رواية موعدنا في زمن آخر الفصل الرابع عشر 14 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf

|14-وجوه جديدة على مسرح الأفاعي|
استيقظت غزل من سباتها على أصوات بكاء مكتوم وهمهمات متقطّعة، فأزاحت القماشة التي أسدلتها على عينيها لتغفو بسلام في الطائرة، فإذا بها ترى رهف تبكي بحرقة وقد غطّت وجهها بكلتا يديها. اعتدلت غزل في جلستها، ومدّت يدها برفق فوق فخذها تخاطبها قائلة: “رهف!… مالك؟!”
أزاحت رهف يديها المرتجفتين عن وجهها، لترفع بصرها نحو غزل بعينين غارقتين في الدموع، وقد بدا عليها الاضطراب وهي تمسح خديها المبتلّين بكفّ مرتجف، محاوِلة إخفاء انهيارها: “مفيش حاجة… أنا كويسة….”
-بجد احكيلي مالك؟؟
-مفيش حاجة صدقيني…
أطرقت غزل صامتة لحظات، وعيناها شاردتان نحو الأفق البعيد، غير أنّها ما لبثت أن عادت ببصرها إلى رهف، ترقبها بنظرة متوجّسة، وسؤال معلّق على طرف لسانها: “بتعيطي عشان بيتر؟”
رفعت رهف بصرها نحوها وزفرت بضيق، كأنّ صدرها ينوء بحملٍ ثقيل لا تطيق احتماله: “ممكن تخليكِ في حالك؟؟”
فانتفضت رهف من مقعدها، ومضت بخطًى متعثّرة نحو المرحاض، وما إن أغلقت بابه خلفها حتّى انفجرت من جديد في وصلة بكاءٍ مرير، يختنق معه صدرها وتتهدّج أنفاسها.
أفاق حمزة من رقادٍ مثقل، فرفع جفونه متثاقلة ونظر إلى غزل، فإذا بها ترمقه بابتسامةٍ وادعة، فحدّثها بصوتٍ خافت قائلاً: “جوعتي؟؟”
فأومأت برأسها إيماءةً مُقرّة، عندها أشار حمزة إلى مضيفة الطائرة وناداها، فطلب منها ما يشتهي من طعام. ولمّا جاءت بما أراد، أخذ يتسامر مع غزل حديثًا وهو يرقبها تأكل: “روحتي طوكيو قبل كده؟؟”
-لا… بس اسمع عنها… لكن روحت بلاد تانية نزلت مرة سفرية لباريس ونزلنا روما وروحنا ايطاليا كنا انا ورح…. “
وإذا بها تصمت فجأة، لتحدّق في حمزة باضطرابٍ بادٍ على محيّاها، بينما كان هو يرمقها بابتسامةٍ مريبة لا تُدرَك معانيها، فقالت متردّدة: “مع جوزي… م… معاك… مش روحنا سوا؟؟”
فابتسم حمزة: “اه…. يعني بتعرفي تتكلمي انجليزي كويس وتتعاملي وانتِ برا مصر.”
فارتسمت على محيّا غزل ابتسامةٌ واثقة، وقالت: “مش انجليزي بس… انا بعرف اتكلم فرنسي كمان.”
رفع حمزة حاجبيه بابتسامة واسعة :
“Tu es vraiment incroyable !”
“أنتِ مذهلة حقًا!”
فابتسمت بثقة:
“C’est le moins que je puisse faire.”
“هذا أقل شيء لديّ.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ رقيقة، وقال بنظرةٍ يفيض منها الهيام:
“Tes cheveux en bataille te rendent encore plus attirante, ça me fait craquer.”
“خصلات شعرك وهي غير مرتبة تجعلك أكثر جاذبية، وهذا يذيبني.”
فابتسمت غزل بخجل، رافعةً كفّها إلى شعرها المبعثر من أثر النوم، غير أنّ فوضاه زادها فتنةً وبهاءً. وفي تلك اللحظة أطلت رهف من باب المرحاض، وقد احمرّت عيناها وأنفها من شدّة البكاء، فالتفت إليها حمزة ولاحظ حالها، فقال:” في ايه يار رهف حصل حاجة؟؟ “
فصاحت رهف وقد نفد صبرها، وانفلت صوتها حادًّا: “مفيش يا جماعة بقى ارحوكم سيبوني في حالي… سيبوني في حالي!!”
هزّت صرختها السكون، فأفاق بعض الركّاب فزعين، لتبادر المضيفة بالاعتذار لهم وهي ترمق رهف بنظرة عتابٍ ممزوجة بالشفقة. عندئذٍ التفتت رهف نحو الجمع واعتذرت بصوتٍ متهدّج، ثم آوت إلى مقعدها كمن يلوذ بملجأٍ لا يحمي. أسدلت القماشة على عينيها وأكرهت نفسها على ادّعاء النوم، غير أنّ النوم جفاها، فما أطبقت جفونها لحظة، إذ تلك الصورة المروّعة ما برحت تتردّد في ذهنها كطعنةٍ متجدّدة، تمزّق قلبها من الأعماق. لم تعلم كيف تُداوي نزفها الداخلي، ولا أيّ دربٍ يسلكه جريحٌ مثقل كهذا ليبلغ شاطئ العافية.
استفاق نوح أخيرا فإذا بتوم يجلس إلى جواره، يرمقه بنظرةٍ ثابتة لا يفهم مغزاها وقال:
“How are you now??”
“كيف حالك الآن؟؟”
اعتدل نوح في مجلسه متأوّهًا، وقد كان الصداع يفتك بجمجمته كالمطارق، فتمتم بصوتٍ متهدّج:
“My head feels like it’s being pounded unbearably.”
“كأنّ رأسي يُدكّ دكًّا لا يُطاق.”
-You drank too much last night… Tell me, how long has it been since you started drinking, Peter?
-لقد أكثرت من الشراب ليلة أمس… قل لي،منذ متى وأنت تهرب إلى الشراب يا “بيتر”؟
أغمض نوح عينيه وتحدث بمرارة:
“I did it to forget..”
” فعلت ذلك لكي أنسى..”
حدّق فيه توم وقال:
Don’t you remember what you did yesterday??
“ألا تتذكر ما فعلته البارحة؟؟”
وضع نوح كفَّه على رأسه وقال متأوّهًا:
I drank, I danced, and… Ahh, my head is about to explode from the headache!
“شربتُ، ورقصتُ، و… آهٍ، رأسي يكاد ينفجر من شدّة الصداع!”
فتحت جين باب الغرفة، وما إن أبصرت نوح وقد أفاق من رقدته حتى ارتسمت على محيّاها ابتسامة ارتياح، وقالت:
You’re finally awake…”
“لقد استيقظتَ أخيرًا…”
جلست عند طرف السرير، ثم رمقت توم فوجدته قد حوّل بصره بعيدًا، فعادت لتنظر إلى نوح وسألت بحذر:
Do you remember anything about last night?
“أتذكر شيئًا مما جرى في الليلة الماضية؟”
فقال نوح متوجّعًا:
“Jane, please, give me any pills for this headache.”
“جين، أرجوكِ، ناوليني أيّ أقراصٍ تُسكن هذا الصداع.”
– Peter you came close to me…
-بيتر لقد اقتربت مني…
تقبّض جبين نوح، وحدّق في جين وتوم وقد اتّسعت عيناه، وارتجف صدره من شدّة خفقان قلبه، ثم قال متوجسًا:
“What happened between us?!”
“ما الذي جرى بيننا؟! “
فأعادت جين كلماتها:
“You came close to me…”
“لقد اقتربت مني…”
فهتف نوح بصوتٍ مضطرب:
“Yes, Jane, I knew… What happened when I came closer?… What did I do????”
“نعم يا جين عرفت… ماذا حدث باقترابي؟…. ماذا فعلت؟؟؟؟”
فانفجر توم صائحًا:
“You two kissed… do you get it now?!”
“لقد تبادلتما القُبَل… أَفهمتَ الآن؟!”
ثم نهض توم وقد ارتسمت على ملامحه أمارات الضيق والغضب، وألقى نظرة أخيرة صوب لجين قبل أن يهمّ بمغادرة الغرفة. فالتفت نوح نحوها، وقد غمر صوته الذهول، قائلاً:
“Did I really do that?!”
“هل فعلت ذلك حقاً؟!”
فامتلأت عينا جين بالدموع، وقد ارتجف صوتها وهي تقول:
“Peter, don’t make me feel so cheap… you started kissing me.”
“بيتر، لا تشعرني بأني رخيصة لتلك الدرجة… لقد بدأت أنت بتقبيلي.”
نهض نوح بعنف، يده ترتجف وصوته ينفجر كالرعد:
I haven’t touched a single woman in the four years I’ve been among you! I’ve never allowed myself to sin like this, not out of weakness or in a moment of whim! And then you come and tell me that this happened yesterday as if it’s normal?! Damn alcohol! It’s blinded my mind and made me lose control of myself… But you were conscious! You were fully aware of what was going on! Why didn’t you stop me?! Why didn’t you push my hand away?! Why didn’t you slap me to wake me up?!
“أنا لم ألمس امرأة واحدة لأربع سنوات مضت وأنا بينكم! لم أسمح لنفسي بخطيئة كهذه، لا بضعف ولا بلحظة نزوة! ثم تأتين وتقولين لي إن هذا حدث البارحة وكأن الأمر طبيعي؟! اللعنة على الخمر! أعمى عقلي وأفقدني السيطرة على نفسي… لكنكِ كنتِ واعية! كنتِ بكامل إدراكك لما يجري! لماذا لم تمنعيني؟! لماذا لم تدفعي يدي عنك؟! لمَ لم تصفعيني لأفيق؟!
اغرورقت عينا جين بالدموع، وانفلتت دمعة حارقة على وجنتها وهي تهمس بصوت مبحوح مرتجف:
“I thought… that you loved me, Peter, and that kiss was a confession from you, not slip from the effect of drinking…… I couldn’t resist you, I couldn’t… I’d been wanting it for a long time.”
“ظننتُ… أنّك تحبني بيتر وأن تلك القبلة كانت اعترافًا منك، لا زلةً من أثر الشراب… لم أملك أن أصدّك، لم أستطع… كنتُ أتمناها منذ زمن.”
رفع نوح يده إلى رأسه بضيق، وصاح بنبرة حادة تخالطها مرارة:
No, Jane! You know for sure that I don’t reciprocate any feelings… no attraction, no love… Don’t confuse an illusion created by your heart with a truth I know very well… I have never loved you and I will never love you!”
“لا يا جين! أنتِ تعلمين حقّ العلم أنني لا أبادلكِ أيّ مشاعر… لا انجذاب، ولا حب… لا تخلطي بين وهمٍ صنعه قلبك، وحقيقةٍ أعرفها جيدًا… أنا لم ولن أحبك يومًا!”
بكت جين بحرقة وهي تقول بصوت متقطع:
“Why?… Why don’t you love me?”
“لماذا؟… لمَ لا تحبني؟”
نظر نوح إليها بعينين يملؤهما الذعر، وصوته يرتجف كأنما يخشى سماع الجواب:
“Jane… please tell me… did we do something else?! Please reassure me that it was just a kiss…”
“جين… بالله عليكِ قولي لي… هل فعلنا شيئًا آخر؟! أرجوكِ طمئنيني أنّ ما جرى لم يتعدَّ قبلة فقط…”
مسحت جين دموعها، وحاولت أن تتماسك وهي تقول بصوت متقطع:
“Don’t worry, Peter… nothing happened. When we went to your room, you fainted, and you stayed that way until you woke up today.”
“لا تقلق يا بيتر… لم يحدث شيء. حين ذهبنا إلى غرفتك سقطت مغشيًّا عليك، وبقيت هكذا حتى استيقظت اليوم.”
مسح نوح وجهه بكفّين مرتجفتين، كأنّما يغسل عنه آثار خزيٍ لا يزول، ثم اندفع إلى الحمّام وأغلق بابه بعنفٍ دوّى في أركان المكان كصرخةٍ مكتومة. غاص في صمته خلف الجدار، فيما ترك جين تتهاوى في الغرفة كطائرٍ مهيض الجناح، تبكي بحرقةٍ تكاد تمزّق صدرها.
وما إن خرجت مترنّحة الخطى حتى فوجئت بتوم واقفًا عند العتبة، قد سمع كلّ ما جرى، وعيناه تلمعان بدموعٍ محبوسة. فتح ذراعيه لها ببطءٍ يشي بالحنوّ، فاندفعت إليه جين تعانقه بعنف، تشهق باكيةً بقهرٍ موجع. أما هو فكان يربّت على شعرها الذهبيّ بخفّة، ويتمتم بصوتٍ مبحوح:
“Enough, my angel… don’t cry…”
“كفى يا ملاكي… لا تبكي…”
دخلت غرفته وجلست فوق سريره، فما لبث أن أحضر لها كأسًا من الماء وجلس إلى جوارها. ارتشفت منه جرعة يسيرة، ثم غلبتها العَبرة فعادت تبكي بحرقة. أسندت رأسها إلى صدر توم، وانطلقت كلماتها تتهاوى مثقلة بالوجع:
“Everyone I loved… never loved me! Why have I never had anything I loved in my entire life?!”
“جميعُ من أحببتُهم… ما أحبّوني قط! لِمَ لم أنل شيئًا ممّا أحببت طَوال حياتي؟!”
فتبدّلت ملامح توم، ومدَّ يديه يمسح دموعها ثم اشتد في عناقها وإدخالها بصدره أكثر بذراعيه:
“Don’t cry, Jane… your tears are killing me.”
“لا تبكي يا جين… دموعك تقتلني. “
-Why… Why?
لماذا؟… لماذا؟!
مسح توم على رأسها وقال:
“Because you are blind to those who love you…”
“لانك عمياء عمن يحبوكي…”
-Nobody loves me…
-لا احد يحبني…
-We all love you.
-جميعنا نحبك
-You say this so I don’t feel unacceptable to everyone, but the truth is clear: no one loves me, and no one I’ve loved has ever felt the same way.
-أنت تقول هذا كي لا تُشعرني بعدم القَبول تجاه الجميع، لكن الحقيقة واضحة؛ فليس هناك أحدٌ يحبني، ولا أيُّ شخصٍ أحببته بادَلَني الشعور ذاته.
فابتسم توم ونزلت دمعة واحدة من عينيه التي تفيض عشقا مريرا:
“This is because you have not seen someone who loves you and you are always looking for someone to love.”
“هذا لأنك لم تري من يحبك وتبحثين دائمًا عن من تحبينه.”
تساءلت باستعجاب واستخفافا بكلماته:
“Who loves me?! “
من الذي يحبني؟!
فصرخ توم بقوة وقد أرهقه الكتمان:
Me…. Me….
أنا… أنا…
فما لبثت جين أن أفلتت من حضنه، وتوقّف نشيجها دفعةً واحدة، لترفع بصرها إليه بدهشةٍ تكسو ملامحها. عندها انفجر هو بصوتٍ يضجّ بالفيض والاحتراق:
“I love you, Jane… I love you more than anything! I’ve been in love with you for years and you don’t feel it at all.”
“أنا أحبكِ يا جين… أحبك أكثر من أيِّ شيء! أنا مغرمٌ بكِ منذ سنوات وأنتِ لا تشعرين بي مطلقًا”
تحرّكت تمارا في الساعة التي حدّدها الفريق، وكانت خطّتهم بديعة الحيلة إلى درجةٍ أنّ تمارا لم يساورها الخوف لحظةً واحدة. تسلّلت بخفّة، وبسلاسةٍ استطاعت أن تقتحم غرفة زعيمها، فانتزعت الحقيبة التي لم تكن قد أودِعت بعدُ في خزائن الزعيم، وخرجت في اللحظة التي أنذرها بها طه عبر السمّاعة التي يتّصلون بها معها.
غير أنّها فجأة تعثّرت في الطريق ووقعت، فانجرحت ساقها الخلفية لوقوعها على زجاجة بالأرض وأفلت منها صوت متأوهًا من الألم، لتشتعل الأنوار في المكان دفعةً واحدة. فإذا برجلٍ يطلّ بسترةٍ سوداء، يُسدل غطاء قبعته على وجهه ليحجب ملامحه، ويطبق بكفّه على فم تمارا ليخنق صرختها، فيما لفّ ذراعه الأخرى حول بطنها من الأمام ليزحزحها وهي على الأرض، ثم جذبها بقوّةٍ خلف جدارٍ غارقٍ في العتمة، وقلبها يخفق خفقانًا كاد يمزّق أضلاعها، والمكان الذي جرّها إليه موحشٌ لا تنكشف ملامحه.
-متخافيش أنا رحيم.. اهدي.
تنفّست الصعداء براحةٍ حينما همس بتلك الكلمات في أذنها من خلفٍ، وظلّا على تلك الهيئة دقائق معدودة، ظهرُها ملتصقٌ بصدره، وذراعه ملتفّة حول عنقها، فيما كفّه مطبقةٌ على فمها. وفي الأثناء كان أحد رجال الحراسة يجوب المكان جيئةً وذهابًا، يتحرّى مصدر الصوت، ويبحث عمّن تجرّأ على اقتحام الحصن. كانت دقّات قلبها تتعالى كطبول حرب، وكلُّ أوصالها ترتجف ارتجافًا شديدًا، فالتفت إليها رحيم وشعر برجفتها تحت يديه فربت بكفّه على كتفها هامسًا: “انا معاكِ… قولتلك متخافيش… مش هسيبك.”
كلماتٌ بسيطة لو صدرت عن غيره لمرّت عابرة لا توقظ في القلب شعورًا، غير أنّها حين انطلقت من بين شفتي رحيم، بدت كأنّها تنبض بالحياة، وتطرق وجدانها طرقًا لا مهرب منه. شعرت أنّ هذا الشاب، بغير وعيٍ منها، يصوغ قدرها على مهل، ويشدّ أوتار قلبها نحوه شدًّا خفيًّا، كأنّه قد أقسم أن يُفجّر في صدرها عاطفةً لا تُقاوَم، وأن يُحيل كل لحظةٍ تجمعها به إلى لحظة رومانسية.
صاح أحدهم في سمّاعة رحيم يأمره بالتحرّك فورًا، فنهض بهدوءٍ واتّزن، ثم أمسك بيدها ليعينها على الوقوف، وجذبها برفقٍ إلى الأعلى. غير أنّ أنينًا متألّمًا أفلت من شفتيها، فالتفت إليها رحيم، وهمس بصوتٍ خفيض: “يلا بسرعة.”
نظرت تمارا في عينيه، وأطبقت شفتيها عازمةً أن تصمد، فانتزعت نفسها واقفة، ثم اندفعت تركض معه إلى الخارج والحقيبة في يدها. وبينما هما يركضان، اعترضهما شاب وقف في طريقهما، فما كان من رحيم إلّا أن وثب عليه في لمح البصر، وصدمه بجبهته صدمةً عنيفة أطاحت به إلى الأرض. سحبه رحيم سريعًا ليخبئه وراء الجدار، ثم عاد فأمسك بيد تمارا وجرفها معه يعدو نحو المخرج.
وأخيرًا بلغوا الخارج، فخرّ رحيم على ركبتيه يلهث، وتمارا إلى جواره تكاد أن تلفظ أنفاسها من شدّة الإعياء. وإذا بسيارة الفريق تنقضّ عليهم، ويترجّل منها شاكر صارخًا: “اركبوا.”
فتح رحيم الباب وأدخل تمارا بالمقاعد الخلفية، ثم ركب بجانبها، وانطلقت السيارة بهم مسرعة. بادر رحيم إلى فتح الحقيبة، فإذا بها مكدّسة بالمال، فاتّسعت ابتسامته وهو يرمق شاكر بنظرة انتصار، ثم انخرطا معًا في ضحكٍ متعجّلٍ يفيض بالارتياح.
مدّ رحيم يده إلى تمارا التي كانت تسند رأسها إلى الوراء، تتنفّس بصعوبة وهي تكابد ألم ساقها، فأمسك يدها برفق، ونظر إليها مهاتفا اياها بلقب اخترعه مع نفسه ليليق بها: “نجحنا يا تيمون.”
فنظرت إليه تمارا، ورأت ابتهاجه، فارتسمت على شفتيها ابتسامة شاحبة ممزوجة بالمرارة، ثم أطلقت ضحكةً متهالكة: “ياعم تيمون انت الحقني دمي بيتصفى.”
تبدلت تعابير وجه رحيم لينظر لها بقلق: “في ايه!… مالك؟؟”
-لما وقعت في ازازة دخلت في رجلي.
أمسك رحيم بقدميها كلتيهما، ورفعها برفقٍ ليستقرّا على فخذه، فنظر شاكر لهم محدثًا رحيم بعدما هب في جوفه القلق عليها: “شنطة الاسعافات وراك يا رحيم فوق شنطة العربية.”
نظر رحيم لقدم تمارا يبحث عن اي جرح فقال: “فين؟… ما رجلك سليمة اهي!!”
فصرخت تمارا بألم وقد وصلت لمرحلة اخيرة في التحمل: “يلا السمانة يا غبي.”
فأمسك رحيم بقدمها اليمنى ورفعها، فإذا بسروالها قد انشقّ عند موضع الجرح، كاشفًا عن أثر النزف. التفت إلى الخلف سريعًا، وتناول حقيبة الإسعافات الأوّلية، ثم فتحها بيدٍ حازمة، فيما أرجعت تمارا رأسها إلى الوراء مُثقلة بالوجع وتتنفس بعنف عندها تطلّع إليها رحيم، وقد غمر عينيه مزيجٌ من القلق والحنان: “مقولتيش من بدري ليه دي نزفت لما اتهرت! ”
قالت تمارا، وهي تتخبّط تحت وطأة الدوار وتتحدّث بجهدٍ متقطّع يثقل أنفاسها: “لقيتك بتشدني زي شوال البطاطا وبتجريني وراك…”
فقهقه رحيم ونظر لها بإطمئنان: “بسيطة متقلقيش… هي اتفتحت وهتاخد كام غرزة.”
فصاحت تمارا وهي تتسع عينيها بخوف: “لا لا… اوعى… وسع… مش عايزاها تتداوى… هات اي مناديل نوقف نزيفهم.”
أمسك رحيم بقدم تمارا ليُثبِّتها، فيما كانت تحاول جاهدة أن تفلتها من بين يديه، وتُبعدها عنه خوفًا من وخز الإبرة وخياطة الجرح. فصرخت بصوتٍ يائسٍ يرتجف بالهلع: “اوعاااا…. يا رحيييم.”
فصاح شاكر: “ما تهدي يا بت بقى….”
فنظر رحيم لها وصرخ: “اثبتي عشان لو زهقت منك هسيّب شاكر عليكِ.”
فاتسعت عينا تمارا ونظرت لشاكر وعاودت النظر لرحيم تحاول أن تخفض صوتها بهدوء: “براحة طيب.”
ابتسم رحيم بانتصار، فقد غدت كلمة شاكر هي مفتاح السيطرة عليها كلما خاصمته أو أرهقته، إذ يكفي أن يلوّح باسم رفيقه ليذعن لها الموقف. رفع قدمها برفق، وراح يمزّق السروال عند موضع الجرح ليُفسح مجالًا للخياطة. فقد اعتاد هو والفريق مواجهة مثل هذه الإصابات غير مرّة، واضطرّ غير مرّة إلى خياطة جراحهم بيده، حتى غدا الأمر مألوفًا له لا رهبة فيه.
أمسك بالإبرة والخيط واقترب بها من ساقها، فإذا بتمارا تنتفض فجأة كما لو صعقتها الكهرباء، مغمضةً عينيها من شدّة الخوف، وجسدها يرتعش ارتعاشًا ظاهرًا. عندها أمعن رحيم النظر إليها، فأدرك أنّ الرعب قد استولى عليها بحقّ من مجرّد وخزة الإبرة، فتنفّس بعمق، وأرخى قبضته عن قدمها، ثم وضع ضمادة يوقف بها النزيف قائلا: “وقف العربية يا شاكر عند أي مستشفى.”
فنظر شاكر له: “ما تنجز يا رحيم وتخيطهالها….”
نظر رحيم لها ووجدها مازالت عينيها تفيض بالرعب وقال وهو يزعم في نفسه أنه لن يجبرها على تحمل وجع كهذا: “لا… خايفة من الابرة وهتوجعها….هناك في المستشفى هيعملولها بينج موضعي.”
ربت رحيم بهدوء على قدمها وقال بحنو: “متقلقيش… معلش استحملي الوجع لحد ما نوصل المستشفى.”
مالي وهذا القلب ؟
أيُّ شعورٍ هذا يا تمارا؟! أهو يتعمّد أن يُلقيكِ في شِباك حبّه رويدًا رويدًا؟ أم أنّ هذا دأبه مع الجميع… حنون!
ولمّا وصلا إلى المستشفى، دخلت تمارا وجلست مترنّحة، فأقبل طبيب ودود الملامح، وشرع يُجهّز أدواته. ابتلعت ريقها في توجّس، فيما كان رحيم وشاكر واقفَين إلى جانبها يرقبان. وبحركةٍ لا إراديّة، مدّت تمارا يدها وشبكتها بيد رحيم.
أطرق إليها، ثم ابتسم ابتسامةً هادئة، ووضع يده الأخرى فوق يدها وربّت عليها برفق، وهو يقول بصوتٍ خفيضٍ يشي بالطمأنينة: “مش هتحسي بحاجة..متخافيش.”
وبالفعل، وضع الطبيب مخدّرًا موضعيًّا جعل تمارا لا تشعر بشيءٍ وهي ترى الإبرة تخترق موضع الجرح وتخرج منه، حتى انتهى تمامًا من خياطته وإغلاقه. نهضت تمارا بعدها، وهمّ الجميع بالرحيل، وقد غمرت رحيم سعادةٌ لا تُوصف، إذ استطاع أن يعيد المال في الوقت المحدّد. تواصلوا مع الزعيم، وسلّموه الحقيبة، وأخبروه بما قامت به تمارا، وبفضلها الكبير حين رضيت بإرجاع الحقيبة، فصحّحت خطأها وأثبتت إخلاصها.
أدار الزعيم بصره في تمارا، من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، نظرةً نافذة كأنّها تخترق أعماقها وتزنها بميزانٍ خفيّ، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة مريبة، وأطلق صوته الجهوري مُصدِرًا قراره: “ضموها معانا…”
اتّسعت ابتسامة تمارا، فقد كان هذا ما رغبت فيه طويلًا؛ ففرقة رحيم تُعَدّ بحقٍّ الأقوى في السوق، والأفضل على الإطلاق. وبينما غاصت في شرودها، أيقظها صوت شاكر صائحًا بضجر: “لا يا زعيم دي لا…”
فابتسمت تمارا محاولة اقناعه بصوت ودود وبلطف: “ليه لا يا شاكر…. والله هبهركم.”
نظر لها رحيم وقد استغرب من ابتسامتها البلهاء وحماسها الزائد بعد نطق الزعيم بقراره: “ايه الانشكاح ده!”
فتحدثت تمارا تفهّمه بهدوء لمَ هي سعيدة هكذا: “دي فرصة متتعوضش… ولو عاوزين تختبروني من النهاردة انا موافقة.”
نظر لها شاكر ثم عاود النظر للزعيم: “مش هتنفعنا يا زعيم دي لخمة.”
نظر الزعيم لشاكر محدّثًا إياه: “اللعبة اللي عملتها على رحيم عجبتني وشايف ان مكانها افضل معانا…لان اللي عرفته انها هي صاحبة فكرة انها تطلع عامية وتستدرج عطفك الزايد مش زعيم فريقها.”
ابتسمت تمارا بثقة، فيما رنا إليها شاكر بطرف عينه، فداعبها رحيم بدفعة كتفه بكتفها، فبادلته بابتسامة ونفس.
انطلق الثلاثة معًا، وعادوا إلى منزل رحيم، وقد غمر الجميعَ فرحٌ عظيم بانتصار خطتهم وتمام عمليّتهم. ورأت تمارا بعينها كيف أولت كرمة ودنيا عنايةً فائقة بسليم، حتى إذا دخلت عليه وجدته غارقًا في نومٍ عميق، مطمئنّ الجوارح. اقتربت وجلست إلى جواره في سكون، بينما ضجيج القوم بالخارج يتردّد كصدى بعيد لا يعنيها.
و في تلك اللحظة، شرد بصرها وتاهت أفكارها، فانداحت أمامها كل المواقف التي جمعتها برحيم، أحسّت بخفقان قلبها يطرق صدرها بعنف، كمن يطالبها بالإفصاح عمّا يختبئ خلف أسوارها. أهذا ما كانت تنشده عمرها بأسره؟ أهذا هو الحلم المؤجَّل الذي ظلّت تنتظره؟ أن تُدرك أخيرًا معنى الحب؟!
لكن أيعقل أن تقع في حبّ رحيم بهذه السرعة؟! لقد جاءها السؤال كالرجفة، فارتجف له وجدانها، وبقيت بين صمتها العميق وصخب قلبها المتمرّد، حائرةً بين العقل الذي يصدّها والروح التي تنجذب إليه دون قيد.
لقد كانت مواقف طريفة بينهما، لكنها تركت في قلبها وقعًا غريبًا، كأنها أنغامٌ لم تعهدها من قبل، تُحرِّك وجدانها بجرسٍ غير مألوف.
إنّها لم تعرف الحب يومًا، ولم تُقابله وجهًا لوجه قطّ، بل عاشت عمرها غريبة عنه، حتى بدا وكأن الحبَّ لم يُكتب لها في صحيفة القدر. لم تُصادف شخصًا تحبّه، ولم تُقابل رجلًا يثير فيها هذا الاضطراب الجميل، حتى جاء رحيم… وقتها تغير كل شيء!
لن تكذب على نفسها فهي صريحة جدًا مع ذاتها… ما تشعره تجاه رحيم… انجذاب غير طبيعي و…
قطع أفكارها طرقٌ خفيف على باب الغرفة، فإذا برحيم يدخل بوجهه المشرق وابتسامته التي اعتادتها، قائلاً بنبرته المرحة:
“البنات برا عايزينك… وتشوفي هتاكلي ايه معانا لان كلنا على لحم بطننا…يلا.”
ثم همَّ بالانصراف، غير أنّها نادته مترددة:
“رحيم…”
التفت إليها بعينيه المتسائلتين، فبادرت بصوتٍ خافت يخالطه القلق:
“هو انت مبسوط اني بقيت معاكم ولا زي شاكر مش طايقني؟! “
أسند رحيم كتفه إلى الحائط متأملاً، ثم قال:
” عارفة يا تمارا… لو حد كان جالي من اسبوع اول ما عرفتك وقالي انك هتكوني من الفريق بتاعنا وهكون فرحان كده انا كنت هقول عليه مجنون..”
لم تملك تمارا إلا أن تضحك وقد داعبها الخجل، فمدّت يدها تحك عنقها في ارتباك، ثم خطت بجانبه نحو الخارج. وهناك، حيث علت أصواتهم بصخب وهم يغنوا ويرقصوا فشاركتهم الفرحة وهي حقًا سعيدة لانضمامها مع رحيم… أقصد معهم، معذرة يا تمارا.
كانت عقارب الساعة قد بلغت الثانية عشرة بعد منتصف الليل، حين توقّفت سيارة الأجرة أمام الفندق، فترجّلوا جميعًا وقد أنهكتهم رحلة الطائرة التي امتدّت قرابة الساعات السبع عشرة، فبدوا كأشباح أُنهك جسدها. كانت لوجي غافية على كتف رهف، ساكنةً كعصفورة أرهقها التحليق، فيما خطت الأقدام المتعبة نحو ردهة الفندق حيث جرى حجز الغرف على عجل.
دخلت رهف الغرفة بصحبة هبة، ولوجي بين ذراعيها، وضعتها على الفراش برفقٍ، ثم مالت نحو الحقائب تستخرج الثياب بصمتٍ أثقل من الجدران، صمتٍ مريب يشي بما تُخفيه الروح. هنالك، قاطعتها هبة بصوتٍ مائل إلى القلق:
“مفيش اخبار عن نوح؟”
توقفت يدا رهف فجأة، كأن الزمن تجمّد عندها، ثم التفتت بوجهٍ متجهّم وقالت:
“نوح مبسوط معاهم هناك.”
اقتربت هبة منها بخطى يملؤها الحنو، ومدّت كفيها لتحتضن وجه رهف، وقالت بنبرةٍ يختلط فيها الحزن بالعطف:
“مالك يا بنتي؟؟… كنتِ مبسوطة الصبح مع لوجي، ايه اللي جرى… على الاقل لوجي نامت دلوقتي، تقدري تقوليلي الحقيقة… الحقيقة اللي مخبياها عن الكل… انتِ في حاجة ضايقتك علطيارة؟… غزل ضايقتك؟”
وفجأة انفرجت السدود واندفعت دموع رهف كسيلٍ جارف، ثم ارتمت في أحضان هبة، تبكي بشهقات متقطّعة وتقول بحرقة:
“اشتكيلك ازاي يا ماما وانتِ امه!”
ارتجفت ملامح هبة وتحوّل وجهها إلى لوحةٍ من الدهشة والألم، وردّت بصوتٍ مثقل بالجرح:
“وهو من امتى بسمع منك امه وامك دي يا رهف…. انتِ بنتي وعارفة الكلام ده كويس.”
صرخت رهف من بين شهقاتها، كأن قلبها يفرغ ما أثقله:
“يا ماما انا قرفت من نوح…. قرفت منه ومبقيتش حباه خلاص… نوح اتغير كتير وانا مش هقبل ده على نفسي… انا….”
-ماما انتِ بتعيطي!
تجمّدت رهف مكانها، ثم أسرعت إليها وكأنها تلملم ما تناثر من روحها، فضمّت ابنتها إلى صدرها قائلة بنبرةٍ تحاول أن تستر نزيفها:
“لا يا حبيبتي مش بعيط… ده بابا بس وحشني شوية وافتكرته.”
فغمرت لوجي أمّها بعناقٍ طفولي دافئ، وقالت بإيمانٍ لا يعرف الشك:
“بابا هيرجع وهتشوفي… هو وعدني.”
في تلك اللحظة، كانت هبة جالسة على طرف السرير، تنظر إليهما بعينٍ دامعة وزفرةٍ مثقلة، ترى في العلاقة التي كانت يومًا صرحًا شامخًا كيف تسرّبت إليها الشقوق حتى صارت كالكأس الهشّ، يكفيها أدنى صدمة لتتناثر شظاياها. زاد حزنها حين أيقنت أنّ نوح هذه المرّة قد ابتعد عنهم بإرادته، فترك فراغًا أعمق من الغياب ذاته.
-يابني حرام عليك قربت علاربعين ولسه مستنيها!
-ولحد ما اموت يا امي…..
انفجرت دموعُ ميرفت، وصرخت فيه بقوةٍ تكاد تسكبُ فؤادَها على ثوبه:
“انا عاوزة اشوفلك حتة عيل يا حسن… يابني انا مش هعيشلك كتير… فرحني بيك ده انت ضنايا الوحيد…. عشان خاطري اتجوز البنت اللي قولتلك عليها هي عندها تلاتين ينة ولسه متجوزتش وانتو الاتنين مناسبين…..”
فدنا حسن من مكانه كمن اشتعل صدره، واندفع بصوتٍ كالصدى: “تاني يا ماما تااني!… انا مش هتجوز… اغنيها؟”
ردّتْ عليه ميرفت بلهجةٍ تفيض بالمرير:
“يعني ايه مش هتتجوز…. اللي انت عاوز تتجوزها عمرها ما هتبقى ليك.”
قال بصوتٍ قاطعٍ لا يلين:
“هتبقى ليا.”
هزّت ميرفت رأسها واستمرأت الكلام كما لو أنها تفرُّ من حِنينها إلى حكمةٍ مُرة:
“لا مش ليك… ولا هي بتحبك زي ما بتحبها… ومخلفة ومتجوزة وبتحب جوزها… ايه اللي مخليك متمسك بيها بعد كل ده… ده انت بتحبها من تالتة ثانوي وانت دلوقتي عندك 38 سنة يعني بنتكلم في واحد وعشرين سنة منتظرها!!”
علا صراخُ حسن فجأةً، وامتلأت عيناه بالدمع، وارتجفَ رأسه وهو يتحدث، وقال باختناقٍ:
“مش بايدي… لو كان بايدي اني اخرجها من قلبي كنت عملت كده من بدري… ده ده مش قادر يخرجها”
(وضرب صدره بقسوةٍ)، “قاعد منتظرها كل السنين دي عشان في الاخر اروح اتجوز اي واحدة عشان كبرت في السن… طب ما كنت وفرت عليا كل ده واتجوزت من عشر سنين فاتوا… لا يا امي لا… يا إما رهف يا بلاش…”
تفجّعَتْ الأمُّ وقالت بلسانٍ لاذعٍ كرمحٍ:
“الله يحرق اليوم اللي حبيت فيه رهف على يخربيت اليوم اللي شوفتها فيه يا شيخ.”
مسح حسن دموعه بيدٍ أمامَ وجهه، وتقدّم إلى غرفته وقال أخيرًا بصوتٍ منخفضٍ رفيقٍ بالثبات:
“لا يا ماما… انا عمري ما ندمت على حبي ليها من اول يوم…”
دخل غرفته فأغلقَ الباب على نفسه، ورفع سماعة هاتفه ليتكلّم مع…
-I don’t want him back by any means…
-لا اريده ان يعود باي طريقة…
-I will do my best so that he doesn’t come back… Shall we start with the next plan?
-سأبذل قصارى كهدي حتى لا يعود… هل نبدأ بالخطة القادمة؟
خرج حمزة من المرحاض، فإذا به يرى غزل وقد غلبها النوم على الأريكة. ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة، وتقدّم بخطواتٍ وئيدة نحوها، ثم انحنى وحملها بين ذراعيه برفقٍ، كما لو أنّه يحمل طفلةً وديعة، ليضعها على الفراش. وما إن استقرّت بين الوسائد، وهمّ أن يبتعد، حتى تردّد في خطاه، إذ شدّه مشهدها نائمةً بعمقٍ، فوقف متسمّرًا يتأمل ملامحها.
تسارعت دقات قلبه بعنفٍ، ولفح وجهه نسيمُ أنفاسها الدافئة، فشعر بحرارةٍ غريبة تخترق كيانه، على الرغم من أنّ الصقيع خارج الغرفة يشتدّ. بدت له بريئةً في سباتها، كزهرةٍ تستسلم للندى، وقد ازداد وجهها إشراقًا بخدّيها الورديّين، البارزين كأجمل ما فيها، اللذين طالما راوده الحلم بأن يلمسهما.
رفع يده في تردّد، ثم مسح خدّيها بأصابعه في لمسةٍ مرتجفة، وقرصهما بخفّة، فانطلقت منه قهقهة عفوية كأنها اعترافٌ صامت بما يعتمل في صدره. لكنّه سرعان ما صمت، واستغرق في التأمل، ثم راح يقترب شيئًا فشيئًا حتى بلغت شفتاه خدّها الأيمن، فطبع عليه قبلةً رقيقة ذابت فيها روحه.
لم يشأ أن يبتعد، لكن الخوف من أن تستيقظ وتدرك أنّه اقتنص منها قبلةً خلسةً حمله على الرجوع. اعتدل في وقفته، وأخذ يُسوّي ملابسه بتوتر، فيما قطرات من الحَرور تتصبّب في داخله، كأنّه تحت لهيبٍ ملتهب، مع أنّ الجو في الخارج كان تحت الصفر.
توجّه نحو النافذة، ووقف يتأمّل الأفق البعيد، غارقًا في دوامةٍ من الصراع، ثم تنفّس بعمقٍ وهو يواجه حقيقةً كالطعنة: لقد وقع، بلا ريب، في غرام محتالــة!
ارتفع صوت توم خلف الباب المغلق، تتردّد كلماته بلهفةٍ يائسة:
“Jane, open the door… If I had known that confessing my love to you would make you move away, I would never have confessed my feelings… Please open the door.”
“-جين افتحي الباب… لو كنت أعلم أن اعترافي لكِ بحبّي سيجعلك تبتعدين، لما كنت اعترفت مطلقًا بمشاعري… أرجوكِ افتحي الباب.”
وبعد لحظاتٍ من الصمت المثقل بالدموع، انفتح الباب لتطلّ جين، وعيناها محمرّتان من أثر البكاء، وقالت بصوتٍ متهدّج:
“I’m sorry, Tom… but I don’t feel the same way… and I don’t want you to be hurt like you were with Peter… I know this feeling well and I’ve lived it, and I’m afraid you’ll have to live it too much, but it’s not in my hands.”
“انا اسفة يا توم… ولكني لا ابادلك المشاعر ذاتها… ولا اريدك ان تنجرح مثلما انجرحت مع بيتر… انا اعرف هذا الشعور جيدا وعشته، واخشى عليك من عيشه كثيرًا، ولكن ليس بيدي.”
ارتسمت على محيا توم ابتسامةٌ ممزوجة بالمرارة، ثم تقدّم إليها كمن يستسلم لقدرٍ محتوم، وقال وهو يمدّ ذراعيه لعناقها:
I will be with you and your best friend no matter what… My love for you will not be affected by you not reciprocating it… My love for you is great and will remain great.”
“سأكون معكِ وصديقك المفضّل مهما حدث… حبي لكِ لن يتأثر بعدم مبادلتك له… حبي كبير لكِ وسيظل كبير.”
غير أنّ لحظتهما انكسرت فجأةً حين دوّى صراخ أحد الفتيان في الأسفل:
“الحقوا بيتر…”
تجمّع الجمع مسرعين، وإذا بهم يفاجأون بمشهدٍ غريب: بيتر يضحك ويتمايل على أنغام الموسيقى، مرتديًا فستانًا لامعًا، وبجانبه باروكة صفراء تُغطي رأسه، وقد التفّ حول عنقه وشاحٌ من ريشٍ ورديّ، يلفّه على نفسه مع حمرة شفايف، ويستند إلى ماسورة وهو يقلّد حركات الفتيات في الملاهي الليلية بطريقة مقززة تمحي رجولته محوا.
وكالعادة، كانت هناك كاميرا خفيّة تتربّص بالمشهد، توثّق حركاته وصخبه، في انتظار أن تُرسَل تلك الصور إلى رهف. غير أنّ خطّتهم هذه المرّة لم تُحاك لإزهاقها منه فحسب، بل لتغتال في قلب صغيرته صورة الأب الشامخ، الذي كانت تراه كالجبل في رجولته. لقد أرادوا أن يحوّلوا وقاره إلى مهزلة، وأن يستبدلوا بهيئته في مخيّلتها مشهدًا مُستعرًا، يهوي بصورة الأب من علياء الكبرياء إلى حضيض السخرية.
في أروقة المستشفى، كان سمير واقفًا أمام بابٍ موصد، يترقّب كالغريق المتعلّق بقشّة. انفتح الباب ببطءٍ، وخرج الطبيب بخطواتٍ هادئة، ثم قال بصوتٍ متزن:
“حالتها لسه مش مستقرة… لازم تفضل في الميتشفى لحد ما تتحسن…”
أطرق سمير رأسه، وعضّ على شفتيه يمنع دموعًا توشك أن تنفلت، كمن يكتم صرخةً داخل صدره. ثم دفع الباب بخطواتٍ مثقلة ودخل.
هنالك، رآها مسجّاة فوق الفراش، ساكنة كطيفٍ متعب، وجهها شاحب كصفحة قمرٍ يتوارى خلف الغيوم. اقترب منها بارتجافٍ، وانحنى بجانبها هامسًا بصوتٍ متهدّج:
“عايزة تمشي وتسيبيني يا اميرة؟… بتنتحري!”



