مكتملة – رواية فى فم الجنون – أفلام سكس مصري محارم جديد

الفصل الأول: الغرفة البيضاء
الجدران بيضاء، ناعمة كالوسائد، لكنها ليست مريحة. إنها تخنق، تبتلع الصوت، وتجعل كل همسة تبدو وكأنها صادرة من فراغ. في وسط هذه الغرفة المبطنة، يجلس جون ترينت، محقق التأمين الخاص الذي كان يومًا ما رمزًا للثقة بالنفس والمنطق الحاد. الآن، يرتدي سترة المجانين، ذلك القميص الأبيض الضيق الذي يقيد ذراعيه، كما لو أن العالم قرر أن عقله أصبح خطرًا يجب احتواؤه. عيناه، اللتين كانتا يومًا تلمعان بدهاء المحقق، محمومتان الآن، تلتمعان بمزيج من الرعب واليأس. شعره الأسود المبعثر يلتصق بجبهته المبللة بالعرق، وصوته، عندما يتحدث، يرتجف كأنه يحاول كسر جدار من الزجاج.
“أنا لست مجنونًا!” يصرخ ترينت، لكن الكلمات ترتد إليه، مكتومة، كما لو أن الغرفة ترفض أن تترك صوته يهرب. أمامه يجلس طبيب نفسي، رجل هادئ بعيون باردة كالفولاذ، يرتدي معطفًا أبيض يعكس بياض الجدران. الطبيب لا يتحدث، فقط يدون ملاحظات على لوح كتابة، وقلمه يصدر صوت خدش خافت، الصوت الوحيد الذي يخترق صمت الغرفة. ترينت يميل إلى الأمام، وسترته تصدر صريرًا خافتًا، محاولًا إقناع الطبيب – أو ربما نفسه – بأن ما سيرويه ليس وهمًا. “كل شيء بدأ بقضية بسيطة… قضية تأمين سخيفة!” يقول، وصوته يتحول إلى ضحكة مريرة، كأنه يسخر من سذاجته السابقة.
الغرفة نفسها تبدو كائنًا حيًا، كما لو أنها تراقب ترينت. الإضاءة الفلورسنتية الباردة تلقي ظلالاً خافتة على الجدران المبطنة، مما يجعلها تبدو وكأنها تتحرك ببطء، تتنفس. لا نوافذ، لا ساعة، لا شيء يربط هذا المكان بالعالم الخارجي. الزمن هنا متوقف، أو ربما مشوه، كأن الغرفة موجودة خارج الواقع نفسه. ترينت يشعر بذلك، رغم أنه لا يستطيع تفسيره. هناك رائحة خافتة في الهواء، مزيج من المطهرات الطبية وشيء آخر… شيء معدني، كالدم القديم. يحاول ترينت أن يتجاهلها، لكنه لا يستطيع التخلص من الشعور بأن الغرفة تعرف شيئًا لا يعرفه.
يبدأ ترينت في سرد قصته، وكأن الكلمات هي حبله الأخير للتشبث بالعقلانية. يتحدث عن الأيام التي كان فيها رجلًا مختلفًا، محققًا يعتمد على غريزته الحادة ومنطقه الذي لا يتزعزع. كان يومًا ما سيد الكشف عن الحيل، رجلًا يستطيع أن يرى من خلال أكاذيب الناس، سواء كانت عمليات احتيال تأمينية أو خدع دعائية. “كنت أعرف كيف أقرأ الناس،” يقول، وهو ينظر إلى الطبيب بنظرة تحدٍ، كما لو أن هذه الكلمات يمكن أن تعيد له هويته المفقودة. “كنت أعرف متى يكذبون، متى يخفون شيئًا. لكن هذه القضية… هذه القضية كانت مختلفة.”
بينما يتحدث، يظهر وميض من ذكرياته السابقة. يتذكر شوارع نيويورك الصاخبة، صوت بوق السيارات، رائحة القهوة الرخيصة من المقاهي الصغيرة التي كان يتردد عليها. كان رجلًا يعيش في عالم ملموس، حيث كل شيء له تفسير منطقي. لكنه الآن، في هذه الغرفة، يشعر وكأن ذلك العالم لم يكن موجودًا أبدًا. الطبيب يميل إلى الأمام قليلاً، وقلمه يتوقف عن الكتابة للحظة. “وكيف بدأت هذه القضية؟” يسأل الطبيب بصوت هادئ، لكنه يحمل نبرة فضول غامضة.
ترينت يتوقف، ينظر إلى الجدران البيضاء، كما لو أنها قد تبتلعه إذا استمر في الكلام. ثم يتنفس بعمق، ويبدأ في سرد القصة من البداية: دعوة من شركة نشر، اسم كاتب غامض يُدعى ساتر كين، وكتاب يُقال إنه يدفع قراءه إلى الجنون. لكنه، قبل أن يغرق في التفاصيل، يشعر بشيء غريب. صوت خافت، كأنه همس، يتسلل من الجدران. ليس صوتًا بشريًا، بل شيء أعمق، أكثر بدائية، كأن الغرفة نفسها تحاول التحدث. ترينت يهز رأسه، محاولًا تجاهل الصوت، لكنه يعلم أن هذا الهمس ليس جديدًا. لقد سمعه من قبل… في هوبز إند.
“كل شيء بدأ بقضية بسيطة،” يكرر، وصوته يصبح أقوى، كما لو أنه يحاول إقناع نفسه. “لكنها لم تكن بسيطة أبدًا.” الكلمات تتدفق الآن، وكأنها تحرر شيئًا بداخله. الغرفة البيضاء تتلاشى تدريجيًا، ويبدأ عقل ترينت في العودة إلى تلك الأيام، إلى اللحظة التي تلقى فيها المهمة التي غيرت كل شيء. لكن حتى وهو يروي، يظل هناك شعور مقلق يتسلل إلى قلبه: ماذا لو كانت هذه الغرفة ليست نهاية القصة، بل بدايتها؟
الفصل الثاني: المهمة الغامضة
شوارع نيويورك تنبض بالحياة، كأنها كائن حي يتنفس الدخان والضوضاء. أصوات بوق السيارات تتردد كنشيد حضري، وروائح القهوة المحروقة من عربات الطعام تمتزج برائحة الأسفلت المبلل بعد زخة مطر صباحية. في هذا العالم المزدحم، يتحرك جون ترينت بثقة المحقق الذي يعرف قواعد اللعبة. ملابسه بسيطة لكن أنيقة – معطف ترنش رمادي، ربطة عنق مفكوكة قليلاً، وسيجارة تدخن ببطء بين أصابعه. عيناه الحادتين تفحصان كل شيء: وجوه المارة، لافتات المتاجر، وحتى الظلال التي تلقيها ناطحات السحاب. ترينت ليس مجرد محقق تأمين، بل صياد أكاذيب، رجل يستطيع شم الخداع من مسافة أميال. لكنه اليوم، وهو يسير في شارع مزدحم في مانهاتن، يشعر بشيء غريب – شعور خفيف بالقلق، كأن عينًا غير مرئية تراقبه.
الدعوة جاءته في وقت متأخر من الليلة السابقة، مكالمة هاتفية قصيرة من رجل يتحدث بنبرة هادئة لكن آمرة. “شركة أركين للنشر تطلب خدماتك، السيد ترينت. الأمر عاجل.” لم يكن هناك تفاصيل إضافية، فقط عنوان مبنى شاهق في قلب المدينة وعرض مالي لا يُرفض. ترينت، الذي اعتاد على التعامل مع عمليات احتيال تأمينية صغيرة – حرائق متعمدة، سرقات مزيفة – شعر بإثارة خفيفة. قضية كبرى من شركة نشر؟ ربما تكون فرصته للعب في الدوري الكبير.
يدخل ترينت مبنى أركين للنشر، وهو ناطحة سحاب زجاجية تعكس سماء نيويورك الرمادية. الردهة فخمة، أرضيات رخامية تلمع تحت الإضاءة الدافئة، وجدران مزينة بأغلفة كتب ملونة تحمل اسمًا واحدًا: ساتر كين. اسم الكاتب يتردد في ذهن ترينت وهو يصعد المصعد إلى الطابق الأربعين. ساتر كين، كاتب الرعب الأشهر في العالم، الرجل الذي تفوقت رواياته على مبيعات ستيفن كينج وجعلت الملايين يهلوسون بعوالم مليئة بالمخلوقات الكونية والمدن المنسية. ترينت لم يقرأ كتابًا لكين من قبل – “أنا لا أهتم بالخيال،” كان يقول دائمًا – لكنه سمع الشائعات: قراء يفقدون عقولهم، أشخاص يهاجمون غرباء بعد قراءة فصول معينة، وهمسات عن طقوس غريبة مرتبطة بكتبه.
في مكتب فخم مزين بالخشب الداكن والنوافذ الممتدة من الأرض إلى السقف، يقابل ترينت جاكسون هارغلو، المدير التنفيذي لشركة أركين. هارغلو رجل في أواخر الخمسينيات، أنيق بشكل لافت، يرتدي بدلة مصممة خصيصًا ونظارة ذهبية تجعل عينيه تبدوان كأنهما تخفيان سرًا. يتحدث بنبرة هادئة لكن حازمة، كأنه رجل اعتاد أن يُطاع. “السيد ترينت،” يبدأ هارغلو، وهو يميل إلى الأمام على مكتبه الضخم، “لدينا مشكلة تتطلب مهاراتك الفريدة.” يشرح هارغلو أن ساتر كين، نجم الشركة الذهبي، اختفى فجأة قبل تسليم مخطوطة روايته الجديدة، في فم الجنون. هذا الكتاب، بحسب هارغلو، هو الأكثر توقعًا في مسيرة كين، واختفاؤه يهدد بإحداث أزمة مالية للشركة. “ربما يكون هذا مجرد خدعة دعائية،” يقول هارغلو بابتسامة خفيفة، لكن عينيه لا تبتسمان. “لكننا بحاجة إلى التأكد.”
ترينت يميل إلى الخلف في كرسيه، ويضيء سيجارة أخرى، متجاهلاً نظرة الاستياء الخفيفة على وجه هارغلو. “إذن، تريدونني أن أجد كاتبكم الهارب؟” يسأل، وسخريته واضحة في نبرته. بالنسبة له، الأمر يبدو كلعبة تسويقية ذكية. كين ربما مختبئ في مكان ما، يضحك وهو يراقب الضجة التي يسببها اختفاؤه. لكن هارغلو يواصل، موضحًا أن الأمر أكثر تعقيدًا. هناك تقارير عن قراء أصيبوا بالهوس، أشخاص يدعون أنهم رأوا مخلوقات من كتب كين في الحياة الواقعية. ترينت يرفض هذه الفكرة بضحكة قصيرة. “الناس يحبون المبالغة. الكتب لا تجعل الناس مجانين، السيد هارغلو. الملل يفعل ذلك.”
هارغلو لا يرد مباشرة. بدلاً من ذلك، يقدم ترينت إلى ليندا ستايلز، محررة أعمال كين، التي ستكون شريكته في المهمة. تدخل ليندا المكتب، امرأة في الثلاثينيات، ذات شعر أسود طويل وعينين تلمعان بحماس غريب. ملابسها بسيطة لكن أنيقة، لكن هناك شيء في طريقتها – حركاتها السريعة، الطريقة التي تتحدث بها عن كين وكأنه إله – يجعل ترينت يشعر بعدم الارتياح. “أنا أعرف كل شيء عن ساتر كين،” تقول ليندا بنبرة شبه متدينة. “كتبه ليست مجرد قصص. إنها… عوالم.” ترينت يرفع حاجبًا، ويسخر داخليًا. “عوالم، أليس كذلك؟” يقول بابتسامة ماكرة. “حسنًا، دعينا نجد هذا الرجل ونعيده إلى الواقع.”
لكن بينما يغادر المكتب مع ليندا، يشعر ترينت بشيء غريب يتسلل إلى قلبه. صوت هارغلو لا يزال يتردد في أذنيه، خاصة عندما قال، “ابحث عنه، السيد ترينت. لكن كن حذرًا. كتب كين… لها تأثير.” الشارع خارج المبنى يبدو طبيعيًا، لكن ترينت يلاحظ شيئًا غريبًا: رجل عجوز يقف عند زاوية الشارع، يحمل كتابًا بغلاف أسود، يحدق في ترينت بنظرة فارغة. عندما يمر ترينت بجانبه، يهمس الرجل بشيء غير مفهوم، شيء يشبه “هوبز إند”. ترينت يتجاهل الهمس، لكنه لا يستطيع التخلص من الشعور بأن هذه المهمة لن تكون عادية.
الفصل الثالث: البحث عن هوبز إند
السيارة القديمة، وهي سيدان سوداء متهالكة استأجرها ترينت للرحلة، تقطع الطريق الريفي المظلم بصوت محركها الرتيب. المصابيح الأمامية ترسم خطين ضيقين من الضوء في الظلام، كأنها تحاول اختراق ستار من الضباب الذي بدأ يتكاثف ببطء. جون ترينت يجلس خلف المقود، أصابعه مشدودة على عجلة القيادة، وسيجارته المعتادة تتوهج بين شفتيه. الدخان يتصاعد في دوامات خفيفة داخل السيارة، مضيفًا رائحة مريرة إلى الهواء الراكد. بجانبه، في مقعد الراكب، تجلس ليندا ستايلز، منكبة على مجموعة من كتب ساتر كين المتناثرة على ركبتيها. عيناها تتحركان بسرعة عبر الصفحات، كأنها تبحث عن كنز مدفون في السطور.
“هوبز إند ليست مجرد مكان في كتب كين،” تقول ليندا، صوتها يحمل نبرة حماس مقلقة. “إنها حقيقية. أنا متأكدة من ذلك.” ترينت يلقي نظرة جانبية عليها، حاجباه مرفوعان بسخرية. “حقيقية؟” يرد، وهو ينفث سحابة دخان. “إنها بلدة خيالية، ليندا. مجرد حبر على ورق. مثل أتلانتس أو بلاد الأوز.” لكن ليندا لا ترد مباشرة. بدلاً من ذلك، تفتح أحد الكتب وتبدأ في قراءة مقطع بصوت منخفض، كأنها تتلو تعويذة: “في هوبز إند، حيث الظلال تتحرك من تلقاء نفسها، والكنيسة السوداء تقف كحارس لأسرار لا يمكن للعقل البشري فهمها…” ترينت يقاطعها، “كفى عن هذا الهراء الأدبي. أخبريني، كيف سنعثر على كين إذا كنا نبحث عن مدينة لا وجود لها؟”
ليندا تغلق الكتاب بحركة حادة، وعيناها تلمعان بنظرة غريبة، كأنها ترى شيئًا لا يراه ترينت. “الأدلة موجودة في كتبه،” تقول. “أسماء الشوارع، الجسور، حتى الأشجار التي يصفها… كلها تشير إلى مكان في نيو إنجلاند.” تفتح خريطة ورقية متهالكة، مغطاة بخطوط حبر أحمر تربط بين ملاحظات مكتوبة بخط يدها. “إذا تتبعنا هذه الأدلة، سنجد هوبز إند. وهناك، سنجد كين.” ترينت يهز رأسه، متذمرًا. “هذه مضيعة للوقت. ربما يكون كين مختبئًا في شاليه في سويسرا، يضحك على هذه المسرحية بأكملها.” لكنه، رغم سخريته، يوافق على متابعة خطتها. الأجر الذي وعده هارغلو كبير بما يكفي لتحمل هذا الجنون المؤقت.
الطريق الريفي يبدو وكأنه يمتد إلى الأبد. الأشجار على جانبي الطريق طويلة ومشوهة، فروعها تتشابك فوق السيارة كأيدٍ تحاول الإمساك بهما. الضباب يزداد كثافة، يتحول إلى ستار أبيض يبتلع المشهد. المصابيح الأمامية بالكاد تستطيع اختراقه، والعالم خارج السيارة يصبح مجرد ظلال غامضة. ترينت يشعر بقلق غامض يتسلل إلى صدره، شعور لا يستطيع تفسيره. هو ليس من النوع الذي يخاف بسهولة – لقد واجه محتالين ومجرمين في شوارع نيويورك دون أن يرمش – لكن هناك شيء في هذا الطريق، في هذا الضباب، يجعله يشعر وكأنه يقود إلى حافة العالم.
“هل سمعت ذلك؟” تسأل ليندا فجأة، وهي تميل إلى الأمام، أذناها متيقظتان. ترينت يتوقف عن التدخين للحظة. “سمعت ماذا؟” يرد، لكنه يشعر بتغير في الهواء. هناك صوت خافت، كأنه همس بعيد، يتسلل من الضباب. ليس صوتًا بشريًا، بل شيء أعمق، أكثر بدائية، مثل صوت الريح وهي تمر عبر كهف قديم. ترينت يهز رأسه، محاولًا تجاهل الشعور. “إنه مجرد الريح،” يقول، لكنه يشد قبضته على المقود. ليندا لا تبدو مقتنعة. “إنه ليس الريح،” تهمس، وهي تنظر إلى الضباب كأنها تتوقع أن ترى شيئًا يخرج منه.
السيارة تمر عبر جسر قديم، ألواحه الخشبية تصدر صريرًا تحت وزن الإطارات. ترينت يلاحظ لافتة صدئة على جانب الطريق، بالكاد مرئية في الضباب: “هوبز إند – 10 أميال.” يتوقف قلبه للحظة. “هذا مستحيل،” يتمتم. “هوبز إند ليست موجودة.” ليندا تنظر إليه، وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها. “أخبرتك، جون. إنها حقيقية.” صوتها يحمل نبرة انتصار، لكن هناك شيء آخر فيه – شيء يشبه الخوف المكبوت. ترينت يحاول أن يضحك، لكنه يخرج كتأوه خافت. الطريق يبدو أطول الآن، والضباب يصبح أكثر كثافة، كأنه يحاول إخفاء شيء لا يريد ترينت رؤيته.
فجأة، يظهر ضوء أحمر خافت في الأفق، كأنه عين تراقبهما من بعيد. ترينت يتباطأ، قلبه ينبض بسرعة. “ما هذا؟” يسأل، لكن ليندا لا تجيب. بدلاً من ذلك، تمسك بكتاب كين بقوة، كأنها تتشبث به كطوق نجاة. الضوء يتلاشى ببطء، وكأنه لم يكن موجودًا أبدًا، لكن الشعور بالقلق يتفاقم في صدر ترينت. الطريق أمامهما يبدو وكأنه ينحني بطريقة غريبة، كأنه يقودهما إلى مكان لم يكن من المفترض أن يصلا إليه. “سنصل قريبًا،” تهمس ليندا، وصوتها يحمل نبرة غريبة، كأنها تعرف ما ينتظرهما. ترينت لا يرد. بدلاً من ذلك، يضغط على دواسة الوقود، محاولًا الهروب من الشعور بأن الواقع نفسه بدأ يتشقق.
الفصل الرابع: النفق إلى الجنون
السيارة تندفع عبر الطريق الريفي، محركها يزمجر في الظلام كوحش جريح. الضباب، الذي كان يكتنف الطريق مثل شبح متلصص، بدأ يتلاشى قليلاً، لكنه ترك وراءه شعورًا بالضيق، كأن الهواء نفسه أصبح أثقل. جون ترينت يجلس خلف المقود، عيناه مثبتتان على الطريق، لكن أفكاره مشتتة. الهمس الغامض الذي سمعه قبل قليل، والضوء الأحمر الذي لمحته ليندا في الأفق، يظلان عالقين في ذهنه مثل شظايا حلم مزعج. بجانبه، ليندا ستايلز صامتة الآن، لكن يدها تمسك بكتاب ساتر كين بقوة، كأنها تخشى أن يختفي. الخريطة المتهالكة ملقاة على لوحة القيادة، خطوطها الحمراء تشبه خريطة كنز، أو ربما خريطة مصيدة.
فجأة، يظهر أمامهما فوهة نفق، كأنها فم مفتوح في الجبل. النفق مظلم، جدرانه الخرسانية المتشققة مغطاة بطبقة من الطحالب الرطبة، وكأنها لم تُرَ منذ عقود. لا توجد لافتات تشير إلى النفق، ولا إضاءة تدل على وجوده. ترينت يتباطأ غريزيًا، وقلبه ينبض بقوة. “هل هذا موجود على الخريطة؟” يسأل، صوته يحمل نبرة شك. ليندا تنظر إلى الخريطة، ثم إلى النفق، وتهز رأسها ببطء. “لا… لكن يجب أن نمر منه.” صوتها هادئ، لكنه يحمل نبرة غريبة، كأنها تعرف شيئًا لا تريد البوح به. ترينت يحدق فيها للحظة، ثم يعود بنظره إلى النفق. “حسنًا،” يتمتم، وهو يضغط على دواسة الوقود، “لنرَ ما وراء هذا الشيء.”
السيارة تدخل النفق، والظلام يبتلعها كما لو أن العالم الخارجي قد اختفى. المصابيح الأمامية تضيء بضعف، وكأن الضوء نفسه يرفض اختراق هذا الفراغ. الجدران الداخلية للنفق تبدو غريبة، مغطاة بنقوش غامضة – خطوط متعرجة وأشكال هندسية تبدو وكأنها تنبض بحياة خافتة. ترينت يشعر ببرودة مفاجئة، كأن درجة الحرارة انخفضت فجأة. صوت المحرك يتغير، يصبح أعمق، كأنه صدى يتردد في كهف لا نهائي. “هذا المكان يعطيني شعورًا سيئًا،” يقول ترينت، محاولًا كسر الصمت المقلق. ليندا لا تجيب، لكن عينيها مثبتتان على الجدران، كأنها ترى شيئًا في النقوش لا يراه هو.
ثم، فجأة، يظهر ضوء خافت في نهاية النفق. ترينت يسرع، متلهفًا للخروج من هذا المكان الخانق. لكن عندما تخرج السيارة من النفق، يتجمد. أمامهما، تحت سماء زرقاء غريبة مائلة إلى الأرجواني، تقف لافتة ترحيبية متهالكة مكتوب عليها: “مرحبًا بكم في هوبز إند”. الحروف الحمراء على اللافتة تبدو وكأنها مكتوبة بدم متجمد، وبعضها مشوه كأن يدًا غير بشرية حاولت محوها. ترينت يتوقف عن التنفس للحظة. “هذا مستحيل،” يهمس، وهو ينظر إلى اللافتة ثم إلى ليندا. “قلت لك إنها حقيقية،” ترد ليندا، وصوتها يحمل نبرة انتصار ممزوجة بالرهبة. عيناها تلمعان بحماس غريب، كأنها وصلت أخيرًا إلى مكان كانت تبحث عنه طوال حياتها.
البلدة التي تظهر أمامهما تبدو وكأنها قفزت مباشرة من صفحات رواية ساتر كين. الشوارع ضيقة، مرصوفة بحجارة متآكلة، تصطف على جانبيها منازل خشبية قديمة ذات نوافذ مظلمة، كأنها عيون تراقب الغرباء. في وسط البلدة، ترتفع كنيسة سوداء مهيبة، برجها المدبب يخترق السماء مثل خنجر. الكنيسة تبدو كمركز ثقل للبلدة، كأن كل شيء يدور حولها. الهواء هنا مختلف – ثقيل، مشبع برائحة التراب الرطب وشيء آخر، شيء معدني يذكر ترينت برائحة الدم. الريح تهب برفق، لكنها تحمل صوتًا خافتًا، كأنه همس جماعي يتردد من بعيد.
ترينت يحاول إقناع نفسه بأن هذا مجرد تصميم ذكي. “ربما قام كين ببناء هذا المكان كجزء من خدعته الدعائية،” يقول، لكن صوته يفتقر إلى الثقة. ليندا، على النقيض، تبدو مفتونة. تنزل من السيارة وتقف أمام اللافتة، تمرر أصابعها على الحروف الحمراء كأنها تتذوق ملمسها. “هذا هو المكان، جون،” تقول، وصوتها يحمل نبرة شبه متدينة. “هنا حيث تبدأ قصص كين… وحيث تنتهي.” ترينت يشعر بقشعريرة تسري في جسده. هناك شيء في طريقة حديثها، في الطريقة التي تنظر بها إلى البلدة، يجعله يشعر وكأنها تعود إلى منزلها.
بينما يسيران في الشارع الرئيسي، يلاحظ ترينت سكان البلدة. رجل عجوز يقف أمام متجر صغير، عيناه زجاجيتان، كأنهما لا تريان شيئًا. امرأة تمشي ببطء، وجهها مغطى بوشاح، لكن ترينت يلمح شيئًا غريبًا – شيء يشبه الندوب أو القشور على بشرتها. ***** يتحركون في الظلال، يختفون خلف الزوايا بسرعة، لكن ترينت يشعر بنظراتهم تحرق ظهره. “هؤلاء الناس… هناك شيء غير صحيح فيهم،” يتمتم، لكن ليندا لا ترد. بدلاً من ذلك، تتجه نحو الكنيسة السوداء، كأن قوة غير مرئية تجذبها. ترينت يتبعها، قلبه ينبض بقوة، وهو يحاول تملك أعصابه. لكنه يعلم، في أعماقه، أن النفق لم يكن مجرد ممر – لقد كان بوابة، وهوبز إند ليست مجرد بلدة. إنها شيء آخر، شيء يتجاوز الواقع الذي يعرفه.
الفصل الخامس: أسرار هوبز إند
شوارع هوبز إند تنبض بهدوء مقلق، كأنها تحبس أنفاسها. الشمس، التي كانت تكافح لاختراق السماء الأرجوانية الغريبة، بدأت تغرب، تاركة خلفها ظلالاً طويلة تمتد عبر الشوارع المرصوفة كأصابع مخالب. جون ترينت يسير بحذر، حذاؤه يصدر صوت نقر خافت على الحجارة المتآكلة، بينما يتبعه ليندا ستايلز بخطوات خفيفة، كأنها تنجذب إلى شيء غير مرئي. عينا ترينت تفحصان كل زاوية، كل نافذة مظلمة، كل ظل يتحرك في الأفق. هو محقق، معتاد على اكتشاف الحيل، لكنه لا يستطيع التخلص من الشعور بأن هذه البلدة ليست مجرد مكان – إنها كائن حي، يراقبه، ينتظر.
يقرر الثنائي التوقف في فندق صغير في وسط البلدة، مبنى خشبي قديم بلافتة متأرجحة مكتوب عليها “فندق بيكمان” بحروف متشققة. المدخل مظلم، مضاء فقط بمصباح زيتي يتأرجح من السقف، يلقي ظلالاً متماوجة على الجدران. عند مكتب الاستقبال، تقف امرأة عجوز، وجهها متغضن كورقة قديمة، وعيناها غائرتان كما لو أنهما لم تريا النور منذ سنوات. “غرفة؟” تسأل بصوت أجش، كأنه يخرج من حنجرة لم تُستخدم منذ زمن. ترينت يومئ، محاولًا الحفاظ على هدوئه، لكنه يلاحظ شيئًا غريبًا: يد المرأة، وهي تمد له مفتاح الغرفة، مغطاة بندوب غريبة، تشبه القشور أو الحراشف. “مرحبًا بكم في هوبز إند،” تقول، وابتسامتها تبدو كشق في وجهها، كأنها تحاول تقليد عاطفة إنسانية دون أن تفهمها.
داخل الفندق، الجو خانق، مشبع برائحة الخشب الرطب والعفن. السلالم تصدر صريرًا تحت أقدامهما، والممرات ضيقة، مزينة بلوحات جدارية قديمة تصور مشاهد مقلقة: مخلوقات بأجسام مشوهة، ذات رؤوس متعددة وأطراف متلوية، تخرج من بوابات سوداء. ترينت يتوقف أمام إحدى اللوحات، قلبه ينبض بقوة. “هل هذه من كتب كين؟” يسأل، وهو ينظر إلى ليندا. هي تبتسم، لكن ابتسامتها ليست مطمئنة. “نعم،” تقول، وصوتها منخفض، شبه متدين. “هذه هي القدماء… الكائنات التي يكتب عنها كين. هم ليسوا مجرد خيال، جون.” ترينت يهز رأسه، محاولًا رفض الفكرة. “إنها مجرد رسومات، ليندا. دعينا نركز على العثور على كين.”
في غرفتهما، يحاول ترينت تنظيم أفكاره. يجلس على حافة سرير صلب، يفحص خريطة ليندا وملاحظاتها. لكنه لا يستطيع تجاهل الأصوات التي بدأت تتسلل إلى الغرفة مع حلول الليل. صوت خافت، كأنه خربشة، يأتي من الجدران، متبوعًا بهمس غير مفهوم، كأن أصواتًا متعددة تتحدث في وقت واحد. يقف ترينت، يمسك بمصباح يدوي صغير، ويفتش الغرفة، لكنه لا يجد شيئًا. “هل تسمعين هذا؟” يسأل ليندا، التي تجلس على كرسي قرب النافذة، تحدق في الخارج نحو الكنيسة السوداء. “إنه صوت البلدة،” تقول، وصوتها شارد، كأنها في حلم. “هوبز إند تتحدث إلينا.”
ليندا تبدأ في تلاوة مقطع من كتاب كين، دون أن تنظر إلى الصفحات: “في هوبز إند، حيث الزمن لا يسير كما ينبغي، والحقيقة تنهار تحت ثقل الأسرار القديمة…” صوتها يصبح أعمق، كأنها ليست هي من تتحدث. ترينت يشعر بقشعريرة تسري في جسده. “توقفي عن هذا،” يقاطعها بحدة. “أنتِ تبدين وكأنكِ تقرأين تعويذة.” لكن ليندا لا تتوقف. عيناها تلمعان بنور غريب، وهي تواصل التلاوة، كأن الكلمات تسيطر عليها. ترينت يمسك بكتفيها، يهزها بقوة. “ليندا، أصحي!” تصمت أخيرًا، لكنها تنظر إليه بنظرة غريبة، كأنها لا تعرفه.
في تلك الليلة، لا يستطيع ترينت النوم. الأصوات تتزايد، تصبح أكثر وضوحًا – همسات، ضحكات خافتة، وصوت خطوات ثقيلة تتردد في مكان ما خارج الفندق. يقف عند النافذة، ينظر إلى الكنيسة السوداء التي تلوح في الأفق كوحش نائم. ضوء أحمر خافت ينبعث من نوافذها، يومض بإيقاع غريب، كأنه نبض قلب. ترينت يحاول إقناع نفسه بأن كل هذا مجرد خدعة، ربما من تدبير كين نفسه. لكنه لا يستطيع تجاهل الشعور المتزايد بأن البلدة ليست مجرد مكان – إنها فخ، وهو وليندا محاصران بداخله.
فجأة، يسمع صوت طرق خافت على الباب. يفتحه بحذر، ليجد المرأة العجوز تقف هناك، تحمل صينية عليها كوب من القهوة. “للضيوف الجدد،” تقول، لكن عيناها لا تتحركان، كأنهما مثبتتان على نقطة بعيدة. ترينت يأخذ الكوب، لكنه يلاحظ شيئًا على يدها: رمز محفور، يشبه الرموز في لوحات الفندق. “ما هذا؟” يسأل، لكن المرأة تبتسم فقط، ثم تختفي في الظلام. ترينت يغلق الباب، قلبه ينبض بقوة. ينظر إلى الكوب، ويلاحظ أن السائل بداخله ليس قهوة – إنه أسود، كثيف، ويبدو وكأنه يتحرك. يرميه بعيدًا، وهو يدرك أن هوبز إند ليست مجرد بلدة. شيء ما يتحكم بها… وبه.
الفصل السادس: مواجهة ساتر كين
الكنيسة السوداء تقف في قلب هوبز إند كوحش نائم، جدرانها المصنوعة من حجر أسود لامع تمتص الضوء بدلاً من عكسه. برجها المدبب يخترق السماء الأرجوانية، كأنه إبرة تحيك نسيج الواقع نفسه. جون ترينت يقف أمام الباب الضخم للكنيسة، يده مترددة على المقبض الحديدي البارد. الريح تهب برفق، تحمل معها همسًا خافتًا، كأن أصواتًا غير بشرية تتردد في الظلال. بجانبه، ليندا ستايلز تبدو مختلفة – عيناها تلمعان بحماس غريب، وخطواتها واثقة، كأنها تعرف بالضبط ما ينتظرها داخل هذا المكان. “هنا حيث سنجده،” تهمس، وصوتها يحمل نبرة شبه متدينة. ترينت يشعر بقشعريرة تسري في جسده. “إذا كان كين هنا، فلننهِ هذه المهزلة بسرعة،” يقول، محاولًا إخفاء القلق الذي يتزايد في صدره.
الباب يفتح بصرير ثقيل، كأن الكنيسة نفسها تتنفس. الداخل مظلم، مضاء فقط بضوء أحمر خافت ينبعث من نافذة زجاجية ملونة في أعلى المذبح، تصور مخلوقًا ضخمًا بأذرع متلوية وأعين متعددة. الهواء بارد، مشبع برائحة العفن وشيء آخر – شيء معدني، يذكر ترينت برائحة الدم التي شمها في شوارع هوبز إند. الجدران مزينة بنقوش غريبة، خطوط متعرجة وأشكال هندسية تبدو وكأنها تتحرك عندما ينظر إليها لفترة طويلة. الأرضية من الحجر الأسود، وفي وسطها ممر طويل يؤدي إلى منصة مرتفعة، حيث يجلس رجل على كرسي يشبه العرش.
ساتر كين.
الكاتب لا يشبه أي رجل عادي. يجلس بثقة مخيفة، مرتديًا معطفًا أسود طويلاً يبدو وكأنه يمتص الضوء من حوله. وجهه شاحب، عيناه عميقتان ولامعتان، كأنهما بحيرات من الظلام السائل. شعره الأبيض الممشط إلى الخلف يعطيه مظهرًا شبه ملكي، لكن هناك شيء غير بشري في هيئته – كأنه ليس مجرد إنسان، بل تجسيد لشيء أكبر. “مرحبًا، السيد ترينت،” يقول كين، صوته عميق وهادئ، لكنه يحمل قوة تجعل الهواء يرتجف. “كنت أنتظرك.” ترينت يشعر بقلب ينبض بقوة. “كيف تعرف اسمي؟” يسأل، محاولًا الحفاظ على نبرة التحدي في صوته. كين يبتسم، ابتسامة باردة كالجليد. “أنا كتبتك، جون.”
ليندا تقف بجانب ترينت، لكنها تبدو مفتونة، عيناها مثبتتان على كين كأنه إله. ترينت يلقي نظرة جانبية عليها، ويلاحظ أن يديها ترتجفان قليلاً، لكن ليس من الخوف – بل من الإثارة. كين يشير إلى كرسي أمامه. “اجلسا،” يقول، وكأنه يدعوهما إلى طقس مقدس. ترينت يتردد، لكنه يجلس، محاولًا الحفاظ على هدوئه. “حسنًا، كين،” يقول بسخرية. “لننهِ هذه اللعبة. أين المخطوطة؟ ولماذا كل هذا المسرح؟” لكن كين لا يرد مباشرة. بدلاً من ذلك، يرفع يده، وكأنما بإشارة سحرية، تظهر مخطوطة سميكة على المنضدة أمامه. غلافها أسود، مكتوب عليه بخط دموي: في فم الجنون.
“اقرأها،” يقول كين، وصوته يحمل أمرًا لا يمكن عصيانه. ترينت يتردد، لكنه يفتح المخطوطة. الصفحات مكتوبة بخط يدوي متعرج، كأن الكلمات نفسها تحاول الزحف خارج الورق. مع كل سطر يقرأه، يشعر ترينت بقلبه يغرق. القصة تروي حياته – ليس فقط الأيام الأخيرة، بل كل لحظة: طفولته، قضاياه كمحقق، حتى أفكاره الداخلية وهو يقود سيارته إلى هوبز إند. يصل إلى صفحة تصف لحظته الحالية – هو، جالس في الكنيسة السوداء، يقرأ المخطوطة. “هذا مستحيل،” يهمس، ويده ترتجف وهو يغلق الكتاب. لكن كين يميل إلى الأمام، عيناه تلمعان بنور مخيف. “هل هو مستحيل حقًا، جون؟ أم أنك ببساطة لا تريد أن ترى الحقيقة؟”
كين يبدأ في الحديث، صوته يملأ الكنيسة كأنه يتردد من كل زاوية. “رواياتي ليست مجرد قصص،” يقول. “إنها بوابات. بوابات إلى عالم آخر، حيث القدماء – كائنات أقدم من الزمن نفسه – تنتظر العودة.” يشرح أن كتبه، بملايين القراء حول العالم، تعطي هذه الكائنات القوة لاختراق الواقع. “كل قارئ يؤمن بكلماتي يجعل الخيال أقرب إلى الحقيقة،” يقول، وابتسامته تتسع. “وأنت، جون، أنت الجزء الأخير من القصة.” ترينت يشعر بالرعب يتسلل إلى قلبه. “أنا لست شخصية في كتابك!” يصرخ، لكن صوته يتردد في الكنيسة دون أن يترك أثرًا.
ليندا، التي كانت صامتة، تنظر إلى كين بعيون مملوءة بالرهبة. “أنت تعلم، أليس كذلك؟” تقول، وصوتها يحمل نبرة استسلام. كين يومئ برأسه، كأنه يشاركها سرًا. ترينت ينظر إليها، ويدرك أنها لم تعد مجرد محررة – لقد أصبحت جزءًا من عالم كين، كأنها كتبت لتكون هنا. “ليندا،” يهمس، لكنها لا تنظر إليه. بدلاً من ذلك، تمشي نحو كين، كأنها منومة مغناطيسيًا. ترينت يشعر بالواقع يتشقق من حوله. المخطوطة، الكنيسة، كلمات كين – كلها تبدو وكأنها تتحكم به، تسحبه إلى هاوية لا يستطيع فهمها.
فجأة، يسمع صوتًا خافتًا من خلف المذبح – صوت خربشة، كأن شيئًا ضخمًا يتحرك في الظلام. الضوء الأحمر من النافذة الملونة يومض بإيقاع أسرع، كأنه نبض قلب كائن غير مرئي. ترينت ينظر إلى كين، الذي يبتسم بثقة مخيفة. “القدماء قادمون، جون،” يقول. “وأنت ستساعدهم.” ترينت يقفز من كرسيه، يمسك المخطوطة ويتراجع نحو الباب. “أنا لن أكون جزءًا من هذا!” يصرخ، لكن كين يضحك، ضحكة عميقة تملأ الكنيسة كرعد. “أنت بالفعل جزء منه،” يقول، وهو يشير إلى المخطوطة. “اقرأ النهاية، جون. إنها مكتوبة بالفعل.”
الفصل السابع: تحول ليندا
الليل في هوبز إند ليس كأي ليل آخر. الظلام هنا ليس مجرد غياب للضوء، بل كيان حي، يزحف عبر الشوارع ويتسلل إلى النوافذ، كأنه يهمس بأسرار لا ينبغي لأحد سماعها. جون ترينت يجلس على حافة السرير في غرفته بفندق بيكمان، المخطوطة السوداء لـفي فم الجنون ملقاة على المنضدة أمامه مثل قنبلة موقوتة. يده ترتجف وهو يحاول إشعال سيجارة جديدة، لكن النار ترفض الاشتعال، كأن الهواء نفسه يرفض التعاون. الغرفة باردة، رغم أن النافذة مغلقة، والأصوات التي سمعها في الليلة السابقة – الخربشة، الهمسات، خطوات ثقيلة – أصبحت الآن أعلى، أقرب، كأن شيئًا ما يتحرك داخل الجدران.
ليندا ستايلز لم تعد هي نفسها. منذ دخولهما الكنيسة السوداء والتقيا بساتر كين، بدأت تتغير. في البداية، كانت مجرد لمحات صغيرة: عيناها تلمعان بنور غريب، حركاتها أصبحت أكثر سلاسة، كأنها تنزلق بدلاً من المشي. لكن الآن، وهي تجلس في زاوية الغرفة، تحدق في الظلام خارج النافذة، هناك شيء مخيف فيها. وجهها شاحب أكثر من المعتاد، وعيناها – تلك العيون التي كانت يومًا مليئة بالحماس الأدبي – أصبحتا غريبتين، كأنهما تنظران إلى عالم آخر. الضوء الخافت من مصباح الزيت يلقي ظلالاً على وجهها، تكشف عن خطوط غريبة تحت بشرتها، كأنها أوردة سوداء تتحرك ببطء.
“ليندا،” يقول ترينت، محاولًا كسر الصمت المقلق. “نحن بحاجة إلى خطة. لا يمكننا البقاء هنا.” لكن ليندا لا ترد. بدلاً من ذلك، تنظر إليه ببطء، ورأسها يميل بزاوية غريبة، كأنها دمية يتحكم بها خيطان غير مرئية. “لماذا تريد المغادرة، جون؟” تسأل، وصوتها مختلف – أعمق، أكثر صدى، كأنه يتردد من مكان بعيد. “هذا هو المكان الذي يريده كين. هنا حيث تنتمي القصة.” ترينت يشعر بقلب ينبض بقوة. “ما الذي تتحدثين عنه؟” يسأل، لكنه يعرف، في أعماقه، أن شيئًا ما قد استولى عليها.
فجأة، تقف ليندا بحركة سريعة، غير طبيعية. تمشي نحو المنضدة، أصابعها تمتد نحو المخطوطة. “يجب أن نأخذها إلى العالم الخارجي،” تقول، وصوتها يحمل نبرة أمر. “كين يريدها أن تُقرأ. يريدها أن تنتشر.” ترينت يقفز من مكانه، يمسك المخطوطة قبل أن تصل إليها. “لا، ليندا!” يصرخ. “هذا الكتاب خطير. ألم تسمعي ما قاله كين؟ إنه يفتح بوابات!” لكن ليندا تنظر إليه، وعيناها الآن ليستا بشريتين – إنهما سوداوان بالكامل، كأنهما هاوية لا نهائية. “أنت لا تفهم، جون،” تقول، وهي تقترب منه. “أنا جزء من القصة الآن.”
بدون سابق إنذار، تهجم ليندا عليه. قوتها غير متوقعة، كأن شيئًا آخر يتحكم بجسدها. أصابعها، التي أصبحت الآن طويلة بشكل غريب وتنتهي بأظافر حادة، تمسك بمعطفه. “أعطني المخطوطة!” تصرخ، لكن صوتها ليس صوتها – إنه مزيج من أصوات متعددة، كأن جوقة من الكائنات تتحدث من خلالها. ترينت يدفعها بعيدًا، يتراجع نحو الباب، لكنه يتعثر على السجادة القديمة. يسقط المخطوطة، وتنزلق الصفحات عبر الأرضية، كأنها تحاول الهروب. ليندا تلتقطها، عيناها تلمعان بنور أحمر خافت، وتبتسم ابتسامة مخيفة. “لا يمكنك إيقاف القصة، جون،” تقول. “إنها مكتوبة بالفعل.”
ترينت، مذعورًا، يندفع خارج الغرفة، يركض عبر الممرات المظلمة للفندق. صوت خطوات ليندا يتبعه، لكنه ليس صوت أقدام بشرية – إنه صوت خربشة، كأن شيئًا ذا أطراف متعددة يزحف خلفه. يصل إلى الشارع، الظلام يغطي هوبز إند كستار سميك. يركض نحو السيارة، قلبه ينبض بقوة، ويحاول إشعال المحرك. لكنه، عندما ينظر إلى الخارج، يرى أشكالاً في الظلال – سكان البلدة، أو ما كانوا يومًا سكانًا، يتحركون ببطء نحوه، وجوههم مشوهة، عيونهم سوداء مثل عيون ليندا. المحرك يعمل أخيرًا، وترينت يضغط على دواسة الوقود، يقود بعيدًا عن البلدة، الطريق أمامه مضاء فقط بمصابيح السيارة.
لكن الطريق يخونه. يقود لساعات، أو ربما دقائق – الزمن هنا مشوه، لا يمكن قياسه. الضباب يعود، أكثر كثافة من قبل، والأشجار على جانبي الطريق تبدو وكأنها تتحرك، فروعها تمتد كأذرع. فجأة، يظهر ضوء أحمر خافت أمامه. ترينت يتباطأ، قلبه يغرق. إنها الكنيسة السوداء، تقف أمامه كما لو أنها لم تتركه أبدًا. يحاول تغيير الاتجاه، لكن الطريق ينحني، يعيده إلى نفس المكان. يحاول مرة أخرى، ومرة أخرى، لكن كل طريق يسلكه يقوده إلى الكنيسة. الرعب يسيطر عليه الآن. “هذا مستحيل!” يصرخ، لكن صوته يتلاشى في الضباب.
في الظلام، يسمع صوت ليندا – أو ما كانت ليندا يومًا. “لا يمكنك الهروب، جون،” تقول، صوتها يتردد من كل الاتجاهات. “أنت جزء من القصة.” ترينت ينظر إلى المقعد الخلفي، حيث المخطوطة ملقاة، كأنها عادت إليه بطريقة ما. يدرك الآن أن ليندا لم تعد بشرية – لقد أصبحت جزءًا من عالم كين، مخلوقًا من رواياته. وهو، رغم مقاومته، محاصر في نفس المصير. الكنيسة السوداء تنتظره، كأنها فم الجنون نفسه، جاهز لابتلاعه.
الفصل الثامن: انهيار الواقع
الليل في هوبز إند لم يعد ليلًا – إنه هاوية. السماء الأرجوانية التي كانت تعلو البلدة تحولت إلى لوحة من الظلام المطلق، ممزقة بخطوط حمراء نابضة كأنها شقوق في نسيج الواقع. الشوارع، التي كانت يومًا مرصوفة بحجارة متآكلة، بدأت تتشوه، كأن الأرض نفسها تذوب تحت ثقل قوة غير مرئية. جون ترينت يقف في وسط الشارع الرئيسي، قلبه ينبض بقوة، والمخطوطة السوداء لـفي فم الجنون محشورة تحت ذراعه. الهواء مشبع برائحة كبريتية حادة، ممزوجة بنكهة معدنية تذكره بالدم. الأصوات التي كان يسمعها من قبل – الهمسات، الخربشة – تحولت الآن إلى جوقة من الضوضاء غير البشرية، كأن المدينة نفسها تصرخ.
السكان لم يعودوا بشرًا. ترينت يراهم يخرجون من الظلال، أشكالهم مشوهة بشكل مرعب. رجل عجوز، كان يقف يومًا أمام متجر، أصبح الآن كائنًا ذا أطراف متلوية، وجهه نصف بشري ونصف شيء آخر – شيء ذو فم مفتوح مليء بالأسنان الحادة. امرأة، كانت ترتدي وشاحًا، تقف الآن عارية، بشرتها مغطاة بحراشف سوداء لامعة، وعيناها سوداوين كالفراغ. الأطفال، الذين كانوا يتحركون في الظلال، يزحفون الآن على الأرض، أجسادهم مشوهة، أطرافهم تتحرك بطريقة غير طبيعية، كأنها عناكب عملاقة. ترينت يتراجع، يده تمسك بالمخطوطة بقوة، كأنها الشيء الوحيد الذي يربطه بالواقع.
فجأة، يظهر ضوء أحمر نابض من الكنيسة السوداء، يضيء الشوارع كدم ينزف. بوابات مظلمة، تشبه الشقوق في الهواء نفسه، تبدأ في الظهور في كل زاوية. من هذه البوابات تخرج كائنات كونية مرعبة – مخلوقات ذات أجسام متلوية، مغطاة بأعين تتلألأ بنور أخضر مريض، وأفواه تفتح وتغلق كأنها تحاول ابتلاع الواقع. ترينت يشعر بالرعب يشل أطرافه. “هذا ليس حقيقيًا!” يصرخ، لكن صوته يتلاشى وسط الضوضاء المروعة. المدينة تنهار من حوله – المنازل تنهار كأوراق لعب، والشوارع تتشقق، تكشف عن فراغ أسود لا نهائي تحتها.
يدفعه اليأس إلى العودة إلى الكنيسة السوداء. الباب مفتوح، كأنه يدعوه إلى الداخل. يدخل ترينت، المخطوطة لا تزال في يده، ويجد ساتر كين جالسًا على عرشه، كأنه لم يتحرك منذ لقائهما الأول. الكنيسة نفسها تبدو مختلفة الآن – الجدران تنبض كأنها جلد حي، والنقوش عليها تتحرك، تشكل مشاهد من روايات كين: مدن منسية، كائنات قديمة، وبشر يصرخون وهم يُسحبون إلى الفراغ. كين ينظر إلى ترينت بابتسامة باردة. “أنت متأخر، جون،” يقول، صوته يتردد كرعد. “الكتاب نُشر بالفعل. ملايين القراء حول العالم يقرأونه الآن. كل كلمة يقرأونها تجعل القدماء أقوى.”
ترينت يهز رأسه، يرفض تصديق الكلمات. “هذا جنون!” يصرخ. “أنت لا تستطيع التحكم بالواقع!” لكن كين يضحك، ضحكة عميقة تملأ الكنيسة كأنها موجة. “الواقع؟” يقول، وهو يميل إلى الأمام، عيناه تلمعان بنور مخيف. “الواقع هو ما أكتبه، جون. والآن، العالم بأسره جزء من قصتي.” يشير إلى شاشة غريبة تظهر فجأة على الحائط – شاشة تعرض صورًا لمدن حقيقية: نيويورك، لندن، طوكيو، كلها تغلي بالفوضى. الناس يهاجمون بعضهم بعضًا، يصرخون كلمات من كتب كين، والبوابات المظلمة تفتح في كل مكان. ترينت يشعر بالأرض تتحرك تحته. “لا!” يصرخ، وهو يرفع المخطوطة. “سأوقف هذا!”
في لحظة يأس، يسحب ولاعته من جيبه ويشعل النار في المخطوطة. الصفحات تشتعل بسرعة غريبة، كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة. اللهب يلتهم الكلمات، لكن بدلاً من أن يتحول إلى رماد، يتصاعد دخان أسود كثيف، يشكل أشكالاً غريبة في الهواء – وجوه مشوهة، أعين تتلألأ، أفواه تصرخ بصمت. كين يضحك مرة أخرى. “هل تعتقد أن حرق المخطوطة سيوقفني؟” يقول. “الكتاب في كل مكان الآن. إنه في عقول القراء، في أحلامهم، في دمائهم. القدماء قادمون، جون، وأنت ساعدتهم.”
ترينت يتراجع، الدخان يملأ الكنيسة، يخنقه. يسمع صوت خربشة عالٍ من خلف المذبح، كأن شيئًا ضخمًا يحاول الخروج. الضوء الأحمر من النافذة الملونة يصبح أكثر سطوعًا، ينبض بإيقاع يشبه دقات قلب كائن هائل. ترينت يندفع نحو الباب، لكنه يكتشف أن الكنيسة لم تعد لها جدران – إنها الآن فراغ لا نهائي، مليء بنجوم غريبة وأشكال تتحرك في الظلام. “لا يمكنك الهروب،” يقول صوت كين، يتردد من كل الاتجاهات. “القصة مكتوبة، وأنت جزء منها.”
ترينت يسقط على ركبتيه، الدخان يحيط به، والأصوات – صراخ السكان، زئير الكائنات، ضحكة كين – تملأ رأسه. يدرك الآن أن الأوان قد فات. المخطوطة، حتى وهي تحترق، كانت مجرد رمز – القوة الحقيقية ليست في الورق، بل في الكلمات التي انتشرت بالفعل. العالم الذي عرفه ينهار، وهوبز إند هي المركز، نقطة الصفر لنهاية الواقع. يغلق عينيه، محاولًا استعادة المنطق الذي كان يعتمد عليه يومًا، لكنه يعلم أن المنطق لم يعد له مكان هنا.
الفصل التاسع: الهروب المستحيل
السيارة تندفع عبر الضباب الكثيف، محركها يزمجر كوحش يائس يحاول الفرار من مصيره. جون ترينت يقبض على المقود بقوة، أصابعه بيضاء من الضغط، وعيناه مثبتتان على الطريق الذي يبدو وكأنه يذوب في الظلام. هوبز إند تتلاشى خلفه، لكن شبحها يظل عالقًا في ذهنه – الكنيسة السوداء، الكائنات المشوهة، ضحكة ساتر كين التي لا تزال تتردد في أذنيه. الدخان الأسود من المخطوطة المحترقة لا يزال يعلق في ملابسه، رائحته الكبريتية تملأ السيارة كتذكير بما شهده. “أنا خارج هذا الجحيم،” يتمتم لنفسه، محاولًا إقناع نفسه بأن الهروب ممكن. لكنه، في أعماقه، يعلم أن هوبز إند ليست مكانًا يمكن تركه بسهولة.
الطريق الريفي يبدو لا نهائيًا، الأشجار على جانبيه تتحرك كأنها أشباح تراقبه. الضباب يتكاثف، يحجب الرؤية، والمصابيح الأمامية بالكاد تستطيع اختراقه. ترينت يحاول تذكر الطريق الذي أتى منه – النفق، الجسر الخشبي، اللافتة – لكن كل شيء يبدو مشوهًا، كأن الواقع نفسه يعاد تشكيله. فجأة، تظهر أضواء خافتة في الأفق، وقلبه يقفز بالأمل. “نيويورك،” يهمس، وهو يضغط على دواسة الوقود. لكن عندما يقترب، يدرك أن هذه ليست نيويورك التي يعرفها.
المدينة التي كانت يومًا نابضة بالحياة أصبحت الآن ساحة فوضى. الشوارع مليئة بالناس، لكنهم لا يتحركون كبشر. بعضهم يركضون في دوائر، يصرخون كلمات غير مفهومة تشبه مقاطع من كتب كين. آخرون يقفون ساكنين، عيونهم سوداء كالفراغ، ووجوههم مشوهة بتعبيرات لا إنسانية. لافتات النيون التي كانت تضيء مانهاتن مكسورة، تومض بشكل متقطع، وتلقي ظلالاً حمراء مريضة على الأرصفة. سيارات محترقة مبعثرة في الشوارع، والهواء مشبع برائحة الدخان والدم. ترينت يوقف السيارة، يترجل بحذر، ويحاول فهم ما يراه. “هذا ليس حقيقيًا،” يتمتم، لكن صوته ضعيف، كأنه يحاول إقناع نفسه.
في زاوية الشارع، يرى رجلًا يحمل كتابًا بغلاف أسود – في فم الجنون. الرجل يقرأ بصوت عالٍ، وكلماته تتردد في الهواء كتعويذة. فجأة، يرفع الرجل عينيه، وترينت يتراجع. وجهه ليس بشريًا – إنه قناع من الحراشف، فمه مفتوح بشكل غير طبيعي، يكشف عن أسنان حادة. “القدماء قادمون!” يصرخ الرجل، ويندفع نحوه. ترينت يركض، قلبه ينبض بقوة، وهو يدرك أن تأثير كتاب كين قد انتشر خارج هوبز إند. العالم بأسره ينهار تحت ثقل كلماته.
يحاول ترينت الاختباء في زقاق، لكنه يسمع أصواتًا – خربشة، زئير منخفض، وهمسات تتردد من الجدران. الزقاق نفسه يبدو وكأنه يتحرك، الجدران تنبض كجلد حي، والأرض تحت قدميه لزجة، كأنها مغطاة بسائل أسود. يرى شقوقًا في الهواء، بوابات مظلمة مثل تلك التي رآها في هوبز إند، تفتح وتغلق كأفواه جائعة. من إحداها، يلمح شيئًا – كائنًا ضخمًا، ذا أذرع متلوية وعيون تلمع بنور أخضر مريض. ترينت يصرخ، يركض دون هدف، لكنه يشعر بأن المدينة نفسها تلاحقه.
فجأة، يسمع صفارات الشرطة. سيارات بيضاء تحيط به، وأضواءها الحمراء والزرقاء تخترق الظلام. رجال يرتدون زيًا أبيض، ليسوا شرطة عادية، يقبضون عليه. “إنه واحد منهم!” يصرخ أحدهم، وترينت يحاول المقاومة، لكنه منهك. يُسحب إلى سيارة، ويُنقل إلى مبنى رمادي بلا نوافذ. داخله، يجد نفسه في غرفة مبطنة، جدرانها البيضاء الناعمة تخنق صوته. طبيب نفسي يدخل، رجل هادئ بعيون باردة، يحمل لوح كتابة. “أخبرني بما حدث، السيد ترينت،” يقول الطبيب بنبرة محايدة.
ترينت، يائسًا، يروي قصته – هوبز إند، ساتر كين، المخطوطة، الكائنات الكونية. يصرخ أن العالم على وشك الانهيار، أن كتاب كين يدمر الواقع. لكن الطبيب ينظر إليه بنظرة شفقة، كأنه يتعامل مع مجنون. “كتب؟ كائنات؟” يقول الطبيب، وهو يدون ملاحظات. “ربما تحتاج إلى الراحة، السيد ترينت.” يتركه الطبيب وحيدًا في الغرفة المبطنة، الباب يُغلق بصوت معدني ثقيل. ترينت يجلس على الأرض، رأسه بين يديه، وهو يحاول تمسك بآخر خيوط المنطق. لكنه يسمعها – همسة خافتة، كأن الجدران نفسها تتحدث. “القصة لم تنته بعد، جون،” يتردد الصوت، وهو يدرك أن كين لا يزال موجودًا، في مكان ما، يكتب نهايته.
الفصل العاشر: الحقيقة أم الجنون؟
الظلام يغلف نيويورك، لكنه ليس الظلام الذي اعتاده جون ترينت. ليس ظلام ال-smiling faceالمدينة الصاخبة المليئة بأصوات بوق السيارات والحياة، بل ظلام ثقيل، كأنه كائن حي يتربص بالعالم. ترينت يتجول في شوارع المدينة الفارغة، معطفه الرمادي الممزق يتأرجح خلفه كشبح ذكرياته القديمة. الشوارع، التي كانت يومًا تموج بالحياة، صامتة الآن، الأرصفة مبللة بمطر لا يتوقف، واللافتات المكسورة تومض بشكل متقطع، تلقي وهجًا أحمر مريضًا على الجدران. رائحة الدخان والعفن تملأ الهواء، ممزوجة بنكهة معدنية تذكره برائحة هوبز إند. لا يوجد بشر هنا، أو ربما لم يعودوا بشرًا – أشكال تتحرك في الظلال، عيونهم سوداء، وأصواتهم تهمس بكلمات من كتب ساتر كين. ترينت يشد معطفه حوله، محاولًا درء البرد الذي ليس فقط في الهواء، بل في عظامه. لقد هرب من المصحة العقلية، بعد أن كسر القفل بقطعة معدنية وجدتها في الغرفة المبطنة، لكنه يشعر الآن أن الحرية ليست سوى وهم آخر.
شوارع نيويورك تبدو كمشهد من حلم مشوه. المباني تنحني بزوايا غريبة، كأنها تحاول الهروب من نفسها. النوافذ مظلمة، لكن ترينت يشعر بنظرات غير مرئية تتبعه. صوت خافت – خربشة، همس، أو ربما ضحكة بعيدة – يتردد من الزوايا، كأن المدينة نفسها تهمس بأسرار ساتر كين. يتوقف ترينت أمام دار سينما قديمة، لافتتها المضيئة تعلن عن عرض فيلم بعنوان في فم الجنون. الحروف الحمراء على اللافتة تبدو وكأنها تنزف، تتلألأ تحت المطر. ترينت يحدق في اللافتة، قلبه ينبض بقوة. “هذا مستحيل،” يتمتم، لكنه يعلم أن المستحيل أصبح هو القاعدة الآن.
يدفعه شيء ما – فضول، يأس، أو ربما قوة لا يستطيع تسميتها – إلى دخول دار السينما. الردهة فارغة، رائحة الفشار القديم تملأ الهواء، لكنها ممزوجة بشيء فاسد، كأن الزمن نفسه قد تعفن هنا. الباب إلى قاعة العرض مفتوح، والشاشة مضاءة، تعرض فيلمًا يبدأ للتو. ترينت يجلس في كرسي متصدع، الوحيد في القاعة، وهو يشعر ببرودة المقعد تخترق ملابسه. الشاشة تتوهج، ويبدأ الفيلم. المشهد الأول يظهر رجلًا في شوارع نيويورك، يرتدي معطفًا رماديًا، يدخن سيجارة، ويتلقى مكالمة هاتفية غامضة. ترينت يتجمد. إنه هو. كل لحظة – مكتب هارغلو، رحلته مع ليندا، النفق، هوبز إند، الكنيسة السوداء – تتكشف أمامه على الشاشة، كأن حياته ليست سوى نص مكتوب مسبقًا.
الفيلم يستمر، يعرض لحظات لم يعشها بعد، لكنه يعرفها في قلبه. يرى نفسه يحرق المخطوطة، يرى الكائنات الكونية تخرج
الفيلم يستمر، يعرض لحظات لم يعشها ترينت بعد، لكنه يعرفها في قلبه – لحظات الرعب في هوبز إند، مواجهته مع ساتر كين، واحتراق المخطوطة في الكنيسة السوداء. يرى نفسه يركض في شوارع نيويورك المشوهة، محاصرًا بالفوضى التي أطلقها كتاب كين. الشاشة تعكس عينيه المليئتين بالذعر، يديه المرتجفتين، وصوته وهو يصرخ “هذا ليس حقيقيًا!” ترينت يشعر بالأرض تتحرك تحته، كأن القاعة نفسها تنبض بنفس الإيقاع المرعب الذي شعر به في هوبز إند. الصوت في الفيلم – صوت الموسيقى التصويرية المقلقة، أصوات الهمسات، ضحكات كين – يتردد في القاعة، يمتزج مع صوت المطر الذي يضرب النوافذ الخارجية. يحاول ترينت أن يتذكر أن هذه مجرد شاشة، مجرد فيلم، لكن الحدود بين ما هو حقيقي وما هو خيالي قد بدأت تتلاشى، مثل الضباب الذي ابتلع هوبز إند.
يظهر على الشاشة مشهد جديد: ترينت نفسه، جالس في هذه القاعة بالذات، يشاهد الفيلم. يرى وجهه الشاحب، عينيه المحمومتين، يديه الممسكتين بذراعي الكرسي بقوة. “لا!” يصرخ، ويقفز من مكانه، لكن صوته يتلاشى في القاعة الفارغة. الشاشة تعكس حركاته، كأنها مرآة حية، لكنها ليست مرآة – إنها قصة، قصته، مكتوبة ومخرجة بيد ساتر كين. يندفع نحو الشاشة، يضربها بقبضتيه، لكن القماش لا يتحطم – بل ينبض، كأنه جلد كائن حي، ويتراجع ترينت، قلبه ينبض بقوة. يسمع صوت ضحكة كين، ليست من الشاشة، بل من الظلام خلفه، من الجدران، من الهواء نفسه. “أنت لا تشاهد القصة، جون،” يتردد الصوت. “أنت تعيشها.”
فجأة، يبدأ ترينت في الضحك. إنها ضحكة هستيرية، متشققة، كأنها تنبع من مكان عميق داخل روحه، مكان لم يعلم بوجوده. الضحك يملأ القاعة، يتردد مع أصوات الكائنات الكونية التي رآها في هوبز إند، مع الهمسات التي تتبعه منذ النفق. يضحك لأنه يدرك الآن – الحقيقة ليست أنه مجنون، بل أن العالم نفسه قد أصبح صفحة في رواية كين. كل خطوة، كل خوف، كل لحظة من حياته كانت كلمات مكتوبة بحبر لا يمكن محوه. يسقط على ركبتيه أمام الشاشة، الضحك يتحول إلى صراخ، ثم إلى ضحك مرة أخرى، كأنه عالق في حلقة لا نهائية من الجنون.
الشاشة تتلاشى إلى الظلام، لكن الظلام ليس فارغًا. يرى فيه عيونًا – عيون القدماء، تلمع بنور أخضر مريض، تراقبه. يسمع أصواتًا – خربشة، زئير، وصوت قلم يكتب، يكتب، يكتب. ترينت يبقى وحيدًا في القاعة، محاصرًا بضحكاته الخاصة، التي تتردد كأنها جزء من النص. هل هو مجنون؟ أم أن العالم قد أصبح مجرد صفحة في رواية كين؟ لا يوجد إجابة، لأن السؤال نفسه هو جزء من القصة. الظلام يبتلعه، والضحك يستمر، كأنه الموسيقى التصويرية لنهاية العالم.

