رواية موعدنا في زمن آخر الفصل التاسع 9 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf

|9-كَيْدَةٌ مُرْتَدَّة|
تصافح توم ورحيم بحرارة فمنذ سنة او اكثر لم يتصادفا معا، ثم جلسا في أحد المقاهي الصغيرة القريبة، حيث امتزجت رائحة القهوة بدخان السجائر وهمسات العابرين. تبادلا النقاش حول امرهما ودخل رحيم بموضوعه المهم الذي استدعاه من اجله:
“I need your help, Tom… There’s a girl I’ve been looking for for a long time, and there’s no sign of her. I don’t know if she’s still in Alexandria, or if she left without a trace. I’ve tried hard… but there’s no clue leading me to her. You’re my last hope, and the closest person to those who can reach those who know.”
“أحتاج مساعدتك، يا توم… ثمة فتاة أبحث عنها، ولا أثر لها. لا أعلم إن كانت ما تزال في الإسكندرية، أو غادرتها دون أثر. حاولت كثيرًا… لكن لا خيط يقودني إليها. أنت آخر أمل عندي، وأقرب الناس لمن يستطيع الوصول إلى من يعرفون.”
نظر إليه توم باهتمام، وأخرج سيجارة من جيبه، أشعلها ثم قال:
“Do you have a picture of her? A name? Anything we can start with?”
“وهل تملك صورة لها؟ اسم؟ أي شيء يمكن أن نبدأ منه؟”
أطرق رحيم برأسه وهمس:
“I don’t know her full name… and I don’t have a picture of her. All I know is that her name is Tamara.”
“لا أعرف اسمها الكامل… ولا أملك لها صورة. كلّ ما أعلمه أنّ اسمها تمارا.”
حدّق فيه توم قليلًا، ثم سأله:
Where did you see her?
“وأين رأيتها؟”
تنهد رحيم، وكأن الذكرى أثقلت صدره:
“I was on a mission to rob a businessman’s house… and there, I found her standing in front of me, staring at me steadily. At first, I thought she could see me, but later I realized she was blind. The next day… I saw her at the orphanage, laughing with the children. Since then… I never saw her again.”
“كنت في مهمة لسرقة منزل أحد رجال الأعمال… وهناك، وجدتها واقفة أمامي، تنظر إليّ بثبات. في البداية ظننتها تراني، لكنني أدركت لاحقًا أنها عمياء. وفي اليوم التالي… رأيتها في الملجأ، كانت تضحك مع الأطفال. ومنذ ذلك الحين… لم أرَها مجددًا.”
لم يشأ رحيم أن يُفصح عن كل شيء. لو فعل، لاضطرّ إلى الاعتراف بأنه هو من أعاد المال لأشرف… وأنه خان الفريق.
نظر توم إليه بعينٍ يعلوها الشك، ونفثَ دخانَ سيجارته ببطء، ثم قال بصوتٍ متحفظ:
What’s it to you? What makes you look for her so eagerly?”
“وما شأنك بها؟ ما الذي يدفعك للبحث عنها بهذه اللهفة؟”
لاذ رحيم بالصمت، لا يدري بأي جوابٍ يفرّ من الحقيقة. لمّا طال تردده، ضحك توم ساخرًا:
Don’t tell me you loved her at first sight, I won’t believe you no matter how much you swear!
“لا تقل لي إنك أحببتها من النظرة الأولى، فلن أصدقك مهما أقسمت!”
ابتسم رحيم بخفة، كمن وجد المخرج في ذات التهمة التي أُطلقت عليه، فأجاب بنبرة هادئة:
“Yes… I loved her. Believe it or not… I really did, and I want to find her as soon as possible.”
“بلى… أحببتها. سواء صدّقتني أو كذّبتني… فأنا أحببتها حقًا، وأريد أن أجدها بأسرع ما يمكن.”
تبدلت ملامح توم، وغادر الهزل ملامحه، ليحلّ محله شيء من الجديّة والدهشة:
But… why?! She’s… blind!”
“ولكن… لِمَ؟! إنها… عمياء!”
أطرق رحيم برأسه، ثم أجاب بصوت خفيضٍ كاد يمزق قلبه:
Maybe she’s the only one who won’t see me with her eyes… but will only see what’s in my heart.”
“لعلّها الوحيدة التي لن تراني بعينيها… بل سترى ما في جوهري فقط.”
صمت توم تمام اجابته فقد اقتنع بها تماما ووقف:
Let’s go.”
“هيا بنا.”
تساءل رحيم:
To where??”
“الى اين؟؟”
-To the shelter. Since you saw her there, the surveillance cameras must have captured her features. We’ll know what she looks like, and from there we can begin the search.
– إلى الملجأ. ما دمت رأيتها هناك، فلا بد أن كاميرات المراقبة سجّلت ملامحها. سنعرف شكلها، ومنها نبدأ البحث.
ابتسم رحيم لفكرته، ونهض برفقة توم قاصدين الملجأ على الفور.
وما إن وصلا، حتى دلف رحيم إلى مكتب إدارة الدار، فوقف أمام صاحبة المكان وقد ارتسمت على وجهه علامات الدهشة؛ إذ تغيّر شكل المرأة التي كانت مسؤولة عن الدار من قبل. لم تكن تلك العجوز التي رآها في زيارته السابقة. لكنه لم يُطل الوقوف عند الأمر، وتقدم قائلاً:
“أنا جيت الملجأ ده قبل كده، واتسرقت فيه من عيل.”
رفعت المرأة حاجبيها باستغراب، وقالت بلهجة منكرة:
“إيه اللي بتقوله ده يا فندم؟! لا يمكن طبعًا يحصل كده… أولادنا متربيين.”
فصاح رحيم وقد اشتعل صوته بالغضب:
“وأنا مش بكدب! الملجأ ده فيه كاميرا بتصور الجنينة اللي ورا؟!”
ردّت المرأة محاولة تهدئة الموقف:
“يا فندم، ضاعت منك إيه؟ يمكن وقعت منك في أي حتة.”
“لا، وقعت هنا، واتسرقت مني محفظتي.”
أشارت المرأة بإشارة خفيفة ونادت:
“دقيقة واحدة، عمّال النظافة بيحافظوا على أي حاجة بتقع… يا صباح! يا صباح، تعالي!”
دخلت صباح، تحمل أدوات التنظيف، وكانت إحدى المسؤولات عن نظافة المكان، سألتها مديرة الدار:
“مشوفتيش محفظة الأستاذ؟”
فتحت صباح حقيبتها الأمامية، وأخرجت منها عدة محافظ ومتعلقات تركها أصحابها سهواً أو سقطت منهم دون قصد. نظر رحيم إلى ما عُرض أمامه، يحاول كتم انفعاله، ثم قال:
“لا… ولا واحدة من دول. وأنا متأكد إنها كانت معايا وأنا داخل. يبقى أكيد حد من العيال أخدها… هتوروني الكاميرا ولا أبلّغ عنكم!”
قالت صاحبة الدار بهدوء تام:
“يعني يرضي حضرتك الأطفال اليتامى يتفتشوا؟!”
فصاح رحيم بانفعال:
“يا ستي وريني الكاميرات، وهنفتش اللي عمل كده بس! طفل واحد بس، مش هنفتشهم كلهم…”
تحركت المرأة بهدوء نحو باب غرفة المراقبة، وأدخلتهما إليها. دلّها رحيم على توقيت الحادثة بدقّة، وبينما كانت تتقلب المشاهد على الشاشة، ظهرت تمارا. نكز رحيم صديقه توم بيده، ففهم الإشارة، وأخرج هاتفه خلسة من تحت سترته، وبدأ بتصوير ملامحها.
قال رحيم متلهفًا:
“أيوة… كبّري الصورة هنا… أيوة…!”
وحين كُبّرت الصورة، تبيّنت ملامح تمارا بوضوح: شعرها البني، وعيناها العسليتان، وابتسامتها الهادئة. تابع توم التصوير بهدوء، ثم أغلق هاتفه وأعاده إلى جيبه دون أن يلحظه أحد.
قال رحيم بعدها معتذرًا:
“أنا آسف لحضرتك… محدش سرق حاجة من الأطفال، وأنا اللي كنت غلطان. بعتذرلك مرة تانية، يا…”
قطّب رحيم جبينه بدهشة، وقال:
“بس… مش… مش إنتِ اللي كنتِ واقفة يوميها… كان فيه… مدام كوثر غيرك!”
نظرت إليه المرأة بعدم فهم، وقالت:
“مش فاهمة حضرتك… تقصد إيه؟”
-لا لا…. ولا حاجة… عن إذنك.. وأنا آسف مرة تانية.
خرجا من دار الأيتام، ورحيم تغلي في رأسه أفكار متشابكة لا يجد لها جوابًا، وكلها معلّقة باسمٍ واحد: تمارا. وحدها قد تملك المفاتيح، وحدها قد تبدّد الضباب عن تلك الحيرة التي أثقلت قلبه.
وبينما كانا يركبان سيارة رحيم، التفت إليه توم وقد استند إلى المقعد وقال:
Just give me a few hours… and I’ll find her. But tell me, what are you thinking?”
“أمهلني بضع ساعات فقط… وسأجدها. لكن أخبرني، بمَ تفكّر؟”
أجاب رحيم وهو يتظاهر بالهدوء:
Nothing… Tell me why you are staying in Egypt for so long… What happened to you?
“لا شيء… انت قل لي لماذا تطيل فترتكم بمصر… ماذا حصل معكم؟”
تنهد توم وأجاب:
Peter… Peter discovered that he has family here and he doesn’t want to come back unless they are with him… he even speaks Arabic fluently.”
“بيتر… بيتر اكتشف ان لديه عائلة هنا ولا يريد العودة إلا معهم… حتى انه يتحدث العربية بطلاقة.”
اتّسعت عينا رحيم بدهشة:
Peter…has a family…here?!”
“بيتر… له عائلة… هنا؟!”
هزّ توم رأسه مؤكدًا:
Truly, it’s like something out of a movie. But today he intends to approach his wife with the idea of traveling with him to Rome, perhaps by doing so he can turn the page on the sentence issued against him here in Egypt.
“حقًّا، الأمر أشبه بما يُروى في الأفلام. لكنه ينوي مفاتحة زوجته اليوم بفكرة السفر معه إلى روما، لعلّه يطوي بذلك صفحة الحكم الصادر عليه هنا في مصر.”
انعقد حاجبا رحيم:
“What judgment was issued?!”
“أي حكم صادر؟!”
قال توم بصوت منخفض:
Peter was captured on his last mission.”
“بيتر تم القبض عليه في آخر مهمة له.”
أطرق رحيم رأسه قائلاً:
Oh my god… that’s bad news. And you… what’s your take?”
“يا إلهي… تلك أنباء سيئة. وأنتم… ما موقفكم؟”
أجاب توم بنبرة محايدة:
“We couldn’t do anything. We were about to leave him, but Chief Stephen wouldn’t let us go back without him. You know Peter has become the closest thing to the Chief… he considers him just like a son.”
“ما بيدنا شيء. كنّا على وشك المغادرة وتركه، لكن الزعيم ستيفن رفض أن نعود دونه. أنت تعلم أن بيتر صار الأقرب إلى الزعيم… يعتبره كابنه تمامًا.”
وما هي إلا لحظات، حتى قال توم وهو يشير بيده نحو فندق:
Yes, here… stop.”
“نعم، هنا.. توقف.”
أوقف رحيم السيارة أمام الفندق، وهناك في الخارج كانت جين واقفة تدخن سيجارتها، وما إن وقع بصرها على توم حتى تقدّمت نحوه بخطوات سريعة، ثم ما لبثت أن شهقت قائلة:
Peter doesn’t answer and… Raheem!!”
“بيتر لا يجيب و… رحيم!!”
ترجّل رحيم من السيارة، فاندفعت جين نحوه تُعانقه بحرارة:
I missed you so much… Where have you been all this time?! We landed several missions in Egypt, and sent to you, but you didn’t answer!
“لقد اشتقت إليك كثيرًا… أين كنت طَوال تلك الفترة؟! نزلنا عدّة مهمّات في مصر، وأرسلنا إليك، لكنك لم تكن تُجيب!”
ابتسم رحيم بلطف وقال:
I had to change my number a few months ago and I haven’t received any of your calls.”
“اضطررت لتغيير رقمي منذ عدة أشهر لم تصلني مكالماتكم.”
قالت جين وهي تشير خلفها:
Frank is with us too…”
“وفرانك أيضًا معنا…”
التفت رحيم، فإذا بـفرانكو قد خرج من الفندق، وما إن رآه حتى اندفع نحوه مُسرعًا، وعانقه بقلبٍ مليء بالودّ قائلاً:
Hey man! We missed you so much!”
“يا رجل! كم اشتقنا إليك!”
ثم أضاف وهو يضع ذراعه على كتف رحيم:
How are you? How is everyone? And… Ghazal?
“كيف حالك؟ وكيف حال الجميع؟ و… غزل؟”
ابتسم رحيم:
We are all fine… As for Ghazal, if she were with us she would be very happy to see you, but she is busy with a mission at the moment.”
“نحن جميعًا بخير… أما غزل، فلَو كانت معنا لفرحت كثيرًا برؤيتكم، لكنها منشغلة بمهمة في الوقت الحالي.”
قالت جين بأسى:
I miss Ghazal so much… I hope to see her soon.”
“لقد اشتقت لـغزل كثيرًا… أتمنى أن أراها عن قريب.”
استيقظت غزل من نومها ببطء، وهي تشعر بثقلٍ في رأسها وألمٍ ينبض في صدغها، فأخذت تتلفّت حولها في الغرفة، تنظر بعينين مثقلتين بالنعاس والدهشة… نعم، هذا مكانها، غرفة نومها في منزل حمزة.
أدارت رأسها إلى جوارها، فرأته نائمًا على السرير. أطالت النظر إليه، شاردة في ما ستفعل معه، تفكّر في مصيرها، وفي خطوتها التالية. قررت أن تتابع مهمّتها، لكن لا بد من حيلةٍ للهرب، وسريعًا.
مالت نحوه وهزّته بيديها محاولة إيقاظه:
“قوم يا خالد… قوم يا حبيبي عشان نفطر.”
لكنه لم يتحرك. ظلّت تهزّه برفق، وهي تناديه بإصرار:
“يا خالد… خالد…”
ولا حياة لمن تنادي.
أمسكت برأسه ورفعتها قليلًا، فإذا بها ترتخي من بين يديها وتسقط على الأرض بثقلٍ مفزع. شهقت غزل واندفعت نحوه تحاول إفاقة جسده الساكن، إلا أنه لم يستجب لها. حرارته كانت مرتفعة بشكلٍ مخيف، وجسده يتصبّب عرقًا.
أسرعت نحو هاتفه الموضوع على الطاولة، التقطته، وفتحته باستخدام بصمته، ثم دخلت إلى سجلّ المكالمات. وقع نظرها على اسمٍ مسجّل: “عمتي هبة”.
ضغطت على زر الاتصال، وما هي إلا ثوانٍ حتى جاءها صوت امرأة على الطرف الآخر:
“إيــه يا حمزة؟! مجيتش امبارح ليه؟؟… ده أنا عندي ليك خبر حلو أوي… مش هتصدق مين جالنا ورجعلنا!”
قالت غزل بصوتٍ متوتر:
ساد الصمت برهة، ثم جاء صوت هبة متفاجئًا:
“إنتِ سمر؟ سمر مرات خالد؟! أهلاً يا حبيبتي… أمال خالد فين؟!”
تنهدت غزل وقد فهمت أن حمزة كان قد أخبرها بقصة “سمر”، فأجابت بسرعة:
“خالد عيان ومش بيرد عليّا… أُغمى عليه ودرجة حرارته عالية جدًا، وأنا مش عارفة أعمل إيه… ممكن تيجي وتلحقوه؟!”
اتسعت عينا هبة رعبًا، وأغلقت المكالمة في عجالة، ثم اندفعت مسرعة نحو نوح الذي كان يلهو مع ابنته في الصالة، والضحك يملأ البيت.
صرخت هبة بصوت مرتجف:
“الحق يا نوح! حمزة… حمزة عيان في الفيلا لوحده!”
تقدّم نوح إليها، يحاول تهدئتها:
“طب اهدي بس يا ماما… اهدي… حمزة مين؟!”
سألت رهف بجديّة وقد شعرت بتغير الأجواء:
“فيه إيه يا ماما؟ حمزة ماله؟!”
أجابت هبة بلهجة يملؤها القلق:
“فيه بنت قاعدة معاه في البيت، رنّت عليّا دلوقتي، وقالتلي إنه مغمى عليه، ومش عارفة تتصرف…”
فأعاد نوح سؤاله:
فصاحت رهف وهبة في آنٍ واحد:
“حمزة ابن خااالك!”
-خالي ميييين؟!
فأمسكت رهف بذراعه بسرعة، وأوقفته قائلة:
“مش وقته دلوقتي نعرفك عيلتك… اتفضل معانا، خلينا نلحقه.”
وصل الجميع إلى منزل حمزة، وترجّل الثلاثة من السيارة وهم يقرعون جرس الباب. فتحت غزل الباب، لتقع عيناها على هبة واقفة أمامها، وما لبثت هبة أن هرعت صاعدةً إلى الطابق العلوي حيث يقيم ابنها الثاني… حمزة. نعم، حمزة ليس ابن أخيها فقط، نشأ إلى جانب نوح كأخٍ له، بعد أن تخلّت عنه والدته وسافرت وهو في السادسة من عمره، ثم اقترنت برجلٍ آخر. أما من احتضنته وربّته، فهي هبة، التي رعته مع نوح بعد طلاقها، فكان حمزة عندها بمنزلة نوح تماماً، لا فرق في المحبة ولا في الرعاية.
تبعت رهف هبة بخطى سريعة، وهي تناديها:
“يا ماما استني…”
هتف بها نوح ما إن وقعت عيناه عليها. اتسعت عيناها، وفي عتمة الذهول همست:
فالتفتت رهف إلى نوح وهي على السلم تناديه:
“يا نوح يلا… واقف عندك بتعمل إيه؟”
تحرّك نوح نحوها، بينما كانت غزل لا تزال واقفة مكانها، أشبه بقطعة جليد أصابها الذهول. راودها خاطرٌ بأن تهرب، فالفرصة سانحة، والباب لا يزال مشرعًا، ولكن شيئًا في داخلها منعها من الرحيل. رغبة عميقة في الاطمئنان عليه سيطرت عليها، فصعدت معهم إلى الطابق العلوي وساعدتهم في إنزال حمزة، حيث حملوه إلى السيارة ونقلوه على عجلٍ إلى المستشفى.
وقف الجميع في صمتٍ ثقيل، وكان نوح وغزل يتبادلان النظرات المليئة بالأسئلة الصامتة، نظراتٌ لم تغب عن رهف، التي لاحظت كل شيء، فاشتعلت الغيرة في صدرها، وقالت له:
“تعرفها ولا إيه؟”
-متأكد يا نوح؟ ده انت عينك مترفعتش من عليها!
-مستغرب بس… تبقى مين؟ وهل من عيلتي وافتكرها ولا لا…
-إنت بتكدب يا نوح!
صمت نوح، مدركًا أن رهف تعرفه أكثر مما ظن، ثم قال بنبرةٍ حاول أن يخفف بها من شكها:
“هقولك تبقى مين… بس مش دلوقتي… خلينا نتطمن على حمزة الأول.”
اقتربت رهف من هبة وربّتت على كتفها لتطمئنها، في حين انسلت غزل بهدوء نحو الخارج، ونظرت إلى نوح في إشارةٍ صامتة أن يلحق بها. تبعها نوح وخرج من المستشفى، ثم اقترب منها بهدوء:
-وطي صوتك… مسميش غزل.
فاخفض نوح صوته: “أومال اسمك إيه؟”
-سمر… إنت إيه اللي جابك يا بيتر؟ ومين اللي معاك دول؟
ابتسم نوح، ووضع إصبعه على فمه:
“وطي صوتك… مسميش بيتر.”
فضحكت غزل: “أومال اسمك إيه؟”
-والله وبقيت لِبْلِب في العربي!
استند نوح إلى الحائط مبتسمًا:
“لا مش لبلب… أنا طلعت عربي فعلاً.”
-“واو… ده إيه الحوار ده بقى؟”
بدأ نوح يختصر لها ما يمكن قوله في دقائق، لكن ما إن لمح رهف تخرج من المستشفى وتتجه نحوه، حتى صمت، وتحرك صوبها وأمسك بيدها ليلتفتا معًا إلى اتجاهٍ مغاير لداخل المستشفى. فصاحت رهف بغيظٍ:
“مسيبتنيش ليه أجيبها من شعرها؟!”
ضحك نوح وهو يتحرك معها عائدًا إلى غرفة حمزة:
“إنتِ إيه اللي حركك من جنب ماما بس؟”
-نوح، مبهزرش… إيه اللي موقفك معاها؟
-يا بنتي هقولك والله… بس أما نروح، مش وقته…
عند المساء، كان رحيم في مغتسله، يستحمّ وقد انسابت المياه على جسده المنهك، حين تناهى إلى سمعه صوت غريب خارج الحمّام. ارتدى ثوب الاستحمام، وشدّ حزامه بإحكام، ثم تناول منشفةً فجفف بها شعره المبتل، وامتدت يده إلى مقبض الباب ليُزيح عنه الغموض… لكنّ ما إن فتحه، حتى باغتته ضربةٌ مزلزلة أسقطته أرضًا كجذع شجرة هوى تحت فأس.
ارتطم جسده بالأرض بقوة، وإذا بقدمه تلامس حذاءً أسود يلمع ببريقٍ خادع… رفع بصره بصعوبة، وإذا بالزعيم سامح الدرمالي شامخًا فوقه، كجبل لا يلين.
انحنى سامح إليه حتى صار بمستواه، وقال بنبرة مشوبة بالغضب المكبوت:
“وديت الفلوس فين يا رحيم؟”
أدار رحيم عينيه المضطربتين، ليجد سبعة من رجاله مصطفّين كعسس الليل، لا ينتظرون سوى إشارةٍ منه لينهوا حياته بلا تردد.
فردّد رحيم بصوتٍ واهن:
“معرفش…. اتسرقت مننا يا زعيم ومنعرفش مين اللي سرقها.”
تقدم سامح بخطواتٍ بطيئة، ثم أمسك بثوب رحيم من عند صدره وهزّه بعنف، وقال:
“يا رحيم ده انت متربي على ايدي…. من امتى وانت بتخون؟؟”
تصبّب العرق من جبين رحيم، واختلطت خصلات شعره المبلّلة بدمٍ سال من أنفه إثر الضربة، وأعاد القول بصوتٍ متقطع:
“يا زعيم انا مخونتكش… الفلوس اتسرقت مننا.”
نهض سامح واقفًا، ثم التفت إلى رجاله السبع، وبإشارةٍ خفيفة من سبّابته، انقضّوا عليه كالذئاب الجائعة. توالت اللكمات والركلات على جسده الواهن، فيما تعالت صرخاته المكتومة وسط صمتٍ مريب. جلس سامح على أقرب كرسي، متأمّلًا المشهد كأنه عرض مسرحيّ، وابتسامة هادئة تعلو وجهه.
وبعد ربع ساعةٍ من الضرب المتواصل، رفع سامح إصبعه قائلًا:
“خلاااص.”
توقف الرجال، وتركوا رحيم ملقى على الأرض كخرقة بالية، يلهث بأنفاسٍ متقطعة، ناظرًا إلى السقف بعينين متورّمتين، ووجهٍ مضرّجٍ بالدماء، وجسده تملؤه الكدمات.
اقترب سامح منه مرةً أخرى، واستلّ سلاحه من جيبه، ثم وضعه على جبين رحيم، وقال:
“فين الفلوس يا رحيم؟”
أجاب رحيم بصوتٍ بالكاد يسمع، تتخلّله الزفرات الثقيلة:
“معر.. فش.”
ضغط سامح على الزناد وقال ببرود:
“هتوحشني يا رحيم.”
اتّسعت عينا رحيم جزعًا، فهتف مسرعًا:
“استنى يا زعيم… هقولك… هقولك.”
-واحد… اتنين…
-رجعتهم لصحابها…. رجعت الفلوس لصحابها.
خفض سامح سلاحه ببطء، ثم قال بنبرة آمرة:
“لا اشرحلي الموضوع من الاول.”
“فيه… بنت عامية…. عرفت ان فيه حد دخل الفيلا وسرق… وكانت هي وامها اللي في البيت. أشرف لما عرف بلغ الشرطة عنهم لان مفيش غيرهم اللي هيعملها بعد غيابه… فانا كلمته وقولتله خد فلوسك بس يطلعهم لاني مبرضاش الظلم لحد…”
ابتسم سامح بسخرية وقال:
“تصرف نبيل منك اوي يا رحيم… بس اللي انت متعرفوش ان السوق كله اوضة وصالة. “
نظر إليه رحيم بعينين مليئتين بالاستفهام، فتابع سامح قائلًا:
“انت مرجعتش الفلوس لاشرف…. اشرف مرجعش لسه من سفره.”
-ما دي النقطة اللي انا مش فاهمها…. انا شوفت شكله وهما بيقبضوا عليهم فازاي مرجعش.
ضحك سامح ضحكةً جافة، ثم قال بنبرة ثقيلة:
“مهو مكانش أشرف….ولا كانت الشرطة.. دول كانوا عصابة تانية واستغلوا سذاجتك.”
تشنجت ملامح رحيم وهو يتمتم:
“يعني… ايه؟”
-قولتلك المجال ده أوضة وصالة…. حد من معارفي كان قاعد في بار زعيم عصابات أنا وهو بينا مشاكل حكى القصة كلها. وهي إن نفس الراجل ده كان باعت بنت تسرق الفيلا في نفس التوقيت. ولما لقيتك لحقتها واخدت كل فلوس الخزنة وشوفتها الناصحة عملت عليك إنها عامية. ولما استفسروا عنك يا بيضة، عرفوا إنك انت رحيم اللي بتشتغل الشغلانة دي غصب عنك، ونفسك تتوب، وعندك رحمة في قلبك، وكتكوت من جوا، قالوا بس، نلعب على الكتكوت ده. وكانوا متأكدين لما يعملوا شو إن هما اللي يتحبسوا بدالك، هتتحرك، وهترجعلهم الفلوس. ومش هترضى إن حد يتظلم على حسابك.. وقد كان. وقعوا كارت مزيف قاصدين عشان انت تشوفه وتعرف إنه كارت رقم أشرف، وهو رقم حد من عندهم، وترن عليه وتطلب إنك تشوفه.
صُدم رحيم حتى كاد قلبه يخرج من بين أضلعه، وهتف مذهولًا:
“بس ازاي… ده كان شكل أشرف وقت اما قبضوا عليهم كان هو واقف!”
-ده مكياج… جابوا راجل بنفس هيئة أشرف وطلعوه هو هو بالضبط، وانت شربت الطُعم ورجعت الفلوس عشان نبيل وتقيّ، شاطر، بس أديتها على طبق من دهب لعصابة تانية.
-يا زعيم يعني انت شايف إن ده منطقي يعني… انا مش غبي للدرجة. كانوا ممثلين الدور صح، والبت كانت عامية فعلا، وصاحبة الدار قالتلي قصتها وا….
صمت فجأة، وتذكّر أن صاحبة الدار لم تكن المرأة نفسها التي رآها من قبل، رغم أن اسمها أيضًا كوثر… إذن، هي من العصابة أيضًا، وقد سردت عليه القصة لتستدرّ عاطفته!
-هو اللي بنعمله في الناس يا رحيم هيطلع علينا ولا إيه؟؟ انا مش عارف أعمل معاك ايه…أقتلك؟؟؟…بس ده مش هيرجع كل الملايين دي.
تقدّم خطوة، ثم أضاف بنبرة تهديدية حاسمة:
“معاك تلت أيام يا رحيم… تلت أيام والاقي الشنطة عندي… لو مصلحتش غلطتك… ملكش مكان وسطنا، ومش هطردك من فريقنا لا… ملكش مكان في الدنيا أصلًا… متنساش تلبس لتستهوى.”
ثم استدار وانسحب مع رجاله، وترك رحيم خلفهم، راقدًا على الأرض، يتلظى بنيران الذهول والندم. ظلّ لوهلة يتأمّل السقف، والدماء تخضّب وجهه، قبل أن يزفر بعناء، ويمسح جراحه بقطعة قطن، ثم أمسك بهاتفه واتصل بتوم.
-Where did you get to?
إلى أين وصلت؟
-We are still searching… What’s up with your voice??
“لازلنا نبحث… مابال صوتك؟؟”
فصرخ رحيم بغضب شديد:
“Tom… That girl tricked me… I want her back as soon as possible… I don’t want her because I love her, I want her to get revenge… Understand?”
“توم.. تلك الفتاة خدعتني… أريدها بأقرب وقت وبسرعة… لا أريدها لأنني أحبها، أريدها لأنتقم… فهمت؟”
______________



