Uncategorized

رواية موعدنا في زمن آخر الفصل الخامس عشر 15 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf


|15-عقوبة القلب: أن يهوى واحدة فقط|

نزلت جين مُسرعة من الدرج، تركض نحو نوح، ممسكة بيده وهي تهتف:

“بيتر… ما بك؟! بيتر… إنك لست بخير، تعال معي.”

فضحك نوح ضحكًا عاليًا مجلجلاً قائلاً:

«اتركيني يا جين، إنّ لي عملاً لا بد أن أُنجزه…»

فصاح فرانكو، وهو يضحك باستهزاء:

«اتركيه يا جين… فلنضحك قليلاً.»

فانتفضت جين في وجهه صارخة:

«اصمتْ يا فرانك أنت تعلم يقينًا أن بيتر أجلّ من أن ينحدر إلى تفاهاتك.»

فتبدلت ملامح فرانكو وقطّب حاجبيه بغضب مكتوم بينما نظرت إليه جين بازدراء، ثم عادت إلى نوح تُناديه:

«بيتر… أصغِ إليّ، بيتر…»

غير أنّ نوح أبعد يدها عنه، وراح يضحك مستهترًا وهو يدور حول الماسورة. فرفعت جين بصرها، فإذا بتوم يطلّ من أعلى، صامتًا متأملاً. فنادته:

«توم! أحتاجك لحمله… تعال، أرجوك.»

فنزل توم مسرعًا، وأمسك بنوح بقوة، وجين بجانبه، ثم صعدوا به الدرج إلى الأعلى. أدخلته جين غرفة توم، غير أنّ نوح انتفض قائلاً:

«لم أفرغ من عملي بعد… دعوني!»

فأمسكته جين من يديه، وانتزعت عنه الباروكة، وأخذت تمسح فمه بالمناديل وهي تبكي بحرقة:

«هذا لستَ أنت يا بيتر… أفق، أرجوك!»

ثم التفتت إلى توم قائلة:

«هل لك أن تبدّل له ثيابه يا توم، رجاءً؟»

فأجابها:

«حسناً… اخرجي الآن.»

فخرجت جين من الغرفة، تمسح دموعها، واتجهت مسرعة إلى مكتب الزعيم. دخلت دون استئذان، وعيناها تلمعان غضبًا، فإذا بها تجد فرانكو هناك. وقفت أمامهما، واضعة ذراعيها على صدرها، وقالت محتدّة:

«أتخططون للمكيدة القادمة؟!»

فنظر ستيفن إليها بدهشة، وأما فرانكو فصرخ:

«كيف تتجرئين على اقتحام المكان دون استئذان؟!»

لكن ستيفن قال له آمرًا:

«تمهّل يا فرانك… دَعْها، ما بالكِ يا جين؟ ماذا تريدين؟»

فالتفتت إلى زعيمها وقالت بعينين دامعتين:

«لا أصدق ما أراه… بيتر، الذي كنتَ تعتبره كابنك، تفعلون به هذا؟!»

فقال ستيفن بإنكار:

«وماذا فعلت؟!»

صرخت جين:

«لا تكذب عليّ أيها الزعيم! رأيتُ بأم عيني الكاميرا تُصوِّر نوح في حالته هذه، وماركوس أخبرني أن ثمة من صوّرني معه وهو يقبّلني… لماذا؟! ما الدافع إلى هذا؟! وما الهدف؟!»

فقام فرانكو مغتاظًا، وأمسك بذراعها بعنف:

«ليس لكِ شأن بهذا، اخرجي فورًا!»

فأوقفه ستيفن آمرًا:

«رويدك يا فرانك! كفّ يدك عنها.»

فتحررت جين من قبضته، وحدّقت في زعيمها الذي اقترب منها حتى صار قبالتها، وقال بصرامة:

«بيتر لا بد أن يترك زوجته إلى الأبد.»

فاتسعت عيناها بدهشة، وقالت:

«أتفعلون هذا لتشوّهوا صورته أمامها؟!»

فأجابها ببرود:

«بالضبط… إن وجود بيتر في مصر سيُعرّضنا لخسائر جسيمة. بقاؤه معنا في روما خير لنا وله. فإن عاد إلى وطنه وذكر عائلته، فسنخسره لا محالة. وإن وُضِعَت القيود في يديه، فإن عائلة زوجته، وفيها ضابط، ستحقق معه وتستخلص منه أسرارنا.»

فقالت جين باعتراض مرير:

«ولكنكم لم تسألوه عمّا يريد! أيريد البقاء معكم، أم العودة إلى أهله؟!»

فقال ستيفن:

«من ذا الذي لا يحرص على بيتر يا جين؟! إن ظلّ في مصر، فسوف يقضي بقية عمره سجينًا بخطيئته تجاه وطنه.»

فرفضت جين بشدة:

«كلا، يا زعيم! تلك أنانية فاضحة! إن كان له أن يختار، فليختر هو، سواء بالبقاء أو العودة، حتى ولو سُجن أعوامًا… على الأقل سيرى أهله وذويه. كيف تزعمون أن ابتعاده عن أسرته حلٌّ؟! بيتر حتمًا يتمنى أن يكون إلى جانب عائلته…»

فنظر ستيفن إلى فرانكو، ثم عاد إليها قائلاً:

«فكّري قليلاً يا جين… أيسرّكِ أن يكون بيتر مع عائلته؟»

فزفرت بمرارة وقالت:

«لا، ولكن يكفيني أن يكون سعيدًا.»

فأمسك ستيفن بذراعيها بكلتا يديه، وقال:

«ونحن سنضمن لكِ سعادته مدى الحياة… بيتر سيكون لكِ، ولن يفلت منك أبدًا. ولهذا فلا بد من إبعاد زوجته عن طريقنا، بأن نجعلها تكرهه.»

فطأطأت جين رأسها وقالت بانكسار:

«لكن بيتر لا يحبني.»

فتدخل فرانكو:

«سيحبك… إن استغليتِ بعده عن زوجته، وملأتِ فراغه العاطفي. صدقيني، سيقع في غرامك.»

لكنها قالت بمرارة:

«لقد حاولت طَوال أربع سنوات، وما ازداد إلا تعلقًا بزوجته.»

فأجاب فرانكو:

«ذلك لأن زوجته تحبه، لا أكثر. أما إن كرهته، فسيتبدّل الحال. أتدرين أن أول لقاء بينه وبينها كاد أن يقتلها خنقًا بيديه؟! إنّما يشده إليها حبها له، لا حبه لها.»

فأومأ ستيفن برأسه مؤيدًا، وقال مؤكدًا:

«ونحن سنجتث هذا الحب من جذوره، بالصور التي تُشوه صورته في عينيها. والآن، القرار لكِ يا جين: أتريدين بيتر أن يبقى معكِ، وذلك خير له من أن يُسجن في مصر بقية حياته؟ أم تريدينه أن يعود إلى زوجته فتخسريه إلى الأبد؟»

فسكتت جين طويلاً، تتنازعها حيرتها؛ عقلها يأبى ظلم بيتر، وقلبها يرى أنّها فرصتها الأخيرة للفوز به ما حييت. وكالعادة غلب القلبُ العقل، فرفعت عينيها وقالت:

«أريده أن يبقى معي.»

فابتسم ستيفن وفرانكو ابتسامة النصر، وقال ستيفن:

«حسناً… فلنستعد لمخططنا القادم، وهو تصويركِ مع بيتر في فراش واحد.»

فقالت جين بامتعاض:

«بيتر لن يرضى أبدًا… لقد أبى طوال حياته أن يضاجع أي امرأة.»

فقال فرانكو باستخفاف:

«ذلك أهون مما تظنين…هو بين يدينا الآن وسينفذ كل ما نريده»

فوضع ستيفن يده على كتفها، وقال مبتسماً:

«لا تقلقي… في النهاية، سيكون بيتر لكِ. هذا ما نريده جميعًا، فنحن نحب بيتر، ولذا لا نسمح له بالابتعاد عنّا أبدًا.»

استفاقت غزل من سباتها على همساتٍ خفيّةٍ تنثال من بين شفتي حمزة، يلهج باسمها مرارًا بصوتٍ واهن. فتحت عينيها، ثم ابتسمت في وجهه ابتسامةً أشرقت بها ملامحها، وجلست على الفراش. اقترب حمزة وجلس بجوارها، وقال:

ــ مستعدة؟”

ضحكت غزل ضحكةً مفعمة بالحماس، وقالت:

ــ “انا مستعدة جدا جدا ومتحمسة لليوم كمان….”

وما كادت تُنهي جملتها حتى دوّى طرقٌ شديدٌ على الباب، فنهض حمزة على عجلٍ ليفتح، فإذا بهبة واقفة، تضمّ الصغيرة المرتجفة بين ذراعيها، وملامحها تكسوها الفزع، وصوتها يتقطّع وهي تقول:

ــ “الحق يا حمزة… رهف انهارت وأغمي عليها!”

اتّسعت عينا حمزة وجمد الدم في عروقه، فيما نهضت غزل من فورها وهرعت معه إلى غرفة رهف. وهناك وقف حمزة واقترب من رهف يهزها لتفيق، وغزل متسمّرة بجانبه، تحاول أن تسيطر على ارتجاف أنفاسها. وإذا بأصوات رسائل متتابعة تتردّد من جهاز “الأيباد” تابعًا للوجي. التقطته غزل بحدسٍ غامض، وما إن فتحته حتى تجمّد قلبها على مشهدٍ صاعق… صورٌ وفيديوهات لنوح، صديقها، في هيئةٍ مُزريةٍ منفّرة؛ يرقص متشبّهًا بالنساء، مرتديًا فستانًا مُبتذلًا، واضعًا أحمر شفاهٍ صارخًا، وشعرًا مستعارًا يتهدّل على كتفيه.

أغمضت غزل عينيها لحظةً، وقد انغرز الألم في أعماقها، فنوح بالنسبة لها لم يكن مجرّد رجل، بل بيتر الذي عرفت فيه عزّةً وشموخًا، فإذا به يُستدرج إلى هذا المهان.

كانت تحفظ أرقام جميع أفراد فريقها وأصدقائها، فالتقطت هاتف رهف، وغادرت الغرفة في صمتٍ فيما حمزة منشغلٌ بالبحث عن طبيب. مشت غزل في ممرّ المستشفى حتى بلغت آخره، ثم رفعت الهاتف وضغطت الرقم…

ــ “صباح الخير يا فرانك أنا غزل… أجبني، ما حال بيتر؟”

ساد الصمت لحظةً على الطرف الآخر، قبل أن يجيبها بصوتٍ متردّد:

ــ “بيتر… بخير.”

صرخت غزل في الهاتف، وقد ارتجف صوتها بالغضب:

ــ “بخير؟! كيف تزعم أنّه بخير وأنا رأيت بأمّ عيني تلك الصور؟! فستانٌ سخيف، حمرةٌ ماسخة على شفتيه، باروكة رخيصة، يرقص كالمُستهتِر! لقد أثار مشهدُه اشمئزازي!”

تجهم جبين فرانكو، وصوته ينضح بالريبة:

ــ “كيف وصلتكِ تلك الصور؟”

ــ “زوجته هنا في مصر، وهي قريبةٌ من رجل الأعمال حمزة، الذي أؤدّي مهمّتي بجواره.”

ــ “وما الذي تريدينه يا غزل؟ هذا هو بيتر الآن… لم نجبره على شيء. لقد تغيّر بنفسه إلى هذا الأحمق الذي رأيتِه.”

ارتجفت كلماتها حين صاحت:

ــ “وهل رآه بابا ستيفن على هذه الحال؟!”

ارتفع صوت فرانكو ضاحكًا ضحكةً جافةً مستهزئة:

ــ “رآه الجميع في الفريق! لا تعلمين يا غزل كم كان… مدهشًا!”

شهقت غزل بغضب، وقالت بمرارة:

ــ “وكيف تجرّأتم أن تبعثوا بهذه الصور إلى طفلته البريئة؟!”

ابتسم فرانكو ابتسامةً باردةً وقال:

ــ “علينا أن نُبعده عن عائلته، يا غزل. وجوده معنا يجلب المال… ولكي يبقى بيننا، فلا بدّ أن نُطفئ كل صلة تربطه بهم. يجب أن تكرهه عائلته حتى لا يعود إليها.”

ــ “ومن أيّ بابٍ تنهمر عليكم الأموال بسبب بقائه عندكم؟!”

أخفض صوته، وكأنّه يفشي سرًّا دفينًا:

ــ “هناك شخصٌ من عائلة نوح يريد أن يظل بعيدًا عن زوجته. ما استنتجتُه أنّ هذا الشخص يرغب في رهف لنفسه، ويُريد أن ينتزع قلبها من بيتر.”

ارتفعت يد غزل إلى شعرها، أزاحت خصلةً انسدلت على عينيها، وزفرت بعمقٍ وهي تقول:

ــ “اعطني بيتر… أريد أن أتحدّث معه.”

ــ “ربّما عند توم.”

ــ “حسنًا… سأتّصل به.”

أغلقت الخط على الفور، واتصلت بتوم. وما إن أجاب حتى سارعت قائلة:

ــ “توم… أنا غزل. أريد أن أتحدّث مع بيتر.”

التفت توم حوله، فلم يجد بيتر حيث تركه ليلة الأمس. نهض فجأة وقال بارتباك:

ــ “بيتر… اختفى مرّة أخرى!”

ــ “لا أدري، يا غزل! والله لا أفهم ما يجري، لكن ما أنا واثق منه أنّ الأمر ليس في صالحه إطلاقًا.”

ــ “زوجته هنا، منهارة على حاله.”

ــ “جيّد أنّها رأته… أخبريها أنّ بيتر لا يفعل هذا بإرادته. الجميع هنا يتآمرون عليه!”

شهقت غزل، وقالت بقلق:

ــ “إنّهم يريدون إبقاءه بينهم لأنّ هناك من يبعث لهم المال لقاء ذلك!”

تساءل توم بدهشة: “ماذا؟!!”

بدأت غزل بحكي كل المعلومات التي تلقتها من فرانكو فاتّسعت عينا توم وكأنّه فهم الأمر جيدًا كان يشك والآن قد تأكد.. ثم قال بحدّة:

ــ “مع السلامة يا غزل، يجب أن أغلق الآن.”

ــ “انتظر! دعني أتحدّث معه وأكشف له كل شيء!”

ــ “سأبلغه بنفسي.”

أغلق الخط مسرعًا، ثم اندفع خارج غرفته كالعاصفة، يركض في أرجاء ذلك المكان الضخم الذي يأوي العصابة. كان يفتح الأبواب غرفةً تلو أخرى، والغضب يتأجّج في صدره. حتى بلغ غرفة جين، فوجدها مغلقة. طرق بعنفٍ، فسمع همسًا متداخلًا وضجيجًا مكتومًا.

ــ “افتحي الباب يا جين… افتحي الباب!”

انتظر ثوانٍ معدودة، فلمّا لم تجب، بدأ يركل الباب بقدميه، ثم ابتعد قليلًا واندفع بكتفه حتى تصدّع الخشب، وفي الخامسة انكسر الباب وانفتح، فإذا بالمشهد المروّع أمامه…

جين وفرانكو يجرّان نوح المغشي عليه، يحاولان رفعه على الفراش.

صرخ توم بصوتٍ جلجل في الغرفة:

ــ “اتركوه!”

التفت إليه فرانكو، وقال بحدة:

ــ “اخرج، يا توم! هذا ليس من شأنك!”

لكن توم كان قد بلغ ذروة غضبه، وصاح وهو يرمق جين بنظرةٍ حادّةٍ ارتجفت لها أوصالها:

ــ “قلت لكما… اتركوه!”

وبحركةٍ خاطفة أخرج سلاحه من جيبه، ورفعه في وجوههم. تجمّد فرانكو ورفع يديه في الهواء وهو يقول بتوتر:

ــ “اهدأ يا توم…حسنًا…حسنًا.”

اقترب توم من نوح، احتضنه بذراعه، وأسند عنقه إليه وهو ما يزال يلوّح بالسلاح، ثم انسحب به خارج الغرفة، مستغلًّا أنّ أفراد العصابة كانوا غارقين في النوم بعد سهرهم حتى الشروق.

انطلق فرانكو يعدو إلى غرفته، انتزع سلاحه، واندفع وراءهما. اعترضته جين، وأمسكت بذراعه وهي ترتجف، تقول بصوتٍ مختنق:

ــ “أقسم لي… أنّك لن تؤذي بيتر!”

زمّ فرانكو شفتيه، ثم قال بحدّةٍ مقتضبة:

ــ “أعدك.”

وانفلت منها ليطارد توم. كان توم قد ركب بسيارته، بينما تبعه فرانكو بسيارته الأخرى، يطلق الرصاص عليه. لكن توم كان يقود بدهاءٍ ومهارة، يتفادى الطلقات وينعطف بين الأزقّة الضيّقة، حتى أضاع فرانكو أثره وتاه عنه.

أدار توم وجهه نحو نوح الملقى بجانبه، وقال بصوتٍ حانٍ مطمئن:

ــ “لا تخف يا بيتر… ستعود إلى زوجتك وابنتك… أقسم أنّك ستعود.”

___________________________

عادت غزل إلى غرفة رهف بخطواتٍ يكسوها القلق، وما إن دخلت حتى رفع حمزة نظره إليها، ثم نظر إلى عمّته هبة قائلاً بنبرةٍ حازمةٍ تحاول أن تخفي اضطرابه:

«عمتو خليكِ مع رهف».

تقدّم نحو غزل وأمسك بذراعها في عجلةٍ واضحة، كأنما يحمل في داخله اضطرابًا لا يطيق الصبر عليه، ثم جرّها وراءه خارج الغرفة وهمس بنبرةٍ مستعجلةٍ مبحوحةٍ من التعب:

«سمر… محتاجك في مساعدة… لوجي خديها واركبوا عربية هتستناكم تحت… وأنا هلحقكم أنا وعمتو… أما رهف فمش عارف هترضى تيجي معانا النهاردة ولا لا… بس خدي البنت عشان مرعوبة، وأنا مش هعرف أسيب رهف دلوقتي».

أومأت غزل برأسها بهدوءٍ مطيع، ثم عادت إلى الغرفة بخطواتٍ حذرةٍ يملؤها الحزن. وقفت لحظةً عند الباب، تتأمل الصغيرة وهي جالسةٌ في زاوية السرير تبكي بصوتٍ مخنوق، ووجهها الطفولي الغارق في الدموع يختصر خوف العالم وضعفه. تقدّمت غزل بخفةٍ وجلست إلى جوارها، تحاول أن تُطفئ شيئًا من نار بكائها قائلةً برقةٍ ممزوجةٍ بعطفٍ صادق:

«في بنت قمورة تعيط يوم عيد ميلادها؟».

رفعت الصغيرة لوجي وجهها الغارق في الدموع، وقالت بشهقاتٍ متقطّعةٍ تُقطّع القلب:

«ماما تعبانة… وأنا قلقانة يحصلها حاجة… أنا كنت ما صدقت بابا رجع عشان تفضل كويسة… عايزة أقول لبابا إنها مش كويسة… وإنه يرجع تاني… عايزة أكلمه وأقوله إنها بتبقى كويسة وهو موجود».

سكن المكان لحظةً، كأن الصمت نفسه حبس أنفاسه. نظرت غزل إلى الصغيرة بعينين رقيقتين يملؤهما الأسى، ثم لمحت هاتف رهف ما زال في جيب بنطالها، فمدّت يدها إليه برفقٍ، وانحنت نحو لوجي وهمست في أذنها بنغمةٍ حانيةٍ تفيض بالغموض:

«واللي يخليكِ تكلمي بابا؟».

اتّسعت عينا الصغيرة بدهشةٍ مفاجئة، تبرق فيهما لمعةُ الأمل الطفولي:

«بجد!!».

ابتسمت غزل ابتسامةً مطمئنة، وأومأت برأسها، ثم اقتربت أكثر وهمست في أذنها من جديد:

«أقدر أخليكِ تكلمي بابا… أوعدك… بس بشرط».

نظرت لها لوجي بتمعّنٍ طفولي، وكأنها تحاول أن تفهم حدود الحلم الذي يُعرض عليها، فقالت غزل بخفوتٍ غامضٍ:

«توعديني إنك متقوليش لحد… ده سر بينا».

هزّت الصغيرة رأسها بحماسٍ وفرحةٍ بريئةٍ، وقالت بصدقٍ لا يشوبه رياء:

«أوعدك أوعدك».

في تلك اللحظة، دخل حمزة الغرفة مجددًا، وقد لمح الابتسامة التي رسمتها غزل على وجه الصغيرة، فارتاحت ملامحه قليلًا، واقترب منها جاثيًا على ركبتيه، يبتسم رغم الإرهاق وقال بنبرةٍ هادئةٍ تحاول طمأنتها:

«لوجي حبيبتي… ماما شوية وهتحصلنا… هي كويسة متقلقيش، الدكتور قال هتفوق بعد شوية… بس إحنا عايزين نبدأ اليوم بتاع عيد ميلادنا… روحي دلوقتي مع طنط سمر، واركبوا العربية تحت هتوصلكم، وأنا وعمتو وماما هنحصلكم».

اقتربت هبة من ابن أخيها وهمست في أذنه بصوتٍ متهدّجٍ يتنازع فيه القلق والحذر:

«أنا مش هبعت حفيدتي مع واحدة معرفهاش!!».

فقال حمزة بهدوءٍ متّزنٍ يخفي خلفه اضطرابًا داخليًا:

«لازم لوجي تمشي… معرفش رهف لما تصحى هتبقى حالتها إيه، ومعرفش حصلها إيه من امبارح بالليل وهي مش طبيعية… تحبي تروحي معاهم وتسيبيني أنا معاها لما تصحى؟».

قالت هبة بسرعةٍ حاسمةٍ، وقد انعكس في صوتها خوف الأمومة القديمة:

«لا طبعًا، لازم أكون مع رهف… طب ما تروح إنت معاهم؟».

أجابها حمزة وهو يمرّر يده على عنقه بتعبٍ:

«ماهو أنا مينفعش أسيبها بردو، عشان لو احتاجنا نوديها مستشفى أو حالتها اتدهورت، لازم راجل معاكم… متطمنش أسيبكوا انتو الاتنين. وأنا لازم أبعد لوجي… يبقى الحل إن سمر تاخدها وتروح، وإحنا نحصلها».

قالت هبة بقلقٍ متصاعدٍ وهي تشبك يديها:

«إيش عرفك إننا هنحصلها بقى؟! افرض معرفناش نتحرك بسبب رهف وتعبها!… أكيد مش هنتحرك بيها تعبانة… الغي حاجات النهاردة، مش هنعرف».

أجابها حمزة بإصرارٍ مفعمٍ بعاطفته نحو الصغيرة:

«وأنا مش هعرف أرجع في كلمتي في يوم عيد ميلاد لوجي… ورهف هتفوق وهتكون كويسة إن شاء الله، بس مش عاوز البنت تقعد معاها لحد ما تفوق، عشان نفسيتها، ورهف معرفش هتقول إيه لما تفوق، لأنها هتحكي اللي حصلها وأنا مش عاوز البنت تسمع… ومتقلقيش يا عمتو، العربية أنا متتبع تحركاتها، وسمر مش هتخطفها».

قالت هبة بحزمٍ:

«خلاص، تنزل توصل البنت للعربية بنفسك».

ضحك حمزة ممازحًا، محاولًا أن يُخفّف من حدّة توترها:

«الا صحيح يا عمتو هي سمر هتخطفها في طوكيو؟ هتروح بيها فين!!».

فأجابته بصرامةٍ لا تخلو من حنان:

«مليش دعوة، نفّذ اللي بقولهولك».

ابتسم حمزة ابتسامةً صغيرةً وهو يقول بنبرةٍ مستسلمةٍ مازحة:

«حاااضر».

ثم تنفّس بعمقٍ، كمن يتهيأ لما هو أثقل من الكلمات، وألقى نظرةً طويلة على الصغيرة التي بدأت تهدأ، وعلى غزل التي تقف صامتةً، يلوح في عينيها بريق حيرةٍ لم تنطفئ…

بينما ظلّت رهف ممدّدةً في سكونٍ غامضٍ، كأنها على حدود بين الحياة والغيب، تنتظر يقظةً قد تغيّر كلّ شيء.

وبالفعل نزل حمزة لتوصيل غزل ولوجي إلى السيارة، حتى اطمأنّ عليهما، ثم التفت إلى غزل وقال بنبرةٍ حازمةٍ دافئة:

ــ «خدي بالك منها.»

فابتسمت غزل بثقةٍ وطمأنينةٍ وهمست:

ــ «في عيوني…»

ثم نظر حمزة إلى الصغيرة وقال برقةٍ يغالبها الحزن:

ــ «لوجي حبيبتي… طنط سمر هتروح معاكي، وأنا وتيتة وماما هنلحقكم بعد شوية… ماما هتصحى يا حبيبتي، وهتيجي معانا إن شاء الله.»

ابتسمت الصغيرة وقد سكنت الطمأنينة في عينيها، ثم ما لبثت أن جلست بجانب غزل داخل السيارة، حتى صاحت فجأةً بصوتٍ مرتفعٍ فيه رجاء:

ــ «اتصلي ببابا!»

ابتسمت غزل بهدوءٍ وأخرجت هاتف رهف من جيبها، فشهقت الصغيرة قائلةً بدهشةٍ:

ــ «ده موبايل ماما!»

أجابتها غزل بصوتٍ خافتٍ متواطئ:

ــ «أيوه، اضطرّيت آخده من غير ما حدّ يعرف، عشان مش معايا موبايل. زي ما قلتلك، هتصل بباباكي، بس محدّش يعرف ده غيري أنا وانتِ، اتفقنا؟»

قالت الصغيرة بحماسٍ طفوليٍّ صادق:

ــ «اتفقنا… طب يلا اتصلي!»

ضغطت غزل على زرّ الاتصال بعد أن كتبت الرقم، وانتظرت رنين الهاتف لبضع ثوانٍ، حتى جاءها صوت توم من الجهة الأخرى، فقالت على عجلٍ ولهفةٍ في صوتها:

ــ «توم… هل وجدت بيتر؟!»

أجابها بهدوءٍ جادٍّ:

ــ «نعم، هو معي.»

تنفّست غزل بارتياحٍ واضحٍ، ثم نظرت إلى الصغيرة قائلةً بابتسامةٍ عريضةٍ:

ــ «أعطني الهاتف… ابنته معي وتريد التحدث إليه.»

التفت توم نحو بيتر ــ نوح ــ الذي كان غارقًا في سباتٍ عميقٍ إلى جواره في السيارة. تنهد قائلًا:

ــ «جيد انه سيتحدث معها، لكن انتظري لحظة.»

توقف بسيارته على جانب الطريق، والتقط زجاجة ماءٍ من جانبه، وبدأ يرشّ على وجه نوح قطراتٍ متتالية، ثم صفعه برفقٍ مراتٍ عدّة حتى بدأ الأخير يتململ ويئنّ. وبعد خمس دقائق من المحاولات، فتح نوح عينيه ببطءٍ وهو يضع يده على رأسه متألّمًا:

ــ «توم!.. أين أنا؟ ولماذا أشعر بألمٍ فظيعٍ في رأسي كلّما استيقظت؟!»

ابتسم توم وحدّث غزل عبر الهاتف:«اعطيها الهاتف يا غزل.»

ثم ناوله الهاتف قائلاً:

ــ «هناك من اشتقت لسماع صوته.»

أخذ نوح الهاتف بارتباكٍ، وما إن وضعه على أذنه حتى دوّى صوت صغيرته العذب في أذنيه:

ــ «بابا!»

تجمّد نوح في مكانه، واتّسعت عيناه بذهولٍ لم يستطع كتمانه، فالتفت نحو توم الذي أومأ له تأكيدًا. عندها شهق نوح من شدّة التأثر، وأمسك الهاتف بكلتا يديه، وصوته يرتجف بين البكاء والضحك:

ــ «لوجي… يا روحي انتِ!»

بكت الصغيرة بحرقةٍ وهي تهتف:

ــ «بابا… وحشتنا أوي! عامل إيه؟!»

أغمض نوح عينيه، ونزلت دموعه حارّةً على وجنتيه وهو يتمتم:

ــ «مش كويس من غيركم… مش كويس أبدا.»

قالت لوجي بصوتٍ متقطّعٍ من البكاء:

ــ «ولا إحنا يا بابا… ماما بتعيّط طول الوقت، والنهارده الصبح أغمى عليها وجالها الدكتور… هي طول الليل بتعيّط، وأنا سامعاها… ارجعلنا يا بابا، عشان خاطري… ماما بتبقى كويسة بس لما تكون موجود.»

قبض نوح على الهاتف بشدة، وصوته يرتجف وهو يهمس:

ــ «كانت أكبر غلطة في حياتي إنّي بعدت عنكم… راجعلك يا عيوني، والله راجع.»

فقالت الصغيرة بعفويتها البريئة:

ــ «بابا… إنت بتعيّط؟»

مسح نوح دموعه سريعًا وحاول تماسك صوته:

ــ «لا يا حبيبتي، مفيش حاجة… المهم تطمنيني على ماما.»

أجابت الصغيرة:

ــ «ده رقم ماما اللي بكلمك منه.»

قال نوح متعجبًا:

ــ «ومنين جبتي الرقم اللي اتصلتي عليه؟!»

فأجابت ببساطة:

ــ «معرفش… طنط سمر هي اللي اتصلت بيك.»

ــ «طنط سمر؟ مين دي؟!»

مدّت لوجي الهاتف لغزل وقالت:

ــ «هي عايزة تكلمك.»

تناولت غزل الهاتف وقالت بصوتٍ ثابتٍ مليءٍ بالجدّ:

ــ «ألو، يا بيتر، أنا غزل.»

جاء صوته مندهشًا:

ــ «غزل؟! إنتِ مع رهف؟!»

ــ «ايوة… بيتر انا معرفش ايه اللي حصلك وازاي ظهرتلك عيلة قجأة بس اللي متأكدة منه ان وجودك في روما بيشكل خطر عليك ولازم ترجع لو شاكة ان رهف مش مراتك ولو شوية وانه فيلم.. مش هشك ابدا ان لوجي مش بنتك دي الخالق الناطق انت ارجع لعيلتك يا…. نوح.»

ساد الصمت للحظة، ثم ابتسم نوح حين نطقت باسمه الحقيقي، وأغلق الخط معها. ثم التفت إلى توم قائلاً بصوتٍ متكسّرٍ:

ــ «لم يكن مكاني… كان يجب أن أستمع إلى زوجتي. ماذا حدث يا توم؟!»

روى له توم كلّ ما جرى في الليلة الماضية وما علم به من غزل وما رآه بغرفة جين، فاشتعلت نظرات نوح، واحمرّت عيناه غضبًا، وقال وهو يضرب بيديه على فخذه:

ــ «يا ولاد الـ****.»

ــ «أتسبّهم؟!»

ابتسم نوح ابتسامةً مائلةً نحو الجنون وقال بازدراء:

ــ «أسبّهم؟! وهل تظنني بدأت بعد؟!»

ــ «انت بالتأكيد تفكر في العودة الى مصر صحيح؟»

ــ «لا، لن أعود الآن… لن أعود قبل أن أعرف من الذي أراد إبقائي هنا، ولأيّ غايةٍ دُبّر كلّ هذا.»

نظر إليه توم بثباتٍ وقال:

ــ «وأنا معك… قل لي فقط ما الذي تريدنا أن نفعله.»

فأجابه نوح وهو يشعل سيجارته، وصوته يقطر بردًا من الغضب المكبوت:

ــ «نبدأ من حيث انتهى الآخرون… هذه المرة لن أكون فريسةً لأحد.»

استيقظت تمارا من نومها على صوت بكاء طفلها سليم، إذ كان جائعًا. سارعت فبدّلت ملابسها، ثم صعدت به إلى السطح، حيث خُصِّصت لها غرفة صغيرة في أحد مباني الفريق، وقد أُعطيت مفتاحها لتقيم فيها مؤقتًا. جلست هناك، والطفل بين ذراعيها، يحتضن زجاجة الحليب، بينما كانت هي تُسرّح بنظرها في صفحة السماء، تغرق في صمتٍ يجلّلها، كأنها تفرّغ عقلها من كلّ ما أثقله.

نظرت بعد حينٍ إلى الأسفل، وبقيت على تلك الحال ما يقارب نصف ساعة، تتنقّل بعينيها بين السماء والأرض، حتى توقّفت فجأة حين أبصرت سيّارة حمراء تتوقّف أمام المبنى. خرج منها شابّ يرتدي نظّارةً شمسية، وما إن رفع بصره نحو الأعلى حتى التقت عيناه بعيني تمارا.

وفي اللحظة التي رأت فيها وجهه، تبدّلت ملامحها كمن صُعق، ثم اندفعت راكضة من السطح إلى الأسفل، تحتضن طفلها. وبينما تركض، سقطت زجاجة الحليب من يد سليم، فانفجرت باكيًا بصوتٍ حادّ.

هبطت تمارا الطوابق بخطًى مضطربة، ورأته صاعدًا نحوها، يصيح بصوتٍ ملهوف:

ــ تمارا، استني!

تردّد الصوت في أذنها كطعنةٍ، فاستدارت نحو الأعلى وبدأت تصعد من جديد وهي تلهث، إذ كانت تحمل طفلها وتصعد الدرجات على عجلٍ لا تعرف إلى أين تتّجه. طرقت باب اللبّان في كل طابقٍ تمرّ به، فلم يجبها أحد. طرقت باب رحيم أيضًا، تتمنّى لو يفتح، ولكن لم يأتِ ردّ.

اقترب منها سريعًا حتى صار خلفها مباشرة، يقول بصوتٍ آمرٍ متوسّل:

ــ سيبي ابننا… واحنا نبعد عنك… ادّينا سليم.

انفجرت تمارا بالبكاء وهي تواصل الصعود، حتى بلغت السطح من جديد. نظرت إلى الأسفل، ودقّات قلبها كادت تخلع صدرها من شدّتها. أبصرت ماسورةً تمتدّ على الجدار، فالتفتت نحوها بعينٍ مذعورة، لكنّها تذكّرت أنّ طفلها بين يديها، ولن تقدر أن تقفز به.

ارتجف صوتها وهي تهمس له:

ــ سليم… سليم حبيبي، اسمع… عاوز شوكلاتة؟ ها، أجيبلك شوكلاتة؟

نظر إليها الطفل بعينين بريئتين، يتأتئ في نطق بعض الحروف، ثم تمتم بكلماتٍ بسيطة تدلّ على موافقته.

ابتسمت له بمرارةٍ وقالت وهي تضمّه إليها:

ــ هشيلك يلا حليب يا لبن، امسك في إيدي كويس، وهننزل نجيب شوكلاتة.

وضعت الصغير على ظهرها، وشبكت يديه الصغيرتين حول عنقها، وهمست له برجاءٍ مبحوح:

ــ أوعى تسيبها، ماشي؟

أومأ برأسه موافقًا، قابضًا بيديه أكثر خوفًا من السقوط، حتى كاد يخنقها، لكنها تجاهلت الألم وأكملت نزولها.

أمسكت بالماسورة بكل ما أوتيت من قوة، وبدأت تُنزِل جسدها ببطءٍ شديد، وكل خطوةٍ كانت تُحذّره من أن يُفلت يده، فيشدّ أكثر على عنقها، حتى شعرت بالاختناق، غير أنّها تابعت نزولها بعزمٍ يائس.

وبعد دقائق طويلة بدت دهورًا، بلغت الأرض أخيرًا، فتنفّست بعمقٍ، واضعةً يدها على كتف صغيرها ممسكة بذراعه و تلفّه نحوها وتقبّله على خدّه قائلة:

ــ حبيب ماما اللي سمع الكلام، هجيبله شوكلاتة قد كده!

ضحك الصغير ببراءةٍ وسعادة، ثم عانقها بذراعيه الصغيرتين، فلفّت ذراعها حوله تحميه بشدّة، وبدأت تركض مبتعدةً في الطريق المعاكس.

كان بإمكانها أن تنزل من ماسورةٍ أخرى تطلّ على باب العمارة، لكنها آثرت النزول من ماسورة المناور كي تختفي خلف المبنى فلا يراها أحد.

ركضت بين الممرّات والطرقات الضيّقة، تتعثر وتتابع، حتى خرجت إلى الشارع الرئيسي، تمضي مسرعةً تحتضن طفلها وتنظر خلفها بين الحين والآخر لتتأكّد أن أحدًا لا يتبعها.

وفجأة، رنّ الهاتف الذي أعطاه لها زياد لتتواصل معهم من خلاله. التقطته وهي تلهث وتواصل الركض، وقالت بصوتٍ متقطّعٍ مضطرب:

ــ ألو؟؟؟

سمعت تمارا أصوات ضحكٍ تتردّد من الهاتف، ثم انبعث صوت رحيم قائلاً:

ــ “لفّي وارجعي تاني، إحنا كتفناه وموجود في شقتي، تعالي، ومتنزليش بابنك من على المواسير تاني يا حمارة!”

توقّفت تمارا عن الركض، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ هادئةٌ ممزوجةٌ بالارتياح، بل ضحكت بخفّةٍ من نبرة رحيم الغاضبة الممزوجة بالقلق. أغلقت الهاتف ونظرت إلى طفلها سليم، ثم قبّلته على وجنته قائلةً بلغته الطفولية التي لا يفهمها سواهما:

ــ “ات عايزة لاطة؟”

(يعني: أنت عايز شوكلاتة؟)

ضحك الصغير وهزّ رأسه حماسًا، فدخلت تمارا معه إلى أحد المتاجر الصغيرة واشترت له أنواعًا عدّة من الشوكولاتة، ثم عادت إلى العمارة بخطواتٍ أسرع. صعدت إلى شقّة رحيم، فوجدت الباب مفتوحًا. دفعته بيدها ودخلت، لتجد الرجل مقيدٌ على الكرسي، فمه مكمّم بشريطٍ لاصق، ويداه وقدماه مربوطتان، والفريق كلّه مجتمعٌ حوله، بينما يقف رحيم أمامه.

التفت رحيم نحوها قائلاً بصرامةٍ وهو يشير إلى الرجل:

ــ “إحنا لسه ما سألناهوش أي حاجة… قوليلنا ده مين؟ ويعرفك منين؟ أوعي تقولي إنّه من فريقك!”

اقتربت تمارا بخطواتٍ ثابتة نحو الرجل، بينما تولّت دنيا أخذ سليم إلى الغرفة الداخلية وهو ممسك بأكياس الشوكولاتة، منغمسٌ في فرحته الصغيرة بعيدًا عن توتر الكبار.

وقفت تمارا أمام الرجل الذي رفع بصره نحوها، وارتجف وجهه بغضبٍ مكتومٍ وارتباكٍ ظاهر. فجأةً، رفعت تمارا يدها، وانطلقت صفعتها مدوّيةً في الغرفة حتى دوّى صداها في الصمت.

اعتدل الرجل في جلسته، وبدت عينيه تقدحان شررًا، فأمسكته تمارا من ياقة قميصه وصرخت في وجهه بصوتٍ متحشرج:

ــ “روح قول لأخوك ملوش عيال، انت فاهم؟! وانا اتطلقت منه… اتطلقت! خلعت أخوك يا إبراهيم، يعني مابقالوش عليا حق ولا رجعة!”

رمق رحيم الرجل بنظرةٍ متفحّصة ثم التفت إلى تمارا قائلاً بدهشة:

ــ “هو دا أخو جوزك؟”

أجابت بصوتٍ مختنقٍ، وعيناها تفيض دموعًا مؤلمة:

ــ “أيوه.. لما كنت بطلب الطلاق من جوزي ساعتها كان بيرفض، وجه أخوه المحترم يقولي: لو عايزة تطلقي من أخويا عشان مقصّر معاكِ، أنا موجود… إحنا من سنّ بعض يا تمارا. وكان بيتحرش بيا! ولما كنت أقول لجوزي، يرد يقوله مراتك بتوقع بينا… وإنها هي اللي عايزاني! و…”

قاطعها رحيم قبل أن تنهار تمامًا، رافعًا يده نحوها:

ــ “ششش… كفاية يا تمارا، كفاية عليه الكلمتين دول… نعمله عاهة بيهم.”

ثم أشار بإصبعه قائلًا بصوتٍ جهوري:

ــ “شاكر!”

نهض شاكر من مكانه، و رحيم صرخ مرةً أخرى:

ــ “لؤي!”

اقترب لؤي، لا يقلّ ضخامةً عن شاكر، وعيناه تقدحان غضبًا. التفت رحيم نحو إبراهيم الذي ابتلع ريقه بخوفٍ واضح، ثم قال بابتسامةٍ باردةٍ تحمل نية الانتقام:

ــ “أنا هموت من الغلّ… هضربه أنا الأول، وإنتو كمّلوا عليه.”

تقدّم زياد متحمّسًا قائلاً:

ــ “وأنا كمان يا رحيم… والنبي خليني أشارك معاكم انا اه معنديش صحة بدنية للي هتعملوه بس عاوز اجرب مرة وهو مربوط كده.”

صدعت ضحكة من كرمة لتقول: “روح اتغذى الاول يا زياد.”

ضحك رحيم والفريق باكمله حتى زياد ورفع يديه مجهزا نفسه ولكن اوقفه رحيم: “لا أنا الأول.”

فصاح طه من الخلف:

ــ “وأنا كمان!”

وسرعان ما توالى صوت أعضاء الفريق واحدًا تلو الآخر يطلبون المشاركة في الضرب، فرفع رحيم يديه للهواء ضاحكًا وقال ساخرًا:

ــ “خلاص، خلاص يا رجالة… كلكوا هتضربوه. باين إن ليك حبايب كتير يا هيما!”

تراجعت تمارا بضع خطواتٍ إلى الخلف، تحدّق في المشهد أمامها.لأول مرةٍ منذ سنوات تشعر بأنّ خلفها رجال يستعيدوا حقّها، وأن هناك رجالًا يقفون بجانبها لا ضدّها!

ابتسمت تمارا ابتسامةً باهتةً غارقةً في دموعها، ثم رفعت بصرها لتجد رحيم واقفًا أمامها، ينظر إلى عينيها اللتين فاضتا حتى غمر الدمع وجنتيها.

وفجأة، دون أن تنبس بكلمة، انفجرت بالبكاء واندفعت نحوه، تشبّ على قدميها لتعانقه، وتغرس رأسها في عنقه، فيما قطرات دموعها تبلّل كتفه وصدره.

تجمّد رحيم في مكانه، انحبس نفسه لثوانٍ، وعيناه ثابتتان كمن صُعق من المشهد، ثم ابتلع ريقه بهدوءٍ ورفع يده اليمنى ليضعها على مؤخرة رأسها، يربّت بخفةٍ على شعرها المنسدل وهو يتمتم بكلماتٍ هادئةٍ يواسيها بها.

قالت تمارا وهي تبكي بحرقة، ممسكةً بثيابه وشادّةً على عناقه:

ــ “انت مش متخيل الناس دي أذتني إزاي…”

فأجابها بصوتٍ خفيضٍ مطمئن:

ــ “خلاص… كله هيبقى تمام.”

لكنها رفعت رأسها قليلًا، وصوتها يختنق بالبكاء:

ــ “لا… هياخدوا ابني مني…”

هزّ رأسه بثقةٍ وعزم، وقال بحزمٍ أبٍ غيور:

ــ “محدش يقدر يقرب من سليم… ولا ياخده. مش سايبة هي!”

صمتت تمارا بعدها، وغرست رأسها في عنقه من جديد، تشمّ رائحته كأنها تبحث فيها عن الأمان المفقود، بينما ظلّ هو صامدًا مكانه، يربّت على مؤخرة رأسها بصمتٍ حنونٍ يشي بما لا يُقال.

في تلك اللحظة، خرجت دنيا من الداخل، وقد سمعت ضوضاء الفريق وهم ينهالون ضربًا على إبراهيم، لكنّها توقّفت فجأة عندما وقعت عيناها على المشهد غير المتوقع:

تمارا بين ذراعي رحيم، تعانقه بحرارةٍ وانكسار.

رفعت دنيا حاجبها الأيمن باندهاشٍ وريبة، فالتفت إليها رحيم فورًا، وتغيّرت ملامحه في محاولةٍ يائسةٍ لتبرير ما رأت. حدّق بها بعيونه متوسّلًا، يحاول بالكلمات الصامتة أن يقول: “مش زي ما انتِ فاهمة.”

لاحقًا، انتهى كل شيء، إذ طُرد إبراهيم من المبنى بعد أن جُرّد من ملابسه بالكامل عدا ملابسه الداخلية وسُرقت سيارته، وتركوه يركض في الشوارع هاربًا ذليلًا. عاد الجميع إلى شققهم، وكلٌّ منهم يحمل في نفسه مزيجًا من الغضب والرضا، أما رحيم، فآثر الانفراد بوحدته. جلس على مقعده، أطلق تنهيدةً ثقيلةً كمن يحاول استيعاب ما حدث، حتى قطع شروده طرقٌ خفيفٌ على الباب.

فتح الباب، فدخلت دنيا وهي تقول بنبرةٍ متفاجئةٍ مازجةٍ بالعتاب:

ــ “إيه اللي عنيا شافته ده!!”

تنفّس رحيم بعمقٍ، ثم أشار لها بالدخول وأغلق الباب خلفها قائلاً:

ــ “دنيا، مش زي اللي في دماغك.”

رفعت حاجبها بسخريةٍ خفيفة وقالت:

ــ “بقولك إيه… باين إنها عينها منك.”

ابتسم رحيم بارتباكٍ، محاولًا الدفاع عن نفسه:

ــ “وانا مالي! أعمل إيه؟ أروح أقولها ابعدي عني؟ هي اللي حضنتني… وربنا ما عملت حاجة.”

نظرت إليه دنيا نظرةً مشكّكةً وقالت بنبرةٍ جادّة:

ــ “متستهبلش يا رحيم.”

أجابها بهدوءٍ صادقٍ هذه المرة، وقد انخفض صوته كأنه يبوح باعترافٍ دفين:

ــ “والله ما بستهبل… تمارا أنا ماليش أي علاقة بيها، ولا عندي ناحيتها أي مشاعر…قلبي من زمان اختار، ولسه على عهده… لواحدة بس، ومفيش بعدها.”

اتسعت ابتسامة دنيا وارتسم الهدوء على ملامحها شيئًا فشيئًا.

_________________________

استيقظت رهف من غفلتها، تتلفّت حولها بعينين تائهتين، وحين وقع بصرها على حمزة وهبة، خرجت من بين شفتيها جملة واحدة، حاسمة كطعنة:

“أنا عايزة أتطلّق.”

مواعيد الرواية يوم الأحد والخميس

مواعيد رواية لا تخافي عزيزتي الجزء الثاني يوم الثلاثاء عيبقى بارت كل اسبوع لحد ما نخلص دي ♥♥♥♥

حفظكم الله

متنسوش تصلوا علنبي





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى