Uncategorized

رواية جمعية حب الفصل الخامس 5 بقلم شمس محمد – تحميل الرواية pdf


|| الفصل الخامس ||

|| رواية جمعية حُب ||

بسم الله الرحمن الرحيم،

والصلاة والسلام على الرسول الكريم..

سبحان الله وبحمدهِ، سبحان الله العظيم..

|| صلوا على الرسول الحبيبﷺ ||

_الرجاء الدعاء لـ “نسمة” ولكل أموات المسلمين بالرحمة والمغفرة.

____________________________________

مرحبًا بك يا صديقي..

يبدو أنك لم تعتد بعد على حديثي لك،

لكن اعذرني إذا كنتُ أوجه كلماتي لك فأنتاب فضولك وأُثير دواخلك بحديثي في بعض الأحيان، أو عفوًا رُبما تكون كلماتي مست وترًا مؤلمًا عند مقطوعة قلبك، لكنها الحياة يا صديقي، لن تنتهي قبل أن تتعلم أنتَ منها كل ما يتوجب عليك أن تتعلمه، لذا اليوم أتيت لك بدرسٍ جديدٍ، رُبما تستفاد أنتَ منه وأذكر أنا نفسي به، في بعض الأحيان قد يتوجب عليك ترك النيران تلتهم كل شيءٍ، اترك العالم حولك يحترق وأنجُ بذاتك، اترك النيران تلك المرة حتى لا تحترق أنتَ، وتذكر أنكَ دومًا سعيت كي تُطفيء تلك النيران لكن في النهاية لم يحترق غيرك أنتَ وحدك، تلك المرة عُد للخلف، خُذ دور المُشاهد واترك العالم وإن كان يحترق،

يكفيك حروبك الداخلية بنيرانها..

<“قلبي لم يفرغ منك وإن كان الطريق قدا فرغ”>

طوال أيام العُمر وأنا أعيش ناقمًا..

أنقم على الماضي الذي رحل ولم يترك إلا الذكرى فقط في قلبي، وأنقم على حاضرٍ بُنىٰ على ذكرياتٍ هشة ضعيفة لن تُقيم مُستقبلًا، وأنقم كل النقمِ عليَّ أنا ذاتي،

أنا الوحيد الذي ضيعني في الطريق

فلا أنا أعرف ما أنا عليه، ولا أنا بقادرٍ على العودة لما كنت عليه.

ولأن المواجهة هي أسمى صفات الرجل الشجاع كان “سُليمان” يجلس في غرفة شقيقه يراقبه بعينين دامعتين، انكسر ظهره فورما حدث ما حدث لشقيقه، عجيب أمر الإنسان حين يُبتلى هكذا بين ليلةٍ وضُحاها دون سببٍ واضحٍ ويبقى أمره مخبوءًا، دون نتيجة معلومة أو سببٍ مفهومٍ ضاع شقيقه، مسد هو فوق ذراعهِ وقال بصوتٍ خلىٰ من أثر الحياة:

_وحشتني أوي، قوم ماتسبنيش لوحدي كدا كتير، عارف؟ أول مرة أحس إني قليل وتايه كدا من غيرك يا “سالم” هتسيب أخوك لوحده كتير؟ حملي تِقل في غيابك وأنتَ عارفني مبقدرش أسِد في حاجة من غيرك، قوم علشان خاطر عيالك حتى، هتسيبهم كدا؟ مصعبوش عليك؟.

حدثه وتوسله وانتظر الجواب فأتاه على هيئة همهمة خفيضة من بين الشفاه جعلته ينتفض لأول مرةٍ منذ شهورٍ، شقيقه يبدو أنه يُنصت له، راقب حالته وراقب صوته وقلبه ينتفض من موضعه، لقد بدأ شقيقه في العودة من جديد، وهو هُنا حائرًا هل عاد حقًا أم أنها مجرد صحوة للموت؟ انتفض يميل برأسه يلتقط همهمات شقيقه الغائب عن الوعي، كان يدور برأسه هُنا وهُناك فوجد أمه تدخل الغرفة بخطواتٍ مُضطربة وهي تسأل بغير تصديقٍ:

_حصل إيه يا “سليمان” فيه إيه؟.

التفت يجاوب بضياعٍ ونبرةٍ تائهة خلف غمام صدمته:

_مش عارف يا ماما تقريبًا “سالم” بيفوق.

انتفض قلب الأم على فلذة كبدها وراح بصرها يستقر عنده لتلمح حركةً من الجفون بالكاد تُرىٰ بالعين المُجردة، فارتمت على طرف الفراش تُنصت لقلبه وكأنها تسمعه يُناديها، رفرف قلبها بحريةٍ من القيدِ وبكت عيناها بعدما انفك حصار جفونها على دموعها وضمته لصدرها تتوسله أن يفيق من نومته، اقترب منها “سليمان” وقال بصوتٍ مُحشرجٍ مكتومٌ به البكاء:

_قومي يا ماما، قومي خليني أعرف أتصرف وأشوف دكتور.

وهي هُنا سقطت بالفعل، لقد تلاشى قناع جمودها عن وجهها، سقطت كما ورقة شجر عصف بها الخريف ولم تعد قادرةً على الصمود أكثر من ذلك، جزءٌ من قلبها تراه بأم عينيها يموت، علا صوت البكاء بالنحيب منها، بينما “سليمان” طلب رقم “أدهـم” مُسرعًا وهو يعلم أنه سوف يغيثه ولن يتركه وحده، وقد كان بالفعل حيث قام بهاتفته، وبمجرد الرد قال بلهفةٍ:

_”سالم” شكله بيفوق يا “أدهـم” أعمل إيه دلوقتي؟.

انتفض الآخر من موضعه وقال بذات اللهفة والاضطراب:

_ماتعملش أنتَ أي حاجة خليك معاه وتابعه بس، أنا هتصرف دلوقتي، خلي بالك بس منه ومن ولاده، بإذن الله خير يا حبيبي متقلقش.

أومأ “سليمان” بتيهٍ وعيناه بدأتا في الانطلاق بالعبرات، تابع شقيقه الذي عاد لمرحلة السكون من جديد لكن تلك المرة بمؤشراتٍ أعلى، تلك المرة كان هناك صوتًا يقول أن هُنالك حياة تعود شيئًا فشيءٍ، قبض فوق كف شقيقه وكأنه يتمسك بالحياة والروح داخل جسده، زاد من قوة قبضته فوق كف شقيقه وراح يميل برأسه عليه مُتمنيًا من رب العالمين أن تلك المرة تنتهي الحرب بينه وبين فقد شقيقه بربحٍ لأجله..

وبعد مرور ما يُقارب الساعة كان “أدهـم” وصل خلف سيارة إسعاف مُجهزة كُليًا كي تقوم بنقل “سـالم” إلى المشفى، وقتها كان “سُليمان” يبحث عن راشدٍ يبحث عن من يغيثه من ظُلمة روحه، فتولى “أدهـم” المهمة وقال بثباتٍ:

_متقلقش، أنا موجود معاك، خلي والدتك تركب معاه، وأنتَ معاها، وأنا هودي “سليم” و “سدره” عندنا وهاجي وراك، جايلك علطول يا “سليمان”.

أومأ “سُليمان” موافقًا وتحرك يثبْ داخل سيارة الإسعاف بجوار أمه وشقيقه الذي تم نقله برعايةٍ فائقة، لقد عاد بعدما كان محسوبًا ضمن الأموات، كان المُخ شبه واقفًا، نسبة الأكسجين لم تتعد حاجة الثمانين بالمئةِ، بعض الوظائف الحيوية توقفت، وحياته إن عادت فتلك معجزة من رب العالمين وحده، لذا قلبه صرخ متضرعًا يبتهل لخالقه بالرحمة، فهو لن يستطع أن يفقد والده الثاني من بعد أبيه..

أما “أدهـم” فطلب رقم “عرفه” زوج عمته بما أنه لازال بالبيت وقال بهدوءٍ نسبي بدله عن خوفه واضطرابه:

_معلش يا عم “عرفه” هاجيبلك “سليم” و “سدره” ولاد “سالم” يقعدوا معاك شوية، باباهم اتنقل المستشفى وغالبًا بيفوق، أنا عارف إني هكون متطمن عليهم معاك و”سليمان” كمان، معلش استحملني.

لاحظ زوج عمته الخجل أو ربما الإحراج في صوته فقال بأتنيبٍ واضحٍ:

_عيب يا “أدهـم” متخلينيش أزعل منك، هاتهم يا حبيبي هنا يقعدوا معايا و “آدم” شوية وجاي من شغله، ربنا يطمنكم يا بني ويردلهم أبوهم بألف سلامة ويعوضهم خير بوجوده وسطهم.

تنهد “أدهـم” بأريحية ثم صعد من جديد للأعلى، فتح الشقة بهدوءٍ فوجد “سليم” يضم شقيقته وهي ترتجف بخوفٍ، وهو يكتم عبراته داخل حصار عينيه، راقبهما “أدهـم” لثوانٍ معدودة وفي الحال تم شن غارات من جيش الذكريات تداهم عقله وتذكره بعناقه لـ “آدم” يوم أن مات أبوهما..

اقترب منهما وضمهما داخل عناقه تمامًا كما فعل “عرفه” معهما، مسح فوق رأسيهما وقال يبثهما أمانًا مفقودًا منهما في لحظة خوفٍ:

_متخافوش، بابا هيكون كويس وهيرجع تاني وسطكم، المهم أنتوا تخلوا بالكم من نفسكم، يلا يا “سليم” هات حاجتك وتعالى معايا نلم حاجة “سدره” علشان تيجوا تقعدوا معايا لحد ما بابا يخرج.

كاد للصغير أن يعترض لكنه لمح خوف شقيقته وهي تتشبث بعناقِ “أدهـم” ففهم شقيقها حاجتها لمثل هذا الأمان، لذا بدون مزايدات أو تراهات في الحديث تحرك يجمع بعض الأشياء الخاصة بهما ثم تحرك مع “أدهـم” بعد أن أخذ شقيقته من يدها، كان “أدهـم” يراقبهما في السيارة وقلبه مفطورٌ لأجلهما، صغيران عاشا حربًا في الدنيا وكتِبَ عليهما التشتت بين هُنا وهُناك، تذكر أيضًا صغره وصراع والده مع جده بسببه وكيف كان السبيل ينتهي به متألمًا وحده..

وما بين ذكرى الماضي ومداهمة الحاضر يمر العمر بأكلمه حاملًا معه الخيبات والآلام والقسوة، يمر وفي يده سوطًا ينزل به فوق القلب ليذكره أن ذكرى الأمس وإن كانت زهورًا، فهي تحولت في القلب لأشواكٍ..

____________________________________

<مُحب الورد يرعاه ولو بالشوكِ، والطامع يقطفه ولو بالموتِ>

في حقل الوردِ

_ورغم التشابه بين الكلِ_

سيصعب عليك أن تقع في حب الجميع،

كل وردةٍ في الحقل تملك سحرها الخاص،

كل وردةٍ وإن عمَّ الرحيق تحتفظ بالرحيق الخاص بها،

لذا يصعب عليك وإن أحببت وردة من بينهم، أن تستبدلها بأخرى، ولو كان الحقل بوسعِ الأرض بأكملها..

ظلت أمها بقربها، ترعاها وتحفظها بماء عينيها، كانت تساعدها في تناول الطعام، في تحسين حالتها، تبثها كمًا هائلًا من العطفِ والحنان تعلم أنها تفتقده في هذا البيتِ، كانت “ربـاب” تجلس بجوار ابنته فوق الأريكة وهي تهاتف زوجها “عرفه” الذي أخبرها عن مجيء الصغير له، فقالت هي بنبرةٍ أوضحت الشفقة عليهما بقولها:

_طب خلي بالك منهم يا “عـرفه” بالله عليك، وأنا شوية وهاجي، “آدم” هيبعت لنا حد يروحنا، هشوف كدا الدنيا هترسى على إيه هنا وهقولك، يلا سلام.

أغلقت الهاتف معه ثم التفتت لابنتها التي مسحت أنفها بالمحارم الورقية وقالت بصوتٍ مكتومٍ بسبب المرض الذي تشبث بجسدها:

_هما مين اللي يخلي باله منهم؟ حد حصله حاجة؟.

_ولاد “سالم” ربنا يرده لأهله بالعافية هيروحوا البيت عندنا علشان راح المستشفى تاني، قاعدين مع باباكِ، يلا قومي قفلي شقتك علشان تيجي تقعدي معانا كام يوم كدا لحد ما تفوقي، وتسيبك من الهبل دا بقى يا “ورد” وخلاص، حماتك مش مُسنة يعني هنشيلها فوق راسنا، دي فيها صحة وعافية وهي اللي بتتمارض، تعالي معايا وسيبك منهم دا حقك يا حبيبتي.

تنهدت “ورد” وقالت بصوتٍ بان فيه تلجلجها بين الفكرتين:

_عارفة والله، وأنا مش بعمل حاجة علشانها هي، لا هي ولا ابنها يتعاشروا، بس علشان خاطر عمو “مرسي” اللي بجد بيصعب عليا وسطهم، يا ماما دي بتيجي عليه علشان عارفة إنه مش هيقدر يعمل حاجة ليها، والله بتمنى ربنا يردلي كل دا في ميزان حسناتي، بس عاوزة آجي أرتاح فعلًا عندكم شوية، بابا وحشني أوي.

ربتت فوق كفها وقالت بضحكة انتصارٍ كونها لمحت موافقتها:

_يعني هتيجي معايا صح؟ قولي صح خليني أفرح بقى، أنا مش هعرف أسيبك تعبانة كدا وأمشي، وشك دبلان خالص، والست الناقصة مش هاين عليها حتى تعملك لقمة تاكليها؟ ماشوفتش منها حتى كوباية عصير علشانك، قومي حضري حاجتك يا حبيبتي قومي.

تحركت “ورد” من جوارها وقد تابعتها أمها ببسمةٍ أشرقت وجهها، ثم أمسكت هاتفها وأرسلت لابن شقيقها تخبره بخفة ظلٍ ومرحٍ:

_جيبتلك حبيبتك معايا، تجيبلي حاجة حلوة من عندك فاهم؟.

أغلقت الهاتف وتحركت تساعد ابنتها وتُتمم معها على إغلاق الشقة وقد كانت الأخرى تستعد للرحيل براحةٍ نفسية، رغم حُبها الشديد لبيت الزوجية، ورغم حُبها لكل ما يخص “مُنتصر” لكن حين يصبح هذا الموطن مُرهقًا لساكنيه وقتها قد يسعى الإنسان للاغتراب عنه، وهي تستحق يومين حتى في سلامٍ بعيدًا عن إرهاق دفاعاتها دومًا..

كانت تنزل على الدرج هي وأمها ومعها حقيبة ظهرٍ كُحلية اللون فيها الأشياء الخاصة بها، كانت ترتدي كعادة ملابسها الأنيقة وفق صيحات الموضة والأزياء، كانت ترتدي سترة من خامة الجينز بأكمامٍ منتفخة، وبنطالًا باللون البيج وكذلك لون الحجاب، لمحتها حينها حماتها من نافذة المسقط المطل على الدرج ففتحت الباب تواجهها بتصنعٍ:

_رايحة فين يا “ورد” يا حبيبتي ماشية ولا إيه؟.

قبل أن تجاوبها اقتربت “ربـاب” تقول بتأكيدٍ واتكاءٍ على حروف كلماتها كأنها تقطع شقها بالخبر اليقين:

_آه يا أم “منتصر” ماشية، أنتِ أهو شايفاها تعبانة ومش قادرة تقف، هاخدها أكشف عليها وأراعيها أنا وأبوها، على الأقل علشان تقدر تسد هنا وتشيلكم، مع إني عارفة يا حبيبتي إنك مش هتقصري، وهتوديها لدكتور وتراعيها، طول عمرك صاحبة واجب.

رمت حديثها وهي تعلم أين يُصيب بالضبطِ، تتهكم دون أن تُظهر ذلك وقد استشفت الأخرى سخرية الأخرى منها وتهكمها فتلجلجت وهي تتراجع مُتقهقرة بقولها:

_ها !! لا يا حبيبتي ربنا يباركلك فيها، الأم أم برضه، والله لولا الظروف ووضع “مُرسي” ما كنت خليتها تخرج من البيت، دا أنا أخدمها برموش عينيا، كفاية إنها مش مخلياني محتاجة أي حاجة.

ضحكت “ربـاب” بطرف فمها ثم أمسكت يد ابنتها وهي تقول بتهكمٍ متوارٍ خلف جدية كلماتها:

_صادقة يا حبيبتي طبعًا، يجعلهم فكة في إيدك.

أنهت الحديث بتلك الجملة المُختصرة ورحلت بصغيرتها في يدها، تهرب بها من هذا البيت كما تنجو القطة الكبيرة بهِرتها الصغيرة، بينما “خيرية” فرقتهما ببغضٍ ثم لوت فمها وولجت الشقة تواجه زوجها الذي سمع الحديث وبانت إمارات الراحة فوق وجهه، لكنها أعربت عن جمَّ سخطها بقولها:

_طبعًا تلاقيك فرحان، أهيه راحت مع أمها وحِلني لحد ما تيجي بقى، والمحروس ابنك طبعًا زي كل مرة هياخد صفها ويقعد يدافع عنها، والله البت دي واكلة عقلكم كلكم وهي أصلًا توديكم البحر وترجعكم عطشانين، ماشي، طب من غير يمين لأوريها هي وأمها.

ضحك “مُرسي” وأعرب عن تشفيه بها قائلًا:

_ولما أنتِ قلبك ميت كدا يا “خيرية” ماقولتيش لأمها الكلام دا ليه؟ علشان عارفة إنها لو مسكتك مش هتسيبك، ولا لو “آدم” جه هياخد حقها تالت ومتلت، سيبي البت ترتاح شوية منك ومن الهم اللي هنا دا، على الأقل هناك اللي بيخدموها، إنما هنا هم ومن شقا لشقا.

رفعت حاجبه له تتحداه بعينيها المُخيفتين والتفتت تقول بشرٍ:

_طب يا “مُرسي” أبقى وريني بقى مين هيخدمك هنا، شيل نفسك يا أخويا طالما لسانك حلو كدا وشغال، مش عاجبك عمايلها؟ شيل يا حبيبي بقى.

تركته وولته الدُبر نحو الداخل وهي تزبد في حديثٍ غير مفهومٍ تُغمغم به، بينما هو فتنهد بضجرٍ ينظر لحاله وهو يجلس فوق المقعد المتحرك يعجز عن معاونة نفسه، للحظةٍ أشفق على حاله، ورمق جسده القعيد بحسرةٍ، ثم عاد وولى الخالق أمره وهو يعود لجلسته أمام التلفاز شاردًا كعادته منذ أن فقد حركته وأُصيب بشللٍ.

وفي الداخل كان “خـلف” يجلس خلف الحاسوب يتحدث مع رفيقته الأجنبية التي وعدته أن تفتح له أبواب الخير ما إن يُسمح له بذلك كي ينطلق إليها، أخبرته أن الخير الضائع منه في أرضه سوف يُجنيه أضعافًا في الغُربةِ، أخبرته أن حياة المأتمِ التي يعيشها هذه لابُد لها أن تنتهي ويَنطلق حُرًا في ربوع الأوطان، وهو ينتظر اللحظة المناسبة بفارغ الصبر.

قطع عليه “مُنتصر” محادثته حين هاتفه عن طريق أحد تطبيقات التواصل المرئي، فنفخ الآخر خديه ثم جاوب على المكالمة عبر هاتفه بجمودٍ تجاهله الشقيق وهو يقول بصوتٍ حماسي:

_عامل إيه يا “خلف” وحشتني أوي ياض، بقالك كتير مش بتسأل، طمني عليك عامل إيه، روحت الشغل اللي جيبتهولك؟ طمني أنا موصيهم عليك هناك، و”حمادة” دا صاحبي أصلًا ونفسه يخدمني.

تباينت تعابير الآخر هنا وقال بلامبالاةٍ:

_بخير يا “مُنتصر” الحمدلله، روحت آه بس الشغل مجاش معايا سكة، عاوزيني ألف طول اليوم على رجلي طالع نازل أجمع بيانات وأقعد أفرك هنا وهناك !! مش جايبة همها يا عم، أنا مكلم ناس صحابي هنا يشوفولي مصلحة في فندق كدا أو في أي حاجة تكون حلوة.

لأول مرةٍ يتضايق “مرسي” من مجرد حديثٍ مع شقيقه، لذا انفعل حين قال رغمًا عنه وعن جموده:

_يا “خلف” الرزق مش بنقعد ننقيه، يا تقبل وتسعى باللي عندك لحد ما ربك يكرم ويفتحلك الأبواب، يا تقعد كدا تتحسر على نفسك، كل شغلانة هتروحها تقعد تتطلع فيها القطط الفطسانة كدا؟ طب وبعدين؟ يابني ربنا يهديك بقى تعبتني.

ولأن الآخر لم يقبل بنظرية التناسب ويرى أن كل الأراء خاطئة تحمل الغلط قال بتهكمٍ:

_يا سلام !! وماقولتش الكلام دا لنفسك ليه بقى؟ ما أنتَ رفضت ١٠٠ شغلانة حتى شغلك مع “آدم” و “أدهـم” اعترضت عليه، وسافرت علشان تلاقي حاجة تليق بيك، ليه عاوزني أنا أرضى بالقليل؟ ولا هو الكحكة في إيد اليتيم عجبة؟.

_يابني أنا قبلها اشتغلت كل حاجة، من ثانوي وأنا طافح الدم من بعد تعب أبوك، ولما المصنع اللي كنت فيه قفل مشيت، ماكنتش متدلع يعني ولا متهني، بعدين ما على يدك، الفرص اللي جاتلك دي ماجتليش، فلوس ماتفتحش بيت، ما بالك بواحد متجوز وفاتح بيتين؟ كل اللي بقولك عليه إنك تقبل بالشغل وأنتَ بطولك، لا بتصرف جنيه على حد ولا بتدفع مع حد، كفي نفسك وحوش الباقي علشان تعرف تفتح مشروع ليك، تعرف تجهز شقة تتجوز فيها، ربنا يكرمك يا حبيبي ويسعدك.

الحديث رغم مصداقيته ورغم قوة تأثيره لكنه غض الطرف عنه وتجاهله وتصنع التأثر به حين قال موجزًا كي ينهي المناقشة الثقيلة هذه:

_حاضر والله، هشوف برضه الشغل وأقولك، يلا خلي بالك من نفسك وأبقى طمننا عليك، سلام يا “منتصر”.

أغلق المكالمة ثم رمىٰ الهاتف وعاد يفتح الحاسوب ومعه تذكر أمر السيجار الملفوف بالحشيش فابتسم برضا وأحكم الحصار على نفسه داخل غرفته ثم أشعل السيجار الملفوف وهو يتمايل برأسهِ، رائحة نفاذة تنعش الرأس قبل الأنف، مذاق رغم ظُلمة مروره لكنه يبدو كمصباحٍ منيرٍ داخل رأسٍ فارغٍ كما صحراءٍ قاحلة، انتعش بمذاق تلك المادة النفاذة وهي تخترق رأسه وتستقر هُنا وتصنع حجابًا فوق العقل، وهو هُنا كما الجراد لا يعرف بأي سماءٍ يلوح ولم يُبالِ..

____________________________________

<“يا بحرُ أخبرني كيف هان الذي بيننا وكيف هُنتَ أنا؟”>

مرة واحدة في العمر ترمي نفسك في بحر الثقةِ وتأمن على روحك فيه، وقتها سوف تظن نفسك في نهرٍ آمنٍ، سوف تحسب أنك في غُمرة الأمانِ، لكن في طرفة عينٍ سوف ينقلب البحر عليك، ستجد نفسك حينها وسط طوفانٍ ابتلعك، سوف تُهاجمك وحوش البحر وأنتَ وحدك من يملك النجاة، فتخيل يا صديقي أنكَ المسئول الوحيد عن أمنك ونجاتك؟.

كان “يحيى” يجلس فوق الأريكة ويُمدد ابنته فوق جسده وهو يمسح فوق خصلاتها ويتابع بعينيه الفيلم الكرتوني عبر الشاشة الكبيرة، يتابع فقط بحركة عينيه ورأسه وهو في الحقيقة في عالمٍ آخر، حيث الماضي، حيث الذكرى، حيث الروح الغائبة، حيث شمس الروح التي انطفأت، هو هُناك حيث شمسٍ غاربة ولن تشرق من جديد، تنهد بقوةٍ ثم مسح فوق شعر ابنته فوجدها ترفع عينيها تبتسم بهما له ثم ضمته بقوةٍ، والضمة منها هي صك الأمان الوحيد، كأنها تبرأه من جنايته في حقها..

عاد بذاكرته لما يقرب العامين..

أبحر “يحيى” في بحر الذكرى حتى غاص فيه ووصل لعمقه وهو يعلم أنه لن يخرج منه كما كان، عاد حيث الليلة المشؤومة عليه وعلى قلبه وقلب صغيرته، يوم أن قرر الهرب والفرار من مدينته وعائلته واحتمى في ظلال الغُربةِ يأمن بها..

وقتها كان في الخارج وأوقف سيارته مثل المجنون أمام بيت العائلة وترجل منها كما الرياح تضرب ولا تُبالي، انطلق كأنه رصاصة أُطلِقت من فوهة سلاحٍ لم يُخطيء وولج البيت ينادي بملء صوته:

_يا عــمي، يا “حــسين” بيه !!.

وقف في نهاية الدرج يدور حول نفسه وهو ينادي على عمه إلى أن لمحه يقف فوق الدرج بهيبةٍ فارضة تسرق أمن القلوب، وما إن تأكد من رؤيته له وقف في نهاية الدرج يهدر في وجهه بصوتٍ جهورٍ:

_إيه اللي أنا عرفته دا !! أنتَ بجد عاوز تحرمني من بنتي؟ عاوز تاخدها مني؟ أنتَ إزاي جالك قلب تعمل كدا؟ دي بنتي.

ابتسم الآخر مستهزءًا وقال بعدما اكتراثٍ:

_طب ما أمها كانت بنتي، وعملت إيه؟ حرمتني منها، قتلتها يا “يحيى” وخدتها مني، حلو ليك وحرام عليا؟ شايف نفسك أمين كفاية علشان آمنلك على روح حفيدتي؟ أنتَ محافظتش على أمها، هتقدر تحافظ على بت صغيرة عندها ٦ سنين؟ قُصر الكلام، النهاردة آخر يوم ليك مع بنتك، تقعد معاها وتشبع منها وترجع تاني مطرح ما كنت، غير كدا والله لأرميك في السجن لحد ما تموت فيه.

وقف غير مصدقٍ لما يسمع، وقف تائهًا أمام عمه وفي داخله يتمنى أن تكون تلك مزحة سخيفة وتنتهي، تمنى ألا يُحرم من صغيرته بتلك القسوةِ، وقف كمن طُعِن في قلبه لكنه لم يسكت، بل اقترب من عمه يسأله بانكسارٍ وخنوعٍ:

_عاوز تحرمني منها وأنا ماليش غيرها؟ طب هي ربنا أراد وبقت يتيمة الأم ومكانش بإرادتي والله، لو بأيدي كنت أديتها روحي بس تعيش هي، هي لو عايشة كنت هتقبل تتوجع كدا على بنتها؟ فكر تاني علشان خاطرها هي.

وبنفس القسوة ضرب عمه الأرض بعصاه وهدر بفظاظةٍ:

_ما هي بنتي مكانش ليا غيرها !! بنتي لو عايشة وشافت طيشك وقلة عقلك هتعرف إنك مستحيل تتأمن على لعبة، مش روح من لحم ودم، اللي عندي قولته، النهاردة بس مسموحلك تشوف بنتك وتاخذها في حضنك، غير كدا مش قدامي غير الحبس ليك، واحمد ربنا إني ساكت ومتهمتكش بأي حاجة.

أنهى الحديث وذهب من أمامه، بينما “يحيى” لمح ابنته تقف أعلى الدرج تحتمي خلفة تحفةٍ كبيرة وعيناها تحبسان العبرات قبل الانطلاق، فاقترب منها حتى وصل إليها وسألها بصوتٍ باكٍ:

_عاوزة تفضلي هنا؟ والله العظيم مش هقدر أسيبك، اتكلمي طيب علشان خاطري وقوليلهم إنك عاوزاني، قولي أي حاجة طيب وخليهم يصدقوا إني ماليش غيرك، قوليلهم إني مش وحش، عرفتهم طيب أنتِ بتحبيني ولا لأ.

نظرت له بعينين دامعتين ولم تعبر عن أي شيءٍ، حتى شعر حينها أنها تكرهه حقًا، لذلك نكس رأسه للأسفل وهرب بعينيه من لقاء عينيها فوجدها ترتمي عليه وتتعلق به وهي تبكي بكاءً حارًا، تتشبث به حد الالتصاق حتى شعر بها ترتجف بين ذراعيه كأنها لا تملك طريقة أخرى تخبره بها عن رغبتها في البقاء معه، شعر بها وهي تتمسك به وتقبض بكفيها الواهنين على ثيابه فتنهد بقوةٍ كأن الحياة عادت لجسدهِ ثم ضمها بين ذراعيه وبكىٰ، بكى معها كأن الحياة ضيقت عليه الخناق، فبالضرسِ القاطع أصبح مذمومًا بين الناس جميعًا، وأولهم ذويه، لذا كان الهرب خير وسيلة له..

كان يغوص في بحر الذكرى ولم يُخرجه على شاطيء الواقع إلا صوت جرس الباب حين ضُرِبَ، وقتها انتفض هو وانتفضت معه ابنته فتركها مُربتًا فوق رأسها ووثب نحو الباب يفتح الشاشة الصغيرة الخاصة بأمام الباب ولمح فيها “أدهـم” يقف في انتظاره، فتح له الباب مُرحِبًا بقوله الذي بدا جامدًا:

_نعم يا أستاذ “أدهـم” فيه حاجة؟.

كان الآخر يعلم جموده وعزوفه عن الناس، يعلم ابتعاده وأنه اعتكف عن الكلِ لذا قال بإبجازٍ رأفةً بالصغيرة:

_آسف لو جيتلك فجأة كدا، بس أنا بستأذنك إن “رحيق” تيجي تقعد شوية عندنا وتلعب مع “سدره” و “سليم” بدل ما هي لوحدها طول اليوم هنا، طبعًا دا بعد إذنك يعني.

تعجب “يحيى” من الحديث لكنه قرر أن ينتهج الصراحة بقوله:

_على عيني طلبك والله، بس أنتَ عارف إن بنتي ليها ظروف خاصة ومش بتعرف تتعامل مع الناس، غير كدا هي بتضايق لأنها مبتقدرش تعبر وتتكلم زي أطفال كتير غيرها.

_وعلشان كدا عاوزها تقعد معاهم، تتفاعل وتعيش شوية من طفولتها، لعلمك الأولاد دول برضه حالهم صعب، والدهم بين الحيا والموت ووالدتهم الله أعلم بيها، جرب كدا يمكن دا يكون داعم ليها، ممكن تعيد التفكير؟.

نادى “يحيى” على ابنته فاقتربت منه بخطواتٍ وئيدة فوجدته يقول مستفسرًا بهدوءٍ ولينٍ:

_تحبي تروحي تلعبي مع ولاد صغيرين من سنك وتقعدي معاهم شوية؟.

حركت رأسها موافقةً بحماسٍ وقامت بسحب جزءًا من ألعابها وضحكت ضحكة واسعة جعلت “أدهـم” يبتسم لها ثم مد يده يعانق كفها وقال بهدوءٍ:

_تقدر تطمن عليها من الجنينة هي هتلعب فيها ومعاها عم “عرفه” لو هتفضل قلقان، عن إذنك يا أستاذ “يحيى”.

أخذها ورحل من أمامه بينما “يحيى” فتركها تلك المرة، فهو يعلم تمام العلم أن صغيرته تحتاج للحياة، تحتاج للناسِ، تحتاج لجرعة حيوية، لذا هرول للشرفة المطلة على الحديقة، وابتسم بعينيه حين حملها “عرفه” ولثم وجنتها ثم جلس بها بقرب “سدره” و “سليم” ويبدو أنه يقوم بتعريفهم على بعضهم..

كانت البناية وسط مجموعة بنايات في شكلٍ مستدير يربط بينهم بوابة حديدية وممر رخامي مُضيء مزود بالزروع الخضراء، مع واجهة مضيئة أيضًا، وفي المنتصف ردهة استقبال وسط البنايات بها نافورة تصل للطابق الثالث بالتقريب، مُضاءة باللون الذهبي، مجمع سكني صغير يُديره “أدهـم” وهو من أملاك العائلة، وقف “يحيى” يراقب ابنته وهي تبتسم وتلعب من الفتاة الأخرى فتنهد وجلس يدخن بشراهةٍ كأنه بدل البحر بدخانٍ رمادي قاتل، فلم يعد يفرق بين أي نوعٍ من الغرق، المهم له أن يغرق.

____________________________________

<“في دنيا الغاب راح العدل والحق في غيابة الجُب غاب”>

لا تبحثن عن الحق في دنيا غير عادلة..

ولا تُفتش فيها عن أركان الحق إن كان الحق فيها مهدومًا، هُنا أنتَ وحدك رفقة الظُلم، بعناق الفساد، تُصادق الظلم وتعتاد القهر كي تصبح متلاعبًا يحق له الوجود في دنيا الظلام،

وإن سُئِلت عن العَّدلِ قُل، في الدنيا الغابْ العَّدلُ غَّابَ..

جلسَ “سُليمان” في أروقةِ المشفىٰ يَرمَّي رأسه للخلفِ وقلبهُ يصرخ ضارعًا للمولى كي ينجو شقيقه، يلمح أمه تقرأ في كتاب الذكر الحكيم فيتنهد بصمتٍ ويعود للدعاء، لَمَّحَ بعينيهِ قدومَ “أدهـم” فشعر بأمانٍ يجتاحهُ، كَأنَّه أضحىٰ آمنًا في جَلستهِ، لذا جلس بجوارهِ صديقهُ وقالَ مؤازرًا له:

_سلمها لله يا “سليمان” وربك يلطف بيه، ادعيله.

أومأ موافقًا بصمتٍ وقد لمَّحَ الطبيب ذاتهُ الذي كانَ مسئولًا عن حالةِ شقيقه في السابق يقترب منه، فوثب كما فهدٍ يصيد فريسته وقبض فوق تلابيبه قائلًا بحدةٍ مبالغة تعرب عن شرٍ ونيرانِ حقدٍ:

_المرة اللي فاتت صممت تخليه يخرج وشيلته عن الأجهزة وقولت إنه يعتبر ميت، المرة دي أهو راجع فيه الروح وبيتنفس، لو ماخرجكش كويس وفكرت تشيله عن الأجهزة والله لأخليك عمرك كله قاعد ماتعرفش تشرب نفسك بوق مياه حتى.

تدخل “أدهـم” يفصل بينهما وتدخلت والدته أيضًا ترجوه بصوتٍ باكٍ كي يَحُل عن رأسِ الطبيب؛ فقام بدفعه وقال بصوتٍ حاد:

_مش هقولها تاني، اللي حصل مرة مش هيحصل مرتين، أخويا داخل حي وفيه النفس، زي ما عمال تسحب في فلوس مننا علشان حقوقك، يبقى حقي إنك تشوف شغلك وتراعي ربنا.

عاد الطبيب من أمامه وولج للداخل، بينما هو فيبدو أن أعصابه فلتت منه، فقد ثباته وقدرته على الصمود، في المعتاد هو لم يكن صبورًا، هو دومًا ضيق الخُلق، بكره المناورات والخطابات والكلمات الكثيرة، لذا ينتهج مبدأ طرق الحديد الساخن، وقد جلست أمه بجواره تربت فوق كفه ووقف “أدهـم” بجوارهِ يدعمه بصمتٍ.

ولأن آفة العقول عدم الشعور بنيران غيرها، كانت هي تجلس بنيرانٍ حية في قلبها لم تتقبل فكرة تخليه وطلاقه لها بتلك السهولة، هي مدللة أبيها، وابنة العائلة التي يشهد لها كل أفرادها بجمالها وكمالها وسط الجميعات، هي التي رمت الشبكة بنظرة عينٍ منها، فتصيدته حتىٰ أمسىٰ مفتونًا بها، وفي النهاية لم تربح البيعَ، بل تُرِكَت كأنها لم تكن ذات يومًا..

اقتربت منها أمها تؤنبها بقولها:

_ارتاحتي كدا يا “مـها” لما سابك؟ استفدتي إيه بقى؟ في الآخر بقيتي قاعدة هنا مابتعمليش أي حاجة غير إنك لوحدك وسرحانة، يا حبيبتي قولتلك اصبري وخليكِ جنبه، قولتلك بيعانوا من وضع صعب، برضه عملتي اللي في دماغك !! وطبيعي هو يرفض كلامك دا.

ظهرت إمارات المللِ فوق ملامحها ونفخت وجنتيها وقالت:

_يا ماما قولتلك الوضع فعلًا كان لا يُطاق، علطول متعصب ومتضايق ومش معايا، وبيجري من هنا لهنا علشان أخوه، وشوية يجيب عياله عندي، وشوية يجيب مامته، شوية يبات مع أخوه، شوية يعتذر عن العشا وعزومة حد من صحابي، هو مقصر معايا، نسي نفسه وحياته وعايش علشان أخوه وعياله، ذنبي إيه بقى؟.

تنهدت أمها وقالت باضطرابٍ وقلقٍ من الفكرة:

_ربنا يسترها لما أبوكِ ييجي من السفر، هيخرب الدنيا فوق دماغ الكل، ومش هيسكت غير لما يعرف إيه اللي حصل، كلميه أنتِ وقتها وعرفيه، علشان أنا مستحيل أقول حاجة، دا لو قبل أصلًا يسمع كلام، هو كل ما بيسألني بقوله إنك معايا هنا بتغيري جو، بس علشان خاطري فكري كدا وحاولي، يمكن يهدا ويرجع يردك تاني.

ابتسمت بثقةٍ وأشار بتأكيدٍ على نفسها وبحبٍ في ذاتها قالت:

_أكيد هيرجع، هو بس يفوق لنفسه ويعرف هو خسر مين وإيه وبعدها هيرجع، بس والله قبل ما أرجعله هندمه، هخليه يعرف هو خسر مين وخلاها تروح من إيديه، شكله نسي إنه اتحايل عليا علشان أتجوزه، عمومًا متقلقيش يا ماما، “سليمان” بيحبني وأكيد تعبان في غيابي.

وهذه حقيقة لا مفر ولا مناص منها..

هو حقًا يتعب في غيابها، وفي حضورها كان يتعب أيضًا، كان يتعب كونها لم تكن معه، يتعب كونها شريكته لكنها تركته وحده يواجه ويُعاني، لم تكن يومًا درعًا له، دومًا كانت حملًا حتى وقت غرقه تخلت عنه،

ويوم أن فلت يديه عن يديها اتهمته هو بالغدرِ..

____________________________________

<“كانت مواجهتي معك قاسية، ياليتها لم تحدث”>

في أغلب الأوقات يتوجب عليك أن تواجه..

تواجه ما تكره وتبغض حتى تصل لما تحب وترغب، وإن كان المرغوب منك ممنوعًا عليك، ستظل تواجه وتقاوم وحدك حتى تصل، وإن كان دربك مستحيلًا..

ذهب برغبته لكنه المواجهة تأخرت عنوةً عنه، جده أخره لوقتٍ كبيرٍ حتى كل ومل، زاره في مقر عمره حيث شركة المنتجات الغذائية التي يملكها ويديرها بنفسه لكن جده الصارم تركه لحين أنهى عمله، وما إن سمح له بالرؤية ابتسم “غسان” بطرف فمه وتحرك للداخل وقال بتهكمٍ:

_دا اللي قال إن الدم عمره ما يبقى مياه كداب بقى.

انتبه له جده ورفع عينيه من خلف عويناته الزجاجية وقال بسخريةٍ:

_أنتَ جيت من غير ميعاد، كان لازم تلتزم وتستنى دورك.

جلس “غسان” وهو يقول بسخريةٍ على فلسفته:

_دا واضح إنك لسه متعلق بشغل القيادة والبدلة العسكرية، بس مش على حفيدك يعني، شكلي ندمت إني جيتلك يا “داغـر” بيه.

تنهد الآخر بثقلٍ وترك القلم وخلع عويناته الطبية وقال بصرامةٍ:

_عارف أنتَ جيت ليه، جيت علشان تكلمني عن اللي حصل، وعمومًا أنا اللي عندي قولته، “آدم” غريب عننا، وأبوه غلط في حق بنتي لما اتجوز بعدها الست اللي مالهاش أصل دي، وابن خالتك بيغلط إنه قابل واحدة تانية تاخد مكان أمه ويجيله أخ تاني ياخد مكان في حياته.

كان يتحدث من منطلقِ الأنانيةِ، يتحدث ويأخذ الحديث لصالحه وحده، يغض الطرف عن أسبابه ويتمّسكُ بأسبابِ الناسِ، لذا واجهه “غسان” حين قال بتهكمٍ ساخرٍ يحمل في طياتهِ تقليلًا:

_ممكن أقولك حاجة؟ أنتَ بأي حق بتدافع عن حق بنتك ومش قابل حد ييجي على الحق دا إذا كنت أنتَ بنفسك جيت على حقها، دي بنتك نفسها ماتت بحسرتها منك لما عرفت إنك رافض تزورها في مرضها، ولما اتبريت منها علشان اتجوِزت “توفيق الشيمي” جاي دلوقتي تتدافع وتتكلم !! مش غريبة دي؟.

طرق جده فوق المكتب عدة طرقات وهدر في وجههِ بصراخٍ:

_”غـسان” الزم حدودك !! نسيت بتكلم مين ولا إيه، دي اعتبارات أكبر من عقلك إنه يفهمها، بنتي لما خرجت عن طوعي راحت اختارت واحد تاني تسلمه نفسها، مشيت واديتني ضهرها وكسرت كلمتي، رفضت العريس اللي كان شاريها وراحت لواحد اتجوز وخلف من بعدها حتة خدامة لا راحت ولا جت، الكلام دا أكبر من إنك تفهمه.

_لا أكبر ولا حاجة، أنتَ اللي عامي نفسك عن الحق، مش شايف غير أنانيتك ومشاعرك وبس، علشان كدا ماتعرفش معنى الأخوة اللي بين “أدهـم” و “آدم” علشان عيشت عمرك كله تحرم عيالك من مشاعرك ومن وجودك، الحياة بالنسبة ليك جيش، ظبط وربط والتزام، بس مش في الحب، حبك لعيالك الغلط خلاك خسرتهم، علشان كدا عرفت أمي ليه مبتقبلش تسيب أبويا، علشان خايفة من غيره، حتى لو أنتَ موجود هي بتخاف منك أنتَ.

رمى الحديث والتفت كي يُغادر من أمام جده، لقد شعر كأن الحديث أصبح ثقيلًا عليه، وأثناء المغادرة عاد من جديد يقول بثباتٍ دون خوفٍ:

_وعلى فكرة كمان أنا طول عمري بحترمك علشان بخاف منك، عمري ما احترمتك علشان بحبك، وهو دا الفرق بين الحب والخوف، وعلى العموم أنا عمري ما هخسر “آدم” و “أدهـم” علشانك، أنا هكسبهم طول عمري، علشان بحبهم.

رحل من أمامه وغادر وترك جده يتلظى بنيرانه فوق المقعد، تركه ومشىٰ من أمامه وتمنى ألا يعود له من جديد، لتوهِ أدرك لما كانت أمه دومًا تخشى كرهه لها، كانت تخشى خوفه منها، وهو كان يحترم مشاعرها ويخبرها أنها دومًا ستبقى أميرته المفضلة، لتوهِ أشفق عليها كونها عاشت مع رجلٍ مثل هذا حرمها من حبه ودسَّ الرُعب في قلبها..

والآن سيذهب إليها ويضم قلبها بعناق قلبه..

____________________________________

<“حين رحل عني من أحب، شعرت كأنه غادر بالقلب”>

الرحيل موجع..

رحيل من نُحب حيث كانوا كل الحياة قبل أن يتركونها هكذا كحطامٍ فقط، في رحيل من نُحب كأننا وضِعنا داخل غرفةٍ فارغة ولا يحق لنا أن نستند على أي جدارٍ وإلا كُنا بين حُطام الذكرى رُكامًا لن تقوم قيامته من جديد..

قررت “نـوف” أن تعود للحياة، قررت أن تعود كما عهدها والدها، قوية، مثابرة، شجاعة، هي لم تكن يومًا ضعيفة، بل دومًا كانت بوصلة الطريق لكل التائهين حتى لو كانت هي تائهة تلك المرة لكنها حتمًا ستصل وستكون درب التائهين..

ارتدت ثيابها ووقفت تراقب ملامحها في المرآةِ وقد ولجت لها شقيقتها وقالت بفخرٍ بها:

_مبسوطة بيكِ أوي، ارجعي من تاني واقفي على رجلك، الحياة مش هتقف لوحدها، إحنا اللي بنعمل في نفسنا كدا وبنزعل، عمومًا منتظرة رجوعك من تاني، ومستنياكِ تكملي مكانه يا “نـوف” وتخلي اسمه ينور من تاني، هو كان علطول بيعتمد عليكِ.

ابتسمت لها “نـوف” وارتمت عليها تضمها بقوةٍ كأنها تضم أبيها في رحيله، ثم ربتت فوق كتفها وودعت أمها ونزلت من الشقة، وجدت في مواجهتها صاحبة دربها “آلاء” وحينها ضمت “آلاء” كفها وسألتها بترقبٍ:

_جاهزة تروحي ليها؟.

حركت رأسها موافقتها ثم ركبت سيارة والدها وبمجرد أن ولجتها لأول مرةٍ بعد رحيله كتمت عبراتها في عينيها حتى لا تبكي من جديد، تماسكت وقادت السيارة حتى وصلت للمكان المنشود الذي ترغبه هي، وما إن أوقفت السيارة خطت نحو المكان ثم وقفت على رأس الفتاة التي تعمل بالعيادةِ وقالت بصوتٍ مرتجفٍ:

_عاوزة أقابل دكتورة “هناء عادل”.

أومأت لها الفتاة وقامت بتسجيل اسمها في لائحة الحضور، بينما “نـوف” جلست وبقربها جلست “آلاء” رفيقتها تشد أزرها وتُثبت عزيمتها، بينما “نـوف” في هذه اللحظة لم تلمح سوى صورة أبيها وصوته، تلك الخطوة رغم ثُقلها عليها إلا أنها أخذتها فقط لأجل أبيها، ولأجل فخره به، فها هي تقاوم ما تكره حتى تصل ما تحب في نفسها..

في مكانٍ آخرٍ حيث بيت “توفيق الشيمي”..

كانت “ربـاب” تجلس مع الصغار بعد أن عادت مع “ورد” التي ظلت تلعب مع الأولاد وتحتضنهم في عناقها حتى وجدت الهاتف الأرضي يصدح عاليًا، اقتربت من الهاتف تأخذه وتجاوب على المتصل فوجدت صوت فتاةٍ متلجلجٍ تقول:

_مسـ..مساء الخير، أستاذ “آدم الشيمي” موجود؟.

تعجبت هي من صوت الفتاة فقالت بتيهٍ:

_لا يا حبيبتي هو مش هنا، هو في شغله.

_طب طب معلش، هو معاه رقم تاني طيب؟.

هكذا سألتها الفتاة بذات التوتر، فسألتها عمته بتركيزٍ:

_هو أنتِ مين يا حبيبتي؟.

_أنا أنا واحدة معرفة جاية في شغل عنده.

جاوبت بلهفةٍ تقطع بها توترها فتنهدت “رباب” وقالت بقلة حيلة:

_ماشي يا حبيبتي ربنا يرزقك، هو في شغله دلوقتي بس معاه رقم بتاعه هو أو رقم المطعم، تقدري تكلميه عليه وهو بإذن الله يرد، اكتبي ورايا يا حبيبتي.

سحبت “عُـلا” ورقة تدون بها الأرقام وتكتبها بلهفةٍ ودونت خلف السيدة وهي تتمنى أن يساعدها في العمل كما أخبروها، لذا كتبت الأرقام وشكرت السيدة ثم أغلقت الهاتف وهي تملك ترددًا بالغًا، وقد صدح صوت هاتفها برقم صديقة قديمة لها جعلتها تتلهف في الجواب بقولها:

_وحشتيني أوي، أخبارك إيه يا “رحمة”.

والرفيقة هنا هي رحمة القلب لها، رفيقتها التي تركتها وتركت الاسكندرية وغادرتهم جميعًا تعود لها كي تتحدث من جديد وترتكن كلتاهما على الأخرى، وها قد عاد موضع الرفيق القديم للقلب والذكرىٰ.





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى