Uncategorized

رواية موعدنا في زمن آخر الفصل السادس 6 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf


|6-ما أمكرك يا غزل!|

– بابا!!

ارتجفت الكلمة وهي تنطلق من فم رهف، تحمل في طياتها دهشة وقلقًا، بينما تلتقي عيناها بتلك النظرات القاسية التي كانت تخترق زجاج النافذة. اعتدل نوح في جلسته، محاولًا السيطرة على توتره، ليرى العجوز خلف الزجاج، عينا الرجل كانتا كالنيران المستعرة. التفت إلى رهف، التي منحت نوح نظرة مليئة بالطمأنينة، ثم فتحت باب السيارة، هرعت منها بخطى سريعة، وأغلقت الباب خلفها، وكأنها تحاول أن تحميهما من أي صراع محتمل بين والدها ونوح.

صرخ والدها “معتز” بصوت مشبع بالغضب والقهر: “انتِ بتعملي إيه هنا؟ وايه المكان اللي قاعدة فيه دا؟ متعرفيش إن المكان دا بيجيه الناس اللي مش عاوزة حد يشوفهم وهما مع بعض؟ وطبعًا عارفة بيعملوا إيه! يعني إيه تنزلي من البيت من غير ما تعرفيني ومع مين؟!”

صدى كلماته كان كالسياط على جسدها، فارتعش قلبها وهي ترد بصوت مختنق: “أنا مع جوزي يا بابا، مش مع حد غريب.”

تساءل معتز بسخرية لاذعة، نظراته كانت كالسهام تخترق قلبها: “جوزك؟ وهو كان فين جوزك دا بقى؟ فضل مختفي أربع سنين وموقف حالك، ولا منك متطلقة ولا منك على ذمته.”

كان نوح يستمع لكل كلمة منه و رهف تحاول الدفاع عنه: “احنا منعرفش هو حصله إيه… لأنه لو كان بإيده إنه يرجعلي مكانش ضيع ساعة واحدة من غيري، مش أربع سنين!”

نظر معتز للسيارة، فرأى نوح جالسًا بداخلها، عيناه مليئتان بالألم والغضب المكتوم. صاح به: “ما تنزل تكلم حماك… ولا بتتحامى في مراتك عشان هي الوحيدة اللي لسه لحد الآن متمسكة بيك رغم إن الكل قالها تطلق وتتجوز، عشان مكناش عارفين لك ملة بقى ميت ولا عايش ولا فين أصلاً؟!”

نظر نوح إليه بعينين مشحونتين بالصرامة، ثم هبط من السيارة ببطء، كأنه يخطو في حقل من الألغام. وقف أمام معتز وقال بصوت هادئ لكنه حازم: “الحقيقة معرفكش عشان اتكلم معاك أو أوضح لك حاجة مش واجبي إني أوضحها.”

تحدث معتز بغضب وصراخ، نبرته كانت كالرعد في أذني رهف: “انت بسببك بنتي ضاعت… بنتي ضيعت أربع سنين من عمرها مستنياك… وقفت حالها وشغلها وكل حاجة في حياتها وقفلت على نفسها… وأي حد مننا كان بيحاول إنه يقرب لها أو يحاول يتناقش معاها، كانت بتتحول لوحش ماشي على الأرض، مش بنتي رهف أبدًا.”

حاولت رهف كتم دموعها وقالت بصوتها المتحشرج: “واهو رجع يا بابا… رجع وهيرجع لي دنيتي وهيعوضني عن كل السنين دي.”

قهقه معتز بسخرية تعلو، كأنه يسكب الملح على جروحها: “والبيه راجع لي فاقد الذاكرة، لا وايه كمان حرامي اثار…بيسرق معلومات وطنك…ده جاسوس علبلد والمفروض يترمي في السجن… وأول يوم شافك فيه كان هيموتك في إيده… إزاي تؤتمني له؟!”

صرخت رهف، وهي تقف أمام نوح، عيناها تشتعلان بالغضب والدموع في آن واحد: “عشان ده مش نوح جوزي….ده بيتر…اللي عاش حياته وسط عصابة للاثار وانا دلوقتي بحاول ارجعله هويته الحقيقية….افكره بحياته بشغلته….انا مش هسيب نوح الا لما يرجع لحضني من تاني… أنا بحبه… ليه مقدرتوش تستوعبوا إني بحبه ومقدرش أكمل حياتي غير بيه هو وبس؟ لما عمل كده كان معذور لأنه مكانش فاكرني… لكن واثقة إن لو نوح حبيبي هو اللي شافني وقتها بعد الفراق دا مكانش سوى كده أبدًا… بابا، نوح بالنسبة ليا هو كل شيء حلو في حياتي، من غيره حياتي رجعت ضلمت تاني… أنا عمري ما بلاقي نفسي غير وأنا معاه هو… هو نبضي وروحي وكل حياتي.”

ساد الصمت بينهم كستار كثيف يحجب ضجيج العالم، كأنما الكلمات قد نضبت وتركوا في فراغ موحش يلتهم أرواحهم. عيونهم كانت تعبر عن ذهول حبيس، نوح، الذي اشتدت نبضات قلبه، كأنما يسمع همساته لأول مرة، مشاعر الفرح والعشق تتصارع داخله كأمواج عاتية، تدفعه لحب تلك الفتاة بعمق أكبر، كأن كل لحظة معها هي أول لقاء يتجدد بألقٍ لا ينطفئ.

نظر معتز إلى نوح الذي كان يتأملها بشغف متأجج، فرأى في ابنته تحولًا إلى قطة شرسة، تقف كحارس وفي، تحمي زوجها من أي ضرر قد يمسه. كلماتها التي تفيض بالحب والولاء، وشعر بعمق حبها لزوجها… وهذا ما زاد من غضبه…لقد عاد نوح وعادت فتاته تصرخ بوجهه مجددا من أجله.

فتحدث معتز قائلا بلوم: “لكن هو مش عاوز يعرفك… كريم قالي انهم رفعوا عليكو السلاح عشان حاولتي ترجعيه…. احنا هنجبره يفضل معانا ولا ايه ما يغور في ستين داهية.”

تحدثت رهف بارهاق: “بابا ارجوك متتكلمش كده عليه…. نوح مايعرفناش… نوح فجأة لقانا ظهرنا في حياته وعايزينه يرجع يعيش معانا وهو بقاله اربع سنين عايش بهوية تانية وحياة تانية وسط ناس اتعود عليهم…. بابا…. نوح اللي طلب انه يقابلني النهاردة ومرضيش يروح روما… ارجوك يا بابا سيبني ارجع جوزي بطريقتي…. دنا ما صدقت حياتي رجعلتي تاني.”

نظر معتز لنوح وكاد ان يخنقه فهو لا يطيقه بتاتا…. كان بينهم صراعات قبل زواجه من رهف وبعد زواجهم استمرت اما بعد ان اختفى ورأى حالة ابنته تزداد سوءا من غيابه فان كرهه بقلبه اصبح كالصمغ.

-انا دلوقتي عايزة اساعده انه يشوف مامته عشان طنط هبة مستنية تشوفه على احر من الجمر…

دهش نوح من ذكر كلمة “أمه”…هل لديه أم غير كارلا زوجة ستيفن الذي كان يعيش معهم؟؟ أخذ يحاول تذكر أي شيء فهناك تشويش بعقله وذكريات مشوشة باهتة لطفولته، شعر بنبض عارم يجتاح عقله، كصداع يمزق خلايا فكره، فأصدر تأوهًا ورفع يده المرتعشة إلى رأسه. التفتت إليه رهف، تتحدث بلهفة تشوبها مشاعر قلق تنبع من أعماقها: “نوح… مالك؟!…انتَ كويس؟؟…نوووح.”

وفجأة، تسلل وميض أسود خفي إلى مجال بصر نوح، ليتحول العالم إلى ليل حالك، كأنما الظلام يلتهم كل بصيص نور. عم السواد كاملًا أمام ناظريه، وسقط أرضًا، بينما صرخات من حوله تتلاشى ببطء، حتى غمره سكون مطلق.

صعد حمزة إلى غرفته، راغبًا في الاستحمام سريعًا قبل لقائه بصديقه. لكن ما إن فتح باب الغرفة حتى تجمد في مكانه، عينيه تتسعان بدهشة. سمر كانت تقف أمام المرآة، منشفة قصيرة تُغطي جسدها المبلل، ومجفف الشعر في يدها، يحاول أن ينفض خصلات شعرها المتناثرة. لحظة تأملها المدهشة جعلت قلبه يندفع بسرعة، فبادر بإغماض عينيه بسرعة، متراجعًا خطوات إلى الوراء قائلاً بصوت مرتعش: “يا سمر… يا سمر، ما تستحمي في أوضتك.”

ردت سمر بصوت عذب وابتسامة متسلية: “يا روحي، ما أوضتنا واحدة… مالك مغمض عينك كده ليه؟”

أدار حمزة ظهره لها، رفع وجهه نحو السماء يناجي ربه أن ينقذه من هذا الموقف المحرج. ثم سمع صوتها مجددًا يتساءل:

” خالد؟… تعالى ادخل استحمى انت كمان… يابني مالك واقف مديني ضهرك ليه ما تدخل!!!”

أخرج حمزة هاتفه من جيبه، متصنعًا محادثة هاتفية وهمية، وتوجه مسرعًا إلى الغرفة المجاورة. استغربت سمر من تصرفه المفاجئ، لكنها عادت لتكمل تجفيف شعرها، بينما كان حمزة يتخبط في أفكاره.

دخل حمزة الغرفة وأغلق الباب وراءه، يستند عليه متنهجًا، يأخذ انفاسه بعنف وقلبه يكاد يخرج من مكانه، بدون تفكير دخل سجل المكالمات بهاتفه وهاتف عمته.

أتاه الصوت من هبة ترحب به قائلة بود: “حمزة حبيبي عامل ايه، ايه اخبارك؟”

حاول حمزة الابتسام رغم توتره وارتباكه: “ازيك يا عمتو… انا بخير الحمد لله.’

سألها عن حالها وهي ايضا سألته عن حياته لم يتحدثوا منذ اشهر وبعد مدة من المقدمات تحدث حمزة فورا:” عمتو انا عايزك في خدمة. “

-امبارح خبطت بنت بالعربية و……

روى لها كل ما حدث حتى كابوسها ليلة امس

تأثرت هبة مما سمعته وانفطر قلبها على هذه المسكينة: “يا حبيبتي…. دي يتيمة يا حمزة طب هتقعد فين لو اتعالجت.”

جلس حمزة على اقرب كرسي: “هدبر الموضوع ده بعدين هتصرف فيه… لكن دلوقتي انا محتاجك تجيلي يا عمتو تعيشي معايا….هي… هي معتبراني جوزها انا عايز حد يكون معانا….”

-ايوة بس حتى لو جيت قعدت معاك… مش هيتقفل عليكم باب؟؟

-لا… انا هرفض وهطلع بأي حجة… بس انا عاوز حد معانا… قصدي معاها في نفس البيت… مش عاوز نكون انا وهي لوحدنا…. خاصةً اني مينفعش ادخل اي حد بيتي… يعني كنت هجيب خدم بس انا هاخد وقت طويل عبال ما الاقي حد مناسب فانتِ افضل خيار بالنسبة ليا الفترة دي.

صمتت هبة بعض الشيء ثم تكلمت: “معنديش مشكلة…. انا قاعدة لوحدي واهو اتونس بيها… شوف الوقت المناسب واجيلك فيه..

-هعدي عليكِ النهاردة بليل.

اغلق معها المكالمة وتحرك بسرعة خارج الغرفة، فتح الباب ببطء، ليجد سمر تقفز في حضنه، مغمورة بعفوية وحماس، وهي تقول: “شكرًا يا خالد بجد، أنا بحبك أوي… أنت سيبت الأوضة عشان المفاجأة اللي محضرهالي صح… بس قدرت أكشفها يا مخادع… كنت مجهزهم ليا عشان تفاجئني.. أحلى مفاجأة والله.”

أبعد حمزة سمر عنه قليلاً، ونظر إليها بعينين مليئتين بالتساؤل: “مفاجأة إيه؟”

ضحكت سمر، وأغمضت عينيها قليلاً وهي تقول بغيظ: “يا ربي على اللؤم… يا حبيبي خلاص مفاجئتك انكشفت.”

ابتعدت عنه بخطوات خفيفة، ورفعت طرفي الفستان لتكشف تفاصيله الرائعة قائلة بحماس: “جميل أوي يا خالد… كلهم حلوين جدًا، ونقيت دا لعشا النهاردة، إيه رأيك؟”

نظر حمزة إلى الفستان الذي ترتديه سمر، وقد أذهله مشهدها بشكل لا يوصف. كيف لفستان بسيط، برقة تفاصيله ونقاء لونه، أن يحوّل جمالها إلى مستوى جديد من السحر؟ الفستان الأخضر جعلها تبدو كتحفة فنية تتجاوز حدود الخيال. شعرها المجعد، المنسدل بترف، يتناغم مع لون الفستان، وعينيها، المتلألئتين كجواهر، تذيبان أي شخص يجرؤ على النظر إليهما.

جمال سمر كان كالعاصفة التي تهب فجأة، تغمره بعمق وتجعله ينسى كل شيء آخر.

أمامه، كانت سمر، بعينيها الساحرتين وشعرها المتطاير كأمواج الليل، تثير في قلبه لوعات عشق لم يشعر بها من قبل. يُمكن أن يُصاب الإنسان بلعنة الجمال التي تجعله يرى الحسن في كل تفصيلة، فتغدو العيوب غير مرئية بينما يُسلط الضوء فقط على الجمال الذي يشع.

تساءل في أعماق قلبه: “لِمَ تفعلين بي هذا؟ ألا تملكين ذرّة رأفة تجاهي؟ ألا ترحمينني من سحر جمالك، هل تدركين ما تفعليه بقلبي المرتجف ونبضاته المتسارعة حينما تلتقي عيناكِ بعيني؟ أم أنكِ تتعمدين هذا لتعذيب روحي، وتستلذين برؤيتي مسلوب الإرادة، عاجزًا عن مقاومة فتنتك؟”

اتاه صوتًا داخلي ينغص عليه سعادته المفرطة ليجعله يلاحظ شيء لم ينتبه له قط:

“مهلاً، مهلاً، مهلاً… ألا ترى، يا حمزة، ماذا ترتدي؟ إنه فستان زوجتك الراحلة، الذي تخفيه بعناية بين طيات خزانتك، ولا تسمح لأحد بلمسه كي لا تتلاشى رائحة أميرتك منه. والآن، سمر ترتدي فستان أميرتك! كيف لها أن تجرؤ على الاقتراب من هذا الثوب المقدس؟ ألا تشعر بالغضب يموج في صدرك، وأنت ترى شخصًا آخر يقتحم حرمة ذكرياتك؟ كيف تتحمل رؤية هذا المشهد دون أن ينفطر قلبك؟ ألا يدفعك هذا الانتهاك لأن تتذكر كل لحظة جميلة عشتها مع زوجتك، وتغرق في بحر من الألم والحسرة؟ هل تدرك الغصة التي تخنقك عندما ترى سمر تلامس وتلبس ما كان يومًا رمز حبك وحنينك؟”

فجأة، تملق الغضب من حمزة وبرزت عروقه في رقبته كأنها حبال مشدودة. قبض على يده بقوة حتى بيضت مفاصله، واقترب من سمر بطريقة مفترس يتربص بفريسته. نظرت إليه سمر وقد تجمد الخوف في عينيها، تلتقط أنفاسها بصعوبة تحت وطأة نظراته الحادة التي اخترقت قلبها.

تحدث بصرامة وحدية كالسيف الذي يقطع الهواء: “مين قالك تلبسيه؟”

حاولت أن ترد بصوت مرتجف: “يعني إيه؟ مش كانت مفا…”

لكن صوته ارتفع مرة أخرى، يقطع كلماتها قبل أن تكتمل: “مين قالك تلبسيه؟”

تساءلت ببراءة، عيناها تتسعان بالخوف وهي تتراجع للخلف، وكأنها تحاول الهروب من غضبه: “مش هو بتاعي؟”

صرخ بها بصوت ملأ المكان وأحدث صدًى في أذنيها: “لاااا… مش بتاعك… ولا يمكن اسمح لأي حد يلمس حاجة كانت ريحتها فيها. أنا محتفظ بريحتهم لسنين ومش راضي أرميهم أو أوديهم لناس محتاجة، لأن كل مرة بشتاقلها بشمهم وبحس بريحيتها معايا… تقومي أنتِ بكل بساطة واخدة واحد ولابساه وأكيد لمستي الباقي… ليه عملتي كدااا؟”

امتلأت عيني سمر بالدموع، جسدها ينتفض من صراخه الذي تسمعه لأول مرة من زوجها، وقالت بتلعثم، تحاول السيطرة على رعبها: “أنا.. أنا بس…”

لكن غضبه لم يهدأ، صرخ بها بقوة أكبر، كأن صوته يزلزل المكان: “اطلعي برااااا…. اطلعي من حياتي… سيبيني زي ما كنت…. اخرجي برا بيتي… برااا!”

ارتعشت شفتاها وهي تحاول حبس دموعها، لكنها لم تقدر، هطلت دموعها بقوة، تحرق خديها بألم وحسرة. جسدها كان يهتز، قدماها تكادان لا تحملانها من شدة الخوف. ركضت سمر من أمامه، تنزل الدرج بسرعة وهي تبكي، أصوات بكائها تعلو المكان، بينما ضرب حمزة السور أمامه بقوة، كأنه يحاول تفريغ غضبه المتفجر، وعيناه تتابعانها وهي تخرج من منزله، حاملاً في داخله صراعًا مريرًا بين الحزن والغضب.

لم يقدر السيطرة على نفسه، كما لو أن غضبه كان وحشًا يعيش داخله، يخرج في لحظات لا يستطيع كبحها. كانت عروقه البارزة ونبرته القاسية تعكسان صراعه الداخلي، بين حبه القديم وعجزه عن المضي قدمًا. أدرك بوضوح، في تلك اللحظة المؤلمة، أنه لن ينجح في تلك المهمة الصعبة. لن يقدر على حب سمر بعمق ما دام حب أميرته الراحلة متسعًا في قلبه، يملأ كل زاوية وكل مساحة فيه.

كان الأمر كأنه يعيش في ظلال الماضي، لا يسمع إلا صدى الذكريات، لا يرى إلا صور حبيبته القديمة في كل مكان. كلما حاول فتح قلبه لسمر، وجد أن حب أميرته يمنع أي شخص آخر من الجلوس في ذلك المكان المميز. كان حبها يحتل كيانه، يحجب عنه رؤية أي مستقبل محتمل مع غيرها.

بينما كانت سمر تركض مبتعدة، كل خطوة منها كانت تترك أثرًا في قلبه، يشعر بالثقل المتزايد، كأن كل خطوة لها تحمل معه جزءًا من ذنبه وآلامه. كان يشاهدها وهي تغادر، وشعر أن قطعة أخرى من روحه تنكسر. كل صرخة، كل دمعة، كانت بمثابة مرآة تعكس فشله في التعامل مع مشاعره وألمه.

عندها ضرب السور بقوة، لم يكن يحاول فقط تفريغ غضبه، بل كان يحاول أيضًا تدمير الجدران التي بنيها حول قلبه. كان يعرف في قرارة نفسه أن عليه مواجهة حقيقته، عليه أن يعترف بأن حبه لحبيبته الراحلة سيظل معه، لكن لا يجب أن يكون ذلك سببًا لجرح شخص آخر يحاول أن يحبه.

فتح نوح عينيه ببطء، كمن يفتح نافذة صغيرة على عالم جديد بعد عتمة طويلة. في ضوء خافت، اكتشف أن رهف بجانبه، ممسكة بيديه. دموعها كانت تنساب على خديها، تحمل في كل قطرة منها خيبة الأمل والقلق. ببطء، رفع يده، وكأن كل حركة تتطلب جهدًا هائلًا، ليجفف دموعها بأصابعه برقة. قال بصوت مفعم بالدفء والحنان، وكأن الكلمات هي كل ما يملك ليشعرها بالأمان: “متعيطيش… أنا كويس.”

قالت رهف بحزن عميق وكأن قلبها ينهار في كل لحظة، قالت بدموع تنهمر بغزارة: “الدكتور قال إننا كده بنعرضك لخطر لما نخليك تفتكر كل حاجة مرة واحدة. دا غلط على عقلك، لأنه مش هيستوعب كل دا… أنا السبب… أنا السبب كنت مستعجلة على إنك تفتكرني، وما أخدتش بالي إني كده بأذيك. فكرت في نفسي وبس، أنا آسفة.”

ابتسم نوح، محاولاً أن ينقل إليها طمأنينته وحبه رغم الألم الذي يعصف به. همس بصوت ضعيف، ولكن مفعم بالمشاعر: “حتى لو ما افتكرتكيش يا رهف… كوني متأكدة إن قلبي متعلق لسه بيكِ. رغم أن العقل مش فاكر، بس القلب اللي حبك عمره ما نسيكي أبدًا.”

قبلت رهف يده التي على خدها، ثم لامستها بخدها مرة أخرى، كأنها تبحث عن دفء يخفف عنها ألمها. فجأة، سمعا صوت فتح الباب، ودخول جين وتوم وفرانكو وكريم شقيقها يحاول ايقافهم ولكن يبدو انه فشل.

قالت جين بقلق واضح، صوتها يرتجف قليلاً:

“Peter… are you okay?”

بيتر هل انت بخير؟

تمتم نوح بهدوء، والدهشة تملأ عينيه لرؤيتهم هنا:

“Yeah, guys… I’m fine.”

نعم يا رفاق انا بخير.

تقدما جين للاقتراب منه ولكن قبل أن تقترب، أوقفتها رهف ممسكة يدها بقوة وتقول بحدة:”متقربيش منه. “

نظر فرانكو إلى رهف باستغراب، ثم إلى نوح، وزفر بملل، كأنه يشعر بالضيق من هذه اللحظات غير المريحة:

“So… How long will this charade end and we will return to our country, Peter?”

إلى متى ستنتهي هذه المهزلة ونعود إلى بلادنا يا بيتر؟

قال توم بصوت هادئ، كمن يحاول تهدئة الأوضاع:

“Why the rush, guys? Peter is sick now, and we can come back after he gets a little better.”

لمَ العجلة يا شباب… بيتر مريض الآن ويمكننا العودة بعد أن يتحسن قليلاً.

كان كل ما يقولونه ينقله كريم الى رهف مترجما اياها كل كلمة يقولونها فهتفت رهف بفرحة وهي تنظر لتوم: “والله انت الوحيد اللي بتفهم يابني.”

نظرت جين إلى رهف مرة أخرى، موجهة إليها نظرات مستفزة، وهي تتفحص شكلها وكأنها تحاول تقبلها بينهم ولكن ظهروها بحياة نوح يخنقها:

“Did you make us go back to Egypt for this girl?”

هل جعلتنا نعود إلى مصر من أجل هذه الفتاة؟

صاح نوح بها وهو يقول بصرامة كلغة تحذيرية:

“She’s my wife.”

إنها زوجتي.

قالت جين بذهول، تعيد الكلمات إلى عقلها غير المصدق:

“Your what?!”

إنها ماذا؟؟

أجابت رهف بابتسامة ماكرة بعد أن فهمت جملته:

“مراته يا حلوة. We are married and have a children.”

نحن متزوجان ولدينا اطفال.

فصحح لها كريم:”daughter يا رهف. “

نظرت اليه رهف باستهزاء: “ايه الفرق يعني مش بينا عيال وخلاص!”

تحدث نوح بألم: “لا مهو مش وقته نعرف الفرق بين children و daughter”

تبادل توم وفرانكو وجين نظرات غير مصدقة، وكأنهم يعيشون في حلم غير واقعي، يحدقون بنوح وكأنهم يحاولون فهم تفاصيل الواقع الجديد الذي يكتشفونه.

فجأة، تردد صوت مرتعش، يحمل بين طياته صدمة عميقة، يأتي من امرأة عجوز تقف عند الباب، عيونها مليئة بالدهشة والدموع تتسلسل ببطء.

التقت عينا نوح بها، شعر بقلبه يضطرب بشدة، كأنما كل ذكرى دفينة بدأت تخرج إلى السطح، انفاسه بدأ يشعر بإختناقها وهو يراها امامه من تلك المرأة وما علاقته بها؟

بعد أن ارتدى بذلته، استقر أمام المرآة، ممسكًا بساعته بيد ترتعش قليلاً. نظراته كانت تسبر أغوار ذاته، تحاول أن تفهم وتعيد بناء كل لحظة من اللحظات العاصفة التي مر بها. كأن كل مرآة في الغرفة قد تحولت إلى نافذة للكشف عن أعماق مشاعره المشتتة. كان يسأل نفسه تساؤلات مؤلمة: هل كان قاسيًا معها إلى هذا الحد؟ لماذا انفجر غضبه بهذه الطريقة؟ كيف يمكن أن يكون قد صرخ بها بتلك الطريقة التي تكاد تجرحه هو أيضًا؟

بدا في ذاكرته صورة سمر، وهي خائفة وشفتاها ترتعشان، تميل إلى الأسفل، وعينيها تتلألأ من كثرة الدموع التي تنهمر منها كأنهار حارقة. شعرت ذكرياته بالمرارة، فكل ما كان يعاني منه من غضب كان يرتد إليه الآن كصدى مؤلم. أغلق عينيه، عابسًا من الألم، وزفر بقوة، كأنه يحاول طرد ذلك الألم والندم من صدره.

فجأة، قطع رنين الهاتف سكونه، كان من سمير. الذي قال: “أنتَ فين يابني بقالي ساعة برا وسمر عمالة تضايفني شاي وعصير وقهوة لحد ما هعملها على نفسي من كمية المشروبات دي”

تجهم وجه حمزة قليلاً، ثم هبط بسرعة من الطابق العلوي، متجهًا إلى الحديقة حيث كان سمير منتظره. وجد سمير جالسًا، وسمر تضع له كوب قهوة على الطاولة، ابتسامتها مزيج من الهدوء والنقاء وكأنما لم يحدث شيء على الإطلاق.

عندما ناداه سمير، اقترب حمزة منه وهو ينظر إلى سمر التي أعطته نظرات باردة، ثم توجهت إلى المطبخ من الباب الخلفي للحديقة.

تحدث سمير معه وهو يحاول لفت انتباهه بأنه موجود: “هالووو… مفيش ازيك يا سمير؟ عامل ايه؟ هي هتاخدك مني ولا ايه؟”

قال له حمزة قبل ان يذهب: “استنى دقيقة يا سمير وجايلك.”

ثم لحقها حمزة يركض بسرعة نحو المطبخ، متجاهلاً نظرات سمير المتفاجئة، بينما زفر سمير بمرارة: “صحيح، من لقى أحبابه نسى صحابه… ماشي يا حمزة.”

وصل إلى المطبخ، ورآها تغسل كوب القهوة بهدوء. اقترب منها ببطء، عاطفيًا، وهمس باسمها: “سمر…”

التفتت إليه، عينيها تعكسان العقلانية القاسية، وجهها عابس وعاطفي في ذات الوقت. قالت، بصرامة لكنها متزنة: “لينا عتاب مع بعضينا لما الضيوف يمشوا. متخليش الضيف يستناك وروح له. وأنا هتعامل عادي عشان الضيوف، بس دا مش معناه إني سامحتك.”

ثم أعطته ظهرها، عائدةً إلى غسيل الكوب. رغم أن نبرة صوتها كانت تنبض بحدة ومعاتبة صامتة، إلا أن حمزة شعر بداخلها غصة وتكبح دموعها بجوفها.

____________________

خرج حمزة إلى الحديقة، حيث كان سمير يجلس منتظره وحين رآه قال: “شرفت يا بيه…”

ضحكة خفيفة خرجت من حمزة، لكن الصوت لم يكن يحمل أي فرح حقيقي. كانت ضحكته مجرد محاولة لإخفاء الإرهاق الذي كان يزحف ببطء على وجهه. قال بلهجة تحمل بين طياتها الكثير من التعب: “دنا عاوزك في موضوع مهم اوي، بس بعد ما الراجل يمشي. المهم، جبت كل الأوراق المطلوبة؟”

أخرج سمير حقيبته، وسحب منها مجموعة من الأوراق المتناثرة، ثم وضعها على الطاولة أمامه. أخذ رشفة من كوب القهوة الذي كان بجانبه، ورفع نظره إلى حمزة قائلاً: “آه…”

لمح حمزة الأوراق نظرة فاحصة، وكأن كل ورقة تحكي قصة صراع أو معركة لم تنتهِ بعد. قال بجدية: “بس مش كلها مختوم، يا سمير؟”

رد سمير بتواضع: “بسيطة، اختمهم دلوقتي، لسه معانا وقت.”

تعب وجه حمزة وظهر على ملامحه إجهاد عميق، لدرجة أنه بدا وكأنه يتكئ على محيطه ليتحمل الثقل الذي يضغط على كاهله: “لسه هطلع المكتب اجيب الختم، تعبت اوي النهاردة…”

نهض من جلسته ببطء وكأن كل حركة تتطلب جهدًا مضاعفًا. زفر بصوت منخفض، وكأنه يطلق سراح كل مشاعر الإحباط التي احتفظ بها لوقت طويل. دخل إلى المنزل، حيث كان يتجول بخطوات شبه آلية، كمن فقد هدفه لحظة.

عندما رآته سمر، نهضت على الفور، والقلق يعلو ملامح وجهها ينبعث منها الحنين رغمًا عنها: “محتاج حاجة أجيبهالك؟… أعملك قهوة.. شكلك تعبان.”

ابتسم حمزة حين شعر بقلق بسيط ينبعث منها له وقال: “آه، يا ريت. محتاج قهوة لاني مصدع… و… سمر… ممكن طلب تاني.”

بصوت مفعم بالاهتمام، أجابت سمر: “اتفضل.”

بدا حمزة كمن يتحدث من قاع بئر عميق، والتعب يسيطر على نبراته: “عاوز منك تطلعي تجيبيلي ختم من مكتبي.”

استفسرت سمر ببرود: “فين مكتبك؟”

أعطاها حمزة المفاتيح، ووصف لها موقع المكتب. صعدت إلى الطابق العلوي ثم عادت سمر إلى حمزة، الختم بين يديها، وفوق وجهها كانت نبرة الجفاء واضحة. مدّت له الختم، وعيناها تتجنب الالتقاء بعينيه.

-شكرًا، تعبتك.

أجابته بجفاء وهي تنظر بعيدًا: “تعبك راحة.”

ثم ابتعدت عنه، عائدة إلى أريكة الصالة حيث جلست تتابع فيلمها المفضل. جلست هناك، عيناها تركز على الشاشة، لكنها كانت بعيدة عاطفيًا عن كل ما حولها. كان الفيلم مجرد ستار لتتخفى خلفه من كل المشاعر المتضاربة التي تمر بها.

دخلت الأم بخطوات مترددة، وقلبها يخفق بشدة، كأنما يحمل بين طياته أملًا لا يحتمل الفقدان. كانت تلك الأربع سنوات من الانتظار والترقب والتوسل تعصف بها، سنوات تآكلت فيها روحها، تبحث عن قطعة مفقودة منها، عن ابنها الذي غاب عنها وكأن جزءًا من كيانها قد انسلخ عنها.

لاحظها نوح حينما نطقت اسمه، فالتفت نحوها ونظره يكسوه فراغ الذكريات، ولكنه يتوهج بإحساس غريب. لم يعرف من تكون، ولكن دفء وجودها أنعش قلبه بنبض لم يشعر به منذ سنوات، كأنما أحيا فيه شعورًا دفينًا لم يدركه بعد.

لم تستطع الأم حبس دموعها، فقد سالت على وجنتيها كأنها سيل من مشاعر مكبوتة. قالت بصوت مكسور، لكنه يحمل فرحة مشبوبة برؤيته أمامها مجددًا: “ابني… أنتَ عايش؟”

رغم أنه لم يتذكرها، شعر بشيء عميق ينبض في أعماقه، كأنما هذه المرأة جزء من ذاكرتة الضائعة، وكأن صوتها وملامح وجهها محفورة في صميم قلبه. لم يكن قادرًا على النطق بكلمة، لكن شيئًا ما في أعماقه همس له أن هذه المرأة هي ملاذه، هي الأمان الذي طالما افتقده في زحمة الأيام.

نظرت رهف إلى أم نوح، ثم عادت بنظرها إلى نوح، وقلبها يخفق بشدة من وقع هذا المشهد العاطفي. إذا كانت رهف قد شعرت بحزن عميق من فراقه، فإن معاناة والدته التي أنجبته، والتي اختفت جزء منها مع ابتعاده، كانت أكثر مرارة بكثير.

تقدمت والدته بخطوات مثقلة، وعيناها تغمرهما الدموع التي تتجمع كأنها تسعى للانفجار. نظر نوح إليها، وشعر بدقات قلبه تتسارع كأنها تهرع للهروب من صدره، غير قادرة على البقاء في مكانها. أنزل قدميه إلى الأرض، واستجمع قواه ليقف، وهو يراقبها تقترب منه، وكأن كل خطوة تقترب بها تزيد من شدة توتره وتلهب مشاعره.

نظرت رهف إلى فرانكو وتوم وجين، ثم فتحت ذراعيها لتتقدم نحوهم، مشيرةً إلى ضرورة خروجهم، وهي تسعى لخلق لحظةٍ خاصة بين نوح ووالدته. سألت جين بلهجة مشوبة بالقلق:

“What are you doing… and who is that woman?”

“ماذا تفعلين… ومن تكون تلك المرأة؟”

أجاب كريم، بينما كانت تخرجهم رهف من الغرفة برفق:

It’s his mother, and it’s best we leave them alone now.

“إنها والدته، والأفضل أن نتركهما وحدهما الآن.”

خرج الجميع من الغرفة، وأغلقت رهف الباب بهدوء، وهي تلقي نظرة أخيرة على نوح، الذي كانت عيناه معلقتين بأمه، في لحظة تجسد كل معاني الاشتياق. نزلت دمعة من عينيها وتقدمت نحوه الى ان وصلت والدة نوح “هبة” إليه، وكأنها تسترجع منامًا، مذهولة من واقعية المشهد. وقفت أمامه، وعيناها تنفطر من الدهشة، بينما هو ينظر إليها، وتعبيرات وجهها تتخلل كيانه. كان الألم يزحف إلى صدره، محطمًا كل سكون داخلي. دموعها التي انهمرت كانت كالنهر الجارف، وتجعل قلبه يرتعش كأنما أصابه البرد العميق.

رفعت هبة يديها ببطء، لتلمس وجهه، وعيناها تحاكي سيلًا متدفقًا من الدموع التي تسقط بحرارة على خديها.

تمتمت بدموعٍ غزيرة، وهي تشهق بصوتٍ مملوء بالألم والفرح: “ابني… نوح… أنتَ عايش يا حبيبي… أنت واقف قدامي أهو مش بتخيل…. ومش حلم….أنتَ قدامي فعلًا يا حبيبي… نوح.”

كان صوتها يتقطع بين كل عبارة والأخرى بسبب شهقات بكاءها.

وفجأة، ارتمت والدته في حضنه، تعانقه بعنف وكأنها تسعى لاستعادة كل الذكريات التي فقدتها. كانت تشهق بمرارة، وكل هزة من جسدها تعبر عن عمق الفراق الذي اجتازته. حاوطها نوح بذراعيه، كأنما يحاول أن يذوب في جسدها، ليعيد لها الأمان الذي طالما تاق إليه. قبّل رأسها برقة، وراح يربت عليها بحنان، حقا هو لا يتذكرها كشخصا ولكن عقله يفتعل صورا كثيرا طفيفة تظهر وتختفي وكلمة واحدة خرجت من أعماقه بصدق، دون ترتيب مسبق: “ماما”. كانت تلك الكلمة محملة بكل حنينه وشوقه، تحمل في طياتها ذكرى الأيام الماضية وألم الفراق، وكأنها تخترق الزمن لتعيده إلى أحضان طفولته وأمنه المفقود.

تعالت صرخاتها وهي تعانقه بكل قوتها، ودموعها تتدفق كأمطار غزيرة، حتى غمرت قميصه، تبلله بآهاتها. بكى نوح هو الآخر، عاقدًا عينيه بقوة. أمامه تجسدت شريط حياة صغير، مشاهد من الطفولة أضاءت قلبه بألم وحنين: تراه صغيرًا، يتعثر في خطواته الأولى تحت إشرافها، تراه وهو يتلقى طعامها بحب واهتمام، ويلعب معها ببراءة. هذه الذكريات غمرت ذهنه، محدثةً صداعًا عميقًا ودوارًا لا يُحتمل، لكنه صمد، مُخفيًا ألمه، واستمر في احتضانها بعمق، مستشعرًا أن العناق هو ملاذه الحقيقي من سنوات الفراق الطويلة. كان هذا العناق أشبه بإعادة إحياء روح قديمة، محاولة لتصحيح خيوط الزمن المقطوعة، تعويضًا عاطفيًا عن كل لحظة من الغياب والوجع.

وبعد أن اختتموا نقاشاتهم، جاء “رامي السعدني”، الشريك الثري الذي سيحدث نقلة نوعية لشركتهم ويجعلها تتوسع إلى آفاق أرحب. كان رامي يحمل في حضوره هالة من الثقة والجاذبية التي تجعل الأنظار تتجه نحوه بشكل طبيعي.

تحدث رامي بتواضع ملموس، كأن كلماته تعكس احترامًا عميقًا: “أهلاً وسهلاً دكتور حمزة الخولي، اتشرفت بمعرفتك جدًا.”

ابتسم حمزة بنقاء، كأن ابتسامته كانت محاولة لرفع الأثقال التي تراكمت على قلبه: “يزيدني الشرف والله. اتفضلوا.”

بدأت الجلسة بحوار دافئ حول تطورات الشركة. كانت الكلمات تتبادل بين الجميع، كل واحد يساهم برؤيته وأفكاره. في خضم هذه الأجواء البناءة، قُطع الحوار بصوت سمر المتواضع والمحبب: “نورتونا والله… تشربوا إيه؟”

نظر اليها رامي واتسعت عيناه حينما رآها فتوترت سمر بشدة وهي تختفي ابتسامتها بعض الشيء وبلعت ريقها فطلب الجميع قهوة عدا هو ظلت عيناه معلقة بها فاستغرب حمزة من هذا الوضع وحمحم قائلا: “استاذ رامي مش هتطلب حاجة… قهوة؟”

هز رامي رأسه بايجاب فتحركت سمر مسرعة للداخل تحت انظار حمزة الذي ملأ صدره الشك من توتر نظراتهم لبعض.

___________________________

بالخارج، وقف كل من رهف وكريم وتوم وفرانكو وجين، ومعتز والدها، مشاعرهم متضاربة منهم القلق ومنهم المستاء.

تحدث معتز بصوت مخنوق بالحزن، قائلاً: “نوح دا ابنها الوحيد وكان سندها بعد ما اتطلقت متخيلة لما تفقده اربع سنين هيكون هين عليها.”

أجابت رهف بمرارة ووجع عميق: “أنا مش متخيلة إن نوح جوزي اختفى من حياتي كل دا…. متخيل دا ابنها يا بابا… والوحيد… هتبقى حالتها عاملة ازاي؟ انا خرجتهم عشان ميشوشروش عليهم انا عارفاهم رزلين وخصوصًا البت الملونة دي مش بطيقها.”

كانت رهف تتحدث وهي تتطلع إلى جين، وعندما التفتت جين نحوها، نظرت إليها بحدة، فقالت رهف بصوت متصلب: “ايه يا قلبي حسيتي ان الكلام عليكِ ولا ايه.”

أمسك كريم بذراعها بقوة، ونظر إليها بعينين مليئتين بالقلق: “البت معملتلكيش حاجة بطلي مرازية فيها يا رهف.”

كان صوته يحمل في طياته نبرة توبيخية، تعبر عن استياءه من تصرفاتها، وتدعوها للتفكر في عواقب تصرفاتها في لحظة حساسة تتطلب الهدوء والتفاهم.

أدارت رهف ظهرها لجين، متجاهلةً نظراتها، ثم استدارت جين بدورها، وهي تنفث من أنفها بفتور، نظرت إلى رفاقها قائلةً:

“And then what?”

وماذا بعد؟

أجابها فرانكو:

I contacted our team leader, Stephen, and explained the details of what happened. But, as I expected, he insisted that we return only with him.

“تواصلت مع قائد فريقنا، ستيفن، وشرحت له تفاصيل ما حدث. لكن، كما كنت أتوقع، أصر على ألا نعود إلا برفقته.”

تحدث توم بصوتٍ مشبع بالتفهم:

“Don’t you realize that he’s found his real family? When we met him, we knew he was an orphan, and Steven and his wife had adopted him to join our team with his physique and fitness. They saw him as part of their new family, and now he’s discovering his birth family, and that’s all… It is a great achievement. We should be happy for him, as he has long suffered from amnesia, to the point that he does not remember his true identity. This discovery is not just a return to his past, but a reconnection with his deep roots, and it means more to him than we can understand.”

“ألا تدركون أنه قد عثر على عائلته الحقيقية؟ عندما التقينا به، كنا نعلم أنه كان يتيمًا، وقد تبناه ستيفن وزوجته ليروه مناسبًا للانضمام إلى فريقنا بفضل بنيته الجسدية ولياقته. لقد اعتبروه جزءًا من عائلتهما الجديدة، وها هو الآن يكتشف عائلته الأصلية، وهذا بحد ذاته إنجاز عظيم. يجب أن نفرح لأجله، فقد عانى طويلًا من فقدان الذاكرة، حتى أنه لم يتذكر هويته الحقيقة. هذا الاكتشاف ليس مجرد عودة إلى ماضيه، بل هو إعادة وصل إلى جذوره العميقة، ويعني له أكثر مما يمكن أن نفهمه.”

سكتت جين وتوم، وقد ارتسمت على وجهيهما تجاعيد الإحراج بسبب صواب رأي توم. لكن في أعماق جين، كانت ثورة من الغيرة تتصاعد. فقد كانت تشعر بمرارة عميقة تجاه رهف، زوجة نوح. كان من المؤكد أنها كانت ستشعر بالفرح لو عاد نوح إلى عائلته الأصلية كحالة طبيعية، دون أن يكون متزوجًا ولديه طفلة. ومع ذلك، فإن إدراكها أن نوح قد يستعيد ذكرياته حول زوجته ويعود إلى ماضيه يثير في قلبها قلقًا مريرًا. فهي تدرك أن عودته إلى عائلته القديمة ستقضي على أي فرصة قد تظن أنها تمتلكها في قلبه. إذا تذكر نوح زوجته، فإن الأمل الذي يعشعش في قلبها بأن يصبح جزءًا من حياته سيندثر، وتبقى جين أسيرة مرارة الفقد، وغصة الغيرة التي لا تُحتمل.

______________________

“هتلاقي الشنطة، وكل حاجة فيها زي ما كانت… تحت البينش اللي على الطريق ده.”

نظر أشرف حوله حتى رأى مقعدًا على جانب الطريق. لم يرَ أي حقيبة من بعيد، لكن حينما اقترب وانحنى برأسه للأسفل، لمح حقيبة كبيرة معلّقة من الأسفل. ابتسم بفرح، وأمسك بها وهو يعانقها كطفل صغير، ثم تحرك بها وهو ينظر يمينًا ويسارًا، يبحث عنه.

لكن صوته جاءه عبر الهاتف:

“ما تدورش… مش هتلاقيني. خد شنطتك وروح… ومتحاولش تدوَّر عليا أو تعرف أنا مين، لأنك هتتعب نفسك عالفاضي، وبرضو مش هتعرفني.

ولو رجعت في كلمتك وحبستهم، ابقى ادعي على نفسك… مش ممتلكاتك اللي هسرقها تاني، دي هتبقى حياتك.”

أغلق رحيم الهاتف، وتوجّه إلى غرفة نومه. كان يعلم أن ما فعله، إن كُشف، قد يؤدي إلى موته على يد زعيمه… لكنه يرى أن الموت أهون من أن يقضي عمره يشعر بالذنب تجاه شخص آخر.

رنّ هاتفه، وكان المتصل زين، صديقه:

“الحق يا رحيم… شنطة أشرف اتسرقت مننا! اللي بنعمله في الناس هيطلع علينا ولا إيه؟!”

تظاهر رحيم بالدهشة:

“ينهاراسود… ده إيه الهم ده… دا إحنا رتبنا للمهمة دي شهور، وتتسرق بالسهولة دي؟”

أجابه زين بقلق:

“الزعيم هيعمل مننا بوفتيك لو قولناله حاجة زي دي… هنعمل إيه؟؟”

فكّر رحيم قليلًا، ثم قال:

“نرنّ على غزل؟”

– “طيب ماشي، رنّ عليها وأنا معاك عالموبايل.”

فتح رحيم المكالمة بينه وبين غزل، وانتظر ردّها. وما إن أجابت حتى قالت:

قال زين بسرعة:

“غزل… مصيبة يا غزل!”

زفرت غزل بقوة وتحدثت باستياء:

“وهو بييجي من وراكم إيه غير المصايب؟”

قال زين بنبرة تتخللها الرعب:

“شنطة أشرف اتسرقت من عندنا.”

اتسعت حدقتا غزل:

“نهار أبوكوا اسود… ده الزعيم هيطين عيشتنا! اتسرقت إزاااي؟! وفين زفت الطين أيمن؟!”

قال رحيم بنبرة هادئة:

“غزل… إحنا عايزين حل. الشنطة اتسرقت، والزعيم كان هياخدها بكرة. كنا لسه بنعدها النهاردة وخلصنا عد فلوسها وخبيناها وبمثابة ما روحنا اتسرقت… نقوله إيه؟ أو نتصرف إزاي؟”

-بس حلو اسم (سمر)… في النصباية بتاعتي كان اسمك (شاهندا)!

أغلقت الخط بسرعة، ثم التفتت لتتفاجأ برامي واقفًا خلفها.

بلعت ريقها، ونظرت إليه بخوف، ودقات قلبها تتسارع بقوة، ففاجأها بضحكاته القوية وهو ينظر حوله ليتأكد من خلو المكان:

“لعبتي عليا قبل كده يا (شاهندا)… لا سوري، (سمر)… سمر، لازم أتعود على اسمك الجديد.

المرة دي بتلعبي على حمزة الخولي؟! ده انتِ مش عاتقة حد!”

سمعوا صوت حمزة، الذي كان ينظر إليهما باستغراب من وقوفهما سويًا في المطبخ.

فتحدّث رامي بهدوء، وهو يوجّه كلامه إلى غزل:

“ما تنسيش بقى يا سمر… عاوز عصير خفيف، مش قهوة.”

ثم نظر إلى حمزة بابتسامة وقال:

“كنت ببلّغها طلبي، حسّيت إني مش عايز قهوة الصراحة…”

في تلك اللحظة، دخل سمير إلى المنزل ومعه ثلاثة رجال من جماعة رامي، وصاح بصوت عالٍ:

“بلاش قعدة في الجنينة يا حمزة… الجو سقعة برّا جدًا، خلّينا نكمّل كلامنا جوا… وأنا طلبت عشا.”

فتحرّك رامي نحو الرجال مبتسمًا، فيما اقترب حمزة من سمر وهمس لها بنبرة قلقة:

“”في حاجة؟ عملك حاجة؟ سمر؟”

هزّت غزل رأسها بعنف، وأجابت متلعثمة:

“لا.. لا..كان بيسألني… أقصد، كان بيقولي أبدّله القهوة بعصير.”

ثم أعطته ظهرها على الفور، وانشغلت بتقليب القهوة فوق النار، بينما دقّات قلبها لا تزال تضرب صدرها بعنفٍ كطبول الإنذار.

لم يخطر ببالها قطُّ هذا السيناريو؛ أن تلتقي برجلٍ خدعته منذ سنوات، في بيت رجل آخر تخدعه الآن… يا لسخرية الأقدار، وكأن الماضي يأبى إلا أن يبعثر أوراقها في ذروة خديعتها.





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى