهرة الصغيرة في مجتمع الرجال وهي تُحشر بين أنيابه، هي التاء المعقودة في نهاية كل سطرٍ وكأنها مُهمشة، لكن في الحقيقة تلك التاء لو لم تكن معقودة في نهاية الكلمة، لا كان اختلف المعنى وضاع المقصد..

في اليوم الثاني كانت “رحـمة” في المحكمة تدور هُنا وهناك، تبحث ووتفحص وتنتظر موعد الجلسة، ومعاونتها “يارا” تبحث هي الأخرى في مجالٍ آخرٍ، وقد حضرت “صابرين” على عُجالةٍ في أمرها وقلقٍ واضطرابٍ من الفكرة بذاتها، كانت تخشى ضياع صغيريها منها، تخشى فُقدان ابنيها وربح زوجها عليها في تلك القضية، بينما “رحمة” فلمحتها وهي تدخل بتيهٍ ووقتها اقتربت منها تقول بثباتٍ بعد الترحيب والمُصافحات:

_متقلقيش، القضية مضمونة وكل حاجة هتكون زي ما أنتِ عاوزة، عيالك هيكونوا ليكِ ومعاكِ، كفاية إنه هربان ومحدش عارف عنه أي حاجة وسايب عياله لأخوه.

بكت الأخرى أمامها وقالت بصوتٍ باكٍ مكتومٍ:

_مبهدلني ومبهدلهم معاه، الله ينتقم منه، ناري مش هتبرد غير لما آخد منه حقي وعيالي بدل ما يمرمطهم معاه هو وأخوه، صدقيني أنتِ هتساعديني وتساعدي عيالي معايا، وجودهم مع “سليمان” أخوه هيبهدلهم.

شعرت “رحمة” بالشفقة على الصغيرين بمجرد حديث الأم، نُشِبت النيران في قلبها أكثر كأنهما منها هي، ودت لو قامت بخطفهما من بين ذراعي عمهما وأبيهما وتهرب وتلوذ بهما بعيدًا، وسرعان ما تذكرت أن الأمر فقط لا يتطلب سوى بعض الساعات كي تتحصل عليهما، هدأت نيرانها وظلت بجوار “صابرين” الباكية تتابع معها الإجراءات بين شهادةٍ مطلوبة وورقةٍ تم الاحتياج إليها، وبين قاضٍ طلب سماع حديثها، وبين حارس العقار الذي شهد بقوله:

_والله يا بيه طول عمري ماسمعتش صوت ليهم، بس فجأة كدا الأستاذ “سالم” بقى بيتكلم ويزعق وعصبي وسمعته مرة كان بيضرب المدام باين، ومن وقتها مش عارف أي حاجة عنهم، هو اختفى خالص. المدام هي اللي بتتواصل معانا في العمارة، وأخوه جه كام مرة وخلاص، ماعرفش حاجة تانية.

تنهدت “رحمة” وهي ترى خطواتها تُوفق وتحصل على مبتغاها، النجاح بدأ يُكلل الخطوات وهي ترى ثمار ما فعلت نصب عينيها، فيما شخصت “صابرين” ببصرها نحوها فوجدتها تبتسم بالعين لها كأنها تخبرها أن المُراد آتٍ بلا شك ولا جدلٍ..

وفي غضون دقائق تم إصدار الحكم وإصدار وثيقة قانونية تثبت حق الأم في حضانة الصغيرين وتمكينها من الشقة باعتبارها حاضنة للتوأم، كما صدر حُكمًا إلزاميًا على الزوج بالتعويض للزوجة باعتبارها الشخص المتضرر، وغرامة مالية نظير غيابه عن الجلسات وتهربه من الحضور للمحكمةِ..

حصلت “رحـمة” على الحكم من المحكمة وكأنها اعتادت النصر دومًا، بينما “صابرين” فكانت في حالة انكارٍ واضحة، لم تُصدق أنها فعلتها وأتت لها بحقها المزعوم، لذا بمجرد خروج “رحمة” من مقر المحكمة ومواجهتها مع “صابرين” هرولت الأخرى نحوها تنطق بصوتٍ مُختنقٍ:

_أنا مش مصدقة والله يا “رحمة” إنك عملتي كدا بجد، عيالي خلاص هيكونوا معايا؟ ماتعرفيش أنتِ عملتي فيا إيه؟ أنتِ ردتيلي روحي من تاني، ماكنتش أعرف إن القضية ممكن أكسبها وتبقى في صفي أنا وولادي.

ابتسمت لها “رحمة” وقالت بثباتٍ تُحسد عليه:

_دا حقك، قولتلك أنا مابسيبش ست حقها يروح على الأرض خصوصًا لو راجل فكر يخونها ويشكك الناس فيها وفي أخلاقها، حقك رجعلك علشان أنتِ صاحبة حق يا مدام “صابرين” دلوقتي روحي ارتاحي وبكرة بإذن الله ولادك هيكونوا معاكِ، عن إذنك هتحرك دلوقتي.

أومأت لها الأخرى موافقةً والبسمة تُزين وجهها، ثم وقفت تراقب أثر رحيلها مبتسمة الوجه والعينين وبعدها ولجت سيارتها كما الطلقة المُنطلقة من فوهة السلاح في لحظة طيشٍ، ولجت السيارة وأخرجت رقم رفيقة لها، وبمجرد الرد عليها قالت “صابرين” بحماسٍ:

_كِسبت القضية يا “صفاء” اللي اسمها “رحمة” دي طلعت مش سهلة خالص، أنا قولت مش هتقدر تعمل أي حاجة، دي فظيعة بجد، تخيلي الشقة كمان بقت معايا؟.

ضحكت صديقتها في الهاتف وقالت بثقةٍ في محلها:

_قولتلك أنتِ بس اسمعي كلامي وهتشوفي بنفسك، يا بنتي دي مفيش قضية بتخسرها، صاحبتي في النادي قالتلي عليها، قالتلي إن هي علطول بتكسب كل القضايا وكله زي ما أنتِ شايفة من غير شوشرة ولا فضايح، مبروك عليكِ يا مُزة، بس لازم بقى نحتفل احتفال حلو وعلى حسابك.

ضحكت “صابرين” بملء فاهها وتنهدت كأنها تستقبل الحياة بقولها الذي خرج مُفعمًا بالحيوية:

_بس كدا؟ والله لنحتفل لحد بكرة الصبح، غُمة وانزاحت، ويبقى يوريني “سليمان” باشا ناويلي على إيه، بكرة هحرق دمه ودم عيلته كلها لما أروح وآخد عيالي منه ومن أمه، صبرك عليا بس، وديني لأربيهم كلهم.

توعدت، في الحقيقة هي توعدت وهددت ونفذت ما هددت به، هي لعنة على تلك العائلة، لعنة وولجت كما الشيطان المريد لتجابه وحشًا في الجحيم، ألقت نفسها في قعره وظنته سوف ينتشلها منه، لكنها وجدته يدهسها حتى التصقت بالقاع، وحتى تخرج منه رمَّت نفسها لمقاليد الخطر؛ فأصبح صوتها فقط ناقوس الخطر بذاته..

بعد مرور بعض الوقت كانت “رحمة” وصلت لشقتها، ولجت غرفتها تلتحد في دفئها ثم حررت خصلاتها وخلعت حجابها وفردت خصلاتها المسترسلة بنعومةٍ مموجة وهي تبتسم بتلذذٍ، مع كل انتصار لإمرأةٍ في دُنيا الرجال تضيف هي هذا النصر ندًا لهزيمتها، ارتمت فوق فراشها الوثير تسقط داخله ملتحفة بالراحةِ، لكن راحتها تلك لم تكتمل حينما أتت الذكرى ببعض المُقتطفات منها تُحارب مجدها..

ظلت أشباح الماضي تميض وتخبو كما السراب وبعض الجمل التي قيلت لها تتردد في سمعها ومنها:

_”خلاص يا بنتي متخربيش على نفسك”

_”أنتِ عروسة ومش هينفع تبوظي فرحتنا، اتجوزيه”

_”بصي يا بنتي دي سُمعة عيلة، وأنتِ أول واحدة هينوبها الضرر، الناس كلها هتمسك في سيرتك ومش هتسيبك، وافقي وخلاص، ولما تتجوزيه اتصافوا مع بعض، اعملي فيه ما بدالك.

انتفضت من فراشها تلهث بجبينٍ متعرقٍ وظلت تلتقط أنفاسها المهدورة في ساحة عِراك الماضي، كانت تتعجب من سخونة جسدها على الرغم من برودة أجواء شهر نوفمبر إلا أنها شعرت بحرارة يوليو تحرق قلبها، تركت الفراش وتحركت للشرفة تلتحف فيها بشالٍ من الصوف صناعة يديها لنفسها واشتمت الهواء البارد، راقبت الغِمام الرمادية التي امتدت للأفق البعيد ونثرت عطرها المميز في الأرجاء، ولازالت تفتقد للشتاء في اسكندرية الحبيبة..

الحبيبة التي تركتها هي وفرت منها وتركت قصتها بها مفتوحة بغير نهايةٍ محددة ولا حتى بدون وداعٍ يليق بتلك الحكاية التي سيطرت على ثُلثي عُمرها، فهربت بالثُلث الآخر قبل أن يموت هو الآخر، لكن في هروبها رافقها سؤالٌ واحدٌ فقط،

أين المفر والعِلة تسكن قلب صاحبها؟.

____________________________________

<“حين سلمتُ نفسي للبحرِ لم أحسبه يومًا خائنًا”>

قالوا عن صديقي “غدار”

وقُلت أنا عنه فيه الوفا،

قالوا عنه كل العيوب؛

وقُلت لو طال الزمان أسرد محاسنه ما كفىٰ،

فخان الصديق صديقه، وجرح الصديق لا يُشفى

وكيف ننل من جرحٍ مُحبٍ الشفا،

كيف نصمد والصديق خان الصديق وبجرح قلبه ما اكتفى؟.

كان “يحيى” في مقر عمله بعد مضي بعض ساعات النهار حتى منتصفه، يعمل في سوق السيراميك كمحاسب مالي لإحدى العلامات التجارية في هذا المجال، كان يجلس خلف مكتبه يتابع دفتر العمل بين صادرات وواردات المكان، انغمس في العملِ يهرب إليه من صراع النفسِ، لقد اشتاق للسجائر، اشتاق لرائحتها، اشتاق لعناقها بين أنامله، حسنًا هي مجرد صفحة وسوف يُنهيها ويلوذ بالفرار كي يستنشق هواء سيجاره..

ترك الدفتر أخيرًا ثم خطف هاتفه وفتحه على الكاميرا الموضوعة بشقته يراقب من خلالها صغيرته، كانت المسكينة تنام على الأريكة أمام شاشة التلفاز وعيناها مُعلقتان هناك، بجوارها وضع الطعام والمياه وكل شيءٍ يخصها، كان يراقبها بشفقةٍ وقلبه يتمزق لأجلها، لأجل صغيرته التي كتِبَت عليها الوحدة بسببه، كان هو صاحب الذنب وحده، ظل يُراقبها بعينيه وقلبه ينزف وجعًا وجرحًا لأجلها، خانه البحر وسلب منه روحه في لحظة غدرٍ لم يضع لها حُسبانًا..

تاه في شاشة الهاتف وهو يراقب ملاكه الصغيرة التي تضم جسدها بكلا كفيها تدعم نفسها الدفء بدلًا من الصقيع الذي غلف الأجواء، راقبها وهو يحدث نفسه أنه الآسف الوحيد هُنا، هو الوحيد الذي ارتكب هذا الجُرم وهو وحده من تسبب في تلك الكارثة، حتى حين هرب بها وترك الدنيا التي يعرفها كان هو أيضًا صاحب الجُرم والجاني عليها ومن قبلها على نفسه..

حين كان يجلس هكذا سقط عليه ظلٌ يراقبه، رائحة عطرٍ أنثوية ضربت أنفه ويعلم هو صاحبته جيدًا، أو بالأحرى هو يعلم من صاحبة هذا الصوت الصاخب لنبضات هذا القلب، حاول تجاهلها لكنها جلست على المقعد الذي قابله وهي تقول بثباتٍ كاذبٍ:

_إزيك يا أستاذ “يحيى” عامل إيه؟ يا رب تكون بخير.

تنهد بقوةٍ ورفع رأسه يرد عليها بإيجازٍ:

_بخير الحمدلله تسلمي على سؤالك، بس الحج مش هنا، حضرتك لو عاوزاه هتلاقيه في البيت لسه ماجاش هنا.

استشعرت هي اقتصاب حديثه وجمود كلماته فتنهدت وتوقفت لدقيقةٍ كاملة ثم أضافت تتابع حديثها بقولها:

_أنا عارفة إنه في البيت، بس قولت آجي يمكن يكون نزل ولا حاجة، طمني بنوتك أخبارها إيه؟ إن شاء الله تكون بخير، مش بتجيبها معاك ليه؟.

حاول أن يتحكم في ردود أفعاله تجاهها، حاول أن يُهذب رده قدر المستطاع منه، حاول أن يتريث في الجواب، فخرج الحديث منها جامدًا بعض الشيء:

_هي بخير الحمدلله، وسبق وقولت لحضرتك إن مش هقدر أجيبها هنا الشغل وسط الناس والعمال، متشكر لاهتمامك.

لاحظت هي طريقته، جموده المصدر نحوها دومًا، لقد رسمت تجاهه آلاف السيناريوهات الخيالية الخاصة بالعامل المُحتاج لصاحب المملكةِ، منذ أن وطأ المدينة بقدميه وولج مكان عمل والدها وهي ترسم آلاف الأحلام الوردية، لكنه لم يترك لها مجالًا كي تقترب من مُحيطه، دومًا يُحصن حدوده ضدها وكأنها يعلم أنها تتجهز كي تخترق دفاعاته..

ولج في تلك اللحظة والدها “حمدان” صاحب معارض السيراميك في هذا السوق الواسع، وجمعته به الحياة حين ضاقت عليه السُبل وأحكمت عليه الخِناق فلم يعد يجد مفرًا، رحب بهما ولاحظ تحرك “يحيى” من وضعه وهو يقول بأدبٍ:

_اتفضل يا حج مكانك.

جلس والدها يتكيء على عصاه ووجه حديثه لابنته بقوله:

_خير يا حبيبة بابا، محتاجة حاجة؟.

تلجلجت هي في الجواب وطافت بعسليتيها الناعستين تقول:

_عاوزاك بخير دايمًا، كنت بجيب حاجات زي ما قولتلك وعديت عليك قولت يمكن أنتَ جيت هنا، وبالمرة أقعد معاك شوية.

ابتسم لها بهدوءٍ ثم رفع عينيه يوجه حديثه للواقف بوجومٍ وقال:

_طب يا “يحيى” تقدر تمشي أنتَ خلاص علشان بنتك، كتر خيرك يا حبيبي وأنا هنا قاعد مع “تقوى” شوية.

لاحظت “تقوى” فعل والدها فتضغنت ملامحها لأنها فهمت ما يفعله والدها، على عكس الآخر الذي نال خلاصه وظهر ذلك فوق راحة ملامحه التي ارتخت بالكلية..

حيث أومأ له “يحيى” بغير جدالٍ وكم كان مُمتنًا لهذا القرار حقًا، سحب حاجته وسُترته ثم سلمه المفاتيح والدفتر وخلع نفسه من المكان سريعًا كي يهرول لعناق ابنته، هي الأحق بتلك الساعات من العالم بأجمعه، لذا تحرك مُسرعًا من السوق تجاه الشارع الخارجي وانتقى لها دُمية صغيرة تليق بها، عروس بوجهٍ مستدير تشبه وجه ابنته، وعيناها واسعتان باللون الأخضر الداكن، فتاة تشبه جِنيات الأفلام الكرتونية، أو تشبه الساحرة التي انجبتها له كي تكون هدية العُمر في حياته..

لقد تمنى طوال أيام طيشه وشبابه وعمره أن يقابل عروس البحر أثناء تجوله في أعماق البحار، تمنى أن يجد تلك العروس التي خلدتها الأساطير وتغنى بها العالم أجمع، لكنه لم يُخيل له أنها قريبة منه بهذا الحد، كانت تجاوره دومًا منذ أو بدأ يُدرك معنى الحياة، وتلك العروس لم تُكمل الحياة معه، وإنما تركت له الجِنية الصغيرة وولته الدُبر ورحلت..

حمل العروس وهرول للبيت، ذهب مُسرعًا وفتح الباب فوجدها تنتفض بقلقٍ وخوفٍ من موضعها، فيما فتح لها ذراعيه ترتمي بينهما، ثم مسد فوق خصلاتها وهمس بدفءٍ لمس قلبها:

_جيتلك علشان ناكل مع بعض وجايبلك عروسة جديدة علشانك، عيونها شبه عيونك، تشوفيها الأول؟.

شعر بها توميء في عناقه فضمها أكثر لصدرهِ ثم أبعدها عنه وراقب فرحتها بالعروس، رسم البسمة بعينيه أولًا ثم ابتسم بشفتيه تلقائيًا حين ابتسمت هي وظلت تحرك رأسها كدليلٍ على فرحتها بالعروس، وبالتبعية شعر هو بالفرح لأجلها فحملها ودار بها حتى تحولت بسمتها لضحكةٍ، وإن كانت حتى ضحكة غير مشروعة كأنها مسروقة من حقول الزمان، وتبقى هي “رحـيق” أيامه وحدها..

____________________________________

<“يقولون قلب الأم مسكنٌ لصغارها ولو كانوا كبارًا”>

في فلسفة الورد المنطقية مطلوبة..

فلا تهمله وتتركه يذبل، ولا تُزيد من رعايتك وسقايتك له فتُغرقه حتى يعجز عن الحياة بشكلٍ صحيح، الزهور دومًا تحتاج للرعاية المُمنهجة كي تُعطيك الرحيق الذي توده..

كانت “رباب” في بيت زوجية ابنتها، قضت معها الليل بأكمله أمسًا وها هي تقضي معها نصف النهار الثاني بعد أن وجدت حالتها بتلك الصعوبة وهي تُغامر مع الإعياء والتعبِ، صنعت لها الطعام وقامت بترتيب البيت لأجلها وقامت برعايتها لخاطرها ولأجل خاطر “منتصر” الذي أكد عليها أن ترعى زوجته وتكون بقربها حتى تعود لكامل عافيتها وصحتها..

فق مطبخ الشقة كانت تقف مع أمها تتسامران في الحديث سويًا فقالت “رباب” بتحدٍ على ذكر سيرة “خيرية” حماة ابنتها:

_طب على الله تفتح بوقها وتتكلم ولا تنطق بنص كلمة وتقول منزلتيش ليه، إيه مش كفاية دلع فيهم لحد كدا؟ قولتلك أنا وأخوكِ سيبك منهم وتعالي لحد ما جوزك يرجع، بس أقول إيه بقى؟ يقطع الحُب وسنينه وأيامه.

ظهر الغُلب على ملامح “ورد” وهي تقول بذات الأسى:

_يا ماما الله يكرمك بلاش كل مرة السيرة دي، أبسط حاجة هقولك علشان خاطر “منتصر” نفسه، هو مش وحش معايا، مش حارمني من حاجة، مستحيل يأذيني، فلوسه اللي متغرب بسببها دي كلها بتكون علشاني أنا، يبقى أقل واجب أخلي بالي من أهله، علشان خاطر باباه حتى، ماشي مامته صعب بس أنا بعمل اللي يريح ضميري، مش يمكن ربنا يكون يزيده ويباركله علشان خاطري بنراعي أهله؟.

لوت “رباب” فمها وقالت بتهكمٍ:

_دا عند ولاد الأصول والناس اللي بتفهم، مش عند “خيرية” وابنها “خلف” الشمام، قُصر الكلام براحتك أنتِ، بس خلي بالك اللي بيدي كتير من غير ما يبص، بيتلام على أول مرة مش هيقدر يدي فيها حاجة تاني، وكل اللي محدش طلبه منك دا، بكرة هيقللوا منك علشان وقفتيه وبقى خارج طاقتك، وفي النهاية أنا يهمني راحتك بس يا “ورد”.

ابتسمت لأمها في النهاية وعادت لما تفعل تغير مجرى الحديث بدلًا من ذات السيرة التي لم تتغير منها أو من “آدم” الذي يُلح عليها بشكلٍ جعلها تستاء حقًا منهم جميعًا وتتمنى عودة “مُنتصر” في أقرب وقتٍ، أما بالأسفل فكانت “خيرية” تغلي على مرقدٍ من النيران، تضرب فخذيها بكلتا يديها وهي تقول بحقدٍ وغلٍ:

_شوفت الولية القرشانة؟ جت من إمبارح ومحدش شافها لا هي ولا المحروسة، والمطبخ مليان كوم مواعين على آخره، والأكل ماتعملش وهنفضل لابتالي فوق في حضن أمها كتير، ماشي، والله لأقول للمحروس بتاعها على عمايلها دي كلها، علشان بتيجي قصاده تتمايص وتعمل نفسها الملاك البريء.

نفر زوجها منها ومن طريقتها فقال بضيقٍ من الحديث:

_ما تخلي عندك دم يا “خيرية” شوية وطلعي البت من دماغك بقى، أمها عندها وقاعدة معاها علشان بنتها تعبانة المفروض تسيبها وتنزلك تخدمك؟ قومي أنتِ اتلحلحي وخلصي حاجتك سيبك من الطبع دا، وقولتلك هي مش فرض عليها تعمل حاجة هنا، كتر خيرها أوي إنها بتشيلنا وبتشيل البيت علشاننا.

_”نـعم” يا أخويا !! أنتَ اتهبلت ولا إيه؟ هقوم اشتغل وأعمل وأنا عندي واحدة قد الشحطة هفضل أعلف فيها ولا إيه؟ مش كله من خير ابني؟ وفلوس ابني؟ وغُربة ابني وشقاه برة علشان خاطر المحروسة بتاعته؟ ماشي، أمها تمشي بس واوريها.

في الأعلى صدح صوت هاتف “ورد” برقم “مُنتصر” فابتسمت هي بسعادةٍ وركضت ترد على الحديث وهي تقف بجوار بتلات الزرع فخرج صوتها ناعمًا وهي ترد عليه، فيما ابتسم وظهر ذلك في صوته وهو يقول:

_الحمدلله صوتك دلوقتي أحسن كتير، كان لازم يعني أجيب مامتك علشان صوتك الروح ترد فيه كدا؟ طمنيني عليكِ، حاسة إنك أحسن شوية دلوقتي؟.

_الحمدلله كتير، بس ماكنتش مصدقة إن ماما هتبات هنا وبصراحة وجودها فارق أوي معايا النهاردة، وقالتلي كمان إن أنتَ طلبت منها تيجي، مش عارفة من غيرك يا “منتصر” والله هعمل إيه.

هكذا كان الجواب منها عليه، فابتسم هو مُعبرًا عن سعادته حين قال بصوتٍ امتلأ بالأريحية:

_ربنا يحفظك ويبارك فيكِ، والله لو بأيدي كنت جيبتك هنا بس مش عاوز أمرمط فيكِ قبل ما أخلص ورق الإقامة وأظبط شقة حتى صغيرة نسكن فيها مع بعض بدل السكن دا، مش عاوزك تيجي تتمرمطي هنا، عاوزك تيجي مرتاحة علطول، مش دي أصول التعامل مع الـ “ورد” برضه؟.

توهجت عيناها بوميضٍ لم يخبُ، امتلأت ملامحها بشجنٍ حالمٍ وببسمةٍ أعربت عن الحياة قالت:

_يا رب أشوفك على خير وأسمع عنك كل خير وترجعلي بألف سلامة.

أنهيا المكالمة عند هذه النقطة وأمها تراقبها مبتسمة الوجه، هي تعلم أن ابنتها أحبته، تعلم أنه ساذجة في درب عشقه وأي خطوة واحدة من دونه تتيه دون أن تجد خارطةً تُعيدها، لذا ظلت تتضرع بقلبها أن يحفظ لها ابنتها وزوجها الذي تعتبره بمثابة ابنٍ لها؛ لطالما يرعى الورد خاصتها، ولأن الحياة نغمة متنوعة الألحان والمقطوعات، تحاول ألا تتطرق للجانب السيء في حياة ابنتها وإلا ابتلعت تلك العائلة في جوفها..

في الشارع أسفل مقر البناية كان “خلف” يتسكع في الطُرقات بعد تناول سيجاره الملفوف بالحشيش المُخدر، حيث كان يشعر كأن الحياة تهديه سحابة سلامٍ وسط دُنيا الحروب، كان في أوجِ سعادته بهذا الشيء، حصوله على جُرعة مخدرة تطير به فوق سحابٍ بعيدة، ولأن هذا المُخدر اللعين يتطلب شهية واسعة شعر بالجوع، فصعد للشقة مباشرةً بهيئةٍ تبدو كأنها طبيعية، وقد لمحه والده فاستغفر ربه على زرعته الفاسدة، بينما أمه فاقتربت منه تقول بلهفةٍ:

_عامل إيه يا حبيبي، كنت فين كدا؟.

ابتسم لها بسعادةٍ وقال بنبرةٍ بان فيها الرضا:

_كنت في مصلحة شغل بس مزاج، بقولك إيه أنا جعان أوي، أكليني علشان هروح مشوار تاني بليل، لقمة كدا على السريع علشان خاطر “خلف” حبيبك.

ضربت كفيها ببعضهما وهي تقول بتهكمٍ:

_مفيش أكل يا حبيبي، الغندورة مرات أخوك منزلتش من إمبارح علشان أمها عندها، وأنا مقدرتش أقوم أعمل أي حاجة، أنزل هاتلك ساندويتشين اتسلى فيهم.

تبدلت ملامحه كُليًا وشعر أن مخزون طاقته يتعرض لضربةٍ قاصمة، رمقها بسخطٍ ثم قال بنفاذ صبرٍ:

_أنا مش فاهم ساكتين عليها ليه، قاعدة علشان الفلوس تبقى في إيديها وابنك ياخد الإذن منها علشان يصرف؟ أهي أمها فوق هتلاقيها عملالها ترابيزة ولا ترابيزة ألف ليلة وليلة، وإحنا بناخد بالإذن، أقسم بالله أنتوا عشيتكم بقت تطهق.

تدخل في هذا الحين أبوه يقول بجمودٍ وقسوةٍ يعلم أنها لن تفلح معه لكن لا ضررٍ من إخراج الإنفعال المكبوت داخل صدرهِ:

_أنتَ اللي عيشتك دي تقرف وماترضيش ربنا، يا ابني اتقي الله أنتَ عندك ٢٦ سنة واللي قدك بيأسسوا لحياتهم، وأنتَ لسه بتمد إيدك لأمك تاخد مصروفك؟ وكمان مش عاجبك أخوك اللي متغرب وساب الدنيا كلها علشان خاطرنا؟ يا أخي حرام عليك مرضتني وجيبتلي الكافية، ربنا يهديك لحالك يابني.

رمقه “خلف” بلامبالاةٍ فيما تدخلت “خيرية” بفظاظةٍ تنطق:

_فيه إيه هو أنتَ كل كلمة هتقفله عليها كدا؟ ماهو بيشتغل وعلى يدك الحال واقف، الدنيا ضيقة على كل الشباب وهو مش ساكت كل يوم بينزل ويجرب شغل، ولا أنتَ عاوزه يكون مرمطون عند الناس؟.

_مرمطون !! بقى علشان بقوله يكون راجل وقد المسئولية ويفتح بيت ويصلب طوله ويبطل الهباب اللي بيطفحه ومطير عقله دا أبقى عاوزه مرمطون؟ هتدلعي إيه تاني يا “خيرية” ما خلاص عليه العوض ومنه العوض، راح خلاص.

كان يتحدث بحسرةٍ على شابٍ صغير ضاع في الطريق من نفسه قبل أن يبدأ فيه بالخطوات الصحيحة، يتحدث وهو يوقن أن هذا الشاب انتهى أمره ولن تُقَوم خطواته من جديد، فكان البأس هو من صادق الباقي من أيام عمرهِ،

وآهٍ على ابنٍ ضالٍ ضل بوالديه الطريق في الدُنيا فضيع عليهما الآخرة.

____________________________________

<“لأن الحياة تبدأ بخطوة، فالموت فيها يقتل كل الخطوات”>

مهما طال الحديث عليك واصطفيت من كلماتٍ تصف وجعك لن تستطع وصف ألمٍ في قلبك بسبب رحيل من كنت تعتبره الحياة بذاتها، تخيل أن عمرك بأكمله يُبنى على شخصٍ ويرحل؟ كأنك تترك بيتًا بغير عمدٍ وتنتظر منه الثبات، قُل لي بربك هل يُعقل أن يبقى الزائل إن زال أساسه؟.

الحياة بعد موت نصفها الآخر لم تعد كما كانت، كل شيءٍ ها هُنا يفقد اللون ويتحول لباهتٍ، الحياة هُنا تقف وهي بذاتها تقف، تقف وتشعر أن الطريق لن يكتمل، كل الخطوات بعدها أصبحت ينتابها الارتياب بعدما كانت مثل طلقة مُحررة من فوهة السلاح لم تُخب خطواتها، الآن هي عالقة في المنتصف ويعز عليها مغادرة الحرب وهي التي عُرِفت بالقوة..

كانت “نـوف” تجلس في غرفتها منطوية على نفسها، الأيام تمر عليها بثقلٍ من بعد رحيل والدها، كل شيءٍ عليها، لا تعلم كم لقت من مواساةٍ منذ أن رحل، وكأن كل البلايا على الإنسان رُبما يتخطاها، لكن كيف نتخطى العزيز الذي وارى التراب جسده؟ ظلت تفكر في أمر رحيله وآخر ما جال بذهنها كان وصفًا يليق بها، وهل مواساةِ أهل الأرضِ كُلهمِ تملأ مكانك المفقود من قلبي؟.

خرجت من غرفتها الكئيبة هذه أخيرًا ومرت على صالة الشقة فوجدت أمها تجلس وهي تقرأ في المُصحف الشريف، جلست بجوارها ترتمي في عناقها ونزلت عبراتها تواسيها على الخدين، ضمتها أمها وربتت فوق كتفها وهي تقول بصوتٍ مكتومٍ بسبب البكاء:

_وحدي الله واصطبري، كل دا هتاخدي جزاءك عليه صبر، الموت صعب، والفراق أصعب، بس الأجر عند ربنا، بصي كدا وشوفي الدنيا حوالينا دا مكان نعيش فيه؟ ولا نرضى حبايبنا يعيشوا فيه؟ ربنا يرحمه ويرحم أموات المسلمين أجمعين، بس وحدي الله كدا وخلي بالك من نفسك علشان خاطري وعلشانه هو كمان، طول عمره كان في ضهرك ومكانش بيرضالك بالضعف ولا قيلة الحيلة، يبقى تفضلي كدا؟ ولا تفوقي وتشوفي حالك؟.

أومأت لها “نـوف” وهي تحاول ضمها، فيما أتت شقيقتها تنظر لهما بنظراتٍ باكية أخيرًا بعد انقطاعٍ عن البكاء منذ وفاة والدها، وفي تلك اللحظة سحبتها “نـوف” لعناقها وهي تقول بذات الصوت الباكي:

_عيطي يا “إسراء” وطلعي اللي جواكِ، العياط على حبايبنا بيريح، يمكن سكوتك دا يكون أكبر مشكلة ليكِ، عيطي وأنتِ معانا وقصادنا علشان هو مكانش بيحب حد فينا يعيط قدام الناس، كان بيعززنا قدام الكل، خليكِ عزيزة برضه حتى في دموعك، بس عيطي.

ثواني فقط مرت وقد صرخت شقيقتها باكيةً، انهارت مثل سدٍ داهمه فيضانٌ فلم يعد قادرًا على صدهِ، ظلت بعناق شقيقتها تنتحب باكيةً وتصرخ بصوتٍ عالٍ وهي تنادي من رحل عن الدنيا، فكان المشهد أقسى ما يمكن معايشته، حيث رحيل من كانوا جزءًا من الروحِ فماتت خلفهم بهجة الروح..

في بيت “طاهر أبو سويلم” كان الوضع متوترًا منذ الأمس بسبب هجوم “داغر” على أرضهم، كانت “رئيفة” في وضعٍ لا تُحسد عليه، وكذلك زوجها الذي ساوره الضيق أيضًا، وقد نزل “غسان” من فوق درج البيت ولمح الوضع فتنهد بثقلٍ وقال يشاكسهما:

_خير يا جماعة الخير؟ مالكم من إمبارح كدا؟.

انتبه له والده بعينين كساهما الحزن وقال بعد تنهيدة مُطولة:

_الوضع حوالينا يخلي الواحد يتجنن، جدك ومجيته إمبارح مكانش ليهم أي لازمة، جه ينكد علينا، مش قابل فكرة إنه مش مرغوب في وجوده، أنا قولت الولاد هييجوا ويقعدوا معاكم، بس جه بوظ كل حاجة وقل بيا قدامهم، وبكلمهم من إمبارح “أدهم” رد عليا بس “آدم” مش بيرد على حد، وغير كدا بالي مشغول على ولاد “نـاجي” ربنا يلطف بيهم.

وقف “غسان” أمامهما بتيهٍ ثم قال بثباتٍ سرعان ما تلبسه:

_أنا هروح لجدي، لازم أروحله أنا وأشوفه بنفسي.

توسعت الأعين أمامه بينما هو فلم يمهل فُرصة واحدة لأيًا منهما ورحل يقصد طريقه، لقد أراد أن يُنهي جدلًا أصاب حياته وعليه أن يكون شُجاعًا بقدر خوفه من خوض التجربة، عليه أن يُدافع عن ذويه قبل نفسه، لذا حتى لو تطلب الأمر منه مواجهة، فليواجه أولًا..والبقية تأتي على مهلٍ..

ولأن المواجهة هي أسمى صفات الرجل الشجاع كان “سُليمان” يجلس في غرفة شقيقه يراقبه بعينين دامعتين، انكسر ظهره فورما حدث ما حدث لشقيقه، عجيب أمر الإنسان حين يُبتلى هكذا بين ليلةٍ وضُحاها دون سببٍ واضحٍ ويبقى أمره مخبوءًا، مسد فوق ذراعهِ وقال بصوتٍ خلىٰ من أثر الحياة:

_وحشتني أوي، قوم ماتسبنيش لوحدي كدا كتير، عارف؟ أول مرة أحس إني قليل وتايه كدا من غيرك يا “سالم” هتسيب أخوك لوحده كتير؟ حملي تِقل في غيابك وأنتَ عارفني مبقدرش أسِد في حاجة من غيرك، قوم علشان خاطر عيالك حتى، هتسيبهم كدا؟ مصعبوش عليك؟.

حدثه وتوسله وانتظر الجواب فأتاه على هيئة همهمة خفيضة من بين الشفاه جعلته ينتفض لأول مرةٍ منذ شهورٍ، شقيقه يبدو أنه يُنصت له، راقب حالته وراقب صوته وقلبه ينتفض من موضعه، لقد بدأ شقيقه في العودة من جديد، وهو هُنا حائرًا هل عاد حقًا أم أنها مجرد صحوة للموت ؟.





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى