Uncategorized

رواية موعدنا في زمن آخر الفصل العاشر 10 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf


|10-كُشفت اللعبة|

بدأ حمزة يستفيق شيئًا فشيئًا، واضعًا يده على رأسه المثقل بالألم. وما إن فَتَحَ عينيه حتى صدح صوت هبة بنبرةٍ يكسوها الحُب والارتياح:

“حمزة… انت صحيت.”

وما إن نطقت حتى التفتت الأنظار إليه، واقتربت غزل بخطًى مترددة من سريره. التقت عيناهما، فتأملت في نظراته كأنها تسأله عمّا يجول في صدره، أحست بأنه يودّ النطق، أن يسألها عن حالها، عن سبب وجودها في المشفى.

قالت له تطمئنه، تسبق خوفه بإجابة:

“انا كويسة متقلقش عليا…”

تنهد حمزة تنهدًا عميقًا، كمن يزفر قلقًا غاص في صدره. آهٍ… أما زال في هذه الحال، طريح الفراش، ويفكر في أمرها؟ أهو الحنو؟ بل هي الشفقة، أجل، لا ريب في ذلك.

مدّ يده بتثاقل نحو قناع الأوكسجين الذي يغطي وجهه، وأزاحه ببطء، محاولًا أن يتحدث وهو ينظر نحو هبة:

“ايه اللي حصل…”

وما إن نطق حتى هتف سمير بغضبٍ جارف، كأن النار اشتعلت في صدره:

“البت دي لازم تمشي…”

لكن حمزة ما لبث أن نادى بصوت متعب يقطر حنانًا:

“سمر… تعالي.”

اقتربت غزل منه، والاضطراب بادٍ في ملامحها، لكن صوتها حمل طمأنينة حريصة:

“انت كويس صح.”

أمسك بيدها فقبّلها قبلة امتنان وودّ، وقال وقد أشرق صوته بما يشبه العزاء:

“اه يا حبيبي انا كويس… أكلتي؟”

هزّت رأسها نفيًا، إذ لم يدخل جوفها لقيمات منذ استفاقت، فلا أحد التفت إلى حالها، فقد انشغل الجمع بحالة حمزة. لكن صوته المتعب العذب بلغها كبلسمٍ:

“طيب رهف… خديها بعد إذنك هاتلها أكل.”

تقدّمت رهف نحوها، وسط دهشة الجميع وذهولهم، والأنظار تُتابع المشهد بصمتٍ ثقيل، وتحت أعين سمير الذي يكاد ينفجر غضبًا.

سارت غزل مع رهف بخطًى متوترة، غير أن ابتسامة خفيفة قد تسللت إلى شفتيها، وقد سرت في كيانها نشوة الذكرى بأنه ما يزال يذكرها حتى وهو بين أنين المرض.

وما إن غادرتا، التفتت هبة إلى حمزة تقول مستنكرة:

“هو ده اللي طيبة؟؟ وغلبانة!… ايه اللي حصل عشان تتنقل المستشفى؟؟”

فقال سمير، وكأن الذهول لم يبارح صدره:

“اهو تخيلي يا طنط… تخيلي حمزة الخولي في المستشفى دي نكتة… ده اكتر واحد بيحافظ على صحته وبالنسباله صحته رقم واحد في حياته، افتكر اخر مرة شوفته عيان فيها كان عندي عشر سنين وكان ابويا واخدني نزوره.”

قهقه نوح وقال ممازحًا:

“اللي بتقوله ده مش طبيعي، اكيد مكانش قصده يتعب يعني.”

لحظة… من المتحدث؟!

تسمرت نظرات حمزة، واتسعت عيناه بدهشةٍ تامة، كأنما يرى شبحًا من عالمٍ غابر.

“نوح!!”

صاحت هبة بابتسامةٍ عريضة:

“دي المفاجأة اللي كنت محضرلهالك… اكتشفنا ان نوح مماتش لما السفينة غرقت واهو رجعلنا بالسلامة اهو.”

قفز حمزة من السرير كطفلٍ أبصر أمله، متناسيًا ألمَه، واندفع نحو أخيه يعانقه بشوقٍ أخويٍ عميق، وقد أخذت عجلة المحلول تتحرك معه. ضحكت هبة وهي تمسك به، تقول في سخريةٍ محبة:

“يابني اقعد هو مش هيطير… هتفك الكانولا من ايدك.”

عينا حمزة اغرورقتا بالدموع، لكنه سرعان ما مسحها بكفه، يعانقه مجددًا، لا يكاد يصدق ما تراه عيناه.

كان نوح هو الأخ الأكبر، رفيق دربه، من تقاسما الطفولة، والضحك، والحكايات.

أمسك حمزة بوجهه، يحدّق فيه بعمقٍ وذهول:

“انا مش مصدق اللي انا شايفه…. انا لسه كنت بقرالك الفاتحة من كام يوم وانت اهو قدامي لسه حي مموتش…. انا مش مصدق اللي انا شايفه يا عمتو هو انا بحلم ولا ايه؟؟؟”

ضحكت هبة بفرحٍ غامر:

“لا يا حبيبي… مبتحلمش… نوح طلع عايش فعلا.”

ضحك حمزة، كأن روحه تعافت في لحظة:

“النهاردة السبت… طبعا عارف هناكل ايه النهاردة؟؟ “

ساد الصمت برهةً، وحمزة ما زال بداخله حماس الطفل العائد من الغياب:

“ها يلا هناكل فين؟؟”

هتفت هبة بحماس:

“كباب من عم صبحي، هو اكيد فاكر ده.”

ابتسم حمزة بفرحة صادقة:

“بالظبط.. يلا بينا.”

لكن هبة حمحمت بهدوءٍ، كأن في صدرها ما يستوجب الوقوف عليه:

“حمزة… فيه حاجة لازم تعرفها…”

نظر حمزة إلى نوح، ثم إلى سمير، متأملًا نظراتهم التي احتشدت بالغموض، فهتف مستغربًا:

“حاجة ايه؟”

ترددت هبة، ثم قالت بألمٍ أثقل من الجبال:

“نوح لما رجع… رجع فاقد الذاكرة.”

كانت غزل واقفةً إلى جوار رهف، في صمتٍ ثقيلٍ يتخلله شبح من الترقب. مدت رهف عنقها قليلًا، ثم شرعت بالسؤال وقد كسا نبرتها الفضول:

“انتِ تعرفي حمزة منين؟”

انتُزِعت غزل من شرودها كأنها استفاقت من حلمٍ طويل، ونظرت إلى رهف بعينين ساكنتين، وأجابت بهدوءٍ مدروس:

“خالد… جوزي… حمزة مين؟”

صمتت رهف لحظةً، تستجمع أطراف الحديث الذي دار بينها وبين هبة من قبل، ثم ابتسمت ابتسامةً حذرةً وقالت:

“اه… طيب فين عيلتك… تعرفي نوح منين؟؟”

ردّت غزل بسرعة، كأنها تلقي كلماتٍ غير موزونةٍ تهرب من فمها بلا تفكير:

“معرفهوش… كان… زميل… جوزي خالد… افتكر اني شوفته كام مرة معاه.”

كانت تتكلم بارتباكٍ ظاهر، تُنطقها الحيرة لا الحقيقة. تعلم أنها تُهرتل، لكنها مضطرة لذلك، ففضول رهف لا يهدأ، ولا مناص من الإجابة مهما كلفها الأمر.

قالت رهف مستنكرة، وقد عقدت حاجبيها:

“ايوة بس معتقدش ان نوح كان ليه اصحاب من ضمنهم خالد جوزك!!”

سكتت غزل برهةً، كمن يُقلّب الاحتمالات في ذهنها، ثم قالت بإجابةٍ مراوغة:

“نوح مين… انا قصدي على بيتر.”

توقّفت رهف عن الحديث، وأخذت تُحلل الموقف بصمت. الآن فقط بدأ المشهد يتضح أمامها… لقد فهمت ماهية العلاقة بين غزل ونوح، بل بين غزل و”بيتر”. أجل، كان بيتر كثير التردد على مصر، فلا غرابة أن تلاقت طرقه مع خالد، زوج غزل… ولكن الموضوع به إنّ ولا يتضح كليًّا… ستستجوب نوح بالتأكيد لم تقتنع باجابتها.

وما لبث أن وصل الطعام، فتناولوه على عجل، ثم صعدوا إلى المستشفى، قاصدين غرفة حمزة، ليجدوا أن الجميع يستعد للرحيل.

قالت رهف، مستنكرة:

“بس ده لسه عيان!”

فأجابتها هبة قائلة:

“حمزة مش عايز يبات عشان يريح في بيته، وهو خلص كل محاليله، الممرضة لسه مبلغانا ان حالته استقرت… هنجيب شوية الادوية دي ومضادات حيوية وهيرجع بخير ان شاء الله.”

أما حمزة، فقد كان يُلقي نظراتٍ دامعة على نوح، نظراتٍ لا تخفى على أحدٍ ما تحمله من وجع دفين… أيُعقل أن نوح لا يذكره؟

لماذا تسرق الحياة من بين يديه أعزّ من يحب؟

أيّ لعبةٍ هذه التي يلهو بها القدر في حياته؟

كان حمزة واقفًا بين الامتنان لعودة نوح، وبين حسرةٍ خرساء… فأيّ فرحةٍ تلك حين يعود إلينا من نحب، ولكنهم لا يذكروننا؟!

تحرّك الجمع يغادر المستشفى، وذهب سمير إلى بيته، في حين صحب الباقون حمزة إلى داره.

وما إن استقرّوا، حتى التفت حمزة إلى هبة وقال:

“ارجعي البيت يا عمتو… سمر هتهتم بيا وترعاني كويس انا متأكد.”

نظرت هبة إلى سمر، والجميع يحملق بها بدهشةٍ غير مصرح بها، وقالت:

“ايوة بس… يابني انت مش كنت كلمتني اني اقعد معاكم.”

فقال حمزة بنبرةٍ حانيةٍ واثقة:

“بس ده قبل ما نوح يرجع… دلوقتي انتِ محتاجة نوح زي ما هو محتاجلك الفترة دي… انا هتصرف متقلقيش….”

ثم عانق حمزة نوحًا بحرارة، كمن يُخبئ في حضنه كل خوفه واشتياقه، وقال له:

“هشوفك بكرة اكيد… لازم نتكلم سوا..”

ابتسم نوح له، وقد بدت على وجهه ملامح امتنانٍ خفي، إن حمزة نقيّ… نقيٌّ للغاية… يُحبه بصفاء قلبٍ نادر. أومأ له برأسه إيجابًا، ثم التفت إلى غزل، يريد التحدث معها وهي كذلك ولكن نظرات رهف اليهما تكاد تصيب بقلبهم الرعب!!

تحرك نوح مع رهف وهبة، فقد تأخر الوقت، وآن أوان الراحة، كما أن لوجي ما زالت منذ الصباح عند جدها معتز وسعاد، ولا شك أنها اشتاقت لذراعي والديها.

كانت تقف في المطبخ، تشرب من كوب الماء ، علّها تُسكن ارتباكها، لكن عقلها كان يغلي بالأفكار. لا تعلم كيف ستتواصل مع العصابة بعد أن فُقد هاتفها… لا تدري أين سقط منها، ولكنها ترجّح أنه وقع أثناء فرارها ذلك اليوم من حمزة بالشارع. تنهدت، ثم وضعت الطعام في صينيةٍ صغيرة وصعدت إلى الطابق العلوي.

دخلت إلى غرفته، وما إن فتحت الباب حتى وجدته يبدّل ثيابه، عاري الصدر. ارتبكت على الفور، وأغمضت عينيها سريعًا ثم التفتت بجسدها حاملة الصينية، قائلةً بنبرة منزعجة:

“فاتح الباب ليه مدام بتغير… البس هدومك.”

ابتسم حمزة ابتسامةً عابثة، وتحرك بخفة، وما زال صدره مكشوفًا، ثم أمسك ذراعيها برفقٍ ليجعلها تلتفت إليه. فتحت عينيها، لتلتقي بنظراته أولًا، ثم تهرب بعينيها نحو صدره، فتتسع حدقتاها وتغلق عينيها ثانيةً بخجل ظاهر.

أخذ منها الصينية قائلاً بنبرة دافئة:

“يلا عشان ناكل سوا.”

قالت محاولةً صدّه:

“-خالد بجد هتعيا تاني… البس هدومك.”

ردّ، وهو يشرع في الجلوس:

“-داخل اخد شاور فهاكل وادخل علحمام علطول مش مستاهلة.”

ابتلعت غزل ريقها وهي تحاول التركيز في تناول الطعام، بينما عيناه لا تفارقانها، يطالعها بثباتٍ يُربكها… لمَ هذا التغيير؟! كان يومًا خجولًا متحفظًا، فكيف غدا بهذا التبجح؟!

أنهيا الطعام، فنهض حمزة وهو يقول بحماسة:

“اه عايز اوريكِ حاجة…”

توجه إلى خزانته، وفتحها، ثم أخرج منها قميص نوم نسائي ورفعه أمام عينيها قائلاً بابتسامة خبيثة:

“عايزك تلبسيلي ده النهاردة يا حبيبتي..”

تسارعت أنفاسها، ونظرت للقميص وقد تسارعت دقّات قلبها، وبلعت ريقها بعناء وهي تحدق فيه بصدمة، ثم تساءلت متلعثمة:

“البس… ايه….النهاردة!!”

أمال رأسه وهو يقترب منها خطوة إثر خطوة، بينما كانت تتراجع حتى التصقت بالحائط، تنظر في عينيه المرتبكتين بأنفاسٍ متلاحقة:

“بس… بس.. انت عيان.”

فنظر إليها بعينين متقدتين وقال بصوتٍ خافتٍ ينضح بالرغبة والتيه:

“داويني… داويني يا سمر…”

تلعثمت الكلمات على لسانها وهي تنظر في عينيه مباشرة:

“انت عيان… مش هينفع… النهاردة…”

اقترب منها أكثر، وخفف من صوته وهو يقول:

“ايه اللي منفعوش؟.. مش احنا متجوزين يا سمر؟؟… انا جوزك خالد حبيبك… هترفضيلي طلبي وانا عيان؟؟… عاوز اشوفك بقميص النوم.”

في داخلها، تعالى صراخها وثار غضبها المكبوت:

يابن$#$$… اه يا سافل يا قليل الادب…

لكنها لم تَجْهر بذلك، بل تنفّست بعمقٍ، وابتعدت عنه قليلًا لتلتقط أنفاسها ثم قالت:

“ماشي يا حبيبي… بس… ادخل استحمى… وانا… هروح البسه ليك.”

ابتسم حمزة بفرحة واضحة:

“بجد؟”

أخذت القميص بيدها، وضغطت شفتيها بانزعاج، ثم قالت:

“اه… هو انا هرفض طلب من جوزي حبيبي؟”

أخذ حمزة منشفة ودخل إلى الحمام، وما إن أُغلق الباب خلفه حتى هرعت غزل إلى غرفتها، وأوصدت الباب خلفها بإحكام.

جلست على طرف السرير، تمسك رأسها بكلتا يديها، ثم همست بألمٍ حانق:

“ياريتني مشيت… ياريتني مشيت… بس الزفتة رهف دي كانت معايا… ياريتني هربت اول ما اغمى عليه… ايه ياربي ده…”

كانت تسير في الغرفة كمن يُحاصر بين الجدران، ثم أردفت:

“حتى رحيم مش عارفة اكلمه وبيتر طلع قريب حمزة… مين دعى عليا بس… ما كل حاجة كانت ماشية تمام… اهدي يا غزل… اهدي… المهمة مخلصتش…”

تنفست بعمق، وأكملت لنفسها كأنها تذكرها بخطتها:

“لو هو قليل الأدب فإنتِ هتعرفي تتصرفي معاه… الزعيم دلوقتي خسر مهمة أشرف… ولو جاله انه خسر دي كمان، مش بعيد يموتك إنتِ ورحيم في يوم واحد…”

تمتمت، تحدّث نفسها وتضع الخطط:

“لازم نخلص اللي جينا علشانه… ولو على رامي، فلو جه تاني اعملي نفسك مش عارفاه، ولو اتكلم بحرف حمزة كده كده في صفك… وانتِ صعبانة عليه، بكرة بليل اعملي إن عندك كابوس، وهو كده كده حنين، فهيتعاطف معاكِ… اهدي، محصلش حاجة…”

نظرت إلى القميص بجانبها، ثم لطمت على وجهها بمرارة:

“محصلش حاجة ازاي بس… ده عايزني أبقى مراته بجد… يامصيبتي عليا وعلى سنيني السودا… اعمل ايه؟؟؟”

دلفت رهف إلى عتبة المنزل، كانت لوجي قد استسلمت للنوم على كتف أمّها، فحملتها رهف برفق إلى غرفتها، وأسندتها إلى الفراش بحنوٍ بالغ، ثم التفتت خارجة لتلحق بنوح الذي كان قد ولج غرفة النوم، يبدّل ثيابه متثاقلاً.

اقتربت منه، ونبرتها تنضح بالشكوك:

“وصلنا البيت اهو… تعرف سمر منين؟؟”

رفع رأسه نحوها قليلًا، ثم تنهد قائلاً دون أن ينظر في عينيها:

“-رهف انا مينفعش اتكلم في اسرار زمايلي.”

ردّ دون مواربة:

“سمر تبقى زميلتي قابلتها لما نزلنا مصر وهي تعرفني كبيتر مش كنوح…”

-وايه بقى طبيعة العلاقة دي؟؟

ردّ بلهجة دفاعية، وقد بدا جليًا أن التوتر يتسلل إلى صوته:

“اكيد انتِ سألتيها مش معقولة هتفضلي ساكتة وتستنيني انا احكيلك.”

-بالظبط سألتها وجاوبتني اجابة معجبتنيش وهسألك انت كمان عشان اعرف اجابتك انت الاخر… تعرفها منين يا نوح رد عليا.

-يوووه يا رهف انا تعبان وعاوز انام…

وما إن نطق بتلك العبارة، حتى انطرح على الفراش بجسده المجهد، وأغمض عينيه وكأن الحديث قد انتهى بالنسبة له، بينما بقيت رهف واقفة في مكانها، والغضب يتفجّر في عروقها. كانت نظراتها تشتعل، ثم قالت ببرود قاتل:

“ماشي يا نوح… براحتك.”

استدارت خارجة من الغرفة، وتوجهت نحو المطبخ، بخطى تئن من الغيظ. شرعت تُعدّ العشاء دون اكتراث، لكن كل حركة من يديها كانت تنمّ عن ثورة مشتعلة بداخلها. كانت تغلي كغلي القدر فوق النار، ولم تجد من تصبّ عليه سخطها سوى السكين بين يديها.

أما نوح، فكان مستلقيًا على السرير، ينظر إلى سقف الغرفة، يتخبط بين التزاماته المكدّسة كأكوامٍ من الحجارة فوق صدره. أمسك بهاتفه، فوجد سيلًا من المكالمات الفائتة من “جين”. لم يكن قد ردّ على أيٍّ منها. فتح الرسائل فوجدها مملوءة باللوم والتعجّل. كانت تطالبه بوضوح أن يفتح موضوع السفر مع رهف، وأن يُسرع في عودتهما إلى روما، مؤكدة أنهم يضيعون وقتهم في مصر دون جدوى.

زفر بضيقٍ شديد، وهو يشعر بالثقل ينزلق على كاهله من كل الجهات. المهمات تتكاثر، والقرارات تتعقد، والمصائر تتشابك بطريقة تشلّ تفكيره. وكان حمزة – ذلك الطيف الذي عاد فجأة إلى حياته – ما زال يحاول تذكّره، بينما رأسه يئن من الضباب.

أسند مؤخرة رأسه إلى ظهر الفراش، وأغمض عينيه بإرهاقٍ بالغ، كأنما يأمل أن ينام فتسكن الهواجس التي تنخر في ذهنه.

فتح عينيه ببطء وما إن لمح النافذة حتى اتسعت عيناه!

صُدم حين لمح وجه جين خلف نافذة غرفته، عيناها تتعلقان به كما لو كانت تستنجد به.

ركض نحو النافذة، فتح الزجاج بسرعة، ونظر إليها بتوتر:

Jane! How did you get here? What brought you here?”

“جين! كيف وصلتِ إلى هنا؟ وما الذي أتى بكِ؟”

ابتسمت جين ابتسامة باهتة، محاولة التماسك رغم اهتزاز جسدها على حافة النافذة:

We’ve waited for you so long, Peter… Why haven’t you come back to us? Your phone has been off all day.”

“لقد انتظرناك طويلًا، يا بيتر… لماذا لم تعد إلينا؟ هاتفك كان مغلقًا طوال النهار.”

قبل أن يتمكن من الرد، انزلقت يدها عن النافذة وكادت تسقط، ولكن نوح اندفع بسرعة ليمسك بذراعها، يسحبها إلى داخل الغرفة بقوةٍ خفية عن إرادته. كان تنفسها متسارعًا وعيناها تملؤهما الخوف، لكن سرعان ما هدأت حين التقطت أنفاسها. توجهت بنظرها إلى داخل الغرفة، تلمح الصور المعلقة، وكأنها تسبر أغوار حياة نوح الجديدة التي لم تكن جزءًا منها.

تقدمت بخطوات بطيئة نحو صورة تجمع نوح برهف ولوجي، وعيونها وتتأملها بصمت ثم لمحت صورة لنوح ورهف بفستان الزفاف فوق السرير كان نوح صغيرًا وقتها ياله من وسيم في شبابه وحينما كبر ازداد وسامة وجاذبية.

شعرت جين بثقل في قلبها، حسدٌ ممزوج بألم عميق. رهف، التي نالت كل شيء كانت جين تتمناه؛ الحب، الاستقرار، والعائلة و… نوح.

لكن جين لم تستسلم لهذا الشعور، بل تذكرت تلك المقولة التي كانت تشعل روحها حينما تتلاشى كل الفرص:

Nothing is impossible.The word itself say’s I’m possible.

“لا شيء مستحيل. الكلمة نفسها تقول: أنا ممكن.”

ثم انتبهت إلى صوت الباب وهو يُغلق من قبل نوح بحذر، محاولًا إخفاء وجود جين عن أنظار رهف. استدارت جين ببطء، ونظرت إلى نوح بعينين يملؤهما خليط من الاستفهام والتحدي:

Are you afraid that your wife will see me?

“أتخاف من أن تراني زوجتك؟”

نظر نوح إليها بعمق، وكأنه يبحث عن الكلمات في بحر مشاعره المتلاطم:

“I’m not afraid, but I respect her feelings.”

“أنا لا أخاف، لكنني أحترم مشاعرها.”

توهجت عينا جين بشرارة خفية وحقد كبير على تلك العلاقة لأنها ترى نوح لأول مرة يتصرف هكذا. كانت طوال تلك السنوات تحاول أن يكون عاطفيًا معها، والآن انظروا كيف جعلته تلك الفتاة يخاف على مشاعرها! ومشاعري أنا؟ ماذا أفعل بها؟ وحريق قلبي، كيف أطفئه؟

ابتسمت ابتسامةً غامضة يوجد وراءها مكر مريب.

وفجأة صرخت بصوت عالٍ قاصدة بأن تسمعه رهف، وهرعت نحو نوح، تتشبث به كما لو كان طوق نجاة في بحر مضطرب:

“I saw a bug, Peter… there… I’m so scared.”

“رأيت حشرة، بيتر… هناك… أنا خائفة جدًا.”

ارتبك نوح، واتسعت عيناه بينما شعر بتوتر يتسلل إلى كيانه. وقبل أن يستطيع أن يبعدها عنه، انفتح باب الغرفة بسرعة، ودخلت رهف، لتجد جين تحتضن زوجها في غرفة نومهما!!

كانت اللحظة كأنها متجمدة في الزمن، الصمت الذي ساد الغرفة كان أثقل من أن يتحمله القلب. رهف وقفت هناك، مبهوتة أمام ما تراه، بينما حاول نوح التفوه بأي كلمة، لكن صوته كان محاصرًا بين شفتين جافتين من الصدمة.

نظر نوح إلى زوجته بعينين مضطربتين، ثم ابتلع ريقه وكأن الكلمات تخنقه، وقال بصوت ارتجف تحت وطأة القلق: “والله ما حضنتها… دا هي شافت حشرة وخافت منها و….

ابتسمت جين ابتسامة باهتة لم تبلغ عينيها، وهي تحتضنه بذراعيها. ثم أخفت ابتسامتها المنتصرة و انسحبت من حضنه ببطء، كمن يحاول طمس أثر تلك اللحظة، ووجهت بصرها نحو رهف بعينين تملؤهما خشية مصطنعة، وقالت بنبرة مترددة:

“I saw an insect, and I was afraid of it, so I resorted to hugging him… Peter has always been my refuge and my protector, as you know, for the past four years we have been inseparable, but things have changed now, and it will take me a long time to get used to it.”

“لقد رأيت حشرة، فاستبد بي الخوف منها، فلجأت إلى عناقه… بيتر كان دائمًا ملاذي وحاميًا لي، كما تعلمين، طيلة السنوات الأربع الماضية كنا لا نفترق، لكن الأمور قد تغيرت الآن، وسأحتاج وقتًا طويلاً لأعتاد على ذلك.”

نظرت رهف لنوح وهي مازال حاجبها الايسر مرفوع: “بتبرطم بايه البت دي ترجم.”

زفر نوح وهو يلتقط انفاسه بصعوبة يشكر ربه انها لم تفهم ما قالته جين: “بتقول انها شافت حشرة.”

تبدد الشك بداخل رهف مرة اخرى: “كل الرغي ده في كلمة حشرة!… قالت ايه يا نوح؟؟؟”

-يا رهف ده مجمل اللي قالته بقى متصعبيهاش.

رمقتها رهف بنظرة ثاقبة، ثم بخفة خاطفة رفعت قدمها، لينزلق النعال(الشبشب) من بين أصابعها لفوق، فأمسكته بيدٍ ثابتة. تقدمت بخطوات واثقة في الغرفة، وعيناها تبحثان في الزوايا المظلمة، ثم قالت بصوت يملؤه الأسف: “آه بجد الصراصير كترت عندنا…. بس متخافيش يا حبيبتي هدورلك عليه وأموته….”

بدأت رهف تتنقل في الغرفة بخطوات متأنية، وكأنها تصطاد فريسة مراوغة. عيناها تجولان في الأرجاء، تلتقطان أدق التفاصيل، تبحث في الزوايا وفيما حول جين التي وقفت مذهولة، تتملكها الحيرة مما تراه. راودت جين تساؤلات عميقة في عقلها من تصرف رهف الغير طبيعي: أليس من المفترض أن تكون رهف تغلي بغيرة لرؤيتها في غرفتها؟ فما الذي تفعله أهي حمقاء إلى هذه الدرجة؟!

وفجأة، ودون سابق إنذار، شعرت جين بصدمة قوية تجتاح رأسها، ناجمة عن ضربة قاسية من النعال الذي كانت رهف تمسكه بقبضة ثابتة. ارتسمت على ملامحها علامات الألم، ووضعت يدها على رأسها محاولة تخفيف الوجع، فيما تطاير شرر الغضب من عينيها وهي تحدق في رهف. لكن رهف، غير مكترثة بنظراتها الغاضبة، أطلقت ضحكة هادئة، وقالت بنبرة جمعت بين السخرية والرضا: “لقيته.”

ابتسمت رهف بخبثٍ، تتلذذ بما أحدثته من فوضى، بينما كانت جين واقفة متأرجحة بين الغضب والاشمئزاز، تشعر بثقل الغثيان يجتاحها مما فعلته رهف بها أمام أعين نوح. أما نوح، فقد تجمد في مكانه، عيناه تتابعان تصرفات زوجته بدهشة بالغة، وقد تسمر لسانه خوفًا من تفاقم الأمور. كل ما استطاع فعله هو مراقبة الصراع الصامت بين المرأتين، وقلبه ينبض بدعاءٍ صامت أن تمر هذه العاصفة دون أن تترك خرابًا خلفها.

اقتربت رهف من جين بخطوات بطيئة، وكأنها تقترب من فريسة في لحظة هدوء ما قبل الانقضاض. مدّت يدها بلطف متصنّع، وأمسكت بخصلة من شعر جين الحريري، ثم أعادتها بحنانٍ زائف خلف أذنها، وكأنها تلاطف طفلاً. تمتمت رهف بنبرة مشوبة بالسخرية والحنين معًا، قائلة:”آه يا ملونة شكلك عسول يا شقرة يا قمر انتِ فاكراه هيبصلك؟؟ لا ياقلبي بيحب الجمال المصري أبو العيون السود يالالالي.”

وفجأة، دون أي إنذار مسبق، شدت رهف بخُصلات شعر جين من مؤخرة رأسها بقبضة لا تعرف الرحمة، وسحبتها بعنف نحو باب الغرفة. أمعنت في دفعها إلى الأسفل، بينما كانت صرخات جين ترتفع وتعلو، تعكس ألمها ومعاناتها في كل نبرة. أضحت الصرخات كصدى مرعب يتردد في أرجاء الغرفة. نظرات نوح، التي اختلط فيها الذهول بالقلق، تجمدت على المشهد، يراقب في صمت مرير. ولكن أشفق على جين للحظة وتحرك خارج الغرفة عازمًا على المحاولة بإنقاذ جين من بين أسنان زوجته المفترسة قائلًا: “خلاص يا رهف سيبيها….

التفتت رهف نحوه، وعيناها تتألقان كالنار المتقدة، ثم نظرت إليه بنظرة حادة ومخيفة، كأنها تخترق عمق كيانه. كان قلبه يضطرب بعنف، يرتجف من شدة الخوف. صرخت بصوت يملؤه الغضب، تحركت شفتاها كأنها تقطر سُمًّا: “ايييههه خايف عليهااا؟ قول متخافش.”

هتف نوح بسرعة بصوت مرتعش: “لا طبعًا مش خايف عليها ماتولع أنا مالي.. خدي راحتك.”

أكملت رهف دافعة جين بقوة خارج الشقة حتى سقطت الفتاة على الأرض، ممددة أمام باب الشقة، تنظر إليها بعينين مليئتين بالخوف والرعب. أغلقت رهف الباب بقوة خلفها، وصرخت “صرخات الإغلاق” في أرجاء الممر كإغلاق فصل مأساوي. ثم، استدارت إلى نوح، الذي كان مشغولًا بتفحص المفرش الذي أمامه على الطاولة القصيرة، وكأنه يحاول الهروب من نظراتها التي كانت تراقبه.

ففاجأته رهف عندما خاطبته بصوت ناعم وهادئ، يتناقض تمامًا مع صوتها في المشهد الذي قبله ينطوي على نغمة أنثوية رقيقة، كأن شيئًا لم يحدث: “ها يا قلبي تحب تتعشى ايه؟”

تشنج فك نوح لحظةً، وتوقف برهة، كأنه يحاول استيعاب التحول المفاجئ في سلوك رهف. ترددت في ذهنه أسئلة مشوشة عن هذا التناقض الصارخ بين العنف والهدوء. وبصوت مبحوح، محمل بالقلق والارتباك، قال: “اللي تشوفيه يا حبيبتي.”

ابتسمت رهف بخفة، وتوجهت نحو المطبخ، تتمايل في خطواتها وكأن شيئًا لم يحدث، بينما ظل نوح مذهولًا من التحول المفاجئ في تصرفاتها. رغم صدمته، تملكه شعور بالفرح الغامر، وابتسم ابتسامة عريضة، وبدأ يضحك بعمق. بدا له أن من حسن حظه أن يكون متزوجًا من رهف، التي كانت كما يقال بالمصري “ولية قادرة”، لا تظهر أبدًا ضعفًا أو براءة، وقوتها تفرض هيبتها على الجميع، حتى عليه هو.

لكن، رغم قسوتها وهيبتها، كان يعرف أنها تستطيع أن تكون كالقطة الصغيرة في حضنه، تملؤه شعورًا بالملكية، وكأنها تخبره بكل ضعفها وحاجتها لرضاه ومحبته. تظل رهف في نظره خارج نطاق الخوف من الرجال أو تحديات الحياة، فهو يثق بأنها قادرة على تولي دوره بكل كفاءة أثناء غيابه، محافظًة على توازن حياتهم وتعزيز مكانتهما المشتركة.

وبينما كانت جالسةً تستغرق في دوامات التفكير، تائهةً في احتمالات ما ستُقدِم عليه، إذا بصوت الطرق يُدوّي على باب غرفتها، يتبعه صوت حمزة وهو ينادي:

“سمورة حبيبتي… ملبستيش في الأوضة ليه… اخرجي يلا… متحمس أشوفه عليكِ.”

نهضت غزل بخُطى متثاقلة حتى وقفت خلف الباب، وراحت تلطم وجهها بكفيها، والدموع تهمي من عينيها كالسيل المنحدر من جبلٍ كسير.

-يلا يا سمر افتحي… قافلة الباب بالمفتاح ليه؟؟

وفي تلك اللحظة، خطرت ببالها فكرة، فحاولت أن تُجاهد في تعديل نبرة صوتها لتبدو طبيعية، وقالت:

“ايه ده معقولة! هو مقفول؟؟”

أمسك حمزة بمقبض الباب، وهزّه محاولًا فتحه، ولكن دون جدوى، فصاح:

“أيوة مقفول.”

فردّت غزل من الداخل، وقد تمدّدت على السرير بهدوء، وابتسامة خافتة ترتسم على محياها:

“يظهر الباب معلق يا حبيبي… بكرة الصبح ابقى هات نجار يفتحه عشان الوقت اتأخر… يلا تصبح على خير.”

أغلقت الضوء، وأسلمت جسدها للنوم، وغابت عن الدنيا في غفوةٍ عميقة، تلتمس فيها بعض الراحة من وعثاء هذا اليوم القاسي… لم تشأ أن تُثقل على عقلها بغدٍ مُبهم، فقد كان التعب قد نال منها، وجلّ ما تريده الآن هو نومٌ هادئ يُطفئ نيرانها.

وفي الجهة الأخرى من الباب، كان حمزة يضحك ملء صدره، يكاد يختنق من شدة الضحك، فتمتم لنفسه بنبرةٍ مملوءة بالسخرية:

“ماشي يا سمر… والله لأوريكِ… بقى بعد كل العمر ده، حتة عيلة تضحك عليا… هوريكِ شغل النصب على حق.”

في الصباح وقف رحيم امام عمارة منزل ثم صعد السلالم وطرق الباب، وانتظر لثوانٍ حتى فُتح الباب وظهرت تمارا بملابس المنزل. عند تلاقي أعينهما، اتسعت عينا تمارا بذهول.

رفع رحيم حاجبه الأيسر وقال: ” عينك بسم الله ماشاء الله شغالة اهي ستة على ستة وقادرة تبرق أول ما شافتني قدامها… إيه، كنتِ فاكرة إني ممكن ما أعرفش مكانك يا قطة؟”

صرخت تمارا بخوف محاولة إغلاق الباب، لكنه دفعه بقوة ليدفعها على الأرض ويدخل المنزل. نزل رحيم قليلًا على الأرض، أمسك بخصلاتها وقال: “إيه يا تمارا خوفتي ليه… مش أنتِ عامية برضو؟؟؟؟”

-اوعى يلا لاكسرلك دراعك.

-فين تمارا الكيوت بتاعت اول امبارح؟؟ وربي لو ما رجعتي الشنطة يا تمارا الكلب لأخلص عليكِ… أنتِ فكراني أهبل؟ تعملوا حفلة عليا وتخلوني ادي الفلوس للراجل وارجعهاله عشان اخرجك انتِ وامك من السجن!!

ضحكت تمارا بقوة قائلة بسخرية: “أنتَ اللي قلبك رُهيف حبتين ومقدرتش تظلمنا عشان اسمك على مسماه يا رحيم….”

وبدون سابق إنذار، رفعت قدميها ولفتهما حول رقبته، جاذبة إياه نحو الأرض، ثم وقفت فوقه وابتعدت عنه لتركض في الشقة، غير عالمة إلى أين.

-رايحة فين… هتجري لحد فين يعني… آخر الصالة؟… ماشي.

ثم ركض وراءها إلى الغرفة التي دخلتها، حيث وجدها تقف عند نافذتها. أغلق رحيم باب الغرفة ليجد نفسه معها في المكان، وهي بجانب النافذة تنهج بشدة وتنظر حولها بقلق، بينما اقترب منها رحيم مبتسمًا بخبث: “كنتِ فاكرة إنك هتهربي مني؟… وهو اللي عرفك إني عندي قلب شوية، معرفكيش إنني ذكي وهجيبك حتى لو كنتِ تحت الأرض؟؟؟… وربي ما هسيبك إلا لما ترجعي الشنطة يا حرامية.”

ضحكت تمارا: “لا يا واد، وانت اللي شيخ جامع وأنا معرفش؟؟”

غضب رحيم كثيرًا، فقال: “انطقي فين الشنطة بدل ما ادفنك مكانك؟؟”

كان يقترب منها أثناء حديثه، ثم أخرج سكينًا من جيبه مهددًا بها: “أنا ورايا أشغال تانية ومش فاضيلك… فانطقي وإلا…”

تفاجأ رحيم بتمارا وهي تتقلب بهدوء لتقفز من النافذة وتختفي من أمامه، فوقف مدهوشًا وعيناه متسعتان: “يابنتل***”

هرع رحيم نحو النافذة ليتفقد تمارا، فرآها تقفز برشاقة من على المواسير، لتهبط على الأرض وتبدأ في الركض نحو دراجتها النارية.

قبل أن تنطلق، التفتت نحوه، وألقت عليه نظرة ملؤها التحدي، ثم لوحت بيدها في وداع ساخر، وكأنها تسخر منه بصمت. ارتدت خوذة الدراجة ثم أشعلت دراجتها النارية وانطلقت بها هاربة. هبّ رحيم فورًا واندفع للخروج من المنزل ليلاحقها، لكنه عندما وصل إلى الطريق التي اتجهت منها، اكتشف أنها قد اختفت، كأنها تلاشت في الهواء. ضرب الأرض بقدمه بعنف، وزفر بضيق قائلاً: “هجيبك، اصبري عليا يا تمارا… حتى لو كنتِ في مجرة تانية، هجيبك… مش أنا اللي يتضحك عليا.”

استفاق حمزة من نومه على رائحة الطعام تعبق في أرجاء الغرفة، وما إن فتح عينيه حتى أبصر غزل قد أعدّت له الفطور، ووضعته إلى جواره وهي تبتسم ابتسامة هادئة، وقالت:

“صباح الخير… أنا حضرتلك الفطار… متنساش تاخد علاجك بعده.”

رفع حمزة كفّه ليمسح وجهه المتعب، ثم اعتدل في جلسته، ونهض قاصدًا المرحاض، مُعلّقًا بنبرة لا تخلو من التهكم:

“عرفتي تفتحي الباب يعني؟”

ابتسمت غزل بتوترٍ ظاهر، وقالت متلعثمة:

“اه…. ما أنا حاولت طول الليل… وفتح معايا..”

وما إن خرج حمزة من المرحاض، حتى اقترب منها، ووضع يده على خصرها ليجذبها إليه، وقال ماكرًا:

“أفهم من كده إنك لابسة القميص تحت الروب ده؟؟”

اتّسعت عينا غزل من الفزع، وجسدها أخذ يرتجف كغصنٍ في مهبّ الريح، وهي تحاول الابتعاد عنه، وقالت بصوتٍ مرتعش:

“فيه حاجة… عايزاك تعرفها يا خالد…. أنا… عندي ظروف.”

نظر إليها حمزة لحظةً، ثم تنحّى عنها وقال بهدوء:

“قولي لإبراهيم هتلاقي رقمه على الارضي تحت يشتريلك أي حاجة تعوزيها…. وكلميه يجيبلك هدوم ليكِ. “

زفرت غزل زفرةً طويلة وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، امتزجت بالارتياح، انتصارًا لخطتها. جلس حمزة، يشرع في تناول طعامه، بينما عقله يدور في فلكٍ آخر، متأمّلًا دهاء تلك الفتاة. لم يشأ أن يُشعرها أنه قد استشفّ مكيدتها؛ فهو لا ينوي أن يُربكها بهذا الأمر الآن. لقد خرجت من الورطة بدهاء، لكنه قادرٌ على مضايقتها بطرق أخرى… لمَ لا يُضفِ على الأمر بعض اللهو؟ فهو حتمًا سيُبلغ الشرطة، لكن لا بأس ببعض العبث المؤقت.

جلسا يتناولان الإفطار سويًّا، وما لبثت غزل أن نهضت لتُحضِر له بذلته استعدادًا لذهابه إلى العمل، تحت أنظارٍ متبادلة مشبعة بالقلق والترقّب. كانت تشعر باضطرابٍ من نظراته، أما هو، فكان يستلذّ بتوترها، يكاد يضحك، لكنه يكبح نفسه، مستمتعًا باضطرابها هذا.

بعد العصر استعدت تمارا للعملية الجديدة ، وهي تقف لبيع الحلوى للصغار. كان الهواء محملاً برائحة الحلوى وبهجة الأطفال، بينما كانت هي تبتسم وتوزع الحلوى بسخاء وعطف. ثم لفت انتباهها فتاة صغيرة تتقدم نحوها، تنظر للحلوى بحماس الطفولة. ابتسمت تمارا للطفلة، وأخذت قطعة حلوى لتعطيها للفتاة بكل حب ولكن قبل ان تسلمها إياها أوقفها صوت الرجل الذي كان يقف بجانب الطفلة. بدا صوت الرجل مفعمًا بالقلق والاعتراض وهو يتحدث إلى ابنته قائلاً: “لا يا سارة انتِ اكلتي حلويات كتيرة اوي النهاردة.”

-بليز يا بابي واحدة كمان وخلاص…. عشان خاطري واحدة كمان بس…. عشان خاطري

تأمل الأب نظرات ابنته البريئة، فشعر بضعف داخلي يتسلل إليه. كانت عيون الطفلة، التي تفيض بالأمل والشغف، تعكس نقاءً وبساطة، وكأنها تطلب منه تنازلاً صغيرًا. تجلت هذه النظرات كأنها تضع عبئًا ثقيلاً على كاهله، فتسللت مشاعر الضعف والارتباك إلى قلبه وقال وهو يبتسم في وجه تمارا بقلة حيلة: “هنعمل ايه بقا مش بنعرف نرفض طلباتهم وهما بيطلبوها بالمنظر دا… هاتي واحدة.”

ابتسمت تمارا وهي تشاهد مشهد صرخة الفتاة المليئة بالفرح، التي تجسدت في عناق حار لأبيها، وتحتضنه بحب صادق. كان الأب، الذي بدا كأنه استسلم أمام براءة طفلته، يحملها بين ذراعيه بحنان واحتواء. تأملتهما تمارا، وملأ قلبها شعور بالدفء والسرور، حيث تجسد في تلك اللحظة أسمى مشاعر الحب والأبوة.

سلمت تمارا الحلوى للطفلة، التي استقبلتها بفرحة عارمة، عيناها تتلألأان بفرح عميق. أخذ الأب بيد ابنته الصغيرة، وحملها برفق وهو يسير نحو الخارج، بينما كانت الفتاة تمضغ الحلوى ببهجة واضحة، مستمتعة بكل لحظة من تلك اللحظات السعيدة.

رحل الأب وابنته، وكانا محاطين بهالة من السعادة، تاركين وراءهما أثرًا من الدفء والفرح. تأملت تمارا المشهد بعيون مليئة بالتأمل، شعرت بشعور عميق يجتاح صدرها، ذلك الشعور الذي يتجدد كلما شهدت علاقة أب بابنته، وكيف يتجلى فيها الدلال والاهتمام والفرح البريء.

كان ذلك المشهد يذكرها بتجارب لم تعشها، حيث تتساءل في صمت عن سبب غياب مثل هذه اللحظات البريئة عن حياتها الخاصة مع والدها. كان المشهد يوقظ في نفسها حسرة مبطنة، ذكريات من الطفولة التي لم تعرف فيها دفء تلك اللحظات، ولم تتذوق طعم الفرح الصادق الذي يجمع بين الأب وابنته.

كان القلب يثقل بذكريات لم تعشها، ويسترجع لقطات من الحياة التي كانت تفتقر إلى هذا النوع من الحنان والعلاقة الوثيقة. في أعماقها، تمنت لو كانت قد حظيت بمثل تلك المشاهد، التي تعكس أسمى معاني الحب الأبوي، فكانت تراقب بعينين مشبعتين بالألم والحنين، تشعر بفرح الآخرين وتستعيد تلك اللحظات المفقودة من حياتها.

أين كنتَ طوال هذه السنوات، يا أبي؟ أتعلم؟ لقد مرَّت الأيّام دون أن أشعر بأنني ابنتك فعلاً. لقد كبرتُ وحملتُ أعباء الحياة وحدي، كل صباح كنتُ أصحو لأجد نفسي في مواجهة واقعٍ قاسٍ لا يرحم، بينما كنتَ أنتَ غائبًا عني، غائبًا عن تفاصيل حياتي الصغيرة والكبيرة. ما الذي شغلكَ عني لتنسى ابنتك الوحيدة؟ أتراها كانت مشاغل الدنيا أم أنها قسوة القلب التي جعلتكَ تبتعد وتنسحب من حياتي دون أدنى اعتبار؟

كم مرةً تمنيتُ أن أراك بجانبي، كم مرةً كنتُ أحتاجُ إلى دفء حضنكَ وسندك، لكنني كنتُ دائمًا أجد الفراغ، الفراغ الذي تركته في قلبي وعالمي. هل تصدقُني إن قلتُ لكَ إني لم أعد أشعر بالأمان معك؟ لقد تحول وجودكَ في حياتي إلى مصدرٍ للخوف والقلق، خوف من أن أجد في وجه رجل آخر ملامحكَ وصفاتكَ، ذلك الرجل الذي لم يستطع أن يكون أبًا حقيقيًا، أبًا يهتمُ ويشعرُ ويحبُ.

لقد زرعتَ في داخلي جفاءً تجاهكَ، جفاءً عظيمًا يصعبُ تجاوزه. في كل مرة أسمع فيها كلمة “أب”، أشعرُ بوخزة في قلبي، وكأنها تذكرني بما لم يكن، بما كنتُ أتمناه ولم أحصل عليه أبدًا. أشعر أنكَ لم تكن يومًا أكثر من مجرد رجل عابر في حياتي، رجل لم يترك في قلبي سوى الخوف، الخوف من أن يُعاد سيناريو حياتي مرة أخرى مع رجل آخر.

سأكون حذرةً جدًا في اختياري لزوج المستقبل، سأبحثُ عن رجلٍ لا يحمل شيئًا من طباعكَ، رجلٌ يعرف كيف يكون الأب والأمان. سأجتهدُ لأربي طفلاً لا يعرفُ شيئًا من أخلاقكَ، طفلاً يعيش حياةً أفضل من حياتي.

وهذا ما كان الجانب المظلم من تمارا، جانبٌ كامن في أعماقها، كجرحٍ غائر لم يُلتئم أبدًا، ليصبح أصلًا لقسوتها المتجددة وشجاعتها المتقدة.

جاءها صوت عبر السماعة التي ترتديها، صوته خافت لكنه واضح، ينساب كخيوط مشدودة من خلال الأذن. قال بصوت هادئ وحذر مملوء بالجدية الحاسمة:” تمارا…. الراجل لابس بدلة زرقة ومعاه شنطة هيقابل رجل اعمال زيه وهيقعدوا في اقرب كافيه راقبيهم وبدلي الشنطة ب اللي معاكِ اوعي حد يحس بيكِ خدي بالك. “

____________________

-يخربيتك يا رحيم…. انت ازاي طلعت جاحد كدا…. بتخطف ست عجوزة؟ واحنا من امتى بنؤذي ستات او رجالة كبار في السن… دا انت اكتر واحد فينا عنده قلب تقوم تعمل كدا؟؟

-بس اخرس انتَ مش فاهم حاجة… المهم مش عايز مخلوق واحد يعرف اللي حصل انتَ فاهم؟؟

قال الفتى الذي كان يبلغ السادس عشر من عمره: “فاهم… بس هتعمل بيها ايه.”

-اتحرك بالعربية وانتَ ساكت.

وصلوا إلى مكان هادئ سكونه مرعب، مكان خالٍ من أي ملامح الحياة، حيث لا توجد أشجار ولا حركة تزعج الصمت القاتل. نزل رحيم من السيارة ليتجه إلى مؤخرة السيارة، حيث فتح حقيبتها. كان الفتى يقف بجانبه، ينتظر ما سيؤول إليه مصير المرأة العجوز. عند فتح الحقيبة، ظهرت المرأة العجوز مقيّدة، وقال رحيم بغضب شديد:

“شوفتي بقى، عرفت أجيبك تاني ازاي… وجيبتك مربوطة. لو موتك دلوقتي، محدش هيشم خبر حتى…”

نظرت المرأة العجوز إليه بخوف، بينما كان الفتى حزينًا، فقد علم بمدى قسوة رحيم. اقترب الفتى ليزيح عنها رباط يديها قائلاً:

“حقك علينا يا أمي.”

ولكن حينما فك رباط يدها، تفاجأ الفتى بلكمة قوية من المرأة العجوز على وجهه. ضحك رحيم قائلاً:

“كنت عارف… عشان كده سيبتك تفكها.”

أمسك رحيم المرأة العجوز من قدميها، وبدأ يجرها نحو الأرض، حيث سقطت المرأة من حقيبة السيارة على ظهرها، وتأوهت تحت اللاصق الذي كان على فمها. رفعت المرأة يدها لتنزع اللاصق من فمها، قائلة بغضب:

“أنت قد اللي بتعمله ده؟”

ابتسم رحيم لها وقال:

“لو مكنتش قده مكنتش عملته.”

ثم أخذ رحيم يلف رجلي المرأة العجوز لتصبح متقوسة نحو بطنها، مما جعلها تقابل الأرض. رفع رحيم ساق المرأة بقوة نحو رأسها من الخلف، فصرخت المرأة بصوت عالٍ، بينما كان الفتى يقف مذهولاً مما يفعله رحيم بامرأة عجوز!!

انتبه الفتى لصراخ رحيم:”هات الحبل واربط إيديها.”

تحرك الفتى بخوف، ممسكًا بالحبل، وبدأ يربط يدي المرأة وراء ظهرها، ثم قدّم رحيم ساقيها بيديه الى الأمام مرة أخرى حتى أصبحت ترى قدميها تأتى من الخلف لتراهم بوضوح، فتأوهت المرأة بشدّة من هذا الوضع، حيث شعرت وكأن رجليها ستخلعان من جسدها.

قال الفتى وهو ينظر للمرأة بشفقة:

“براحة يا رحيم… دي برضو ست كبيرة.”

رد رحيم قائلاً وهو يضحك بسخرية:”ست كبيرة إيه يا هبل… دي عيلة مفعوصة متنكرة. اقلع القناع بقى وريهم وشك الحقيقي يا عمر يا رشدي.”

فجأة، وضع رحيم يده على وجهها عند أول رقبتها، ممسكًا بجلدها ليرفعه للأعلى، والذي كان جلد مصنوعًا من “السيليكون” يشبه الجلد الطبيعي. كشف عن “تمارا” التي كانت تحت القناع بملامحها الحقيقية.

كانت تمارا تتميز بشعرها القصير، الذي قُصّ بقصة رجالية تتسم بالجرأة، ينتهي عند بداية رقبتها، متدرجًا بشكل متقن يضفي لمسة من الحدة على مظهرها. لونه البني العميق، مع تدرجاته الدقيقة، أضاف تباينًا ظريفًا يعزز من بروز ملامح وجهها بوضوح.

عيناها باللون العسلي، كانتا تلمعان ببريق عميق، في حين أن شفتاها الصغيرتان، ذات اللون الوردي الهادئ، أضفتا لمسة من الرقة على ملامحها الحادة.

نظر الفتى إليها بدهشة، وسأل باستفهام:

“دي بنت ولا ولد؟؟”

فأجاب رحيم وهو يتحدث إليها من الأسفل:

“فين شعرك يا تمارا؟ وديتيه فين ولا كانت باروكة؟”

أجابت تمارا بنبرة متجهمة:

“يابني أنا مش عايزة اتغابى عليك.”

فرد رحيم، وهو يصر على المزيد:

“لا اتغابي… اتغابي عشان خاطري.”





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى