رواية جمعية حب الفصل الثامن 8 بقلم شمس محمد – تحميل الرواية pdf

بسم الله الرحمن الرحيم،
والصلاة والسلام على الرسول الكريم..
سبحان الله وبحمدهِ، سبحان الله العظيم..
|| صلوا على الرسول الحبيبﷺ ||
_الرجاء الدعاء لـ “نسمة” ولكل أموات المسلمين بالرحمة
والمغفرة.
____________________________________
يقولون أن الحُر لا ينتظرُ شيئًا…
لكن ماذا عنك حُرٍ في رأسهِ جناح الطير وفي جسده تكبيل الأسرِ؟ ماذا عن حُرٍ ينتظر حُريته؟
ماذا عن أسيرٍ ينتظر شعاع الشمس كي يُشرق من جديد عُمره، في الحقيقة وكل الحقيقة الحُر ينتظر الكثير وأهم تلك الأشياء هي حُريته من أغلالٍ تُقيده، كأنه لم يختَر أن يقف على الشاطيء بعيدًا؛ بل أن يغوصُ حتى الأعماق، لكن المعضلة يا سيدي لم تكن ذات يومٍ فيما أراده الحُر بل وإنما فيما يختاره المُقيد وما يفرضه القيد، فها أنا حُرٌ أقرعُ باب الطير،
لكن يدي تطرق سدىٰ في قفصِ الأسرِ..
<“أشمسٌ أنتِ أخفتها سماء الشتاء في الاسكندرية”>
يومًا ما سوف تأتيك الحقيقة الغائبة في عُقرِ دارك..
في منتصف النهار ستظر شمسها، تلك الحقيقة التي تشبه الحق الميت في الحياة لن تختبيء كثيرًا، وكأن لليلِ نهارٌ يأتيه وتُشرق شمسه الغاربة، وتعود معه الحقائق الغائبة، والعِبرة دومًا أن لكل ليلٌ؛ نهارٌ..
كانت الأوضاع كما الجرح المُلتهب، حيث البكاء والانفعال وسوء الظن وخيبة الأمل، كلها مشاعر احتلت الموقف وما زاد عليها أن نزلت عبرات “عُـلا” وتمسكت بقميص “آدم” وهي تختبيء خلفه فصرخ “أدهـم” فيها يوبخها بقوله الذي قتل ثباتها:
_أنتِ بجحة يا بت؟ بدل ما تطلعي تجري بتستخبي فيه؟ ما أنا ممكن أكسر عضمكم أنتوا الاتنين، بتعيطي ليه؟ خايفة من الفضيحة؟.
عند هذا الحد واكتفى “آدم” فاقترب منه ودفعه في منكبيه وقال بنفس العنف والغضب بصوتٍ عالٍ معبرًا به عن ضيقه:
_لم لسان أمك دا واحترم نفسك وأنتَ بتتكلم عنها، دي “عُـلا” أختي يا أستاذ يا محترم.
نزع الفتيل وفجرَ القُنبلة في وجه أخيه وما عقب دوي الانفجار صوت صمتٍ قاتلٍ وأنفاس تتلاحق بعنفٍ خلف بعضها، كانت كارثة الموسم أو كذبة إبريل لكن يبدو أنه تأخرت وأتت مع موسم الخريف، كانت صدمة لحقت بهم حتى أن الطير حلق فوق رأس كل الحاضرين، والسبب في خبرٍ حصري قدمه أحدهم بغير تمهيدٍ، كانت في موقفٍ لا تُحسد عليه، حيث وقفت خلف أخيها تحتمي فيه من ظنون “أدهـم” القاسي..
وقتذاك صعدت “ربـاب” للشقة حين وصلها صوت صياحهما وقد ولجت في لحظة الصمت حين كان صدر “آدم” يعلو ويهبط من فرط الغضب والإنفعال وعيناه تضربان أخيه بشررٍ، لم تفهم ما حدث لكنها اندفعت تقول بعتابِ أمٍ لصغيريها المُشاغبينِ:
_ينفع كدا منك ليه؟ صوتكم جايب آخر الدنيا ليه؟ وسعادتك كنت فين يا أستاذ “آدم” وسايب أخوك هيموت من القلق عليك؟ مش قولنا تبطل طيش شوية؟ حرام عليك عمايلك فينا وفيه بقى.
لم تلحظ وجود “عُـلا” إلا حين أنهت الحديث فعقدت حاجبيها ونظرت للشابين وهي تقول بحيرةٍ في أمرهم هم الثلاث وقد شعرت بالخوف من مجرد تواجد فتاة بينهما:
_هي دي مين؟ ومالكم مبلمين كدا ليه؟.
شعر “أدهـم” بالإحراج والخجل فلم يجاوب، بينما “آدم” فخشى أن يتم اتهام أخته أكثر من ذلك فاندفع بغير تفكيرٍ وقال:
_دي “عُـلا” أختي يا عمتو.
رمَّىٰ كلمته متكئًا على وصف أخته حتى تحولت ملامح عمته لعدة تعبيرات، ما بين الإنكار والدهشة وغير التصديق وفي ذات الوقت الفرح والسرور والأمان، كلها مشاعر داهمتها في اللحظة ذاتها، حتى أنها دون أن تعي لنفسها هرولت نحو الفتاة تستبين ملامحها وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
_الله أكبر، الحمدلله ألف مرة على سلامتك، أخيرًا نورتينا؟ الله يرحمه “توفيق” لو كان عايش كان فرح برجوعك وسطنا تاني، أنا “رباب” أخته فاكراني صح؟.
حركت رأسها موافقةً بخوفٍ ووقتها قامت “رباب” بسحبها لعناقها تُطمئنها وهي تُعيد كلمات الترحيب والعودة بها وسطهم، بينما الفتاة فحقًا تمنت الاختفاء من هُنا، لكن أولًا حمدت ربها أن تلك المرأة لم تكن مثل هذا الوقح السيكوباتي الذي تحدث واتهمها في شرفها، حقًا لو لم تكن مرتها الأولى بينهم؛ من المؤكد كانت صفعته أمام الجميع ثم مثلت بجثته حيًا قبل الموتِ…
سادت لحظة صمتٍ في المكان عقبها صوت “آدم” حين قال بجمودٍ يوجه كلماته لأخيه الذي شرد في عالمٍ آخرٍ:
_أختي يا “أدهـم” مش واحدة جاية من الشارع، ولولا إنك أخويا الكبير كنت عرفتك إزاي تتكلم عنها كدا، ومش هسكت قبل ما تعتذر ليها وتعتذر على شكك في أخلاقها، وأخلاقي يا محترم.
احتد الموقف بينهما وتوجهت الأبصار نحوهما حين رمقه “أدهـم” بذهولٍ ودهشةٍ، بينما “آدم” فكانت ملامحه تعبر عن الغضب الأعمى، كان ناقمًا بشيءٍ من الذنب حَمَّلهُ لأخيه الذي قال مستنكرًا بضيقٍ خيم على صدرهِ:
_اعتذر !! علشان إيه؟ علشان كلام قولته من غير ما أعرف دي مين حتى؟ وحتى لو قولت حط نفسك مكاني، أخويا مختفي ومش عارف حاجة عنه ليلة كاملة وداخل الشقة ألاقيه حاضن واحدة، أفهم إيه من كدا؟ بيعلق محاليل !! أنا ماتهمتاش بشخصها، أنا اتكلمت بناءً على اللي عيني شايفاه.
يعبر عن الضيقِ بالكلامِ والانفعال المكبوتِ، بينما أخيه فهو يعرفه حق المعرفةِ، لذا قال بغضبٍ هو الآخر كأنه لم يسمح له أن يتهرب منه ومن المحاكمة:
_وغلطك فيا وشكك في أخلاقي عادي برضه؟ يعني هي ماتعرفهاش، وأنا كمان أنتَ مش عارفني؟ يعني ممكن أجيب واحدة البيت عادي واغضب ربنا قبلك صح؟ ماهو دا معنى كلامك يا “أدهـم” طالما بتوضح بقى.
يا الله أهذا هو العُذر الأقبح من الذنبِ؟ فكر فيها “أدهـم” بعد أن وضح له أخوه وجهة النظر من جهته، ولأن “أدهـم” كان في أصعب الحالات النفسية وأكثرها ضغطًا عليه وعلى أعصابه شعر كأنه كما البركان يضغطون عليه كي ينفجر، لم يعلم لمَّ حرك عينيه نحو الفتاة ونظر لها بنظرة خاوية من كل معنى وبرهانٍ وما إن لمح عينيها الباكيتين أحس بفداحة قوله وفعله، فاستغفر ربه جهرًا ثم تنهد وقال:
_أنا آسف يا “عُلا” ماكنتش أعرف إن دي أنتِ، عمومًا نورتي بيتك وبيت أخوكِ، وآسف مرة تانية على اللي حصل دا.
_مفيش مشاكل يا أستاذ “أدهـم” حصل خير.
نطقت “عُـلا” بذلك وهي تتحاشى النظر إليه، بينما هو نظر لأخيه نظرة تائهة، نظرة تشبه نظرة الشخص حين يُغدَّرُ بهِ، لا يعلم لمَّ انقبض قلبه بتلك الطريقة وكأنه يرى مُصيبة قادمة على طريقه، لكن عيناه لم يبرحهما العتابُ، نظراته عاتبت أخيه بغير قولٍ وما إن التفت كي يرحل أوقفه أخوه بقوله:
_آخر مرة تفكر تضايقها بكلامك تاني يا “أدهـم”.
التفت له “أدهـم” وتلك المرة نظر له بانكسارٍ حقيقي، لم تكن سوىٰ نظرة غضبٍ بقدر ما كانت نظرة خذلانٍ من أخيه، أرشقه بنظرةٍ حادة قبل أن يتحرك ثم أولاه ظهره وقال بتهكمٍ مريرٍ وموجعٍ دلَّ على القهر الذي في قلبه منه:
_حاضر، ومبروك على رجوع أختك يا أخـويا.
تحدث مُتكئًا على الأحرفِ كي يثبت له أنه صاحب الحق الأول فيه، يذكره أن تلك الصفة التي بينهما هو صاحب الحقِ الأول فيها، يُخبره بغير صراحةٍ أنه أول من كُتِبت له تلك الصفة بينهما، وقد لاحظت “عُـلا” و “ربـاب” أيضًا توتر الأوضاع والحالة العامة، لاحظتا كل شيءٍ بين عينيهما وكأن هناك صراعٌ مُحتدمٌ بين القلوب لم تُخفِه العيون.
انسحب “أدهـم” بمشاعر مختلطة تائهة ولم يعد قادرًا على استيعابِ الحدث، لكن قلبه لم يتجاهل موقف أخيه معه، لم يتخط موقفه كونه ينهرهُ لأجل أختٍ عادت من الغُربة وهو من أرتضى الغُربة لنفسه؛ فقط لأجل أخيه، كان يشعر بقلبه ينقبض كأنه ضُرِبَ في مأمنه، بينما مأمنه ذاته فهو أدرك أنه تمادىٰ، تاه بعينيه خلف خطوات أخيه يتبعها وقلبه يشعر أنه ارتكب جُرمًا في حقهِ، لذا احتلَّ الشرودُ معالمَ وَجههِ وبقىٰ هو في عالمٍ آخرٍ لوثه الذنب في حق من يُحبه..
____________________________________
<“هربت من وجعيَّ في النومِ، فوجدته في نوميَّ كابوسًا”>
رُبما يحتلُ ألمٌ لا يُحتَمُل أيامك..
يَحتلُ كل ما فيكَ حتىٰ إذا أردتَ أن تهرب من واقعكَ سَّوفَ تجدهُ كابوسًا في نومكَ، هُنا حيثُ اللامفرِ من كابوسٍ مروعٍ يكون كما وحشٍ ضارٍ في وجهك وأنتَ أعزل بغير سلاحٍ ولا حتى صوتٍ تَستغِثُ بهِ، هذا الألم لن تجد منه مفرًا..
فأين المفرِ من ألمٍ يَسكنُ فينا وإن لم نسكنه نحن؟..
عاد للبيت بعد أن أعاد الصغيرين لأمهِ من بيت رفيقه، كان يخشى الرحيل حتى لا يأتيه الخبر اليقين برحيل الشقيق، كُلما هزمه الشيطان هذَّبَ نفسهُ باليقين بالله، تحمم وقام بتخفيف ذقنه الذي استطالت مؤخرًا، عمل بنصيحة “أدهـم” وهندم شكله وهيئته، لكن عيناه الفاتحتين ظل الألم يسكنهما، كأنهما تشبهان مدينة احتلها الاستعمار، عيناه الخضراوتان الداكنتات تحولت خضرتهما لأرضٍ مُجرفة، كأن الخريف سقط عليهما ونهب منهما الورق وترك الغصون الجافة..
كان وجهه باسمًا على الدوامِ، جسده الرياضي وحبه وهوسه بالرياضة جعله يُقدس الروح الرياضية له، كان لاعبًا ماهرًا في رياضة سباق السيارات بمجموعاتها الأربعة، وبجانبها احترف رياضة كرة القدم لفترة لا بأس بها من حياته، جسده طويل البِنية بكتفين عريضين، جبينه عريض يليق بملامحه التي تبدو شرسة لرجلٍ حاد الطباع؛ لكن صفاته عكس كل ذلك، رجل متسامح، لين القلب، يملك بين جنبات صدرهِ قلبًا يشبه رقة جناح الطيرِ..
راقب ملامحه التي أمست غريبة عنه لمدة دقائق ثم تنهد بقوةٍ وخرج من المرحاض لصالة الشقة، جلس برفقة أمه التي شردت في حزنٍ على حال ابنها، راقبها يمعن عينيه فيها ثم ربت فوق كفها المُجعد وهو يقول بحزنٍ غلف صوتها:
_وبعدين يا “ثُـريا” معاكِ بقى؟ قولتلك مابحبش أشوفك كدا.
حركت عينيها المغرورقتين بالدمعِ نحوه وقالت بصوتٍ راجفٍ:
_خايفة أوي المرة دي، المرة اللي فاتت كنا على عمانا قولنا يمكن جلطة ولا القلب حصل حاجة من الضغوط عليه، بس المرة دي عرفنا اللي فيها، أخوك عمره ما هياخد الحاجات دي، أموت وأعرف ليه؟ كانت بتحطله الهباب دا ليه؟ المقويات والزفت دا أخوك هياخدهم ليه؟ وهي لو عملت كدا عملت كدا ليه؟ علشان إيه تدمر أخوك كدا؟ أخوك مات وحييِّ من تاني يا “سليمان”.
انهارت باكيةً أمامه فضم رأسها لصدرهِ يُعانقها ثم قال مدافعًا بمرافعةٍ تولى فيها الدفاع عن شقيقه من تلك التُهمة:
_مستحيل، والله مستحيل، طول عمره عاقل وصاحب كلمة وعقل، هياخد الكلام الفارغ دا ليه؟ دي حاجات حتى المراهقين يتكسفوا ياخدوها، منها لله، منها لله هي وأمها، والله يسامحه أبويا هو السبب في الجوازة دي، قولتله بلاش دي، بلاش بنت أختك، قولتله متظلمش “سالم” بيها، بس ماسمعش كلامي.
التزمت هي تلك المرة بالصمتِ وشردت في ماضي ابنها، كانت ترى بعينيها قهر ابنها ورغبته في إرضاء والده وعمته حتى ولو على حساب نفسه، رضخ بالقولِ والفعلِ وقبل بها زوجة وفق رغبة عمته، وفي النهاية هو وحده من دفع ثمن فعلها وجُرمها، حتى أضحت حياته على المحكِ على شفا حُفرةٍ من الموت، فكاد قاب قوسين أو أدنىٰ من الموتِ.
في هذه اللحظة بالتحديد خرج “سـليم” يرى جدته بعناق عمه، تعجب من سهولة فعلها وهو الذي يتمنى عناق أحدهم، بحث بعينيه عن شيءٍ مجهولٍ لكنه لم يجده، كأنه رُبما يفتقد الأمان والأمنِ، رُبما يبحث عن أمٍ تركته للمجهول ورُبما يبحث عن أبٍ رحل رغمًا عنه، غاص في الشرود لكن صوت عمه أخرجه من بحرهِ هذا بقوله:
_تعالى يا “سليم” تعالى يا حبيبي.
انتبه له “سليم” واقترب بخطواتٍ وئيدة منه ثم جلس بقربه، راقبه “سليمان” لثوانٍ ثم قربه من صدرهِ بتروٍ وفي طرفة عينٍ عانقه بقوةٍ، جعل له من صدره مأمنًا ومكانًا ثم قال بزهوٍ يُثني عليه بهما:
_تعرف إن أنا فخور بيك أوي؟ أبوك عاش وخلف راجل يسد عين الشمس يقف في ضهره ويحمي اسمه، لما بشوفك بحس إني مبسوط وإن “سالم” معايا زي ماهو، بكرة لما يرجع تاني وسطنا هفرحه بابنه اللي واقف وقفة رجالة معانا.
ابتسم “سليم” بسمة غير مكتملة لم تصل لعينيه، ابتسم بانكسارٍ وقال بوجعٍ فاض من عينيه حين كان يتحدث عن والده:
_بابا كان بياخدني معاه الشغل علطول ويقولي إن هاكون في يوم مكانه وزيه، علشان كدا نفسي أكون شبهه وأتعلم منه حاجات كتير، هو هيرجع تاني صح؟ مش هيفضل كدا علطول يا عمو “سليمان” هو وحشني أوي، وأنا مش متعود أفضل كتير من غيره.
رفع “سُليمان” رأس الصغير يواجهه بعينيه وقال بصدقٍ كان يأمل أن يُصدقه قلبه قبل أن يخرج منه بهذا التوكيد:
_مش قولنا خلي أملك في ربنا كبير؟ قولتلك ادعي ربنا وطمن قلبك إن ربنا مش هيردك بعد الدُعا، وبكرة هنقعد كلنا وأنا معاكم وهو وسطنا ونخليه يضحك علينا وإحنا بنتكلم كدا، ادعيله وطمن قلبك، ربنا يطمنك عليه.
ابتسم له الصغير بحنوٍ ثم رفع رأسه ولثم وجنته وبعدها قال بحبٍ بالغٍ فاض من عينيه قبل نبرة صوته:
_عارف والله أنا بحبك أوي، وبابا كمان بيحبك أوي، لما ماما كانت بتتخانق معاه علشانك وتقولوا إنك مش بتحبه كان هو بيزعقلها ويقولها إنه بيحبك حتى لو أنتَ مش بتحبه، لما يرجع تاني هقوله إنك فعلًا بتحبه أوي، علشان بشوفك بتعيط علشانه، وبابا قالي لما نعيط علشان حد يبقى بنحبه أوي، وهو كان بيعيط علشان جدو الله يرحمه.
يقولون الصغار تَكمُن كل الفلسفة في براءة قلوبهم، وهذا الصغير أتى بالبراءةِ كلها يُلخص أكثر العلاقات تعقيدًا وصعوبةً، لخصها في حديثٍ بسيطٍ جعل عمه ينتبه للكلامِ من منظورٍ آخرٍ، هذه الزوجة كانت كما الحرباء الملونة بينهما، لم تكن يومًا إلا زرعة فاسدة في أرضٍ صالحة، وتلك الزرعة انتشر فسادها على كلِ من حولها حتى تدمرت الأرضِ كُلها..
____________________________________
<“أتيتُكَ من غرقيِّ للشاطيء؛ فلا تردني للعُمق من جديد”>
في فترةٍ ما سوف تعتاد الغرق..
سوف تُحب سِتر البَحر لكَ، لن تشتهي وجودك عند الشاطيء، ستفضل أن تبقى مخبوءًا بين تلاطم الأمواج بدلًا من جلوسك فوق الشاطيء، سوف تُحب حركة الموج العنيفة، وفي الوقت ذاته سوف تكره سكونك عند برِ الأمانِ، لأن وبكل أسفٍ بر الأمان هذا سيكون هو ذاته موضع خوفك واضطرابك..
لم يَنَّم طوال الليل بسبب غرقه في كابوسه وواقعه، صورة والده لم تبرح خياله، لم يقبل فكرة الرحيل بغيرِ وداعٍ، من الأساس هو حين رحل تركه ومشىٰ بدون وداعٍ أو عناقٍ يُطفيء لوعة الاشتياق، رُبما لأنَّه ضَمَّنَ عَّودتهِ من جديدٍ ؟ وقد يكونُ رَجَّحَ فكرة المؤقتية وعدم استدامة الأحوالِ، لكن خبر مرض والده جعله يترنح بين الأمواج، فتارة يكون في عمق البحر محتفظًا بغرقهِ في الغُربةِ، وتارة أخرىٰ يخرج مُهرولًا لشاطيء القرابةِ..
ظل يُقلب الهاتف بين يديه وهو يزدرد ريقه بصعوبةٍ، صورة والده لم تبرح خياله وعينيه، وهذا ما يُزيد قلقه بالتحديد، أن تلك الصورة الأخيرة التي احتفظ بها في ذاكرته قبل أن يرحل كانت الأقسى من بين كل مراحل الزمنِ، عاد بذاكرته لبحر الذكرى مُقررًا الغوص فيه بإرادتهِ الحُرة رغم خوف القلب من الغرق..
وقتها كان في غرفته يحمل صورة أسرته التي أمست تنقُصها زوجته في أرض الواقع، كان يرى بعينيه وجع العُمر كما يُلقبها، الجرح الأعظم بعد وفاة أمه شهيدة في بيتها بفلسطين، نزلت دمعة من عند مدمعهِ وقال بصوتٍ باكٍ يشكو لزوجتهِ كأنها بجوارهِ:
_عرفتي ليه بقولك أنا بخاف من الدنيا؟ علشان ولا مرة أنا اتأذيت، أنا كل الوجع اللي تاعبني إنه بيجيلي في الناس اللي بحبها، مشيتي ليه وسبتيني ليهم؟ خلفتي الوعد اللي كان بينا، مشيتي بدري أوي، لسه العمر ماجاش منه حاجة علشان يضيع من غيرك، شوفتي عاوزين يعملوا إيه؟ عاوزين ياخدوها مني، طب أنتِ ومشيتي، ومابقاش ليا غيرها، أسيبهالهم إزاي وهي آخر حاجة هعيش ليها؟.
وقتذاك ولج والده الغرفة عليه، وقف يُشرف عليه من علياءه وقد أشفق على ابنه، تذكر زوجته التي رحلت غدرًا بغير إنذارٍ أو وداعٍ يليق بعشقهِ لها، اقترب وجلس بجواره فمسح “يحيى” عينيه ورفع رأسه يواجه والده الذي ربت فوق كتفه وقال بصوتٍ أعلن تضامنه معه:
_ادعيلها يا “يحيى” واستغفر ربنا، يابني هتعترض على قضاء ربنا؟ ربنا استرد أمانته خلاص، وهي كانت طيبة وبنت حلال وزي النسمة، الله يرحمها ويصبرك ويصبر أبوها وأمها، علشان خاطري ماتحملش نفسك فوق طاقتها، وبلاش تقف قصاد “حسين” أنا مش ناقص.
توسعت عينا “يحيى” بدهشةٍ وتيبس جسده فجأةً ما إن نطق والده بهذا الحديثِ، ثم حرك رأسه مستفسرًا بغير نطقٍ، وقد قرأ والده نظراته وفهمها؛ فتنهد مُطولًا وقال بأسىٰ:
_زي ما سمعت يا “يحيى” سيبلهم “رحيق” وهما أحرار فيها، ليهم فيها زي ما ليك بالظبط، يا كدا يا “حسين” هيضيق عليك الحال والعيشة، مش بعيد يسجنك، ولو بتسأل إزاي هقولك ممكن يلبسك مصيبة توديك ورا الشمس، وأنا مش هستنى أشوفك بتضيع مني، يابني هما مستحيل يفرطوا فيها ولا يوجعوها…
قبل أن يُكمل أتى بتر الحديث، حيث قام “يحيى” من موضعه وقال بصوتٍ هادرٍ يصرخ في وجه أبيه بقوله:
_وأنا اللي هفرط !! دي بنتي أنا ومحدش ليه حق ياخدها مني، لا هو ولا ولاده ولا أي حد هنا، بنتي أنا، وأمها الله يرحمها ماتت قضاء وقدر، عاوزهم يحرموني من الحياة وأسكت؟ عاوزين ياخدوها وهما عارفين إن هي آخر أمل ليا، لأ مش هسيبها، ومش هفرط فيها، هامشي وأسيبلهم الدنيا كلها، ولو عاوز تيجي معايا تعالى وسيبهم، سيبلهم كل حاجة وأمشي.
وقف والده أمامه يرجوه بقولهِ:
_يابني وحد الله، أنا شايل همك والله، هما مش هيسكتوا ليك، ولو أمنت مكرهم يوم خاف منهم ١٠ قصاده، مش بعيد بعد كدا تعيش عمرك كله تتمنى إنك تسيبها ليهم، سيبها ووقت ما تحب تشوفها قولي ووقتها نظبطها ونخليك تشوفها، يمكن الموج يهدا شوية والأيام تهدي اللي بينكم دا.
ضحك “يحيى” بسخريةٍ، ضحكة تحولت للاستهزاءِ عقبها بقوله:
_كأنك بتطلب مني وقت علشان اتنفس فيه كل ما أحس إني عاوز أعيش، عاوزني أسيب بنتي وأشوفها بإذن ويا عالم هيرضوا ولا لأ؟ عاوزني أموت بقهرتي صح؟ طب وليه؟ ما تفضل معايا وفي حضني وهما يبعدوا عننا، ليه ياخدوها هي كمان مني؟ مش كفاية اللي راح؟ علشان خاطري قولهم إني مش هقدر، والله ما هقدر.
تحولت نبرته للوجعِ إبان حديثه، بين حرفٍ وحرفٍ آخر كان صوته امتلأ بالقهرِ، الموت سكن كلماته، لم يكن حيًا كما يبدو بل كان ميتًا كما لم يظهرُ من قبلِ، وقد قال والده بوجعٍ هو الآخر:
_يمكن في الأول مش هتقدر بس بعد كدا هتبقى عرفت إنك اشتريت راحتك وراحتها هي كمان، يابني هي مابقاش عندها حد دلوقتي يراعيها، دي بنت وأنتَ راجل بطولك مستحيل تقدر عليها لوحدك، وأنا مش هقدر أمشي وأروح في حتة، أقولك؟ سيبهالي أنا وأنا والله هراعيها وأحطها في عيني، اعتبرها أمانة في رقبتي، والله عمري ما هقصر معاها.
_ريح نفسك، مستحيل أوافق وأسيبها، بنتي مش هتفارقني غير بالموت يا بابا.
هكذا جاء ردهُ مُتعنتًا وصامدًا، يرفض الرضوخ والاستسلام، يرفض الهربِ من موطنهِ، يرفض كل شيءٍ قد يحرمه من الحياة، لكن والده تحدث يستجديه بقوله:
_أنا اللي هسمح لحاجة تأذيها، دي حتة مني يا “يحيى” وربنا يعلم غلاوتها في قلبي، وأنتَ حتة تانية مني، أنا ماليش غيركم أنتَ وهي، بلاش أخسركم أنتوا الاتنين، سيبها وارجع لشغلك بدل ما يحبسوك عمرك كله، عمري ما هأمن مكرهم وشرهم، حتى لو كل يوم بناكل لقمة واحدة في طبق واحد مستحيل آمنلهم.
_وأنا قُولت كلمتي خلاص، بنتي معايا ومش هتفارقني، ومش همشي من هنا غير وهي معايا ورجلها على رجلي، وأنا مقدر إن صعب تيجي معانا وتسيب حياتك وفلوسك وبيتك، بس أنا مش هقدر أضحي تاني بحاجة، العمر اللي فاضل هعيشه لبنتي ومع بنتي.
هكذا صدر الفرمان منه بغير مناقشةٍ، صدر الحُكم وخرج القرار بغير رجوعٍ، وفي هذه اللحظة خرج من شروده على صوت الهاتف في يده، تلهف للجواب وما إن وقع بصره على الرقم تنهد بثقلٍ، شعر كأن هناك جبلٌ جثمَ فوق صدرهِ، لكنه رتَّبَ أنفاسه الثائرة وجاوب كعادته بذات الجمود:
_خير يا “تـقوى” فيه حاجة؟.
لأول مرةٍ ينطق اسمها مُجردًا هكذا من أي لقبٍ أو صفةٍ، بينما هي فابتسمت بهدوءٍ وتلبس الهدوء حالها وصوتها وهي تقول برقةٍ لا يعلم هل هي مفتعلة لأجلهِ أم هذه هي رقتها:
_لأ خالص، أنا بس كنت بكلمك علشان أقولك إن بابا مطول في السفر مع ماما بكرة واحتمال أروحلهم، ممكن بكرة تقفل المعرض وترتاح أنتَ كمان، وتقضي اليوم مع “رحيق”.
تبدلت ملامحهُ في طرفة عينٍ ثم تنهد بثقلٍ وقال بنفس الطريقة:
_متشكر ليكِ جدًا بس مش هقدر آخد أي خطوة قبل ما الحج بنفسه يقولي ويديني الأمر اتحرك، وعارف موقفك ومقدره وفوق راسي بس أنا متعودتش أخون أمانة حد وثق فيا وحملني همها، عن إذنك.
قام بإخفاء مقصده خلف كلماته الصريحة، أراد أن يُوصل لها رسالةً تحمل مقصده بشأنها، أراد أن يُخبرها عن قلبه الذي تعمد أن يخفي عينيه عنها، وياليتها تعلم أن باب الفؤاد موصودٌ بغير مفتاحٍ، فهذا الباب الذي تأمل أن يُفتَح لها غلفه الصدأ ويستحيل أن يُعاد فتحه من جديد.
في ذات اللحظة صدح صوت هاتفه برقم خاله، تأهبت حواسه واعتدل يجاوب بلهفةٍ فوجد الصوت الذي غاب عنه لما يُقارب العامين وما يزيد عن ذلك، صوتٌ مألوفٌ رغم الغُربة يقول:
_ألو، إزيك يا “يحيى” عامل إيه يابني طمني عليك.
رقَ قلبه وانتفض بين جنبات صدره حين وصله صوته، حاول أن ينطق لكن مشاعره ضيقت الخِناق على صوته وقال بنبرةٍ أقرب للبكاءِ:
_أيوة يا بابا، أنا كويس طمني عليك أنتَ.
_بخير أوي علشان سمعت صوتك ولو شوفتك هقوم وأبقى زي الفل، وحشتني يابني أوي، طمني بنتك عاملة إيه؟ نفسي اسمع صوتها أوي، وحشتني أوي ووحشتني كلمة جدو منها أوي.
بعد أن وصله هذا الحديث ترقرق الدمعُ في عينيه وقال بغلبٍ على أمرهِ:
_وأنا والله نفسي اسمع كلمة منها، نفسي أساعدها ومش قادر، ونفسي أجيلك وغصب عني مش عارف، لو شافوني الدنيا هتولع، أبوس إيدك قولهم إنك متعرفش حاجة عني، زي ما قولت قبل كدا إني سافرت برة مصر وسيبت البلد كلها، علشان خاطري.
_متقلقش يا حبيبي، كفاية إني سمعت صوتك وعرفت إنك بخير، خلي بالك من نفسك وسامحني يابني، سامحني إني ماقدرتش أقف في صفك، والله العظيم خوفت عليك منهم، مش زعلان مني صح؟.
ابتسم “يحيى” بشجنٍ وقال بشوقٍ غلف نبرته:
_أزعل منك إزاي بس يا أبو “يحيى” قولي؟ ربنا يردلك عافيتك وتقف من تاني على رجلك، بعدين سكر إيه دا اللي يتعبك كدا؟ طول عمرك قدها وقدود، قوم علشان تيجي تشوفني وتشوف “رحيق” وتقف معانا وتبقى في صفنا هنا، ولا مش ناوي؟.
مازح والده ثم أغلق الهاتف معه، اطمئن قلبه على والده وارتاح ذهنه من الرمح بغير وجهةٍ مُحددة في مقاصد التيه، ارتاح جزءٌ منه لكن الكلِ لازال مُتعبًا، لازال يشعر أن الألم هُنا في نقطةٍ لا يعرفها حتى يعرف كيف يُعالجها،
هُنا حيث الضياع في الطريق بغير عنوانٍ
والألم بغير دواءٍ، هُنا حيثُ ألمٍ لم يبرح الروح ولا يصفه البوح.
____________________________________
<“ياليت من رحلوا كانوا هُنا معنا يرون عذابنا بدونهم”>
لو كان الحلم يجمعنا؛
كنت أغمضت طوال الدهر جفوني،
ولو كان الدمعُ يُعيدك؛
كنت أمطرت وفاض الغيث من عيوني
ياليتك هُنا معي ترى بعينيك شوقي لك
وياليت قلبك يتطلع على عقلي
ويرى فيه الشتات وجنوني..
الحماس وُأِد في مهدِّهِ، بمجرد أن ذهبت لمقر عمل والدها ورأت الوضع بعينيها وهي تشعر أن السكين ضربت قلبها، لم تشعر بنفسها إلا حين ولجت مكتبه وبكت أمام صورته، أهذا هو الوضع في رحيل الميت؟ يخون الحي أمانته وينهب القريب ذويه ويسعى الغريب لتدمير المتبقي من سيرته؟ كأنهم كانوا أعداءً تخفوا طوال العُمرِ خلف ستارِ التضامنِ..
ولج “طاهر” المكتب المتواضع وحمحم حتى رفعت “نـوف” رأسها تواجهه بعينين باكيتين فقال هو بعدما تنهد مُطولًا:
_وبعدين بقى؟ هو عمره رضي بعياطك ولا زعلك؟ طب دا كان الموت عنده أهون من دمعة في عين حد منكم يا “نـوف” والله، تعرفي إنه كان عنده استعداد يسيب الدنيا كلها تضرب تقلب ويبقى كل همه بس ضحكة حد منكم، قومي تاني وشوفي وراكِ إيه، قوليلي محتاجة مني إيه وأنا معاكِ.
تحركت تقف في مواجهته وهي تقول بصوتٍ مبحوحٍ:
_كنت فاكرة إني هقدر والله يا عمو بس صعب أوي، صعب أعوض مكانه، هلاقيها من شغله ولا هلاقيها من الجمعية اللي ربنا جعلها سبب رزق ناس كتيرة ولا هلاقيها من عمتي اللي عاوزة الميراث وبتدور عليه ومكلمة عمي يرجع من السفر علشان يشوف ميراثه، قولي المفروض أعمل إيه معاهم؟ أنا لوحدي قصادهم يا عمو “طـاهر” ولو أي باب من دول أديته ضهري مستحيل أقدر أرجع وأعوض فيه غيابي أو غياب بابا، أنا بس مستغربة إزاي كان بيقدر يتصرف لوحده، إزاي كان بيتعامل في كل الضغوط دي، إزاي كان بيتحمل وساكت؟.
_علشانكم يا “نـوف” وعلشان والدتك، اللي ماتعرفيهوش إن “ناجي” كانت روحه فيكم، كان كل أمله في الدنيا أنه يشوفكم مبسوطين في حياتكم، حتى لو حساب نفسه مش مهم، علشان كدا تستغربي الوضع لو حطيتي نفسك مكانه، بس هو كأب مكانش بيحس بحاجة قصاد ضحكة منه، ربنا يجعله في ميزان حسناته إنه كان بيراعي ربنا في بتيه وبناته ويراضيكِ باللي يعوضك خير.
ازدردت لُعابها وقد صدح صوت هاتفها برقم أمها فاستأذنت منه كي ترحل قبل أن يتأخر الوقت، تحرك معها وأوصلها حتى سيارتها ووقف يطمئن عليها قبل أن تقود السيارة وفي ذاتِ اللحظة وصلت سيارة “غسان” ونزل منها يمازح والده بقوله:
_هو المرحوم كان موصيك بالجامد أوي كدا؟.
التفت له والده بعد أن راقب سيارة “نـوف” وهي ترحل من أمامه ثم عاتبه بنزقٍ قائلًا:
_لسه فاكر تيجي؟ البنت مشيت، مش قولتلك عاوزك معايا علشان تساعدنا؟ ماهو أنا لو “رئـيفة” كان زمانك سامع كلامي ومنفذه بالحرف، يلا عليه العوض ومنه العوض فيك.
راقبه “غـسان” بحاجبين مرفوعين ثم عاد داخل السيارة تزامنًا مع دخول والده وتنهد بقوةٍ ثم قال بهدوءٍ يُعبر عن أسفهِ:
_والله العظيم عديت على الشركة أخلص الورق علشان أأجل حوار السفر دا، وهشوف الدنيا هنا هترسى على إيه، مش حابب أسيبك أنتَ وماما في الظروف دي، وقررت إني أعالجك نفسيًا بعد وفاة عمو “نـاجي” الله يرحمه، يلا ابسط يا “تيتو”.
غمز لوالده بعبثٍ وقد ابتسم والده رُغمًا عنه وقال بسخريةٍ يُمازحه:
_ودي هتعملها إزاي يا ناصح؟ هتجوزني؟.
رفع “غسان” حاجبه بشرٍ وقال يُجاري والده بقوله:
_يا شيخ؟ عاوزني أعملها وأجوزك علشان تجيبلي عيل يدخلني الجيش؟ مش هناولهالك يا “طـاهر” والله، يمكن أنا اللي اتجوز يا سيدي وأقعد أملالك البيت أحفاد حلوين زيي، نفسي أتم التلاتين وعيالي طولي ماعرفش إزاي، بس بدري بدري كدا أحسن.
ضحك “طـاهر” مُرغمًا ثم قال بصوتٍ هاديءٍ:
_مش مهم تتجوز إمتى المهم إنك تراعي ربنا في بنت الناس اللي معاك، وأنا أكيد يهمني أشوفك مبسوط في حياتك، بس بجد لو ناويها ريحني وفرحني بيك، بس مش دلوقتى خالص، مفيش حاجة هتتم احترامًا لوفاة صاحب عمري، ربنا يرحمه ويريح قلبك بناته.
تنهد “غـسان” ثم قاد سيارته حيث وجهته لبيت أمه، ورغم حيرته وشتات أمره لكنه كان يحاول أن يبقى مُستقرًا، فما بين رغبته في السفر وبين شوقه لموطنه وبلدته هو يضيع بين الجهتين، لكنه يحاول قدر المستطاع أن يوازن بين جبهتي الحرب وما أدراك من حربٍ بين طريقين مُتعاكسيْن مع بعضهما.
____________________________________
<“لو كنت أُدرك أن نظرتي تُحزنك كنت أصِبتُ نفسي بالعمىٰ”>
في لحظةٍ ما قد ننجرف خلف مشاعرنا..
ننطق بما لم تقدر القلوب على تحمله، نُخطيء ونحن مُغيبون عن الخطأ، لكن في لحظةٍ أخرى تُداهمنا صدمة الاستيعاب، نندهش من قدرتنا على كسر حدود الحديث وإصابة الآخرين بنصلِ هذا السكين الحاد، فياليتنا لم ننطق ذات مرةٍ بحديثٍ يؤلم القلوب..
غَرُبَت الشمسُ ورحلت وتركت لونها البرتقالي يصنع الشفق الأحمر، تترك مزيجًا بين الألوان هائلًا، تُخبر الناس أن الأدوار تبدلت وكل شيءٍ ينعكس دوره، فها هو القمر شارف على الظهور كي ينوب عن الشمس في الليلِ، تُفتح صفحة جديدة من الروايةِ بأحداثٍ أخرى لم يتوقعها الكاتب حتى أن تحمل روايته هذه السطور.
كانت “عُـلا” تجلس برفقة “ربـاب” و “عـرفه” اللذان رحبا بها أشد الترحيب، كأنها وجدت نفسها بين عائلتها حقًا، جلست تتحدث معهم وهم يطمئنون عليها جميعًا ومعهم “ورد” التي تحمست لهذا الوضع وظلت تتحدث معها ثم قالت باندفاعٍ شديد:
_يعني كدا عندي أخت أهو، روحي ربنا ينصرك أصلك ماتعرفيش معنى إنك تكوني بنت وحيدة لأخ زي “آدم” خلاص مسيرك تعرفي ولو محتاجة حاجة عن صبري وقوة تحملي أنا معاكِ، دا أنتِ ربنا يعينك.
ابتسمت “عُـلا” بحزنٍ وقالت وهي تنظر له:
_أنا فعلًا ماعرفش، بس عشمانة أعرف بقى، عمومًا أنا طبعًا بعتذر على وجودي فجأة كدا وجيت عملت مشاكل ولغبطت الدنيا، بس الظروف حكمت بكدا، بس الوضع دا مؤقت مش هيطول أكيد، ربنا يكرم بس أشوف شغل وأظبط الدنيا هنا، وشكرًا على المقابلة دي.
انتبهوا لها جميعًا وقد مال “آدم” للأمام يسألها بثباتٍ:
_هتروحي فين يا “عُـلا’ فهميني؟ أنتِ جاية هنا علشان تكوني معايا، في بيتك اللي هو دا بيتي، حوار تروحي عند صاحبتك دا وتقعدي معاها انسيه، بيتك يكون موجود وتمشي تروحي عند ناس غُرب؟ أنا إذا كنت عيل صغير قبل كدا وماعرفتش أتصرف وقتها مش هسيب دا يحصل تاني، وقولتلك أنتِ في رقبتي، دماغك بقى.
تنهدت بقوةٍ وأخفت عينيها عن الجميع، لكن داخلها وجدت فراشات صغيرة تطوف فوق جدار معدتها وكأنها تستشعر الأمان لمرتها الأولى، طالعت وجه أخيها وهي تبتسم وكأنها تُقر أنه وسيمٌ مثل الشباب الذين تلمحهم في مواقع التواصل الاجتماعي وفي شاشات التلفاز، راقبته وهو يتحدث مع “ورد” ويمازحها وابتسمت بشجنٍ على نفسها وهي تجلس كما الغريبة تتعرف عليه لأول مرةٍ..
بينما “ورد” فهي صدح صوت هاتفها برسالةٍ إلكترونية جعلتها تقفز من موضعها وتخطف الهاتف ثم ولجت الشرفة تسمع الرسالة فوجدتها أغنية بصوت “مُنتصر” أرسلها لها خصيصًا أثناء استراحته في العمل:
_وحشتني عيونك وأنتَ بعيد
ولا داري بإيه اللي جرالي،
ولا مني معاك ولا مني وحيد
ارجع يا حبيب قلبي يا غالي..
_طب رايح فين وسايبني لمين؟.
مجروح وحزين قلبي ليالي،
يا شاغلني هواك ما تقولي أنساك
مجروح وحزين قلبي ليالي..
آه يا سلام يا سلام
دا نسيني أوام، وكمان مصعبش عليه حالي.
ابتسمت بهيامٍ حين وصلها صوته وهو يُعبر لها عن جزءٍ من مشاعره، وهنا أدركت حجم اشتياقها له، أدركت أنها حقًا تفتقد نصفها الآخر الذي غربته الدنيا بمشغولاتها عنه، فق
تكون رُبما الحدود فصلت بينهما، لكن القلوب على العهدِ تُكمل الطريق معًا، لكنها قررت أن تشاكسه فكتبت له:
_قول لنفسك الكلام دا أنتَ اللي بعيد عني، بس مايمنعش يعني أنك وحشتني أوي يا “مُنتصر” وأنا هفضل مستنية رجوعك ليا بفارغ الصبر، مستنية ترجع تاني ونكون مع بعض نكمل كل حاجة اتفقنا عليها، ربنا يرجعك ليا بألف سلامة.
قرأ رسالتها مبتسمًا ثم أغلق الهاتف وهو يقول بسخريةٍ:
_بقى جايلك قلب تقسي على الوردة دي يامَّا !!.
عاد لعمله بينما هي تنهدت ولملمت شتاتها وقبل أن تتحرك من الشرفة لمحت انعكاس ضوء الطابق الأخير فرفعت رأسها لتجد “أدهـم” عاد وتوجه للأعلى مُباشرةً، ضيقت جفونها ثم خرجت وجلست بقرب “آدم” ومالت عليه تهمس له بقولها:
_هو أنتَ و “أدهـم” زعلانين مع بعض؟ أصله مابيعملش كدا غير لما يكون فيه حاجة بينك وبينه، طلع عند “سيمبا” لوحده ومعداش علينا، أطلع شوقه ماما قالتلي أنكم عكيتوا بالكلام مع بعض.
وزع نظراته بينها وبين أخته لكنه حسم أمره وصعد للأعلى في النهاية، قدم قدمًا وآخر الأخرىٰ وظل يتأرجح فوق حبال الهوىٰ، يمشي مع التيار بتيهٍ ويراقب أخيه الذي يجلس على رُكبتيهِ أمام الكلب وهو يداعبه، تقريبًا هرب من وحدته ولجأ للرفيق الحنون عليه، لكن “آدم” رفض هذا الوضع، اقترب منه وقال بسخريةٍ يواري خلفها قلقه منه:
_بقى الكلب عندك أهم مني؟ مش تطمن عليا؟.
تيبس جسد “أدهـم” لوهلةٍ وقرر أن يتجاهل صاحب الصوت، وهذا ما لاحظه “آدم” فجلس بجواره وربت فوق ظهره وهو يستعطفه بقوله:
_طب إيه بص لأخوك طيب، قولي أي حاجة.
وبطرف العين جاءته النظرة ومعها القول الجامد:
_هاقولك إيه؟ خلاص مابقاش فيه حاجة تتقال.
عاد “آدم” للخلف ثم التفت وجلس في مواجهة أخيه وقال بلهفةٍ:
_علشان خاطري على الأقل كلمني، عارف إنك زعلان مني ودا حقك ومش هقدر ألومك، بس ماينفعش إنك ماتردش عليا، أنتَ أخويا الكبير وأنا الصغير، يعني هفضل طول عمري أغلط وأنتَ اللي بتصلح ورايا يا “أدهـم”.
انتبه “أدهـم” لتبدله فتنهد بقوةٍ وقال محافظًا على جموده:
_البركة في أختك، أهيه جت وبقت معاك هي بقى تصلح وراك وتلم وتشيل، أنا خلاص مابقاش ليا مكان، أنتَ لاقيت مكانك وكلامك ليا مش محتاج حِسبة تانية غير دي يا “آدم” علشان أفهمه، أنا بس صعبان عليا منك، قلبت عليا قبل ما تقدر موقفي، ومش زعلان منك، دا حقك وهي أختك.
أنهى الحديث ثم اعتدل واقفًا يوليه ظهره، ترك “آدم” يجلس كما الطالب المُذنب في الصف، تجاهله وظل يعتني بكلبه وهو يحاول أن ينسى نظرة “آدم” وطريقته معه، كُلما حاول أن يتخطى أن أخيه هاجمه ووقف ضده يشعر كأن العالم أجمع أعلن عليه الحرب، لكن الآخر عاد لصغره، عاد للحظة يُتمهِ حين كان وحده وفقط عناق “أدهـم” كان هو المدينة الآمنة لأجلهِ، لذا تحرك من مكانه وسأله بخوفٍ ووجلٍ:
_هو أنتَ بجد زعلان مني؟ مش عاوز تكلمني؟.
لم يجرؤ الآخر على الردِ وقبل أن يتحرك ارتمى “آدم” على “أدهـم” يُعانقه، يتشبث به وهو يقول بلهفةٍ:
_أنتَ عارف إني بقبل بأي حاجة في الدنيا غير إنك تديني ضهرك وتبطل تكلمني، أنتَ أبويا يا “أدهـم” مش أخويا، هي أختي ورجعتلي بس أنا بتحامى فيك أنتَ، علشان خاطري متزعلش مني، والله العظيم ما قصدت أزعلك مني، شوف يرضيك إيه وأعمله علشانك، بس بلاش تزعل مني.
تشبث به كما الصغير الذي يتشبث بأمه حين يلاحظ رحيلها عن مرأى عينيه، وقد تعجب “أدهـم” لكنه ابتسم رغمًا عنه، ابتسم كون أخيه لم يُطِق خصامه وساعاته بدونه، لذا ربت أخيرًا فوق ظهره بينما “آدم” قال بلهفةٍ:
_حقك عليا علشان خليتك تعتذر بس والله كلامك عنها جنني، دي أختي وماقبلش حد يبصلها بصة مش تمام، لما أنتَ تبصلها وتبصلي كدا الغريب يعمل إيه بقى؟ علشان خاطري حط نفسك مكاني، يمكن تقدر موقفي.
تنهد “أدهـم” ومسح وجهه بكلتا كفيه ثم قال مدافعًا عن نفسه:
_حط نفسك مكاني أنتَ كمان، ماعرفش حاجة عنك ولاقيتك اختفيت كأنك وراك مصيبة سودا، وبعدها قفلت تليفونك، بعدها رجعت وماقولتش وأدخل ألاقيك حاضنها عيني عينك !! دي جريمة كاملة زي ما بيقولوا، مين في وضعي ممكن يحسن الظن إذا كنت ناسي إنك عندك أخت أصلًا؟.
ابتسم “آدم” ثم حرك كتفيه بقلة حيلة فتصنع “أدهـم” ضربه وقد خطفه في عناقه وهو يقول بضحكةٍ يائسة من أفعال أخيه:
_هتموتني مجلوط بس أعمل إيه؟ قدري ونصيبي.
ضحك “آدم” أخيرًا وجلس بجوار أخيه الذي يتابع رعاية كلبه وإطعامه، كان يُراقبه ببسمةٍ هادئة كون الخصومة التي بينهما انتهت قبل أن تزيد فترتها عن ذلك، كما أنه يعلم أنه أخيه عطوف القلب ورحيمٌ ولن يُطِل في الحزن منه، وهذا هو مربط الفرس في علاقته به، أن أخيه هو من يُشدد أزرهِ..
____________________________________
<“كي تعِش حاضرك عليك بشراءِ سلاحٍ لقتل ماضيك”>
عليك بقتل ماضيك كي تنعم أنتَ بسلامٍ..
لا عليك بشيءٍ سوى أن تنعم بحاضرك وإن كنت قاتلًا لمستقبلك، فالماضي الحي إذا تُرِك لجسد صاحبه يؤلمه وينهي على حاضره كما مرضٍ يتفشى ولا يُعامل سوى بالبترِ..
في اليوم التالي صباحًا..
بعد أن مضى ليلٌ غريبٌ بكل مافيه أتى صبحهُ، فلا الليل يدوم ولا النهار يتأخر، بل كل شيءٍ يحدث بموعدٍ أراده الخالق وحدده، وهي رغم طيلة ليلها إلا أن صبحها قد جاء، فخرجت “رحمة” من بنايتها تطرق الارض بنعل الحذاء ذي الكعب العالي، تطرق الأرض أسفلها بثباتٍ وشموخٍ وهي التي جاءت من أقصى المدينة تهرول بخوفٍ وشتاتٍ حافية الأقدامِ..
كانت تسير برأسٍ مرفوعٍ وهي تتحرك بغير خوفٍ وتذكرت ماضيها، حين رفعت فستان زفافها الأبيض وهرولت من البيت، وحين تعرقلت في الطريق توقفت تخلع الحذاء وتُلقيه خلف ظهرها وأكملت الهرب من الزفاف، وقتها ورغم الخوف لكنها لم تستسلم، أكملت دربها حتى وصلت لبيت صديقتها ومن هناك بدأ الطريق الصحيح لكل شيءٍ، واليوم هي ترى ثمرة جهدها..
حركت يدها تطالع ساعة معصمها وهي تبتسم بثقةٍ كونها تتحرك في الموعد المضبوط كما أرادت، هي دومًا تتحرك في التوقيت المناسب وتفعل ما تريد مهما كلفها الأمر من طاقةٍ وجُهدٍ..
بينما في مكانٍ آخرٍ استيقظ “سُليمان” وأوقظ أمه معه وأبناء شقيقه، صنع لهم وجبة الفطور وقام بتقديم الرعاية المُستحقة لهم، كان يبثهم أمنًا وهو يخبرهم أن الوقت لم يتطلب إلا بضعة ساعات ويرون “سالم” عند وقت الزيارة المُحدد، كانوا يبدأون يومهم بأملٍ طفق يسكن القلوب ويحتلها، وهو يُدافع باستماتة مقاتلي الحرب القوية..
وأثناء التفافهم حول الطاولة صدح صوت جرس الباب فتحرك “سليم” يفتحه بحماسٍ ظنًا منه أن الطارق هو “أدهـم” الذي سوف يذهب بهم للمشفى، لكنه تفاجأ حين وجد أمه في وجهه، ارتد للخلف بخوفٍ وازدرد لُعابه وقد لحق به “سُليمان” الذي اقترب منه وهو يقول بجملةٍ لم تكتمل:
_مين اللي على البابـ…
توسعت عيناه حين لمح “صابرين” التي رفعت حاجبها تتحداه وقالت بتجبر عينٍ حاقدة وقلب ناقم على أصل صاحبه:
_جاية آخد عيالي يا “سليمان” بيه، ومعايا حكم من المحكمة بحضانتهم ورجوع الشقة ليا علشان أنا حاضنة، تقدر تعترض؟.
تحدته بعينيها وهي تلوح بالورقةِ أمامه وقد هجم عليها هو حتى يمسك خصلاتها وفي هذه اللحظة صرخت بملء صوتها وتدخلت قوات التنفيذ الجبري تفصل بينه وبينها ومن بينهم ظهرت تلك التي لم يعرف لها أصلًا وقالت بتحدٍ:
_إياك ثم إياك تفكر تقرب منها، موكلتي معاها حكم محكمة بحضانة الأولاد وحكم من المحكمة برضه بتمكين الشقة ليها، عندك استعداد تعترض على حكم المحكمة؟ وريني شطارتك، بس هتلاقيني قصادك أنتَ وأخوك لحد ما أجيب حقها من عينكم، ويانا يا أنتَ يا “سليمان” بيه.
نقطة ولم ينتهِ السطر..
فالحكاية لم تُكتَبُ بعد، لازالت القصة لم توضع فيها الأساسيات الهامة، والحرب بين طرفيها شديدة للغاية، حربٌ غير أهلية وغير متساوية، حربٌ فيها طرفٌ تجهز في الخفاء، وفيها الطرف الثاني سيقَ للميدان أعزلًا حتى بدونِ علمٍ بميدان المعركة وقسوة خصمه.
التاسع من هنا




