Uncategorized

رواية ما ذنب الحب الفصل الخامس عشر 15 بقلم شهد الشوري – تحميل الرواية pdf


دخلت غنوة بيت خالتها باشتياق كبير، ما إن لمحتها خالتها حتى هرعت إليها واحتضنتها، تبعتها حبيبة بذراعين واسعتين، ثم محمود بابتسامة محبة دافئة، وأخيرًا دينا التي قفزت عليها بمرح طفولي، تعالت الضحكات، وامتلأ المكان بالدفء

بعد وقت من الترحيب والضحكات، سحبتها حبيبة من يدها إلى الغرفة، أغلقت الباب خلفهما، ثم وقفت أمامها تنظر إليها قائلة بنبرة مشككة، وحاجباها معقودان قليلًا :

مالك يا بت، فيكي حاجة متغيرة، شكلك مش طبيعي

ارتبكت غنوة، وتشبثت بابتسامة خفيفة لا تعلم كيف ظهرت على شفتيها، ثم تمتمت :

مالي يعني يا حبيبة، ما أنا زي الفل قدامك اهو

حركت حبيبة رأسها، وقالت بتوجس :

اطلعي من دول يا بت، عنيكي بتلمع، وبتضحكي من غير سبب، وبتلمسي شعرك كل شوية كإنك في إعلان شامبو، ووشك مورد بس مش صحة لا كسوف، فيكي حاجة غريبة يا بت مش مريحاني

تخلت غنوة عن التهرب، وانفرجت شفتيها بضحكة خافتة خجولة، ثم بدأت تحكي…..

حكت عن مشوراهم الغير مخطط له، عن السينما والضحك، مدينة الألعاب، وعن طمأنينة لم تفهمها

كانت الكلمات تخرج منها كطفلة صغيرة، اكتشفت لونًا جديدًا في الدنيا

استمعت حبيبة حتى النهاية بصمتٍ لا يشبه الصمت، كان مزيجًا من تفكير وخوف ودهشة، وما إن انتهت غنوة، ارتسم الغضب على ملامح حبيبة وهي تقول باستنكار :

طب وإنتي شايفة إن ده صح، يا غنوة إنتي خرجتي مع واحد من الصبح لحد بالليل، سينما وملاهي وأكل، وشرب

هو مين مروان ده أصلًا، يقربلك اي عشان يقضي معاكي يوم كامل بالشكل ده، اليوم كله على بعضه باللي بتحكيه ده مفيش فيه حاجة تفرح يا غنوة

سقطت كلماتها على غنوة كالرصاص، ارتخت كتفاها، وهبطت عيناها للأرض كأنها تبحث فيها عن تبرير، كانت تدرك أن بين الفرح والخطأ شعرة، وأن قلبها ربما اندفع أكثر مما يجب…..

تمتمت غنوة بصوتٍ خافت :

بس، والله كانت خروجة بريئة، ما حصلش فيها حاجة خالص

نظرت إليها حبيبة طويلًا، نظرة خوف على قلب يتفتح قبل أوانه، وفي تلك اللحظة، شعرت غنوة وكأن يومها الجميل وُضع على الميزان جهة تحمل السعادة البريئة، وأخرى تحمل سؤالًا كبيرًا عن الثقة والخطوة والخطأ، والصواب……

بين الميزانين، نبضة خجولة تسأل نفسها للمرة الأولى

هل كان اليوم لحظة فرح……أم بداية لشيء آخر !!!!!

ردت عليها حبيبة بنبرة حادة، وقد انعقدت ملامحها بغضبٍ نابع من الخوف عليها :

بلاش تبريرات، بطلي تقاوحي في الغلط اللي راكبك من ساسك لراسك، ولو اللي عملتيه ده صح اطلعي احكي لخالتك كل العك ده عشان تنسل شبشبها عليكي، إيه يا بت، عيشتك مع الذوات هتنسيكي اللي اتربيتي عليه ولا إيه

اظبطي نفسك وارجعي لعقلك، أحسن أقسم بالله أروح أخليهم يرفدوكي وتيجي تترزعي جنبنا هنا، بلا شغل بلا هم

ساد صمت ثقيل لثوانٍ، وبدت غنوة تحارب دمعة خفيفة كادت ان تنساب منها، تنفست ببطء ثم رفعت عينيها نحو حبيبة وهمست بخجل وحيرة :

تفتكري، هو بيعمل كده ليه معايا يا حبيبة…..؟!

تنهدت حبيبة بعمق، ولانت ملامحها قليلًا، وفهمت ما تشعر به ابنة خالتها الآن، وانتابها الخوف الشديد عليها :

غنوة، اللي اسمه مروان ده مش من توبنا، واللي زيهم، شعورهم تجاه اللي زينا، شفقة وعطف مش حب، مش أول واحد يقولك كلمة حلوة تتعلقي بيه وتفكري إنه بيحبك،

إنتي كبرتي ولازم تفهمي الدنيا، ولازم تبقي عارفة ان الدنيا دي عاملة زي الغابة، اللي اسمه مروان ده وارد جدًا انه يكون بيلعب بيكي، وممكن كمان يكون شايفك زي أخته

بلاش تتعشمي وتوجعي قلبك، حطيتي درس ليكي، وخديني عبرة ليكي

ضحكت بسخرية مريرة تخفي خلفها جرحًا قديمًا وهي تتابع :

عيشت معاه عمر كامل، وفي الآخر رماني في الشارع، مفيش راجل ليه أمان، افهمي دي كويس، مفيش راجل هيطبطب عليكي إلا لو ليه مصلحة عندك

تساقطت الكلمات على قلب غنوة كالحجارة، لكن رغم ذلك قالت بثقة :

مش كلهم كده يا حبيبة، صدقيني، أنا شوفت الست حياة وجوزها، الله يستره محتار يعملها إيه من حبه فيها، وهي بتحلف بيه، تشوفيهم تحسي الحب كده بيطلع من عينيهم ده غير ذوقه في التعامل معاها، الدنيا دي فيها الحلو وفيها الوحش

لوحت حبيبة بيدها بضيق وقالت :

مع اللي زينا، بيظهر الوحش بس، ع العموم خدي بالك حرسي منه، ومن أي حد، قلبك غالي، وانتي غالية، والغالي ما يتاخدش بالساهل، مش أي كلمة ولا شوية اهتمام يخلوكي تسلمي قلبك يا غنوة

أومأت غنوة بشرود، فتركتها حبيبة وخرجت، تمنحها فرصة لتبدل ثيابها !!!

بعد قليل، تمددت غنوة بجانبها في الفراش، تحدثتا طويلًا، ثم ساد الصمت مع حلول الليل، غفت حبيبة، وبقيت غنوة مستيقظة، تحدق في الفراغ بعينين أثقلهما التفكير

قلبها ينبض بقوة، وعقلها يعيد ذكريات اليوم أمامها كأنها فيلم لا تريده أن ينتهي

تذكرت ضحكاتهما، وصوت الألعاب، ونظراته لها…..

تلك النظرات التي لم تحمل نفورًا، بل دهشة واهتمامًا جعلوها تكتشف جمالًا داخلها لم تره من قبل

تذكرت الوردة الحمراء التي أعطاها لها قبل أن يُنزلها أمام البيت، بل وثبتها بجانب اذنها، وردة جعلت قلبها يرتجف كأنه يُولد من جديد للحياة

ظل قلبها ينبض سريعًا، وراح عقلها يعيد تفاصيل اليوم يحفرها كذكرى لا تُنسى، كأنها تخشى أن تستيقظ غدًا فتكتشف أن كل ما حدث كان حلمًا

نامت أخيرًا، وعيناها ما زالت تحمل أثر ابتسامة خجولة، وروحها تتمنى، بل تتوسل ألا يكون هذا اليوم هو الأخير من نوعه في حياتها !!!!!!!

…..………

في اليوم التالي، داخل أروقة المستشفى الهادئة، كان القلق يكسو الوجوه، والأنفاس محملة بثقل الخوف والدعاء، الجميع اجتمعوا للاطمئنان على آدم الذي لا يزال تحت رعاية الأطباء بالعناية المركزة، بعضهم وقف مترقبًا أمام باب الغرفة، وآخرون افترشوا مقاعد الكافيتريا، بينما لجأ البعض إلى الحديقة الخاصة بالمستشفى بحثًا عن الهواء والسكينة

اثناء هذا الانشغال، استغل يونس الفرصة، واقترب من قمر بهدوء، يقودها نحو طاولة في زاوية حديقة المستشفى، بعيدًا عن العيون، جلس أمامها ونظراته جادة، وصوته خرج خفيض مليء بالحزن، والحيرة :

في الظروف اللي احنا فيها دي، صعب نتكلم في موضوع الجواز، ونوح قرب يرجع، ومفيش وقت خالص

انقبض قلب قمر، وارتجفت أصابعها فوق الطاولة، كانت عيناها زائغتين، وصوتها خرج متحشرجًا بالخوف :

يونس، انا مش عايزة بابا يحصله زي ما حصل لأونكل آدم، بالله عليك ساعدني، أنا مانمتش طول الليل، ومش عارفة أعمل ايه….خايفة…..خايفة اوي يا يونس

نظر إليها يونس طويلًا، صمت للحظة، بداخله صراع لا يهدأ،

الوجع في قلبه حقيقيًّا، والخوف عليها أصدق مما يبوح به، لكن جراح ما فعلته بنفسها، لم تلتئم بعد، ومع ذلك، خرج صوته ثابتًا، دافئًا رغم الألم :

ماتقلقيش يا قمر، في كل الأحوال، ورق الجواز العرفي اللي نوح كان ماسكه أنا أخدته وحرقته زي ما قولتلك، لو قال أي حاجة، عمي أدهم أكيد ثقته فيكي كبيرة، مش كلمتين من واحد زبالة زيه هيصدقهم، ولو هو راجل بجد خليه يثبت كلامه ده

ثم تابعت قمر بخوفٍ أكبر، ويديها تشبثتا بطرف الطاولة :

طب ولو بابا صدق، لو معاه حاجة تانية تثبت كلامه هعمل ايه ساعتها يا يونس؟!

تنفس يونس بعمق، ومسح وجهه بكفيه، وهو يقول بحيرة :

احنا مانقدرش ناخد أي خطوة دلوقتي، جوازنا في الوقت ده هيخلي أبوكي يشك ويصدق كل كلمة يقولها نوح، سيبي الموضوع ده عليا، وانا هتصرف، وهمنع الزفت ده يوصللك بأي طريقة…….

قاطع حديثه، صوت يحمل مكرًا سامًا، نبرة مألوفة كانت يومًا ما تسكن قلبها حبًا، أما الآن فلا تُنذر إلا بالخوف والذعر !!

تجمدت قمر مكانها، وشحب وجهها كأن الدم انسحب من عروقها دفعة واحدة، ارتجفت كل خلية في جسدها حين سمعت صوته خلفها :

امنعني دلوقتي لو تقدر

استدارت ببطء، والرهبة تتملكها، لتجد نوح واقفًا خلفهم، عيناه تحملان نارًا غامضة لا تُفهم، خليطًا من ألم وغل وجرح غائر لم يلتئم، عيناه تعلقتا بها، وبريق غريب ظهر بداخلهما…. بقايا حب أم حقد مكتوم……؟!!

كان يراها ترتعش منه، كأنها ترى شيطانًا لا بشرًا، ورغم قسوة قلبه الآن، إلا أن نظرة خوفها طعنته بقسوة…..

هل صار هو مصدر الرعب لمن أحبها يومًا….؟!

هل اختفى الحب من عينيها تمامًا ليحل مكانه هذا الخوف الوحشي، شعورٌ مُوجع، أقسى مما توقع، لكن الكِبر والظلام لم يسمحا له بالتراجع عما فعله !!!!

أما قمر، فكانت تحدق فيه بعينين مليئتين بالرعب، لم ترى أمامها ذلك الشاب الذي أحبّته يومًا…..

بل وحشًا سرق منها طمأنينتها، وجعل ليلها جحيمًا، وها هو يعود ليكمل ما بدأه

اقترب نوح خطوة، فارتدت هي للخلف، حتى تقف خلف يونس تحتمي به، وهو بدوره تقدم واقفًا كدرع أمامها، يتقد الغضب في عينيه، وكأنه على وشك الانفجار، ثم التفت إليها سريعًا، وخرج صوته آمرًا حادًا :

اطلعي لفوق، يالا

هزت رأسها بخوف وبدأت تتحرك، لكن يد نوح امتدت فجأة وأمسكت معصمها، لكن صرخة شقت المكان، صرخة خوف حقيقي، مفزع، جعلت الأرض ترتعش تحت أقدامهم، اندفع يونس كالنار، أمسك يد نوح بعنف وأبعدها، ثم هوت قبضته على وجهه بقوة تفجرت من قلب يغلي غيرةً وغضبًا !!

ارتد نوح ثم رد اللكمة بأخرى، واندلع الشجار كالعاصفة بين الاثنان، صراع عنيف……وغضبٌ لا يعرف رحمة

كانت قمر تبكي بقوة، جسدها يرتجف، لا تعرف ماذا تفعل، ولا كيف تنقذ نفسها ؟؟

في تلك اللحظة اندفع يوسف من خلفها، وعيناه اتسعتا من الصدمة حين رأى المنظر، واللكمات المتطايرة بين يونس ونوح، وقمر التي تكاد تنهار، أسرع يجذب يونس بعيدًا عن نوح قائلاً بذهول :

ايه اللي بيحصل، انتوا اتجننتوا….؟!

اجتمع موظفو المستشفى ومرضاه على المشهد، لكن يوسف زجرهم بعنف وصرفهم، ثم التفت لقمر، يحاول تهدئتها وهي ترتجف كالورقة :

في إيه يا قمر؟ مالك؟!

كان يونس ما زال يزمجر بنظرات مشتعلة، ونوح يقف أمامه، صدره يعلو ويهبط، عيناه مشتعلة غضبًا ووجعًا دفينًا، ولا أحد منهما يستطيع التراجع

عادا يتقدمان نحو بعضهما، معركة جديدة توشك أن تنفجر لولا الصوت الذي جاء من خلفهما صارمًا :

ايه اللي بيحصل هنا….؟!

انه أدهم، الذي نزل من الطابق العلوي، بوجه متعب، ليرى ابنته ترتجف كالطفلة، واثنين يتصارعان أمامها كذئبين !!!

تفاقم الارتجاف في جسد قمر، وملامحها وجهها بدت شاحبة، دفع يوسف يونس بعيدًا عن نوح، فتنفس يونس بحدة قبل أن يلمح حالة قمر، فهرع نحوها، يجلسها على الكرسي برفق رغم الغضب الذي كان يشتعل فيه قبل ثوانٍ !!

ـ يوسف….هاتلها مية بسرعة

قالها يونس بصوت متوتر، يحمل قلقًا حقيقيًا، بينما قمر كانت تتنفس بصعوبة، صدرها يعلو ويهبط بعنف وكأن الخوف أطبق على رئتيها ومنعها من الهواء !!

اقترب أدهم بخطوات متسارعة، وجهه شاحب من الصدمة والقلق، ومد يده يلامس كتف ابنته بخوف وقلق :

مالك يا بنتي، فيكي اي، انتي كويسة

لكنها لم تجبه، عيناها تائهة، ودموعها تهطل في صمت، وذعر

تقدم نوح منها خطوة، وملامحه تحولت من الغضب للقلق، وصوته خرج خافتًا، مشوشًا :

قمر، انتي كويسة؟

رفع يونس رأسه إليه بنظرة قرف وكراهية، قبل أن يصرخ أدهم بحدة، وغضب شديد :

ابعد عن بنتي وغور من هنا

توقف نوح مكانه، قدميه لم تتحركا، كانت عيناه معلقتين بقمر، وكأن شيئًا ما يتحطم بداخله مع كل دمعةٍ تسقط منها

تدخل يونس سريعًا، وخرج صوته ثابت لكنه محمل بالتوتر:

عمي، خلينا ناخدها فوق، عشان الدكتور يطمنا عليها

أومأ أدهم بلهفة، واحتضن ابنته من كتفها يقودها برفق، بينما يوسف ويونس يتبعانهما، وقبل أن يتحرك يونس، التفت إلى نوح وألقى عليه نظرة قاسية لا تحتمل تفسيرًا، نظرة تعِدُ بحرب !!!!!

بينما نوح ظل واقفًا في مكانه للحظات، وكأنه استيقظ فجأة من وهمٍ طويل، لم يعد يتذكر سبب قدومه، لم يفكر إلا في قمر وحالتها، في الارتجاف، والذعر بعينيها، في أنه لم يعد سبب أمانها، بل صار مصدر رعبها، غادر ببطء لكن عقله بقى هنا معها، ليس فقط عقله بل قلبه الذي يعشقها رغم كل شيء

……….

في الطابق العلوي

اجتمعوا حول قمر في غرفة كبيرة، أنفاسها ما تزال تتسارع، كأن الخوف يلتهمها من الداخل، حاول الجميع تهدئتها، يربتون على يدها، يقدمون الماء، يمسحون دموعها، لكن الخوف جاثم على صدرها، لا يغادر

ارتجف قلب أدهم، دموعه انسابت في صمت، وهو يحتضن يدها ويقربها من صدره كأنها آخر أمان يملكه في الدنيا

بقيت على هذا الحال دقائق طويلة حتى بدأت تستقر قليلًا، فخرج الجميع واحدًا تلو الآخر لتركها ترتاح

بعد قليل، وقف يونس خارج الغرفة مع أدهم قائلاً بهدوء :

عمي أدهم، أنا فاهم إن الوقت مش مناسب، وإن الكلام ده مايصحش دلوقتي، بس نوح مش ناوي على خير، نظراته كلها شر، وناوي يأذي قمر لأنها بعدت عنه وعرفت حقيقته وكشفته

صمت للحظة، ثم خرج صوته مليئًا بالقلق :

وأنا خايف، خايف قلبها يحن ليه وترجعله، وده واحد مالهوش أمان زي ما حضرتك عارف

ثم تابع بهدوء :

انا عارف ان الوقت مايسمحش، لكن ع الأقل ممكن لما نطمن على صحة عمي ادم، نكتب الكتاب علطول لحد ما الظروف تتحسن ونعمل احتفال، وفرح كبير، انا عارف ان قمر تستاهل تفرح وسط الكل وانا هعوضها بس لما الامور في العيلة تتحسن، وفي الأول والآخر دي كلها شكليات نقدر نستغنى عنها مقابل منفعة كبيرة

نظر إليه أدهم طويلاً، ثم سأله فجأة وبدون مقدمات :

ايه اللي يخليك تقبل بتتجوز بنتي يا يونس وانت عارف ان قلبها مع غيرك، وممكن تحن ليه زي ما بتقول…..؟!!

ارتبك يونس للحظة، لكن بالأخير خرج صوته صادقًا يفيض بما يحمله في قلبه لها :

عشان بعشق التراب اللي بتمشي عليه، يمكن كلامي يبان مبالغة، بس دي الحقيقة، عمري ما حبيت غيرها، ولا قدرت أشوف حد غيرها، حتى بعد ما عرفت بحبها لنوح حاولت أنساها، بس مانسيتش، ولقيت نفسي بحبها اكتر، قولت يمكن حب مراهقة وهيروح لحاله بس ما راحش، انا مهما حاولت انساها ومهما حاولت ابعد، بقع في حبها اكتر

لم يستطع أدهم منع ابتسامة فخر خفيفة ارتسمت على شفتيه، لكنه ما زال حبيس قلق أبٍ لا تكتمل رؤيته، فاقترب قليلًا منه وسأله بصوتٍ خفيض :

بنتي فيها إيه يا يونس، انا عارف إنها حكتلك، لكن انت مخبي عليا زيها

حبس يونس أنفاسه، ونظر للأرض قبل أن يردد بهدوء مصطنع، يخفي خلفه عاصفة :

بنتك بخير يا عمي، ومافيهاش حاجة، اللي بنمر بيه كلنا مأثر عليها مش اكتر، هتبقى كويسة إن شاء الله

ثم رفع عينيه إليه بثبات، وقال بهدوء :

لو سمحت يا عمي فكر كويس في اللي قولتله لحضرتك، ورد عليا في اقرب وقت

كان يونس قد ذهب، تاركًا أدهم واقفًا في الممر، نظراته معلقة على باب غرفة ابنته، وقلبه يعتصره القلق والحيرة

في الجهة المقابلة، كان إلياس واقفًا يتابع كل شيء من بعيد، تقدم بخطوات هادئة حتى وقف بجانب أدهم، وأسند ظهره إلى الحائط، وصوته خرج هادئًا لكن ثابتًا :

ابني وبنتك مخبيين حاجة يا أدهم

التفت أدهم إليه بحدة قلقة، بينما أكمل إلياس دون أن ينظر إليه، كأنه يستدعي ذكريات بعيدة منذ زمن :

فاكر أيام زمان؟

ساد الصمت لثوانٍ، قبل أن يتنهد كلاهما في الوقت نفسه، كأن الحنين باغتهما معًا، ابتسم إلياس بخفة، وقال :

اتوجعنا فيها كتير اوي، اتوجعنا ووجعنا، كل واحد فينا عاش حياته زي ما اختارها، صحيح معظم اختيارتنا كانت غلط لكن كلنا اتعلمنا منها…….

رفع أدهم عينيه إليه، وصوته خرج مليئًا بالقلق :

عاوز تقول إيه يا إلياس؟

أجابه إلياس بهدوء :

عاوز أقولك إن أولادنا كبروا، سيبهم يتعلموا بنفسهم، أنا واثق إن ابني هيصون بنتك، وإنت واثق إن بنتك مستحيل تغلط، طالما مفيش حاجة حرام ولا حاجة من ورانا، يبقى نسيبهم يتحملوا نتيجة اختيارهم يا أدهم !!

حدق أدهم فيه بغضب، وقال بحدة :

يعني أرمي بنتي وأقول تتعلم يا إلياس….؟!

حرك إلياس رأسه بثبات قائلاً :

انا ماقولتش كده يا أدهم، اسمعني للآخر، أنا اقصد ان احنا نوجههم نعرفهم عواقب الخطوة دي، وايه مميزاتها، وايه عيوبها، ونسيبهم هما يختاروا ويقرروا بنفسهم، سيبهم وفي نفس الوقت عينك عليهم، واتدخل في الوقت المناسب، عند اللزوم يعني يا أدهم !!

ثم تابع بمرح وغرور محبب :

وبعدين انا واثق ان ابني هيخليها تحبه وتدوب فيه دوب

حاول أدهم يكتم انفعاله، لكن ضحكة خفيفة ساخرة خرجت رغماً عنه، فتابع إلياس بثقة :

متخافش يا أدهم، ابني قدها وقدود، وهيحافظ عليها، ووعد مني هحط بنتك في عيني ولو ابني في يوم غلط فيها، ساعاتها حقها انا اللي هجيبه منه بنفسي

رد عليه أدهم بضيق، وهو رأسه يكاد ينفجر من الصداع :

طب ليه يونس يظلم نفسه، وليه قمر تتجوزه وهي مش بتحبه، انا خايف على بنتي من الوجع يا إلياس

أجابه إلياس بهدوء :

الوجع بيقوي يا أدهم، ومفيش حد مات من وجع الحب، سيب بنتك تختار، عشان ماتجيش يوم وتلومك إنك اخترت ليها طريقها

اخفض أدهم رأسه، وتنهيدة ثقيلة خرجت من بين شفتيه،

نظر لابنته من فتحة الباب، رآها على السرير، عينيها مغلقتين لكن ارتجاف رموشها يفضح خوفًا لم يهدأ بعد، كان قلبه يتمزق عليها، بين حماية أب، وبين ضرورة أن يتركها تقف وحدها لأول مرة

لكن عقله لم يهدأ إلا حين عاد إلى زوجته، وحكى لها، كانت كلمتها الأخيرة هي الحسم، ونبرة صوتها امتلأت بنضج المرأة التي تعرف الحياة جيدًا :

الياس معاه حق يا أدهم

رفعت يدها تضعها على ذراعه بحب :

بنتك ضعيفة، لأننا حميناها بزيادة يا أدهم، جه الوقت انها تواجه الدنيا، بس مش لوحدها، تحت عيونا، وانت عارف اني عمري ما هلاقي لبنتي حد أحسن من يونس

ثم اقتربت منه أكثر وهمست بثبات :

اتكل على الله يا أدهم، بس مش دلوقتي، نستنى آدم يفوق الأول، وبعدها كل حاجة تتحل في وقتها، ولينا قاعدة تانية مع بنتنا قبل ما نقرر

حرك أدهم رأسه، وما زال صدره يعلو ويهبط بثقل كبير، اقتنع بكلامها نوعًا ما لكن قلبه، ما زال يرفض…..!!!!!

مر الوقت ببطءٍ ثقيل، كأنه يحمل على كتفيه كل ما دار قبل ساعات من جدل وحيرة

جلست قمر على طرف السرير، ويونس إلى جوارها، يحكي لها حديثه مع والدها، وما ان أنتهى قال بهدوء :

انا هحاول على قد ما أقدر امنع نوح إنه يقرب من والدك الفترة دي، وهحاول اشغله لحد ما الموضوع يتم

أومأت قمر بصمت، وللمرة الأولى مدت يدها بحذر وأمسكت بكف يونس، وقالت بدموع مهددة بالسقوط في أي وقت :

انا متشكرة اوي يا يونس على كل حاجة، وآسفة…..آسفة إني دخلتك في الموضوع ده، وإنك هتتدبس في جوازة من واحدة زيي

كانت عينا يونس معلقتين بها، نظرةٌ امتلأت بحُب دام كتمانه سنين، حبٍ متراكمٍ في صدره حتى ضاق به، فلم يجد سبيلًا لإظهاره ولا قدرة على كتمانه، ابتسم بخفة، ومال نحوها قليلًا وهو يقول بنبرة هادئة، صادقة حد الوجع :

تدبيسة، طب والله دي أحلى تدبيسة حصلتلي في حياتي،

ياريت كل التدبيسات تبقى كده

ارتبكت قمر، وارتسمت على وجهها ابتسامة خجولة، ظنت الأمر مزاحًا، دعابةً يطلقها كما اعتاد، فقهقهت بخفوت، شهقة صغيرة خرجت من صدرها المتعب كأنها للتو تُعيد لالتقاط أنفاسها بعد خوفٍ طويل أثقل قلبها

تابع يونس حديثه معها، ينسج حولها دفئًا خفيفًا كي يهدئ ارتجافها، يسألها عن ذكريات طفولتهما، يروي لها طرفةً، يعلق على شيءٍ تافهٍ في الغرفة……

أي شيء يُبعد ذهنها عن صدمتِها الأخيرة وعن الرعب العالق في عينيها، يخشى عليها حتى من نفسها، يخاف من تلك النظرة الشاردة التي تهرب فجأة، وتغرق بها بعيدًا !!

عند الباب، وقف إلياس يتابعهما بصمت، إحدى يديه في جيبه، والرضا يتسرب إلى ملامحه شيئًا فشيئًا

ابتسامة خفيفة ارتسمت على محياه، تحمل مزيجًا من الدهشةٍ والفخر……والطمأنينة

لم يكن يرى أمامه مجرد ابنٍ مع فتاةٍ يحبها

بل كان يشهد غرق قلبٍ في العشق، انسياب روحٍ نحو أخرى بلا تردد، ونبضًا اختار طريقه دون استئذان

هناك، خلف نظراته الهادئة، كان قلب أبٍ يدعو في صمت

أن يُكتب لهذا الحب أن يكتمل،

أن يحفظ القدر تلك الملامح المضيئة من أي انكسار

فالحب حين يسكن الأبناء

يمتد الفرح في صدور الآباء أضعافًا !!

………….

امتلأت القلوب بفرح خافت، فرحٍ شاحبٍ ومرهقٍ بعد أيامٍ طويلة استعاد فيها آدم عافيته أخيرًا، لكنه أبى أن يبقى في المستشفى لحظة إضافية، وقرر إكمال علاجه في الفيلا

كان الصمت يُحيط به كجدارٍ صلب، يرد بكلماتٍ مقتضبة، نظراته تُطفئ كل محاولة للاطمئنان عليه

أما زينة، فجلست بجواره تحمل وجعًا مماثلًا، صمتٌ خانق، عيون لا تعرف سوى الخزي والانكسار !!

وجعٌ ما بعده وجع، جرحٌ لا يُشفى، وكل ذلك بسبب ابنتهما، بسبب الموقف الذي وضعتهما فيه، ورغم كل هذا الألم، ظل في قلب آدم بصيص أمل…..

أملٌ بأن تقسم له ابنته حين يخرج أنها لم تخطئ، أنها لم تُلطخ اسمه وسمعته، انها لم تحني ظهره، وأن الفيديو مركب وليس حقيقي

لكن كلما تذكر صمت ابنه ياسين ونظرات غضبه عند ذكر اسم ابنته، كلما صارت الحقيقة كخنجرٍ في قلبه، ابنته حقًا أخطأت، الفيديو لم يكن خداعًا كما تمنى !!!!!

دخل آدم الفيلا بخطواتٍ ثقيلة، وما ان رأته صافي اندفعت نحوه تركض، فلم تستطع الاحتمال أكثر كانت في حاجة لطمأنينته، لحنانه، لسنده الذي لطالما حماها……

تريد ان تطمئن عليه، لكن آدم لم يبادلها العناق، ولم يلتفت لها في الأساس، بل صعد الدرج بصمتٍ يُمزق القلوب

عم الصمت، حزنٌ ثقيل خيم على الجميع، لا أحد يدري ما يقول، ولا كيف يصلح ما انكسر

بعد وقتٍ طويل، وقفت صافي أمام والدها، بعدما غادرت عائلة إلياس، وسارة، وكذلك أدهم، لم يبقى إلا الأخوة الخمسة وابنائهم !!

الخوف ينهش قلبها، تتمنى لو تبتلعها الأرض، اياد لا يجيب اتصالاتها منذ أيام، رفع آدم عينيه إليها وسأل بهدوءٍ أربك الجميع ؛

حصل حاجة بينك وبين ابن جلال الخولي؟؟

صمتت، وانهارت دموعها قهرًا وألمًا، تتمنى لو تستطيع الدفاع عن نفسها، لكن الكلمات خانتها، والواقع كان أقسى من قدرتها على الكلام

تدخّلت مهرة، ونبرة السخرية تقطر من صوتها :

هتتكلم تقول ايه، ما الجواب باين من عنوانه

لكن أوس قاطعها قائلاً بنظرة قاسية حادة :

مهرة

صمتت مهرة مُجبرة، تخفي فرحةً خبيثة في عينها

اقتربت صافي من أبيها خطوة، وقالت بصوتٍ متحشرج، مختنق بالدموع، والألم :

اياد بيحبني يا بابا، وكان مستعد يتجوزني من بكره لو حضرتك وافقت، اللي حصل كان…….

لكن صوت أخيها قطعها كالسيف، وهو يقول بنفور ومقت منها بسبب ما فعلته بهم، وبنفسها :

حبيب القلب اللي بيحبك ومستعد يتجوزك

هرب بره مصر أول ما عرفنا حقيقته، هرب وسابك بعد ما أخد كل اللي هو عاوزه منك، وعنده حق مين يتجوز واحدة رخصت نفسها ليه زيك

هل سمع أحدٌ الآن صوت قلبها وهو يتحطم…؟!

هل رأى أحدٌ روحها وهي تتلاشى…؟!

دمها انسحب من عروقها كأن الحياة تهجرها، نظرت حولها فوجدت مزيجًا قاتلًا من الشفقة والخذلان والغضب……

نظراتهم خنقتها أكثر مما قد تفعل الكلمات

لم تحتمل، بل تهاوت أرضًا فاقدة الوعي، تتمنى ألا تستيقظ أبدًا، تتمنى أن تكون هذه نهاية الحكاية، فالموت أهون من العيش في ظل هذا العار، وهذا الوجع المُهلك !!!

………….

خارج البلاد، كان إياد جالسًا في ركنٍ معتم من ذلك البار الفخم، يرتشف الكأس تلو الآخر وكأن الخمر وحده قادرٌ على إطفاء النيران التي تشتعل داخله، محاولاته للنسيان باءت بالفشل، فطيفها كان حاضراً، يطارد عقله وذاكرته ولا يرحل

هشام عاد إلى مصر صباحًا، ولم يبقى هنا سواه، محاصرًا بحرسٍ أمر بهم والده خشية أن يتهور ويعود، فيجد آدم الطريق مفتوحًا لينتقم منه

الكحول أثقلت جفونه وأربكت خطواته، حتى لم يعد يرى بوضوح، اقتربت منه فتاة فاتنة، عيناها تلمعان بالإغواء، يدها امتدت تلامس ذراعه بخفة…..ورغبة !!

لكنه لم يكن لها، قلبه هناك، مع تلك التي تركها وراءه، مع الوجع الذي لم يبرأ تلك الصدمة التي مزقته حين اكتشف حقيقتها — أو هكذا أقنع نفسه — خيانة، طيش، تلاعب تمامًا كما فعلت والدته يومًا

عجز عن استيعاب خديعتها أو خديعته لنفسه، نهض مترنحًا، أبعدها عنه بقسوة، ومضى نحو الخارج بلا توازن، تبعته الفتاة ودخلت سيارته عنوة، والحراس ظنوها من طرفه فلم يمنعوها !!!

بعد وقت، كانت تمسك بيده وتساعده على دخول غرفته في الفندق، اقتربت منه بلا حياء، بلا تردد……

بينما كان هو غائبًا عن وعيه، يرى فيها صورة صافي، لبرهةٍ بدا أنها هي، أنها عادت إليه، أنها أمامه أخيرًا، اقترب منها كمن يهرب من نفسه إليها، سلك الطريق الذي وعدها ان يهجره لأجلها، ووعدها ألا يخلفه……..

ليتها رأته الآن،

ليتها لم تراهن على قلبٍ هش لا يُجيد سوى الهرب

ليتها لم تؤمن بشخصٍ لا يؤمن حتى بنفسه،

وليته لم يكذب حين وعد، وليت الوعد لم يُقال أصلًا !!!

يتبع………

السادس عشر من هنا





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى