رواية جمعية حب الفصل الثالث 3 بقلم شمس محمد – تحميل الرواية pdf

بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على الرسول الكريم..
سبحان الله وبحمدهِ، سبحان الله العظيم..
|| صلوا على الرسول الحبيبﷺ ||
_الرجاء الدعاء لعمتي بالشفاء العاجل لعل أحدكم أقرب مني إلى الله، ولعل بدعائكم يزول عنها البلاء ويرحل عنها الضُر.
____________________________________
لا أعلم أكانت الرياح قوية عليَّ لهذا الحدِ،
أم أن جناحي كان كما جناحِ طيرٍ كسيرٍ؟
في الحقيقة لا أعلم كيف سِرتُ دربًا من الجنون أحارب وحدي فيه بجناحِ فراشةٍ كانت تسعى للربيع ولم تعِش في أيامها إلا خرابًا؟ وكأن الخريف صادق أيامها، والربيع حَرامٌ عليها،
لا أعلم هل الحياة تطيب لمن يشغل نفسه بها، أم أنها تطيب لم يُبالِ، فإلى عزيزتي التي هي أنا، لا طيبتِ وطابت أيامك، لعل الرياح لتوها اشتدت، لكن بالغدِ سوف تطيب الأيام لنا، لذا علينا أن نُكمل الدرب كاملًا بحربهِ ومعاركه، حتى لو لم نجد لنا بها مُنصفًا، فتراه فردًا في كل الحروب وكأنه يُعادي الدُنيا بكل
ما فيها؛ و يُخاصمه كل مَن فيها..
لكنها حربٌ مفروضة ولا مفرٍ منها؛
سوى بالربحِ أو إلقاء السهم والمُغادرةِ..
<“فراشةٌ وتلك حقيقتها المخبوءة، والدنيا جعلتها فرد حربٍ”>
تعالَ معي أيها الصديق الغريب..
لنُبحر سويًا وسط رحلة قاسية تُسمى بخيبة الأملِ، حيث مسكنٍ تراه أنتَ ولم يراك هو، حيث جدرانٍ فرغت من الحياة وأصبحت باهتة، تعال معي أريك قسوة الأقارب حين ينفضون يدهم عنك ويتركونك وحدك في وجهِ الطوفانِ، أنظر يا صديقي هُنا حيث مطلع الخيبات العتية على القلب ودع نفسك وكأنك بموضع الجريح وأخبرني كيف الحل مع فرط قسوةِ البشر؟.
حاولت “عُـلا” فتح بوابة البيت الحديدية المتهالكة لكن الباب لم يُفتح قط، حاولت مرة وثانية وثالثة حتى يأست فرفعت صوتها تنادي على أصحاب البيت، ظلت تنادي وترفع صوتها حتى بدأوا الجيران يفتحون الأبواب والشُرفات والنوافذ وهي تطرق الباب بقدر استطاعتها وقُدرتها، فاقتربت منها سيدة بدينة الجسد تسير بإنعواجٍ وهي تقول بصوتٍ أعرب عن الشفقةِ:
_يا بنتي دول بقالهم يومين سايبين البيت، باعوه ومشيوا محدش عارف ليهم طريق، أنتِ كنتِ فين بس كل دا؟.
هوى فؤادها أرضًا والتفتت تراقب البيت لوهلةٍ ثم عادت للمرأةِ بخطواتٍ مُشتتة ضائعة وهي تقول بصوتٍ أقرب للبكاء كأنها فتاة صغيرة تاهت في الطريق من والديها:
_أنتِ متأكدة يا حجَّة من كلامك؟ باعوه إزاي؟ وجدتي فين؟ الست الكبيرة صاحبة البيت فين؟ باعوه لمين وراحوا فين؟.
تحول حديثها لصراخٍ بقهرٍ وهي تلتف وسط الناس والجيران، تقف بينهم عارية وكأن العالم بأكمله يتكالب على النساء وخاصةً الضعيفات مثلها، وهي فتاة وحدها ضعيفة تجابه من الحروب جيوشًا، وكأنها فراشة صغيرة أمام غابة وحوشٍ، ظلت تطرق الباب المعدني البارد حتى هربت الدماء من كفيها، ظلت تطرق وتصرخ وكأنها لحظة مصيرية بلقاء الموت، اجتمعوا الناس حولها والجيران يلتفون ويحتشدون وسهام الشفقةِ ترميها..
اقترب منها رجلٌ في أوائل الستينيات من عمرهِ يمسك في يده مسبحةً يُحرك حباتها بين بِنان أنامله وقال بهدوءٍ:
_وحدي ربك يا بنتي، والله حاولنا نوصلك بس أنتِ مش سايبة رقم ليكِ وهما مشيوا الفجر أول إمبارح، أنتِ كنتِ فين بس؟.
سؤاله أتاها بغلبٍ فجاوبته هي بدفعةٍ صارخة بقهرٍ:
_كنت في شغلي يا حج، في مكان أكل عيشي اللي هما مش سألين فيا وفيه، هما فين طيب محدش يعرف ليهم مكان ولا عنوان؟ مقالوش رايحين فين؟.
جاوبتها سيدة أخرى بقلة حيلة:
_يا حبيبتي هما حد يعرف حاجة عنهم؟ هما مشيوا بليل ونقلوا الحاجة وسابوا شنطة فيها هدوم وحاجات ليكِ في بيت الحج “متولي” شيخ الجامع، وقالوا إنك خدتي نصيبك من برة برة وهتبقي تعدي تاخدي حاجتك.
توسعت عيناها وكأنهما طُردتا من محجريهما وفرغ فاهها بذهولٍ كأن هناك حية تلتف حول جسدها، لا تصدق حياكة الكِذبة بهذا الشكل المُتقن، صدمتها جعلتها كما المشلولة التي توقف جسدها عن الحِراك، لكن بين جرح القلب وصدمة العقل كانت هي على مشارف الإدراك بحجم الكارثة الكُبرى التي في الطريق إليها، فعاد عقلها للعمل وسحبت الهاتف تطلب رقم عمتها، أمام الجميع والأعين تترقب الفعل؛ والجواب.
جاء الرد بعد محاولاتٍ كادت أن تُكلل بفشلٍ؛ لكنها حاولت حتى أتاها صوت عمتها المُتلجلج وهي تقول:
_أيوة يا “عُـلا” يا حبيبتي خير فيه حاجة؟.
والرد جاء منها بصرخةٍ عالية تتعجب قدر تبجح عمتها:
_حاجة !! بتبيعوا البيت يا عمتي وترموني في الشارع وتقولي حاجة؟ هو دا عضم التُربة والأمانة اللي أخوكِ سابهالك؟ جدتي فين؟ وأنتوا روحتوا فين؟ أقسم بالله ما هسيبكم، هو أنا علشان ماليش عقد ولا ورق يثبت حقي هتيجوا عليا؟ حسبي الله ونعم الوكيل فيكم يا عالم يا ظالمة.
وقبل أن ترد عمتها عليها وتُبريء نفسها كان شقيقها سحب منها الهاتف وقال بغلظةٍ وفظاظة لسانٍ كأنه يتعمد تصدير جموده:
_بقولك يا بت علشان مش ناقصة قلبة الدماغ بتاعتك دي، ماعندناش بنات بتورث يا حبيبتي، خلاص كتر خيرنا ربناكِ وكبرنا فيكِ لما بقيتي قد البغلة خلاص، روحي بقى لأهل أمك اللي كنتِ هتموتي وتروحيلهم.
توسعت عيناها وهبطت العبرات من المُقلِ وكأن حصار الجفون قد هُدِمَّ فوق أساسه، الجميع حولها طالعونها بدهشةٍ فيما كانت هي في وادٍ غير واديهم، الحديث ضرب قلبها في مقتلٍ، حتى أنها بصفو نيتها نزلت بعينيها موضع عُلب الحلوان تطالعه بخيبة أملٍ وقهرٍ، كيتيمٍ حُرِم عليه العيش في رغدٍ؛ وقبل أن تتيه أكثر جاء حديث عمها مُتابعًا:
_خلاص كبرناكِ وحافظنا على أمانة أبوكِ، لكن هتفضلي واقفة لينا زي اللقمة في الزور؟ البيت اتباع وخلصنا وكل واحد راح لحاله، روحي شوفي حالك أنتِ كمان بقى وأنسينا، وعلشان إحنا ولاد أصول هتلاقي ورقة فيها عنوان يخصك ورقم هتحتاجيه، سلام يا حبيبة عمو، سلام يا بابا.
أغلق الهاتف دون أن يكترث بتلك التي أحرق قلبها ولازالت على قيد الحياة _مع كل الأسفِ_ لم تَمُت لكن الموت احتضنها كي تكون مقتولة وهي على قيد الحياة، ارتخت يدها التي تمسك بالهاتف كما تخلت الدنيا عنها، بينما أتت جارتها راكضةً لها تتمسك بيدها وهي تقول بشفقةٍ مُعلنة:
_قومي يا بنتي، قومي الناس كلها بتتفرج عليكِ ومالهاش لازمة قعدتك دي، قومي معايا وتعالي نجيب حاجتك من بيت الشيخ، يلا وبكرة ربك يفرجها عليكِ ويعوضك خير.
نزلت عبراتها أكثر وتحركت مع السيدة البدينة كما جسدٍ رخوٍ تحركه الأمواج، في كل مرةٍ تقرر خوض مضمار الحرب بشجاعةٍ تُبهرها قسوة الحياةِ حين تجد نفسها فردًا وحيدًا في الحربِ، ولجت مع السيدة بيت الجارة ولازالت في عالمٍ غير العالم، حياتها بدأت بحكمٍ من المحكمة صدره قاضٍ رأى الحق بطريقٍ مُحايد، وحتى اليوم وهي تدفع ثمن هذا الحكم كأنه لا يقبل الرجعةِ.
أما عن القلوب التي تتألم لأجل ذويها فكانت تلك السيدة الكبيرة طريحة الفراش تُنادي بملء صوتها الواهن على حفيدتها قدر ما استطاعت أن ترفعه، حتى أن صوتها بدأ يُزعج أولادها، فقال ابنها البكري بانفعالٍ في وجه شقيقته:
_ما تسكتي أمك يا “سناء” قوليلها لسه مرجعتش من الشغل، هتفضل تنادي عليها كتير كدا؟ البت لو عرفت عنوان لينا هتفضحنا وتجرسنا.
تدخل شقيقه يسأله بجمودٍ:
_تفضحنا ليه إن شاء الله؟ عندها إيه تثبت بيه حقها؟ مالهاش حاجة عندنا ولا أمها كان ليها حاجة عندنا، دا إحنا كتر خيرنا أويناها في بيتنا مع عيالنا، مش أحسن تبقى خدامة في البيوت زي أمها؟.
حدجته شقيقته بنظرةٍ غامضة وقالت بتهكمٍ تتكيء به على مخارج حروفها:
_أمها اللي أنتَ مش قادر تنسى إنها رفضتك بعد موت أخوك؟ واللي أنتَ دلوقتي بترد عمايلها في بنتها؟ مش عليا يا “عطا” الكلام دا، دا بنت توأمك حتى، بس نقول إيه بقى؟ الركة على الأصل.
تبادلت النظرات الحادة بينهما وقبل أن ينطق بمرافعةٍ يتولى فيها الدفاع عن نفسه علا صوت أمهم في الداخل فهرب هو أول واحدٍ وولج لها وقال بلهفةٍ:
_ياما لسه مجاش من شغلها، واحتمال تتأخر أعمل إيه طيب؟.
طالعته أمه بتيهٍ وقالت بصوتٍ مهزوزٍ بين بكاءٍ كتمته وحزنٍ على حالها وهي تتيه بين عالم الواقع والتيه والعجز:
_طب اسأل عليها هي قالتلي هتمتحن وترجع.
مط شفتيه بملامح نطقت بنزقٍ ثم أكمل حديثه في سبيل السخريةِ:
_الامتحان جه صعب شوية معلش، شوية وتيجي.
أنهى الحديث ثم دثر جسدها بالغطاء وتحرك نحو الخارج بينما أمه تلك المُسنة ارتسم الأسى فوق ملامحها، حيث حاولت أن تتذكر شيئًا يخص حفيدتها لكن ذاكرتها الضعيفة لم تُسعفها، حاولت أن تتذكر أين هو مسكنها وجدران بيتها القديمة وكذلك لم تتذكر، رفعت عينيها تبحث في الغرفة فوجدتها حديثة، مطلية باللونين الأبيض والأزرق معًا، حاولت أن تعصر ذهنها أكثر كي تتذكر لكنها لم تفلح، الومضات تمر كما الريشة تتحرك خُفافًا في عقلها ثم تخبو من جديد، لكنها لم تنس حفيدتها الأقرب لها من نفسها..
____________________________________
<“لأني كنت أرى فيك الأمان لم أكن يومًا بالجبانِ”>
حين تشعر بالأمانِ تجاه مكانٍ ما لن تتوقع أن تباغتك ضربة العُمر منه، وقتها ستجد نفسك قويًا على كل الحروب، لن تلمح فيك موضعًا للهزيمة؛ لكن ما إن تؤتيك الضربة المؤلمة من مكانك ذاك سوف تعلم كيف تُجابه في حربٍ لطرفٍ تصبح مع مرور الزمنِ أنتَ خصيمه..
أكمل الليلة مُضطرًا وآسفًا على نفسهِ وحاله، حاول أن يتخطى، أن ينسى، أن يعبر فوق جسر ماضيه ويطوي صفحاته من كتاب حياته، حاول أن ينسى لكن الأمر ليس بهينٍ عليه، راقبه زوج عمته حين كان يجلس أمام التلفاز شاردًا يتابع قناته المفضلة “ناشيونال جيوغرافيك” يتابع ركض الفهد في البريةِ بعينين صقرٍ جارحٍ، كان الفهد يركض وبجوارهِ رفيقه، كلاهما يركض قاطعًا مسافة لا بأس بها، وفجأة انقض الفهد على رفيقه..
ظل “عرفه” يُحرك عينيه بين ملامح “أدهـم” وبين التلفاز ثم ربت فوق ركبته وقال بصوتٍ هاديءٍ به ضحكة حنونة يمازحه به:
_روحت فين يا باشا، مالك يا واد مسهم كدا ليه؟.
رفع “أدهـم” عينيه له ورسم بسمة كاذبة وهو يقول:
_معاك أهو يا عم “عرفه” هكون فين يعني، بفكر بس في المعرض الجديد والبضاعة اللي هجيبها والفترة الجاية هتبقى ضغط شوية، بس متقلقش أنا كويس، كويس أوي والله.
ضحك “عرفه” ثم ربت فوق كفه وقال بحكمة أبٍ:
_ولو مش كويس دا حقك، ومحدش يقدر يلومك، بس بصراحة أنا مستخسرك ومستخسر شبابك أنتَ وأخوك في الزعل، محدش فيكم يستاهل تكون حياته، شباب زي الورد الله أكبر عليكم، مش عاوزين تفتحوا قلوبكم، أنتوا إزاي ولاد “توفيق” ياض أنتَ وهو؟ دا أبوكم اتجوز مرتين وحب الاتنين زي بعض، وأنتوا مش قادرين تحبوا واحدة.
ضحك “أدهـم” له رغمًا عنه وعن جموده فيما تحرك “عرفه” وقدم إليه بلُعبة الشطرنج وقال بضحكةٍ ظافرة كأنه حسم الجولة قبل البداية:
_يلا علشان أغلبك دور شطرنج كدا على السريع.
تحمس “أدهـم” واعتدل في جلسته يستعد لـ اللُعبة التي تستحوذ على شغفه في هذه الحياة، حيث القوانين التي يتعلمها ويتحرك بها فوق رقعة الأيام، فبدأ يُفند قوانينها في عقله قبل أن يبدأ، وأهم قانونٍ بها “الكش مات” حيث يتم وضع ملك الخصم تحديد خانة التهديد المباشر بحيث لا يستطيع الهرب أو ينقذه اللاعب بأي نقلة أو حركة وبها تنتهي اللعبة..
في الداخل بمقر المطبخ كان “آدم” يقوم بصنع حلوى سريعة تعشقها منه عمته، فطائر مقلية مُحلاة بالسكرِ الأبيض الناعم، موهبته في صنع الطعام تُعد فنًا من نوعٍ آخر، الحياة بالنسبةِ إليه وجبة، وجبة يركض كل يومٍ كي يوفر مستلزماتها كي تخرج له بالنكهةِ التي يُحبها، الحياة لديه معتدلة المذاق، يومٌ حلو ويومٌ حامض وكل نكهةٍ تشبه صاحبها، وهو اليوم مزاجه حلوٌ، لذا يبرع في صناعة الحلوان..
شرد في فرد طباقات الفطائر فوق الرخامةِ الواسعة واندمج بأنامله وكامل شغفه فيما يفعل إلى أن قطعت عمته اندماجه وهي تسأله بتخمينٍ:
_تفتكر “أدهـم” زعلان علشان شافها؟.
حرك عينيه لها فقالت “ربـاب” بنبرةٍ تُقر أكثر من كونها تستفسر:
_زعلان، ابني وأنا حفظاه، منها لله بقى كسرت بخاطره، بس عارف والله مش زعلانة عليه هو، أنا زعلانة علشان هي يوم ما فكرت تعمل اللي عملته دا كسرت بخاطره علشان صاحبه، بس هو مسيره ربنا يعوضه ويراضيه وأفرح بيك وبيه.
انتبه لها ورفع صوته يقول بضجرٍ:
_أنا مالي يا ست أنتِ، تفرحي بيا ليه هي ناقصة صداع !!.
لكزته في كتفه فيما عاد هو لما يفعل وعاد بذاكرته لتلك الليلة التي شهد فيها على جرح شقيقه، حين كان يركض كما الطبيب في رواق المشفى كي يلحق المريض قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقتها كان يدور كما التائه في درب حربٍ، لذا عاد لما يفعل وقرر أن ينهي السهرة مع عمته وزوجها.
بعد مرور ساعات قليلة صعد كلًا من “آدم” و”أدهـم” لشقتهما في تلك البناية الحديثة، ولج “أدهـم” بصمتٍ تام بينما “آدم” فراقبه وكاد أن يتحدث مئات المرات لكنه كان يعود مُتقهقرًا عن الردِ، حاول حتى وجده يلتفت إليه وقال ببمسةٍ هادئة:
_مش لازم تقول حاجة، ومش عاوز منك أي حاجة تتقال، اللي حصل كله مكانش بأيدي ولا أيد حد فينا، ودا يعلمنا إن اللي بيحاول يراضي كل الأطراف بيخسر نفسه قبل الكل، الحاجة الوحيدة اللي هفضل طول عمري فرحان بيها هي إني مختارتهاش هي قصادك.
تلهف أخوه واندفع يسأله بقلقٍ جعله يضطرب حين فكر فيه:
_يعني بجد أنتَ مش زعلان إنك قطعت معاها بسببي؟ على فكرة وقتها ماكنتش هزعل منك، كان هيبقى حقك تختارها علشان هي كانت خطيبتك، بس أنتَ غبي، ضيعتها من إيدك في لحظة غضب..
كاد أن يُكمل حديثه لكن أخوه عانقه وضمه مُربتًا فوق ظهره وهو يقول بصوتٍ حنونٍ خالٍ من الندمِ والذنب:
_الحاجة اللي بتضيع دي الحاجة اللي متقدرش تعوضها، أي حاجة بنتعوض دي عادية، والستات بتتعوض عادي، بس الأخ اللي زيك دا أعوضه منين؟ أجيب أخ تاني منين زيك؟ طب قولي لو كنت فعلًا سمعت كلامها واختارتها هي، شكلي هيكون إيه في عينيك؟.
سبَّه بشتيمةٍ جعلته يرفع حاجبيه ثم قال بسخريةٍ ردًا عليه:
_طب يعني على آخر الزمن أبقى كدا في عين **** زيك؟.
دفعه “آدم” عن عناقه فضحك كلاهما بيأسٍ وبدأ كلًا منهما ينشغل بهاتفه وعمله ومتابعة حياته التي تتوقف عليه هو، وقد تحرك “أدهـم” نحو شرفة غُرفته يراقب غيوم الشتاء الداكنة، تشبه السماء قلبه إلى حدٍ كبيرٍ، قلبه المليء بالعبرات يشبه السماء المُلبدةِ بالغيومِ، إذا آن الأوانِ لكليهما لبكى حتى فاض المطرُ منه..
نزل بعينيه للأسفل حيث السيارة المصفوفة أسفل البناية وقد لمح بعينيه “لـمار” ابنة عمه وهي تقف بجوار السيارة حتى نزل زوجها وخرج من البناية ثم أمسك كفها وولجا السيارةِ سويًا، كان يمسك في يده مشروب الينسون الذي يشربه كي يُدفيء به برودة صدره، وقد ولج الغرفة وأغلق الشُرفة وجلس فوق الفراش يُحدق في سقف الغُرفةِ وزفر بقوةٍ..
عاد بذاكرته لما يزيد عن عامين..
وقتها كانت تجلس في انتظاره بشقة عمته، طلبت حضوره على وجه السرعة بشكلٍ تعجب هو منه، وقد قطع عمله وذهب لها وهو يقول بسخريةٍ تهكمية:
_بقى دا كلام يعني؟ خلاص مشتاقة أوي ومش قادرة تصبري لحد ما تشوفيني طب ما كنا كتبنا الكتاب بدل البهدلة دي يا “لمار”.
رفعت عينيها له وتنهدت بتهكمٍ ثم وقفت تواجهه وهي تسأله:
_هو أنتَ هتعمل إيه بباقي الفلوس اللي معاك يا “أدهـم”.
تعجب من طريقتها ومن السؤال ذاته، هي كلها غريبة أمامه، نظرتها، وقفتها، سهام عينيها الحادتين، اهتزاز ساقها بعنفٍ، خصلاتها المُشعثةِ، فما كان عليه إلا أن يسألها هو بترقبٍ:
_أنتِ اللي مالك يا “لمار” بتكلميني كدا ليه؟ وبعدين أنتِ مالك ومال الفلوس اللي معايا دي؟ قولتلك حقي اتصرفت بيه، لكن اللي معايا دي مش فلوسي وماليش حق فيها مهما حصل.
رفعت صوتها أكثر وقالت باندفاعٍ:
_قصدك الفلوس اللي طلبتها منك علشان أفتح البيوتي سنتر اللي عاوزاه وأنتَ رفضت، استخسرتهم فيا، بس لما أخوك طلب الفلوس حضرت وقتي، اشتريت خاطره هو وأولع أنا مش مهم، رفضت ليه تساعدني؟ ليه من الأول لما طلبت منك وقفت فيها.
_علشان أنتِ غبية، مش على آخر الزمن هخلي مراتي تشتغل في كوافير وتقف تعملي فيها معلمة، قولتلك الشغلانة دي مش من مقامك، ماتليقش بيكِ، بس إزاي بقى؟ كدا أبقى واقف قصاد حلمك وشغفك، والفلوس دي مش فلوسي، دي فلوس “آدم”.
هكذا جاء الرد منه وهو يحاول جاهدًا التحكم في غضبه، حاول أن يتمسك بالعقل لكنها أنهت كل الفرص حين قالت بصوتٍ صارخٍ:
_والفلوس دي عمي سابهالك، وكلنا عارفين إن “آدم” مش أخوك شقيقك والفلوس أصلها بتاعة مامتك، هو أمه كانت خدامة هنا، والروس مش هتتساوى ببعضها، أمه رسمت على أبوك بعد موت أمك علشان تلهفه، وأهي سابت واحد تاني يلهفك أنتَ.
وقتها رفع كفه وكاد أن يهبط به فوق وجهه، لكن على آخر لحظةٍ تراجع وأدرك الوضع، رغم أن النيران أصبحت موصدة في قلبه لكنه تحامل على نفسه، أصبح الوضع حوله مشحونًا بطاقة سلبية لكنه لم ينس حق الميتة وحق أخيه، فهدر بصوتٍ جامدٍ:
_اللي بتتكلمي عنه دا أخويا غصب عنك وعن التخين هنا، وأمه اللي بتغلطي فيها دي مش هسمحلك تجيبي سيرتها بحاجة تانية علشان في يوم من الأيام كانت أمي وربتني، إنما الفلوس اللي وجعاكِ دي فلوس أخويا، وحقه في ورث أبوه زي حقي بالظبط، ومش هاخد منهم جنيه واحد بس علشان خاطر أي حد، حتى لو روحي فيه زيك كدا، وتاني مرة سيرة أخويا تيجي بأدب على لسانك.
رمقته بنظرةٍ نارية فيما دفع هو كتفها من جهته كي يتحرك قبل أن يضربها، بداخله طاقة غضبٍ تحرق ألف مدينة، وحدها من ستدفع ثمن تهوره، لكن قبل أن يغادر لمح شقيقه يقف على عتبة المطبخ يحمل في يده قالب حلوى احتفالًا ببداية مشروعه الجديد، لكنها نطقت من الخلف بقسوةٍ:
_لو خرجت من هنا تنسى الخطوبة اللي بينا، أنتَ اخترت أخوك وفضلته عليا وأنا مش هآمن على نفسي وسطكم، اللي بينا خلاص انتهى وأنا مش عاوزاك.
التفت لها يشملها بنظرة استنكارٍ وما إن لمح الانكسار في نظرات شقيقه وقف في مواجهتها وقال بثباتٍ لم يتوقعه هو من نفسه:
_أنا اللي مش عاوزك ولا تلزميني بعد ما غلطتي في أخويا وفي أمي، قوليلي أديكِ الأمان إزاي وأنتِ بتكرهي أخويا اللي هو ابن عمك؟ يا خسارة، خسارة كل حاجة راحت معاكِ وعلشانك.
أنهى الحديث ثم تحرك من المكان وقد تركها تقف في موضعها، بينما “آدم” فكان لا يصدق أنه كان سببًا في تدمير علاقتهما، لم يصدق أنها تُصرح بكرهها له بتلك الطريقة، نعم هي تكره ارتباط “أدهـم” به واهتمامه به لكن الأمور تصل لهذا الحد !! كانت مفاجأة، وتلك الليلة تحديدًا كانت ليلة فيصلية لم يعد من بعدها أي شيءٍ لمكانه القديم..
فهي ليلةٌ تركت في القلب جرحًا،
وأي جراحٍ في القلب تبرأ؟
فالقلب يأنِ من ماضيه بوجعٍ
وعسى الجراح مع الزمانِ تندمل.
____________________________________
<“في حقل زهور العُمر وجدتُ الوردة المرغوبة”>
الورد تنوع وتعدد واختلفت أشكاله ورغم ذلك لكل باقةٍ من الزهور شكلٌ يميزها عن البقيةِ حولها، ولكل فردٍ فينا تجد نوعًا خاصًا به يميزه عن البقية، فتجد بعضهم يشبه زهرة التوليب، والبعض الآخر تجدهم مشرقين كما دوار الشمس، وبعضهم كما زهور الكاميليا، ولكل نوعٍ فلسفته الخاصة به، لكن ماذا عن نوعٍ من البشر تجدهم كما الحقل المُثمر في حياتك؟.
انشقع نور الفجر وبدأ الشتاء يزداد بأجواءٍ أكثر لُطفًا وحنوًا، حيث نسائم الفجر الباردة وصوت القرآن من المساجد يعلو، صوت طرق النعال البيتي فوق الأرض في استعدادٍ من المؤمنين للصلاةِ وكأنها حربٌ تحتاج لأشد الرجالِ وأقواهم، وقد كانت “ورد” في شقتها بعد أن استفاقت وأصرت على البقاء داخل شقتها، وقد استيقظت فجرًا تستعد للصلاة وهي تعلم أن هذا هو توقيت مكالمة زوجها لها..
تناولت جرعة أخرى من الدواء ثم جلست فوق الفراش تحاول الوقوف من جديد بعد أن داهمها البرد فجأةً، لو كان هُنا زوجها لكانت تدللت عليه وأصرت على مشاركتها جنونها في كل شيءٍ ثم ينتهي بها الأمر بين عناقهِ، لقد اشتاقت له ولن تُنكر، عامٌ ونصف من الآخر مروا عليها دونه، لقد استاءت الحياة بدونه، تركها دون أن يُعلمها فنون التعامل في الحياة، لقد كانت مدللة العائلة، وحيدة والدها ووالدتها، أخوها “آدم” بالرضاعةِ كان الحامي لها منذ الصغر، وابن الخال “أدهـم” كان بمثابة الأخ الكبير لهما وهو من تسبب في دلالها المفرط..
ابتسمت فورما فتحت الهاتف ووجدت رسالة من “أدهـم” يطمئن عليها من خلالها بكتابته:
_كلمناكِ مش بتردي، ابقي طمنينا عليكِ وقوليلي إن حماتك ماتت.
ضحكت بيأسٍ ثم كتبت له:
_أنا كويسة بس كنت نايمة شوية واخدة دور برد، ولسه يا سيدي مماتتش، المهم أنتوا كويسين؟ طمني عليكم وعلى ماما.
أرسلت له وهي تعلم أنه لن يرد لأنه لم يستيقظ بعد، وكذلك وجدت “آدم” أرسل لها يطمئن عليها فتنهدت بعد أن تناولت هذا الكم الهائل من اهتمامهما بها، وقد خرجت من التطبيق وتصفحت آخرًا فوجدت زوجها أرسل لها عشرات الرسائل، يطمئن عليها ويسأل عن أحوالها، ثم أرسل لها الدعاء الذي يتضرع به للخالق كي يحفظها له، ثم أرسل لها صورتها داخل حافظة نقوده وكأنه يخبرها أنها معه في الغربةِ حتى..
تنهدت بولهٍ ثم ردت عليه بكلماتٍ بسيطة تطمئنه بها:
_أنا كويسة والله، العلاج جاب نتيجة والحرارة نزلت، هقوم آخد دش وأتوضا وكله هيكون كويس، متقلقش نفسك وطمني عليك.
وصله جوابها فهاتفها مُسرعًا وقد جاوبته واستمع كلاهما لصمت الآخر، الصمت المصوغ بلهفةٍ وشوقٍ وقد قطعه هو حين سألها بقلقٍ واضطرابٍ:
_أنتِ كويسة؟ طمنيني عليكِ بقيتي أحسن؟.
_والله كويسة، ما أنتَ عارف يا “منتصر” لازم آخد الدور الزفت دا كل شتا، بس والله بقيت كويسة وخدت العلاج دلوقتي علشان أفوق، وماما ممكن تيجي تقعد معايا لو عرفت.
بعد أن ردت عليه حمحم هو بخشونةٍ ثم قال بإحراجٍ منها:
_بصي أنا عارف إني جيت عليكِ كتير، بس والله العظيم لولا أبويا والحالة اللي هو فيها كنت خليتك تروحي عند مامتك أحسن، أنا بحسه مبسوط وأنتِ معاه، معلش استحمليه لحد ما أشوف حل مع أمي.
ما أن ذكر أمه تغضنت ملامحها، تذكرت تهديدها لها وكيف ستتلاعب بسُمعتها، لذا قالت بطيبةٍ وصوتٍ هاديءٍ:
_أنا قاعدة علشان خاطر باباك والله وعلشان عارفة إنه بيتعب كل شوية وأنتَ بتتعب علشان تعبه، بس أنتَ وحشتني أوي، داخلين على سنتين وأنتَ لسه منزلتش مرة واحدة، مفيش حل؟.
شعر هو بالحزن لأجلها ولأجل أيام العُمر المسروقة منهما وقال بقهرٍ على كل شيءٍ:
_والله العظيم بحاول أنزل، بس هنا بعيد عنك بيعاملونا زي العبيد، الفلوس حلوة آه بس قصاد كدا خسران حاجات كتيرة أهمها إنك مش معايا هنا، بس متخافيش بحاول أخلصلك ورق الإقامة وأظبط الدنيا هنا علشان لما آجي الأجازة الجاية هاخدك معايا، على الأقل نهون الغُربة على بعض مع بعض.
ابتسمت رغمًا عنها ثم قالت بذات الهدوء:
_رغم إني بكره الغربة بس لو معاك راضية بيها، ما أنا وسط الناس هنا وحاسة بغربة علشان أنتَ مش موجود معايا، مالحقناش نعيش زي اتنين متجوزين مع بعض، بس أتمنى ربنا يراضيك ويرزقك وترجعلي بألف سلامة.
وهو كأي شابٍ كان له باعٌ من الأحلامِ، كان يتمنى الطير والتحليق داخل حدود سماء الوطن، لكنه تلقى صفعة قاسية تسمى بـ “الظروف الاقتصادية” حين تم إغلاق الشركة التي كان يعمل بها وتشرد بعد شهرين من الزواج، وكُلما حاول شق الطريق يجد نهايته مسدودة، إلى أن أتته فرصة العمل بالخارج عن طريق أحد معارفه القُدامى فقرر كغيره أن يترك الموطن ويختار الغُربة، نظير المال الوفير، ترك الموطن والأهل والبيت والحبيبة ورحل، ومعه في غُربته تعيش وردة أيامه بين جنبات صدرهِ..
استمر حديثهما سويًا وكلًا منهما يخبر الآخر تفاصيل يومه، تتحدث معه عن يومها وتُطمئنه على أسرته وكلما سأل عن شقيقه تهربت من الجوابِ، كأن مجرد اسمه يُعكر صفوها، بينما “منتصر” فكان كما الطفل الصغير يتشبث بالحديث معها وكأنه يخشى فراقها ولو بمكالمةٍ هاتفية، في كل مرةٍ يتحدث معها يشعر بالأُلفةِ حلت عليه وعلى قلبه، لذا حينما أخبرته بصلاة الفجر في مدينة القاهرة قال هو بأملٍ:
_عقبال ما نصلي في الحرم مع بعض.
_يا رب، ربنا يرزقنا بيها مع بعض ويرجعك ليا بخير.
أغلقت الهاتف معه وهي تبتسم، مجرد مكالمة عابرة معه تجعلها تطير من مكانها وكأنها زهرة رُدت بها الروح من جديد، بمكالمته معها كأنه يُسقيها، لذا تحركت بخفةٍ تتجهز للصلاة قبل أن تنزل لشقة والديه وتعطي والده العلاج، هي وهبت رعايتها لأسرته لأجل رب العالمين، لم ترغب سوى في الأجر من ربها، حتى حين اعترضت عائلتها وقفت في مواجهتهم وقالت أنها المسئولة عن قرارها، ورغم كل شيءٍ لكن مراعاة الرجل المريض تشعرها بشيءٍ من الرضى عن نفسها وحالها،
وكله لأجل حبيبٍ تفصله عنها الحدود..
____________________________________
<“أخبرني أيها البحر كيف خُنت صديقًا وفيًا لكَ مثلي؟”>
يقولون أن البحرَ صديقٌ وفيٌ لمن صادقه،
لا يخون مهما أجبره الموج، ولا يغدر مهما زادت وحشته، يجعلك دومًا تترك نفسك له وتُسلم لأمرهِ، يجعلك دومًا صاحب ودٍ له، يُجبرك على حُبه ومرافقته حتى تصبح الوفي له والمُخلص لأجلهِ، ووقتها هو يخونك كيفما يُريد ويشاء، ورُغم ذلك تزال محافظًا على ودك له، فهل البحر هو من خان أم أن رفقتك لم تكن تُجديه بشيءٍ؟..
في تلك البناية لم تنتهِ الحكايا، كل جزءٍ هُنا يحمل قصة ببطولةٍ خاصة وسردٍ خاصٍ، وهذه القصة هي قصة غدرٍ من رفيقٍ وفي، هُنا في الطابق الرابع بنفس البناية التي يملكها “أدهـم” نسرد قصة الجار، وهذا الجار ليس كما أي جارٍ، هو الجار الصامت، الغامض، هو الذي دومًا لا يتحدث بكلمتين مكتملتين، هو المُذنب والمغدور به على حد السواءِ..
بدأت الشمس تشرق وتُنير الكون بأمر ربها، تُسلط خيوطها وآشعتها على الشُرفات فتفتن كل يائسٍ من كهفه، تبعث في النفوسِ أملًا جديدًا، تخبر الجميع أن الليل له نهارٌ، لكن ليس له، هو لم يغتر يومًا بالضوءِ ولا النورِ، هو هُنا حبيس الظلام، جلس هذا البائس في صالة شقته عاري الجذع رغم برودة الشتاء، يغلق كل منافذ الضوء ويدخن سيجاره بشراهةٍ، مرمدة السجائر بجواره امتلأت عن آخرها، السُحب الرمادية تطوف حول وجهه ثم تشكل سرابًا وتفكر من جوارهِ، يغمض عينيه فيرى بحرًا مُظلمًا، فيعود ويفتح عينيه فيرى سرابًا، وهو يحاول أن يعتاد..
هو “يحيى حُسني نصار” الجار الغامض المُحب للصمت، هو الغواص الأشهر في منطقة البحر الأحمر، صاحب البطولات العريقة في الغوص والسباحة والمسافات الأكثر طولًا، بطلٌ في نظر العالم، مذنبٌ في نظر الناسِ، المغدور به في نظر نفسه، والمجرم في نظر العشق..
أطفأ سيجاره في مرمدة السجائر ثم مال للأمام برأسه، حاول أن يُخرج الصوت من رأسه لكنه فشل، فعاد الصوت يتكرر من جديد في سمعهِ يُذكره بما فات ومضى:
_مش هسيبهالك تموتها زي ما أمها ماتت، انساها يا “يحيى” والليلة دي آخر ليلة ليك معاها هنا، تودعها وتمشي وتنسى إنك ليك حاجة هنا، يا كدا يا أرميك في السجن لحد ما تعفن هناك وتموت فيه.
تردد الصوت في سمعه فانتفض يترك محله ثم هرول بخطواته الواسعة حين استشعر ضجيجًا بالداخل، فتح غرفة كانت مغلقة فوجد فتاة صغيرة أسقطت كوب المياه وتضرب على سطح الجارور بجوارها كي يُنصت هو لها، قفز من موضعه لجهتها ثم حملها بلهفةٍ لعناقه فوجدها تتشبث به وهي ترتجف، ضمها لجسده يعطيها الدفء منه ثم همس لها بصوتٍ قلقٍ مضطربٍ:
_متخافيش أنا معاكِ يا حبيبة بابا، فداكِ فداكِ كل حاجة، أنتِ كويسة؟ اتعورتي أو حصلك أي حاجة؟.
حركت رأسها نفيًا فعاود ضمها لصدره وهي تستشعر نبضاته أسفل رأسها، كانت ترغب في الحديث كي تطمئنه وترغب في البكاء كي تشاركه في مشاعره، لكنها فقدت النطق يوم أن فقدت الحياة بأكملها، ضمها لعناقه وتشبث بها ثم جلس على الفراش يُعيد ترتيب خصلاتها البُنية وظل يُكرر أسفه له كونه غفى عنها وما إن تلاقت عيناه بعينيها لمح العبرات حبيسة فعاود ضمها لصدرهِ كي تأمن بقربه، ولعل هو يجد أمانه المفقود..
____________________________________
<“كان رفيقي وكان طريقي بغيره أصبحت تائهًا بغير ونيسٍ”>
حين نفقد مؤنس الطريق نضيع ولو كان الطريق حقل زهورٍ، فالغاية دومًا في الأُنسِ حين نجده في الطريق فنجد الدافع الأقوى كي نتحرك، فحين نفقد الدافع نفقد طاقة التكملةِ، فماذا عن رفيقٍ كان هو الخطوات والدرب بذاته؟.
كانت “نـوف” بشقتهم تحديدًا بغرفة والدها تنام فوق الفراش الخاص به وتحتضن قميصه الحامل لعطرهِ، كان الدمع ينزل من عينيها فوق خديها كأنه يواسيها على قسوةِ الفقدِ، كانت تتشبث بأي شيءٍ يجمعها به في الرحيل، نامت وتمنت لو أن روحها هي التي غادرتها وليس والدها، وقد ولجت أمها تراقبها بقهرٍ، قلبها ينفطر على صغيرتها وعلى تلك الصدمة القاسية، لذا تحاول هي أن تقف في مواجهة الأيام لأجلها، وقفت تملي عينيها بها وقد صدح صوت جرس الباب فتحركت تفتحه.
وجدت في وجهها صديقة ابنتها المقربة، ابنتها الثالثة كما تقول، وقد كانت تلك الفتاة هي خير الجدار لابنتها طوال حياتها، رفيقتها المقربة وزميلة الكفاح والدرب بأكمله “آلاء” التي ارتمت تعانق والدة صديقتها ثم ولجت حيث غرفة رفيقتها، اقتربت منها بصمتٍ وضمتها لعناقها فاستندت عليها “نـوف” وبكت، تركتها رفيقتها تبكي وتخرج كل ما في جبعتها لعلها ترتاح ولو قليلًا..
وفي طرفٍ آخر كان “طـاهر” يجلس بصمتٍ وعيناه تسبحان في الفراغ، لازال قلبه مفقودًا وكأنه دفنه حينما دفن رفيق العمر ووارى التراب جسده، حتى أنه لم ينتبه لعودة ابنه من غربته وسفره، لقد أهمله وأهمل الترحيب به، رفع كفيه يمسح وجهه وعينيه قبل أن تفر العبرات من حصارها وهو يدعو لرفيقه بالرحمةِ، وقد اقترب منه “غسان” الذي هبط الدرج وقال بصوتٍ هاديء يحمل بين طياته السُخريةِ:
_شكل وشي فقر عليك، أرجع تاني طيب؟.
انتبه له والده فرفع ذراعه له وقد اقترب “غسان” منه وجلس بجوارهِ وهو يقول بحزنٍ تضامنًا مع حال والده:
_عارف إنك زعلان وإنه كان أخوك وصاحب عمرك، بس صدقني هو كان طيب وابن حلال وفي مكان تاني أحسن من هنا، ادعيله ربنا يرحمه ويجمعك بيه في الجنة، بعدين أنتَ كارفلي ليه؟ مش ابنك أنا؟ أجيب تربة وأدفنلك نفسي هنا يمكن تهتم؟.
حول نبرته للسخريةِ فضمه والده لعناقه وضحك أخيرًا رغمًا عنه ثم تنهد وقال بحزنٍ وخوفٍ:
_بعد الشر عنك يا رب، ربنا يحفظك من كل شر، عارف، والله العظيم الميت هو اللي بيرتاح، أهله هما اللي بيتعذبوا في غيابه وبعده عنهم، الفراق بيوجع أوي، خصوصًا لو زي بنات “ناجي” كدا أبوهم سابهم لوحدهم مالهمش حد ووراهم هم متلتل، البنات صعبانين عليا أوي، وبالذات “نـوف” طول عمرها مكسورة وطيبة أوي، مش حمل وقعة زي دي، الدنيا هتيجي عليهم أوي.
ربت ابنه فوق ركبته وقال بصدقٍ:
_ربك كريم، ربنا يلطف بيهم ويكرمهم بولاد الحلال اللي يقدروهم وأنتَ معاهم مش هتسيبهم أكيد، بقولك بقى متنكدش علينا، أمي عاملة عزومة وعازمة الحبايب بمناسبة رجوعي، تيجي نشوف هتعمل إيه؟ يلا معايا.
تحرك بوالده للداخل وكأنه قرر أن يتحدى حزنه، للحق هو هنا روح البيت والحياة بأكملها، ثمرة عشق والده لوالدته وحصاد الأيام بخيرها، تحرك يشاكس أمه ووقف بجوار والده يخطف كلًا منهما قطع الطعام المَقلية بالزيت حتى ضحكت أمه له ووضعت طبقًا كأنه تعوض غُربته وغيابه عنها بالمزيد من حنانها، بينما زوجها فوجدها تقترب منه بطيبتها المعتادة ثم ربتت فوق ظهره وضمت كفه بحنوٍ كأنها تُشدد أزرهِ، وهو حتى الآن لم يصدق أن هذه هي نفسها الفتاة التي تمردت عليه..
____________________________________
<“لو يعلم المرء ما تُخفيه عنه الأيام، ما كان يومًا أمِل بها”>
يقولون لا حياة بدون أملٍ، لكن ضريبة الأمل وحدها بكل الألمِ، فكيف يتخطى المرء خيبته في أشياءٍ وضع فيها كل أمله وطاقته ثم وجدها تصفعه فوق صفحة وجهه كأنها تخبره أن أمله كان غلطًا منه، فلو أبصر المرء الخيبة قبل البداية ما كان ترك الأمل يقوده يومًا قط…
جلس “أدهـم” في المعرض الخاص به بمنتصف النهار وقد اندمج في العمل ومتابعة الدمج بين المحلات الجديدة ومخازنه التي تحتاج لجهدٍ بالغٍ كي يعيد لها رونقها، وإبان اندماجه ولج “سُليمان” له معرضه، رفيق دربه وشريك الحياة بخطواتها منذ الصغر حتى يومهم هذا، انتبه له “أدهـم” فأغلق دفتره ورفع عينيه يسأله بلهفةٍ:
_كنت فين امبارح كلمتك مارديتش عليا، طمني عملت إيه في المركز اللي روحتوه إمبارح؟ ينفع “سالم” يروح هناك؟.
ظهر الأسف فوق ملامح “سُليمان” وقال بأسىٰ:
_للأسف مش هينفع، خدت معايا كل التقارير وروحت للدكتور وعرضت عليه حتى السفر برة لو دا حل لو هترسى على بيع هدومي، قالي مش فارقة في حاجة، بالعكس الأجهزة في البيت ل
أحسن وأضمن، وأنا أهو مستني أخويا يقف على رجله تاني.
شعر “أدهـم” بالحزن عليه وعلى رفيقٍ كان يضعه في خانة الأخِ الأكبرِ، بينما “سُليمان” فظل يُحرك ميدالية سيارته في يده وقال بشرودٍ غلفته نبرة انتقامٍ:
_لو بس أوصل للـ**** مراته وأعرف عملت إيه فيه هرتاح، أعرف كانت بتحطله إيه يخليه يقع بالشكل دا، والله ما هتكفيني فيها الدنيا كلها لو وقعت تحت أيدي، بس هي عاملة زي الحية كل ما آجي أوصل ليها تختفي، “صابرين” مالهاش كبير ولا ليها قرار، بس والله يوم ما تيجي أيدي مش هرحمها.
كاد “أدهـم” أن يتحدث ويرد عليه لكن هاتفه صدح برقمٍ جعله يتلهف للجوابِ مبتسمًا فوجد خالته تقول بعتابٍ طيبٍ مثلها:
_وحشتني يا ندل، بس على العموم مش هلومك عارفاك مشغول الأيام دي وفيك اللي مكفيك، بس “غسان” رجع من السفر وأنا عزماك أنتَ و “آدم” على العشا وياريت تجيب “ربـاب” معاك أنا حاولت أقنعها بس قالتلي هتروح عند “ورد” تشوفها، هستناك يا “أدهـم” أوعى ماتجيش.
ضحك لها وقال بصدقٍ ومحبةٍ:
_مش هقدر ماجيش، حمدًا لله على سلامة “غسان” وقوليله يبطل مفاجآته دي، أشوفك بليل بقى، عاوزة حاجة مني؟.
رفضت بذوقٍ وأدبٍ وأغلقت معه، فيما كان “سُليمان” في عالمٍ آخر خاص بشقيقه، عالم مظلم لم يجد منه شقًا للنورِ، لاذ بالصمتِ واكتفى بالعمل في الخفاء، رغم أن اختفاء زوجة شقيقه أثار ريبته، هذا الذي كان يقطع الطريق كله بخطوةٍ واحدة؛ أصبح مُرتابًا قبل حتى النظر للطريق..
في المساء بداخل فيلا “طاهر أبو سويلم”..
حيث العلاقات التي بدأت تتضح والخيوط التي تتضافر مع بعضها كي تُشكل جديلة واضحة متعارفٌ عليها، كانت “رئيفة” تجلس في انتظار ابن شقيقتها وأخيه معه، هي في الحقيقة تعتبرهما شقيقين، لم تنتبه يومًا لتلك الاعتبارات السخيفة التي يضعها المجتمع، هي حتى لم تكره والدة “آدم” من بعد موت شقيقتها، بل أحبتها وكانت تعتبرها صديقة لها..
وقف “غسان” بجوار مائدة الطعام وضحك بسخريةٍ وقال يشاكس أمه التي وقفت تراقب الباب:
_على الله يكون أكلك مظبوط علشان لو “آدم” مسكك مش هيحلك تريقة للصبح، بصراحة أكله تحفة، خليه يعلمك.
التفتت تحدجه بعتابٍ ثم تجاهلته حين وجدت سيارة “أدهـم” تصف أمام البيت ويترجل منها هو وأخوه، تلهفت لرؤيته كأنها تحتفظ بآخر ما يخص شقيقتها وقد ضمته وضمها بقوةٍ ثم رحبت بـ “آدم” الذي ربته في بيتها مع ابنها ثم دعتهم للداخل حيث وجود ابنها، وبدأت مصافحة الشباب بين العناق الحار والمزاح المرتفع وشاركهم “طـاهر” الذي رحب بالشباب في بيتهِ وجلسوا سويًا يتناولون الطعامِ..
بعدها انتقلوا للحديقةِ يجلسون بها وهي تقدم الحلوى للشباب وتطمئن على أحوالهم، كانت أُمسية رائعة وهادئة حاول “طـاهر” أن ينخرط فيها قدر جُهده حتى يهرب من شرنقة حزنه، وفي تلك الأثناء تقدمت خطوات من الحديقة، عصا غليظة تضرب فوق الأرض ويرافق خطواتها رجلٌ قوي البنية، هيبته تسبقه في المكان، يتحرك بثباتٍ كأنه ملك الأرض والجميع تحت أقدامه، رجلٌ خالط الشيب خصلاته فأصبحت رمادية لامعة، قوي البنية وعريض كأن السن لم يؤثر فيه بشيءٍ، وملامحه صارمة، حادة، جادة، لا تعرف اللين قط..
اقترب منهم بوجهٍ يكاد يكون منبسطًا لكن ما إن اقترب ولمح “آدم” و “أدهـم” توقف بموضعه يحدجهما بذهولٍ ونظراتٍ يتطاير منها الشرر، انتبه له “أدهـم” فهبَّ منتفضًا بشكلٍ جذب أنظار الجميع وقد قالت “رئـيفة” باستنكارٍ لقدومه:
لم يُنصت لها، بل ركز بعينيه على حفيده المتكبر الذي رفع حاجبه له كأنه يتحداه بعينيه ثم انتبه لوجود “آدم” وأرشقه بنظرة كُرهٍ ثم قال بثباتٍ:
_ماكنتش أعرف إنك عندك ناس غُرب، كنت جاي أسلم على “غسان” حفيدي بمناسبة رجوعه من السفر.
يتهمهم أنهم مجرد غُرباءٍ عن المكان في أرضهم، لذا رد عليه “أدهـم” بدلًا عن الجميع حين قال بهدوءٍ كاذبٍ:
_إحنا مش غُرب ولا حاجة، دا بيت خالتي وجوز خالتي، ووجودنا هنا مرغوب فيه، الدور والباقي على اللي جاي من غير عزومة ومحدش عاوزه في المكان.
هل تسمعون عن الحرب الأهلية؟ استعدوا معي كي أريكم نسخة أخرى تصغيرًا لها، هُنا حيث الصراع بين الحب والكرهِ وبين الإخلاص لحق ميتٍ وبين الركض خلف حقوقٍ وهمية، سوف تجد حربًا مفروضة بغير جنودٍ وكأن الفرد فيها جيشًا، والبادي فيها أظلم، لكن العين هُنا لم تكن بالعينِ، هنا العين فيها القهر..


