Uncategorized

رواية ما ذنب الحب الفصل الرابع عشر 14 بقلم شهد الشوري – تحميل الرواية pdf


ارتدت غنوة ملابسها بحماس، وهي تلملم القليل من ثيابها، استعداداً لقضاء إجازتها الأسبوعية في بيت خالتها، كانت متحمسة فقد مر وقت طويل لم تراهم فيه

خرجت من الغرفة حاملةً حقيبتها، وما كادت تتخطى باب الفيلا حتى سمعت صوت مروان خلفها يسألها بذهول :

رايحة فين يا غنوة…..؟!

التفتت إليه غنوه، وعلى وجهها حماسٌ طفولي واضح :

الأسبوع ده الإجازة بتاعتي، هقضيه في بيت خالتي، انا استاذنت مدام حياة

تعجب مروان، وقطب جبينه بضيقٍ لم يفهم سببه، أو ربما فهم ولكنه أنكره…..

تأملها طويلاً بشرود، جميلة وجذابة، لكنها في المكان الخطأ، يليق بها أن تكون أميرة لا مُجرد خادمة، صحيح ان ملابسها قديمة، لكنها لم تستطع أن تخفي جمالها، فستان أسود بسيط يصل إلى كاحلها بأكمام طويلة واسعة، وشعرها الناعم تركته حراً طليقاً، اقترب منها وقال بابتسامة صغيرة فيها لمحة انبهار :

تمام هوصلك في طريقي

ارتبكت غنوة وقالت بتوتر :

ما يصحش، أنا هاروح لوحدي، هاخد تاكسي من قدام الباب هنا، مش مستاهلة حضرتك تتعب نفسك

رد عليها مروان بمرح، وهو يأخذ منها الحقيبة ويخرج من الباب :

اعتبريني التاكسي، وابقي إديني الأُجرة

ضحكت غنوة بخفوتٍ ووافقت على الركوب معه على استحياء، ولكن قبل أن تركب، ظهر يوسف واقترب منهما، قائلاً لمروان بمشاكسة وهو يحاول إعادة الأمور بينهما إلى سابق عهدها :

موعد غرامي ولا إيه؟

جز مروان على أسنانه وقال له بحدة :

يوسف

ارتبكت غنوة، وقالت سريعًا بحرج :

ابداً والله مفيش أي حاجة، أنا بس أخدت إجازة ورايحة بيت خالتي عشان هقضي الأسبوع فيه، والأستاذ مروان عرض عليا يوصلني، أنا أصلاً ماكنتش عاوزة، وكنت هاخد تاكسي من قدام الباب بس هو رفض، صدقني حضرتك مفيش اي حاجة غير كده

نظر إليها مروان وقال بضيق :

اركبي

اعترضت غنوة، وقالت وهي تحرك رأسها بالنفي :

ما ينفعش، أنا هاخد تاكسي

زفر مروان بضيق، وأدخل حقيبتها السيارة، ثم فتح الباب جاعلاً اياها تركب قسراً لكن ليس بقوة، بعدها نظر إلى يوسف، وقال بقسوة :

محاولاتك معايا ع الفاضي يا يوسف، وباللي بتعمله ده أنت مش بترجع حاجة ولا بتصلح حاجة، عشان ترجع علاقتنا بيك، صلح نفسك الأول، صلح الغباء اللي أنت فيه، صلح من نفسك الأول عشان تعرف تصلح نظرتنا ليك، بدل ما تحاول معايا روح واجه أمك وأبوك، واجه ليلى، واجه نفسك، وقبل كل ده اسأل نفسك، الكل قصر معاك في إيه عشان تكون بالقسوة دي معانا

قالها وركب السيارة وانطلق، تاركاً يوسف وحده ينظر إلى شرفة والدته بتردد، منذ ما حدث، وهو حبيس غرفته، يخشى أن يواجه الكل !!

كان مروان دائمًا الأقرب إليه بين إخوته، لكنه خسره هو الآخر، لم يبقى معه سوى يومين أو ثلاثة، وهو يستحيل أن يعود إلى ذلك العمل مرة أخرى، وفي الوقت ذاته المبلغ كبير، يستحيل أن يطلبه من أبيه، لقد أصبح ملوثًا بالمعاصي…..

نظر للشرفة مرة أخرى، وتماسك مقررًا أن يصعد إلى والدته ليتواجه معها اخيرًا، لم يعد هناك وقت، سيسافر وربما تكون آخر مرة يراها فيها، صعد إليها وهو يجهز نفسه لتحمل أي شيء منها مهما كان !!!!

………..

أما داخل السيارة، فكان الصمت يُهيمن على الأجواء بين مروان وغنوة، التي لم تكن تفهم شيئاً وكانت تخشى أن تتكلم، وهي ترى مروان يضغط بكف يده على المقود حتى ابيضت مفاصله من شدة الضغط، سألها أخيراً بعد صمت :

انتي منين يا غنوة؟

ردت عليه بهدوء :

من المنصورة

تنهد بثقل، فتابعت غنوه بشفقة ومواساة :

أنا بصراحة سمعت كام كلمة من زمايلي في المطبخ وعرفت اللي حصل من أخو حضرتك، بس أنتوا ليه زعلانين ومش فرحانين برجوعه؟!

قاطعها مروان وسألها بصرامة :

لو أبوكي رجع ندمان هتسامحيه؟

صمتت غنوة طويلاً، ثم ردت باختناق :

لأ

نظر إليها للحظة، ثم التفت بنظرة إلى الطريق وتابع بحدة بسيطة :

نفس الشيء، المسامحة مش بالساهل

ردت عليه غنوة بصوت مختنق مليء بالألم الذي حاولت ان تخفيه :

انت شوفت من أخوك خير، شوفت منه حُب، من الكلام اللي سمعته إنكم كنتوا عيلة حلوة أوي ومبسوطين، ذكرياتكم مع بعض حلوة، لكن أنا شوفت زعيق وضرب وإهانة ودموع ليل نهار وحرمان من أبسط حقوقي، حرمان إني أحس بحنان، أنا مع أبويا عيشت الحزن والقهر، لدرجة إن لو حد سألني إمتى حسيتي في بيت أبوكي بالأمان والحب، هقولك عمرها ما حصلت، عمرها……

يكفي أقولك إني كنت بانام خايفة وبصحى خايفة، بعمل أي حاجة بخوف وإخواتي من أبويا ما كانوش سند، انا ماعيشتش معاهم يوم واحد حلو، أنت مش هتحس باللي بقوله ولا هتفهمه، بس هي حاجة صعبة أوي، صعب إنك تعيش حياتك كلها خايف، أنا عايشة معاكم في بيتكم رجل بره ورجل جوه، بين خوف وأمان……

تنهدت ثم تابعت حديثها الذي يمزق القلب :

خوف من اللي جاي ومن اللي ممكن يحصلي، يهد كل اللي أنا فيه، وأمان وسطيكم، أبويا خلاني مهما حسيت بأمان أخاف الخوف جزء مني، خوف من بكرة ومن أي لحظة هتعدي عليا خوف من إني أغلط من غير قصد عشان اللي بحبهم ما يبعدوش عني، خوف……خوف إني أفضل لوحدي، خوف إن اللي بحبهم يقلبوا عليا، خوف لأفرح وأطلع لسابع سما وأنزل على جدور رقبتي، أنا عيشت كل ده مع أبويا وإخواتي وبين أهلي، عشان كده بقولك عمري ما هأقدر أسامح

لكن أنت عيشت وجرّبت الحب، جربت حاجات كتير أوي تخلي قلبك يحن لأخوك، عيشتوا مع بعض حاجات تشفع للوحش اللي حصل، مهما كان صعب بس تقدر تتجاوزه، تقدر تسامح وتكمل، تقدر تعاتب وأنت عارف إن عتابك هييجي بفايدة، تقدر ترجع الأمور زي ما كانت وتعيش مبسوط

لكن أنا مهما رجعت هفضل خايفة، ومهما عاتبت كلامي مالهوش لازمة ولا هييجي بفايدة، عشان كده لو سمحت ماتجيش تقولي نفس الشيء تاني

أومأ لها مروان بحزن شديد يعتصر قلبه عليها، لكن غنوة مسحت الدموع التي تجمعت في عينيها وقالت بمرح باهت :

كنت رايحة وابتسامتي من الودن للودن، دلوقتي هادخل عليهم بالدموع، شكلكم باصين ليا في الإجازة بتاعتي ومش مسامحين فيها

ضحك مروان بخفوتٍ فجأة بعد صمت، وفي نفس اللحظة غير طريقه وسار من طريق آخر، فسألته غنوه بقلق وخوف :

ده مش الطريق، حضرتك مشيت من هنا ليه؟!

التفت إليها مروان وقال بابتسامة جميلة مليئة بالحنان :

ينفع انهاردة تنسي كل حاجة وكل خوفك، وإرمي كل حاجة ورا ضهرك وعيشي اليوم ده، عيشيه كأنك واحدة تانية، عيشيه زي ما تتمني تعيشيه، قوليلي نفسك في إيه ونفسك تعملي إيه؟!

سألته غنوه بارتباك وهي لا تفهم شيئاً :

مروان بيه، هو في إيه بالظبط؟

نظر إليها مروان بشرود وقال بحنان ونبرة رغم حنيتها، إلا أنها كانت تحمل صرامة غير قابلة للنقاش :

مش قولتلك انسي كل حاجة النهاردة، انسي أبوكي وكل الدنيا، واستمتعي باللي هتعيشيه انهاردة

أخذت غنوه نفساً عميقاً وردت عليه وهي لا تدري لماذا يسأل، أو ماذا يريد :

كنت روحت الملاهي، ودخلت سينما، وقعدت ع النيل بالليل اتفرجت ع القمر، كنت جريت ولعبت وأنا باكل غزل بنات كتير عشان بحبه أوي، كنت ركبت عجل وفضلت أسوق بيه كتير، مع إني مش بعرف بس نفسي أجرب أسوقه

نظر إليها مروان للحظات، جميع رغباتها، رغبات طفلة…..

طفلة لم تعش طفولتها كما ينبغي، طفلة تتألم، وتحتاج للحنان، التفتت إليه وسألته بفضول :

بس حضرتك بتسأل ليه؟

رد عليها مروان بحنان :

مش قولت انسي كل حاجة انهاردة، انسي أبوكي وكل الدنيا، استمتعي باللي هتعيشيه وبس

ردت عليه غنوه بتوتر وخوف، وهي تنظر إلى الطريق الذي دخل منه الآن، وفي نهايته، لاحت مدينة ألعاب فخمة، كلها أنوار ساطعة وأصوات المرح والضحك تخرج منها

هبط مروان من السيارة وفتح الباب لها، فترجلت وهي تستدير بعينيها في المكان بانبهار، اتسعت حدقتاها بدهشة صافية، ونسيت نفسها للحظة، لطالما راودها حلمٌ كهذا

خطت إلى الداخل بخطواتٍ تفيض حماسًا، تكاد تُلامس الأرض وكأنها تخشى أن تستيقظ من حلمٍ جميل، ومروان إلى جوارها، يراقب ارتجافة الفرح في ملامحها، يتتبع دهشتها بعيونٍ يملؤها الرضا، كان سعيدًا…..

لا بشيءٍ سوى أن البهجة وجدت طريقها إلى قلبها، فسعادتها كانت كفيلة بأن تملأ قلبه هو أيضًا سعادة !!

أمسك مروان بيدها ودخلا معًا، ولم يترك لعبةً إلا وأصر أن تُجربها، كان ضحكهما العالي يملأ المكان، وصوت ركضها وحماسها يشي بطفلةٍ تسكن روحها لم تكبر يومًا، نسيت غنوة نفسها، نسيت من تكون ومن أين جاءت، اندمجت في العالم كما لو أنه خُلق لها في تلك اللحظة تحديدًا

حتى أنها شاركت بعض الأطفال اللعب بلُطف، ثم التقط مروان صورًا طريفة معها في الركن المخصص للتصوير، كانت لحظات نقية، براقة، حاول كلاهما أن يودع فيها همه على باب الفرح ولو لبعض الوقت

بعد وقت طويل كانا يمشيان في أرجاء المول ينتظران بدء عرض الفيلم الكرتوني الذي اختاراه، وفي الطريق، لفت نظرها بلورة دائرية شديد الجمال، لطالما حلمت أن تملك واحدًا مثله، ولم تكن دهشتها وحدها، إذ إن البلورة جذبت مروان أيضًا، فابتاعها دون كلمة، ثم التفت إليها مبتسمًا وقال :

البنوتة اللي جوا شبهك

احمر وجهها خجلاً، وقالت بقليل من المرح :

أنا أحلى

ضحك مروان بحرارة، وأجابها بنبرةٍ تحمل غزلاً صادقًا :

أحلى بكتير، أكيد

ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها وهي تسير بقربه، ثم تحسست حقيبتها تتأكد من وجود محفظتها، وبعد لحظةٍ قصيرة التفتت إليه قائلةً برقة :

استناني لو سمحت هنا دقيقة بس، هروح أجيب حاجة

ثم ذهبت سريعًا دون ان تنتظر رده !!

بعد قليل خرجت دون أن تحمل شيئًا بيدها، فاستغرب مروان الأمر، لكنه لم يسأل ولم يُعلق، مكتفيًا بصمتٍ لطيفٍ احترامًا لرغبتها

عادا يتجولان من جديد حتى حان موعد الفيلم، وفجأة من غير سابق إنذار، اندفعت فتاة نحو مروان واحتضنته بقوة، شهقت غنوة بدهشة، واتسعت عيناها واشتعل في صدرها ضيقٌ مفاجئ لا تفسير منطقي له، سوى أن المشهد اخترق شيئًا حساسًا داخلها

تعابير مروان انعقدت في حرج واضح وقال بضيقٍ خافت :

إزيك يا صوفيا؟

ردت عليه الفتاة بدلالٍ صريح، وعينان تشعان ثقة وحماسًا :

وحشتني أوي يا موري، أنا معاك في الرحلة بكره، أكيد هنقضي وقت يجنن، انت مش متخيل فرحتي عاملة ازاي

توترت ابتسامة مروان، وانحنى قليلاً برأسه وهو يرى غنوة تتراجع خطوة للخلف، تاركة لهما المساحة، لكن عينيها كانتا معلقتين عليهما بضيق، وهي تضغط على حقيبتها بقوة !!

تأملتها غنوة، فتاة في غاية الحسن، هي أيضاً حسناء، لكن ثوبها الفخم الذي يبرز أنوثتها وينتمي إلى طبقة مرموقة، زادها إشراقًا وجمالاً، كانت غارقة في شرودها، وشرودها هذا دفع مروان إلى الاقتراب منها، قائلاً ببعض الخجل :

دي صوفيا، صاحبة عشق

ردت عليه دون تفكير، بنبرة خرجت رغمًا عنها، تحمل استنكارًا :

دي صاحبة الآنسة عشق إزاي

صمتت بعدها فورًا، وقد أدركت انها قالت ما لا يفترض قوله، ضحك مروان بخفوت محاولًا تجاوز الأمر، وهو يسير بجانبها نحو السينما، وقد حمل معه العديد من التسالي :

لو حد من العيلة شافني داخل فيلم كرتون، الهيبة هتروح

ردت عليه غنوة سريعًا بتوتر وخوف أن تكون أزعجته أو حمّلته ما لا يريد :

طب خلاص، نرجع، مش لازم نتفرج، مش مهم أصلًا، أنا…..

قاطعها مروان قائلاً بمرح :

بهزر يا غنوة

دخلت غنوة مع مروان، كان المكان يضج بالأناقة، فكل ركنٍ في قاعة السينما ينطق بالفخامة والرقي، خاصةً وأن مروان قد حجز المقاعد للطبقة العليا، التي توفر خصوصية، وضعت غنوه أكياس المسليات بهدوء، وبعد دقائق معدودة بدأ عرض الفيلم

تابعت غنوه أحداث الفيلم الكرتوني بـاندماج طفولي خالص، كانت تنساب منها ضحكات خافتة وعفوية تُعبر عن سعادتها، كانت تلك الضحكات بمثابة إثبات بأنها قد ألقت فعلاً بأثقال خوفها وحزنها جانباً، ولو لبعض الوقت

فجأة، التفت مروان عن الشاشة، لم يعد مهتماً بالفيلم، ترك كل شيء….لـيتأملها !!

كانت نظراته نظرات هيامٍ صامت وإعجابٍ خفي بجمالها الناعم البريء الذي تضاعف ببريق السعادة، لم يكن يشعر بما تفعله عيناه، فـشروده التام كان دليلاً على أن مشاعره بدأت تتجاوز حدود العطف والشفقة إلى مرحلة أعمق وأكثر خطورة…….

ظل مروان طوال الفيلم يتأملها، يسجل تفاصيل ضحكتها الخجولة، وتركيزها البسيط، دون أن يشعر أو يحاول أن يتوقف !!!!

…………..

دخل يوسف بهدوء إلى غرفة والدته، التي تجلس على الفراش، تمسك الملفات بيدٍ وتتابع عملها على الحاسوب باليد الأخرى، لم ترفع رأسها إلا حين فُتح الباب، وما إن رأته حتى خفق قلبها خفقة موجعة، لكنها كبحت مشاعرها سريعًا وعادت لعملها كأن وجوده لا يعني شيئًا !!

تنفس يوسف بعمق، أغلق الباب خلفه واقترب منها خطوة بعد أخرى، وصوته خرج محملًا بندمٍ يأكل روحه :

ماما

كان الرد صمتٌ ثقيل، لقد تجاهلته حياة كأن صوته لم يصلها

فاقترب أكثر، ثم جلس على ركبتيه أمامها، وأمسك يديها برجاء، قائلاً بصوت مختنق بالدموع :

عشان خاطري يا ماما بصيلي، ردي عليا، انا محتاجلك اوي، سامحيني…..انا آسف

ابتلعت حياة غصّة قاسية، ثم سحبت يدها من بين يديه بعنف، قائلة بصوت مرتجف من شدة الغضب :

أسامحك على إيه ولا على إيه، وآسف دي هتداوي إيه يا يوسف، هتداوي وجع قلبي، ولا وجع قلب أبوك؟

إنت عيشتنا أيام دمعتنا نازلة على خدنا، ومقهورين

خليتنا نسأل نفسنا ألف مرة قصرنا معاك في إيه، غلطنا فيك في إيه، ربيناك وحش، طب ما إحنا ربينا إخواتك زيك بالظبط، وعمرهم ما عملوا زي انت ما عملت !!

صمتت للحظة، ثم تابعت بمرارة أشد :

ماصدقتش أبوك ولا أمك، وصدّقت واحدة غريبة

الكل حذرك منها، ولا حتى لحظة قلت يمكن إحنا خايفين عليك، أول ما شكيت، شكيت في أبوك وأمك، وهددتهم

طب وبنت خالك ذنبها إيه؟

ليه تضيع مستقبلها، وتفضحها قدام الناس؟

ليلى دي لو عليها ذنب فذنبها إنها حبت واحد زيك

رفعت عينيها إليه، وقالت بألم :

بعد كل الي عيشناه بسببك جاي تقول بكل بساطة آسف؟

أسفك مش هيصلح حاجة، ومش هيداوينا، ولا هينسينا اللي عملته

انهمرت دموع يوسف، ويداه تشد على يديها كالغريق الذي لا يملك سوى هذا الحبل الأخير، انحنى يقبل يديها بوجع يغلف صوته، كأن كل كلمة تُنتزع من صدره المثقل بالندم :

أنا آسف، آسف يا ست الكل، سامحيني، والله يا أمي مش عارف أعمل إيه ضايع، وندمان، وقلبي واجعني

مش عارف أبدأ منين ولا أروح فين…..

عارف إني غلطت، غلطت كتير، بس مش قادر أفهم أصلح إزاي، ولا أعمل إيه، أنا محتاجك جنبي اوي اليومين دول، محتاج حضنك، سامحيني يا امي حقك عليا، حقك عليا ياريتني كنت مت قبل ما اعمل كده

حاولت حياة أن تبقى صلبة، أن تظهر كالجبل الذي لا يهتز، لكن الجدار الذي بنته من صبرٍ وانكسار انهار فجأة، مدت يديها تشده إليها، ضمته بقوة وكأنها تحاول أن تحميه من العالم……ومن نفسه أيضًا، هامسة بلهفة قلب الأم :

بعد الشر عليك يا بني، بعد الشر

ثم بكت، وبكى معها، كطفلٍ يعود إلى أول حضن عرفه في الدنيا، ورغم دفء ذراعيها حوله، بقي جرحٌ في قلبها لا يلتئم، وغفرانٌ لم يكتمل طريقه بعد

عند الباب، كان بدر يقف، يشاهدهم ودمعة محبوسة تلمع في عينه، تقدم بخطوات ثقيلة، ودخل بصمت، وما إن وقع نظر يوسف عليه حتى نهض مرتبكًا، يمسح دموعه بعجلة

ردد بدر بصوتٍ هادئ :

بالليل هتقعد مع شريف ابن خالك، هيقولك على كل اللي وصله في الشغل الزفت اللي كنت ماشي فيه، وهتقوله كل حاجة تعرفها، والفلوس اللي خسرتها هتدخل حسابك النهارده

تحرك ليغادر، لكن صوت يوسف الحزين اوقفه :

بابا، انا آسف، بس مش هعمل كده

التفت بدر، نظر إليه دون أن يرمش، فتابع يوسف بصوت أضعف :

أنا ما أستاهلش، غلطت، ولازم أتحمل نتيجة غلطي، حتى لو نتيجة الغلط ده الموت، حضرتك مش مجبور تساعدني

اشتد فك بدر، وصوته جاء قاسيًا على قدر ما يحمل من وجع خفي :

انا ما عملتش كده علشانك

عملته علشان أمك، وعلشان إخواتك اللي مالهومش ذنب يكون ليهم أخ بتاريخ أسود زيك

انخفض رأس يوسف، وكأن الجملة صفعت روحه،

قبل أن يغادر بدر، خرجت من يوسف آهة ممزقة بالكاد صارت كلمات :

سامحني يا بابا

أغمض بدر عينيه للحظة، ثم خرج، شعرت به حياة، فخرجت خلفه، لكن قبل أن تنطق بشيء……رن هاتفها، وما ان أجابت اتسعت عيناها رعبًا لقد نقل شقيقها للمستشفى، في وضع صحي خطير للغاية !!

صرخت واندفعت تركض للخارج بفزع، وجنون

ركض بدر خلفها ثم العائلة كلها

أما يوسف فلحقهم، لكنه بقي في السيارة، يجلس كمن يحمل العالم كله فوق كتفيه، لا يملك وجهًا ليدخل به معهم ويواجه الجميع !!!

على الجهة الأخرى، كان مروان مع غنوة

لقد نسي هاتفه في السيارة، ولم يعرف شيئًا عما حدث !!!!

…………..

كانت الدقائق ثقيلة……

كأن الزمن توقف أبى أن يتحرك، والجميع يقفون أمام باب غرفة العمليات بقلق

أما ياسين، فكان أشبه بروح تائهة، يذرع الممر ذهابًا وإيابًا، كأن خطواته وحدها قادرة على إنقاذ أبيه

لم يستطع عقله الهارب من الفاجعة إلا أن يعيد المشهد مرارًا وتكرارًا، صورة والده وهو يسقط بين أذرعهم عاجزًا عن التنفس، صدره يعلو ويهبط في صراعٍ موجع، ورغوة بيضاء رقيقة تتجمع عند شفتيه كأن الحياة تسيل منه شيئًا فشيئًا

قبض ياسين يديه بقهر، وانزلقت دمعة من عينيه رغمًا عنه دمعة خوفٍ على السند الذي طالما احتمى به، القوة التي ظنها لا تهتز يومًا

كانت حالة الصدمة تسيطر على الجميع، وجوه شاحبة، وصدور تضيق بالقلق، ولا أحد قادر على استيعاب ما وقع

على مقربة منهم كان مالك يخبر عمته خلسة بما حدث، بعدما ضغطت عليه بأسئلتها المتكررة، لتلتقط مهره كلماته بصدمة

توقفت للحظة، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة خبيثة، تحمل شماتة لم تخفِها عينيها، كأن الألم الذي يغرقهم الآن كان يُرضي شيئًا دفينًا بداخلها !!!!

اسودت عينا ياسين بالكامل، وتكاثف الظلام فيهما، فاقترب من أخته صافي التي كانت تبكي بقوةٍ دون أن تستوعب بعدُ أصل المأساة، أمسك ذراعها بقبضة عنيفةٍ أوجعتها، وسألها بصوتٍ غاضب :

انتي غلطتي مع ابن جلال الخولي، ابن ال…..ده لمسك، حصل بينكم حاجة

صمتت صافي صمتًا ثقيلاً، وهنا فقط فهمت، استوعبت أخيرًا السبب الحقيقي وراء حالة أبيها، لم تكن تعلم كيف انكشف سرها، لكن المهم هو أنهم عرفوا، انهمرت دموعها بغزارةٍ أكبر، وحاولت جاهدةً ان تتجنب النظر إلى الحاضرين

اقترب مالك من ياسين، محاولاً تهدئة نيرانه المستعرة :

ياسين مش وقته، نطمن على عمي الأول وبعدين نشوف الموضوع ده

لكن ياسين تجاهله، وظل يحدق في صافي التي بقيت صامتةً وتهرب بعينيها بعيدًا عن مواجهته، عندها، تأكد لديه أن ما شاهده حقيقة، وأن الفيديو ليس مُركبًا أو كذبًا، بل حقيقة……ويالها من حقيقة مُرة !!

شقيقته أخطأت خطأً لا يُغتفر، جلبت العار للعائلة، وكانت السبب المباشر في مرض أبيه

ارتعدت زينة مما يدور بين ولديها، صُدمت من كلام ياسين، ومن صمت صافي المريب وعدم دفاعها عن نفسها، شهقت فجأةً، وانتفض الجميع بقلق عندما صفع ياسين أخته بقوة بالغةٍ، سقطت على إثرها أرضاً !!

تدخل أمير بسرعة وسحب ياسين الذي ظل يهدد صافي بالقتل، وصرخ فيه بغضب :

انت بتعمل ايه، ابوك جوه بين الحياة والموت، ولحد ما أبوك يقوم بالسلامة ما تقربش من أختك ولا تلمس شعرة منها، أبوك بس اللي من حقه يقرر هيحصل إيه، مفهوم

صمت ياسين، والنيران تأكل صدر، بينما حياة عانقت صافي بخوف شديد من القادم والقلق ينهش قلبها على شقيقها !!

في تلك اللحظة الحرجة، خرج ريان الذي كان يُشرف على العملية بنفسه، وتبعه الطبيب الشاب الذي تحدث بأسف :

صدمة عصبية حادة سببت ليه اضطراب في عضلة القلب، مع صعوبة شديدة في التنفس، احنا عملنا كل اللي نقدر عليه، الوضع لحد دلوقتي قدرنا نسيطر عليه لكن لسه في خطر لأن الأزمة احتمال ترجع تاني

سأل أوس بقلقٍ بالغ :

طب نقدر نطمن عليه ونشوفه إمتى؟!

رد عليه الطبيب بجدية :

أنا آسف بس مش دلوقتي خالص، لأنه هيدخل العناية المركزة، اول ما الوقت يسمح هنبلغكم، دلوقتي تقدروا تمشوا، ولو حد حابب يستنى يفضل يكون شخص واحد أو اتنين

في هذه الأثناء، انهارت زينة وسقطت مغشياً عليها فاقدةً للوعي، جرى ياسين نحوها وحملها بسرعة، وركض الجميع بها نحو الطوارئ، بعدها نقلت إلى إحدى الغرف، بعد ان اخبرهم الطبيب إصابتها بانهيارٍ حاد !!!

نظر أوس إلى إخوته والبقية وقال بحزم :

الكل يرجع على البيت دلوقتي، أنا هستنى هنا

رفض الجميع وأصروا على البقاء، زفرت مهرة بضيقٍ، وقالت بنفاد صبر :

وجودنا هنا مش هيفيدوا بحاجة، خلونا نمشي

أثارت طريقة كلامها نفور الجميع، لكن ياسين تكلم بصرامة :

عمي، أنا هفضل هنا مع أبويا وأمي، خلي الكل يروح كمان حضرتك روح معاهم ارتاح

رددت صافي بتصميمٍ وهي تبكي بقهرٍ، وندم :

انا هفضل جنب بابا وماما هنا، مش همشي

زفر ياسين غاضباً، وكاد ينقض عليها مرة أخرى، لكن شريف تدخل وأمسكه، فصرخ الآخر بغضب :

غوري من وشي دلوقتي، أبوكي وأمك لو فاقوا وشافوكي مش ضامن إيه اللي هيحصلهم تاني بسبب و…..زيك

بكت صافي بقهرٍ شديد، وغادر الجميع فعلاً بعد إصرار، حتى حياة لم يرضى أحدٌ أن تنتظر، ولم يتبقى سوى أوس وريان برفقة ياسين الذي رفض حتى وجود زوجته معه !!!

………….

على الناحية الأخرى……

دخل جلال إلى فيلته بخطوات متلاحقة، أنفاسه مضطربة وملامحه تشتعل بالغضب والذهول، لا يزال عقله عاجزًا عن استيعاب ما رآه منذ دقائق فقط……

ذلك الفيديو الذي وصل إليه قبل الاجتماع بلحظات، فيديو يخص ابنه مع ابنة آدم العمري في وضع مخزي للغاية، مرفقًا برسالة تهديد واضحة ان ينسحب من المشروع !!

اندفع جلال مباشرة إلى غرفة إياد، الذي كان جالسًا على الفراش يحاول الاتصال بصافي، لكنها لا تجيب هاتفها مغلق !! رفع عينيه بدهشة حين رأى أباه يدخل بتلك الحالة، صارخاً عليه بصوتٍ غاضب ارتجت له جدران الفيلا بأكملها :

انت قربت لبنت آدم العمري؟ حصل بينكم علاقة؟

اتسعت عينا إياد بصدمة، وسأل والده بزهول :

جبت الكلام ده منين يا بابا….؟!

اقترب منه جلال، وصوته يعلو أكثر :

رد عليا، حصل ولا ما حصلش؟!

ازداد غضب إياد، وسأل والده بحدة، ونفاذ صبر :

حضرتك عرفت منين؟!

رمى جلال الهاتف في وجه ابنه تقريبًا وهو يهدر :

يعني اتزفت وقربت منها

تجمد إياد مكانه حين رأى الفيديو، وانسحب الدم من عروقه من شدة الصدمة، ما هذا الذي يراه، لا يعرف ما يحدث

كان من المفترض ان يذهب اليوم لآدم ليطلب يدها مرة أخرى خوفًا عليها من الفضيحة…..

لكنه الآن يرى الفضيحة أمامه !!!

سقط الهاتف من يده، وبدأ صوت جلال يعلو من جديد :

الفيديو ده وصل قبل الاجتماع، اضطريت انسحب، وآدم انسحب كمان، آدم مش هيسيبك، هيقتلك، لازم تهرب قبل ما يوصلك

نهض اياد وقال بعزم وتوتر :

انا لازم أروح لصافي

لكن جلال وقف أمامه مانعًا اياه من الذهاب، صارخًا عليه بحدة :

صافي ايه، وزفت ايه، انت لو روحت دلوقتي ليها وحد من اهلها شافك هيقتلك ومش هيسمي عليك، انت اخدت شرف بنتهم، فاهم يعني ايه، ولا عيشتك في الغرب نسيتك يعني اي شرف

صرخ عليه إياد بعنادٍ يشتعل في عينيه :

مش مهم، المهم هي، اكيد هيأذوها

دفعه جلال للخلف بغضب :

بنتهم واكيد مش هيأذوها، لكن انت طلعت نزلت غريب، آدم هيموت اول ما يشوفك، هو معندهوش تهاون في الأمور دي مش بعيد يفكرك عملت في بنته كده عن قصد، ومش هيسمي عليك، لازم تهرب من هنا، انا معنديش استعداد اخسرك

ردد جلال وهو يلف حول نفسه، والحيرة تنهش قلبه، وصوته يصدح بحسرة مريرة :

منك لله، منك لله، خسرت صاحب عمري بسببك، أعمل إيه دلوقتي، اتصرف ازاي؟!

بينما خارج الغرفة، كان هشام وفاروق يتبادلان نظرة انتصار خبيثة، الخطة تسير كما أرادا بالضبط، لقد وقع الاختيار بالمشروع على عمران بعد انسحاب ادم العمري، وجلال……

في تلك اللحظة، تدخل فاروق قائلاً لـ جلال بحدة :

ابنك ماغلطش لوحده يا جلال، البنت عملت كده بإرادتها

لكن إياد لم يُعِر كلامهما انتباهاً، فقد طغى غضبه على كل منطق، وصرخ عليهما بعصبية :

كل الكلام الأهبل ده مش فارقلي، أنا دلوقتي مش فارق معايا غير صافي، أنا هروح ليها، وهقول لأبوها إني مستعد أتجوز بنته، اللي حصل كان غصب عني وعنها

كان إياد يتحدث باندفاع يحاول يائساً تدارك كارثة، غير آبهٍ بتفاصيل اللوم وتوزيع المسؤولية، كل ما يشغله هو مصير صافي وحل ما يمكن ان يحدث لها

بينما في الخارج……

كانت عواصف المكر والضغينة تعصف في أعماق عقل هشام، ترسم مخططًا أشد فتكًا وخبثًا من كل ما اتفق عليه مع والده لم يعد الأمر مجرد إبعادٍ مؤقت، بل إزاحة تامة، كان لا بُد لإياد أن يختفي، أن يُقتلع من الصورة الآن بلا عودة……

حتى لا يبقى أمام عائلة صافي خيار سوى أن يزوجوها له هو……وليس لإياد !!!

نعم، فـغليله لم يُشفى بعد، لا يزال قلبه متأججًا لقد رفضته صافي مرارًا وتكرارًا أمام الجميع، محطمةً كرامته، ومجرحةً كبريائه بـغرورها وتعاليها عليه، ولأنه يرى في كسرها كسرًا لغرورها، فقد أقسم انه سيتزوجها، وسيذلها طوال العمر، سيجعل حياتها جحيمًا أزليًا، ثمنًا لرفضها له

عليه الآن أن يقطع الطريق على إياد، لا يجب أن يُتاح له إلا سبيل الهرب خارج البلاد، حتى يتزوج هو بصافي !!

حينها، وبعد أن يضمن مِلكيتها، سيكشف لـ آدم العمري عن مخبأ إياد، ليتخلص منه

لكن الأهم الآن وفي هذه اللحظة، هو أن تكون صافي من نصيبه، يجب أن يطولها، لتبدأ رحلة إذلاله لها، وكي تذوق المرار بأكمله على يديه، وليقهر قلب إياد……..

مخطط دنيء لا يخطر إلا ببال شيطان مثله !!!

اقترب هشام من عمه جلال، وخوفه بدا زائفًا لكنه أتقنه ببراعة :

عمي، آدم العمري دلوقتي في المستشفى، وأخواته ورجال العيلة كلهم بلغوا رجالتهم يدوروا على إياد ويجيبوه من أي مكان، وقالوا إنهم هيقتلوه، أنا بعت حد من رجالتنا وسطهم عشان يبلغونا أول بأول اللي بيحصل، وهما بلغوني الخبر ده دلوقتي الظاهر مش ناويين يتفاهموا، لا هو ولا أخواته…..فيها قتل علطول

لم يهتم إياد، وصاح بغضب ونفاد صبر :

انا هتكلم معاه

وقف هشام أمامه، قائلاً بحدة :

انت لو روحتلهم، ما حدش هيسمعك، مجرد ما تقف قدامهم هيقتلوك، الحل الوحيد دلوقتي إنك تهرب بره مصر لحد ما نلاقي حل، على الأقل نوصل مع آدم العمري اتفاق، تتجوزها مثلاً وجودك هيعقد الدنيا يا اياد

صمت هشام للحظات، ثم تابع بمكرٍ بارع :

مع إني مش شايف واحدة زيها ماتستاهلش الجواز، دي واحدة سلمت نفسها لواحد من غير ورقة جواز عرفي حتى، إزاي تستأمنها على بيتك، وشرفك، ده غير وجودها في أماكن شمال كتير، وانت شوفت ده بنفسك، مش بعيد تكون عملت كده عشان توقعك في شباكها وتتجوزها، او تلبسك في جوازة عشان تدراي على وس….. القديمة

قبض إياد على مقدمة ثياب هشام، وعروق يده بارزة من شدة الغضب :

الزم حدودك يا هشام، انا ما اسمحش ليك تتكلم عن صافي بالشكل ده

تدخل جلال، غاضبًا، وهو يبعد ابنه عن هشام :

ابن عمك مع حق، في انك لازم تهرب دلوقتي، انا هتفاهم مع آدم لما الدنيا تهدى، ولما الأوضاع تستقر، هبعتلك تنزل مصر

صرخ إياد وهو يدفع الطاولة الزجاجية حتى انكسرت :

انا مش هعمل كده، مش هتخلى عنها

صرخ عليه جلال بغضب، وهو على شفا الجنون :

محدش قالك اتزفت ابعد، كل اللي بقوله ابعد فترة لحد ما الوضع يهدى شوية

ثم نظر إلى فاروق، وتابع بصرامة :

اتصل بالمطار خليهم يجهزوا الطيارة، إياد هيسافر كمان ساعتين !!

كاد ان يهم اياد بالاعتراض، لكن هشام أمسك بيده وجذبه خارج الغرفة، وقف قبالته، ينظر إلى عينيه مباشرة، يتلاعب بصوته وثباته، كأفعى تنفث سمها ببطء قاتل :

صافي مين دي اللي عاوز تنهي حياتك عشانها، انت عارف صافي كانت مع كام واحد قبلك، وأنا اللي ما رضيتش أقولك، كنت فاكرها نزوة وهتعدي في حياتك، صافي اللي حاولت معايا لكنها مش نوعي، عشان كده ما رضيتش بيها، وقبل ما تقولي محترمة، طب رد عليا الأول اي اللي يخلي واحدة محترمة تبقى في شلة زي شلتنا، وانت عارف إن مفيش واحد فينا عنده ذرة اخلاق !!

كانت الكلمات تنغرس في صدر إياد كسكاكين، والحيرة تتسلل إلى قلبه شيئاً فشيئاً، بينما هشام يواصل، دون رحمة :

صافي مش ملاك زي ما انت فاكر، دي واحدة كدبت على أهلها وراحت أماكن زبالة من وراهم، وقابلت شاب غريب في السر ونامت معاه من غير حتى ورقة جواز عرفي، مش بعيد تكون عايزة تشيلك الليلة عشان تضمن إنها تلاقي حد يتجوزها، ويستر على فضيحتها، ومالقيتش غيرك انت تستغفله لأنك بالبلدي كده ما تعرفش عنها أي حاجة

رفع هشام حاجبيه بخبث، ثم أضاف :

وعلى فكرة بقى، الليلة اللي انتوا الاتنين كنتوا فيها مع بعض، ميرا كلمتني وقالتلي إن كل ده حصل بالاتفاق مع صافي، تقدر تكلم ميرا دلوقتي وتسألها، هتقولك نفس كلامي، هتقولك إنها اتفقت على كل ده مع صافي عشان توقعك وتتجوزها من غير ما تشك فيها، انت أصلاً مالمستهاش ولا غلطت معاها، كل اللي حصل إنك قربت منها وما كملتش للآخر، والفيديو معاك تقدر تشوفه، يعني الموضوع كله كان كام لمسة على كام بو……فمش مستاهلة تتجوز واحدة زيها ماشية على حل شعرها، اي اللي مخليك بتجري وراها بالشكل ده مع ان المحترمين كتير ويتمنوا ضفرك !!

وقف إياد مذهولاً، عيناه تهتزان، وصوته يكاد يختنق، وهو يقول بصعوبة شديدة :

بحبها

تشنج فك هشام، وانفجرت نبرة الغضب في صوته :

انت هتستهبل، بتضحك عليا ولا على نفسك، حب ايه وزفت اي، دي واحدة شوفتها كام مرة، لا تعرف عنها حاجة ولا هي تعرف عنك حاجة، حب إيه اللي بتتكلم عنه، دي واحدة عجبتك، مجرد إعجاب وهيروح مع الوقت، يعني مش عشان شوية اعجاب حسيت بيهم، تخسر حياتك

اقترب منه أكثر، وصوته تحول إلى همس مسموم :

لو استنيت هنا أبوها مش هيرحمك، وهتبقى ضيعت نفسك على واحدة ما تستاهلش، انت ماغلطتش معاها ولا قربت منها، لو عايز الدليل أقدر أجيبه ليك دلوقتي حالاً، اتصل بميرا واسألها، اللي حصل يومها، هتقوللك كل حاجة ميرا جت قالتلي لأننا بنحب بعض، وهي عمرها ما هتخبي عني حاجة زي دي

ثم وضع يده على كتف إياد، وقال بمكر :

اسمع كلام أبوك وسافر، لحد ما الوضع يهدى، ونشوف الأمور هترسى على اي؟!!

تضاربت المشاعر بداخل اياد كبحرٍ هائج، لم يعد قادرًا على التمييز بين الحقيقة والوهم، وبين الحب والخداع فتمتم بصوتٍ خفيض :

كدب…..صافي مش كده

ابتسم هشام بسخرية، وقال :

ده اللي انت نفسك فيه، لكن صافي مش ملاك، دي شيطانة زي ما ضحكت على أهلها سهل تضحك عليك، واحدة حطت أهلها في موقف زي ده، مستني منها تعمل إيه معاك انت، وإيه اللي يضمنلك إنها ماتعملش كده بعد الجواز، ما تخليش قعدتك في الغرب تنسيك إنك من مجتمع شرقي، اللي زي صافي يتمشي معاهم…….انما تتجوزهم لأ يا بن عمي

تنفس إياد بصعوبة، صدره يعلو ويهبط بعنف، اخذ يمرر يده على وجهه المرتبك، كانت الكلمات تدور في رأسه كدوامة سوداء، تخنق صوته وتكسر يقينه، وفي لحظة استسلام غائمة، دخل غرفته، جمع بعض ثيابه !!!

بخطواتٍ غاضبة خرج إياد من الفيلا، خاصة بعد إصرار والده على سفره وإبعاده عن كل ما يحدث، أما هشام، فلم يكن يتوقع أن يأمر عمه بمرافقته لإياد، في البداية، كاد ان يرفض، لكنه تراجع فورًا حتى لا يثير الشكوك، ولكي يضمن بنفسه أن إياد سيغادر فعلًا ولن يعود مجددًا……..

خطته كانت واضحة، رسمها جيدًا في ذهنه، سيسافر معه بمجرد أن يطمئن أن إياد لم يعد له طريق للرجوع، سيعود هو إلى البلاد فورًا، فهناك تنتظره مرحلة أخرى من لعبته الخبيثة

سيفتح الطريق أمام نفسه أولًا ويُبعد إياد عن المشهد تمامًا، ثم يتفرغ لإكمال مخططه، بعد صافي، سيأتي الدور على عمه جلال، ثم التركة، ثم المال……وصافي ستكون له وحده

كما أقنع نفسه !!

همس له شيطانه بأن يتخلص من والده بعد كل هذا، لتصفو الساحة كاملة بين يديه، فيستمتع بكل شيء بلا منازع، وكم راقت له تلك الفكرة !!!!

على درج الطائرة، تجمد إياد في مكانه،

تسلل إلى ذاكرته يوم وطئت قدماه القاهرة لأول مرة منذ أكثر من شهر…..

اجتاحه حينها شعور بأنه على وشك أن يختبر تجارب لم يسبق له أن عاشها من قبل،

كان قلبه حينها ينبض بقوة، وشغف……يأمل بحياة جديدة مليئة بالسعادة رغم انه اظهر عكس ذلك

لكن الآن…..

فالنبض ذاته يرتعش رعبًا،

ويتخبط كقلبٍ يبحث عن يقين بين الشك والخذلان

لم يكن الخوف من الرحيل،

بل من الحقيقة التي يهرب منها…..

الحقيقة التي لم تخص صافي يومًا، بل تسكن داخله هو

كان يخشى أن يرى نفسه عاريًا أمام اختياره،

أن يكتشف أن ضعفه كان هو السكين، لا كلمات هشام

كان بإمكانه أن يستدير،

أن يواجه…..

أن يصغي لقلبه بدل أن يسجن روحه داخل قيد الشك..

أن يضع نفسه أمام الحقيقة بدل أن يركض خلف وهم أمانٍ زائف، لكنّه آثر الهرب،

هرب ليس من صافي……بل من نفسه

أغمض عينيه، تنفس بعمقٍ يشبه شهقة وداع، ثم صعد الطائرة

تركها خلفه تواجه العاصفة وحدها،

تركها، وكأنّه يعاقبها على خطيئة لم يثبتها……

ولا حتى تيقن من وجُودها !!

مضى……

وصوت قلبه يئن في صدره،

وظلال الندم تزحف خلفه قبل أن يُولَد الندم نفسه

مضى وهو لا يعلم أن بعض القرارات لا تغادرنا……

بل تظل تُحاكمنا ما حيينا !!!!

…………

في المساء، كانت عشق في غرفتها، عاقدة حاجبيها بغضب، تتذكر كل كلمة قالها حمزة لها عندما كانوا جميعًا بالمستشفى اليوم

عودة بالزمن لساعات قليلة مضت……

نزلت عشق إلى المرحاض لتغسل وجهها، تزيل الدموع التي غرقت وجنتيها، محاولةً أن تمحو أثر الحزن الذي أثقل قلبها على خالها، وعلى صافي، وعلى كل الأحداث التي نزلت عليهم كالمطر……الكوارث لا تنتهي

حين خرجت، فوجئت بـ حمزة واقفاً عند الممر، عينيه تحملان نظرات كلها مكراً وتهديداً، أثار ذلك اشمئزازها وغضبها في آن واحد، حاولت تجاهله والمشي، لكنه اعترض طريقها وقال بنبرة تهديد صريحة :

لآخر مرة بقولك يا عشق، خلي الموافقة تيجي منك بالحسنى أحسن، ودي آخر مرة هسألك فيها عن ردك

ردت عشق بنبرة مزيج من الغضب والاحتقار :

انت لو كان عندك دم أصلاً ماكنتش جيت وسألتني تاني، لو عندك دم كنت راعيت حال عمك اللي بين الحياة والموت، مش عارفين إيه اللي هيحصله، لو عندك دم كنت راعيت ان أخوك بيحبني، واحد غيرك كان حس على دمه وخلى عنده شوية نخوة، بس هقول إيه……الاحساس ده نعمة

شعر حمزة بالغضب، وارتجف من شدة الانفعال، وعيناه كادت ان تفتك بها من شدة الحقد، قائلاً بنبرة كلها وعيد :

هتندمي يا عشق……وحياة أمي، لهتندمي على كلامك ده

ردت عليه عشق ببرود وتحدي :

طب وحياة الست الوالدة، انت ما تعرف تعمل حاجة يا حمزة، لو فاكر إني هفضل ساكتة كتير، ده انت تبقى غلطان أوي، انا لو اتكلمت، وحكيت عمايلك، مفيش بيت في العيلة هيبص في وشك، وهتتطرد من وسطنا كلنا، ده غير اللي ممكن تشوفه على إيد أبوك وأبويا وأخواتي كلهم، ياريت بقى تحس على دمك شويه وتراعي إن أنا بنت عمتك وتعمل حساب للقرابة…….ده لو كنت بتحس من اصله!!!

قالتها، ودفعت كتفه بيدها، ومشت بعيداً، بقي حمزة واقفاً، متوعداً، لكنه لم يستطع إنكار شعورٍ خفيف من تأنيب الضمير تجاه ما سيفعل، لكنه بعد كلامها صار يعرف أنه لن يفعل سوى ما أمرته به والدته !!!!!

………..

في إحدى الدول الأوروبية، بأحدي غرف الفندق الفخم…..

وقف كنوح خلف الشرفة الزجاجية، يطل على المدينة وأضوائها المتلألئة، بعينين تغرقان في الشرود، كل نفس يتنفسه يذكر ه بـ قمر، وبما فعل فيها، قلبه كان يئن من الألم، لكن في الوقت نفسه يرى نفسه مظلوماً، يعتقد أنه لم يخطئ، وأنه كان يأخذ حق والده المتوفي!!!

تذكر نوح كل لحظة جمعته بها، كل ضحكة، كل همس، كل نفسٍ عايشاه معاً، ومع كل ذكرى، كان قلبه يؤلمه أكثر وأكثر وجع مختلط بين الندم والشوق والحنين…..

يتمنى لو يستطيع رؤيتها، لو يستطيع احتضانها، لكنه يعلم ان بعد ما فعله، لن تسامحه، وهو ايضًا لن يرضى بها مهما حدث فهي ابنة الشخص الذي قتل والده

رغم كل شيء، انتصر الشوق عليه، انتصر الحنين لرؤيتها، للحديث معها، للحظة صغيرة تجمعهما مرة أخرى، قبض على هاتفه بيده، وأمر سكرتيرته الخاصة بحجز أول طائرة متجهة إلى مصر !!

كل خطوة كان يخطوها نحو العودة كانت مدفوعة بشوقٍ لا يمكن مقاومته، رغم كل القيود، رغم كل المنطق، رغم كل الألم، ومع ذلك لم يتراجع عن ما سيفعله بوالدها ما ان يعود لمصر !!!





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى