رواية موعدنا في زمن آخر الفصل السادس عشر 16 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf

|16-ابنة الحديقة المفقودة!|
تفاجأ حمزة من كلماتها، فارتجف صوته وهو يقول محاولًا تهدئتها:
“رهف اهدي… انتِ تحت ضغط شديد مينفعش تاخدي قرارات.”
غير أنّ رهف نهضت من فراشها مبتسمة ابتسامة مشوبة بالجنون، وقالت بسخريةٍ وهدوءٍ متكلف:
“ضغط؟… أي ضغط؟.. صاحب الضغط هنتطلق منه… خلصنا.”
ثمّ قامت بخطواتٍ متمايلة، كأنها تحاول إقناع جسدها المرهق بالثبات، واقتربت من خزانة الغرفة. فتحتها بعنايةٍ مفرطة، وأخذت تتفحّص الثياب واحدًا تلو الآخر. كانت الابتسامة لا تفارق شفتيها، كأنها تُخفي تحتها انهيارًا كاملاً لا يُرى.
قالت بمرحٍ مصطنع وهي تجول ببصرها نحوهم:
“انتو قاعدين ليه؟ مش عيد ميلاد لوجي النهاردة؟ وهنروح بيها Disney Sea؟ إيه اللي مقعدكوا؟ قوموا البسوا و… فين لوجي؟”
نظر حمزة إلى هبة نظرةً مترددة، وقرأ في عينيها ذات الاستفهام المذعور الذي يعتريه هو، لكنّه تمالك نفسه وقال بنبرةٍ تحمل شيئًا من الاصطناع:
“راحت مع سمر… واحنا هنسبقهم.”
ابتسمت رهف بتفهم، ثم دخلت إلى الحمّام لتبدّل ثيابها. وما إن غابت خلف الباب حتى التفتت هبة إلى حمزة، وقالت بصوتٍ متحشرجٍ بالقلق:
“هو إيه ده؟؟”
فأجابها وهو يمرّر كفّه على وجهه في إرهاقٍ ظاهر:
“معرفش يا عمتو… معرفش… بس اللي عارفه دلوقتي إننا نحاول ننسى أي حاجة… عشان خاطر سعادة لوجي النهاردة.”
وفجأة، رنَّ هاتفُه فالتفت إليه، فإذا بالاسم على الشاشة: حسن.
رفع الجهاز إلى أذنهفجاءه صوت حسن:
– “حمزة، صباح الخير؟”
زفر حمزة بضيقٍ ظاهر، إذ كان يعلم تمام العلم نوايا حسن، ويعلم أنّ السنوات الأربع التي غاب فيها نوح لم تُخمِد في نفسه طموحًا واحدًا، بل ظلَّ يكلّمه في محاولاتٍ متكرّرة لإقناع رهف بالزواج منه، إلا أنّ جميع محاولاته باءت بالفشل. كان حمزة يرى أن حسن يحبّها حقًا، حبًّا صادقًا لا رياء فيه، غير أنّه كان يلومه في كل مرّة، لأنّ حبّه موجّه إلى امرأةٍ متزوجة.
وحين اختفى نوح وظنَّ الجميع أنّه قضى نحبه، بدا لحمزة أنّ الأمور قد تمضي على نحوٍ أيسر إن تزوّجها حسن؛ لكنّه كان يدري يقينًا أنّ رهف تعشق نوح عشقًا لا يُرجى برؤه، وأنّها لا يمكن أن تكون لغيره. وبعد ظهور نوح، ازدادت الأمور تعقيدًا وتشابكًا حتى باتت كعقدٍ مستعصٍ على الحلّ.
ردّ عليه حمزة بجفاءٍ ظاهر:
– “ايوة يا حسن.”
تقطّبت حاجبا حسن بضيقٍ وقال:
– “ومالك بترد عليا كده ليه؟”
خرج حمزة من الغرفة وقد ترك عمّته هبة خلفه، بعد أن أشار إليها أنه ذاهب لارتداء ملابسه. وما إن سمعت أنّه يتحدث مع حسن حتى تسلّل إليها الفضول لتعرف سبب المكالمة، غير أنّ حمزة رفض أن يرضي فضولها، وغادر مسرعًا إلى غرفته، حيث أمسك الهاتف مجددًا وتحدث بنفاد صبر:
– “بردّ عليك زي ما برد دايمًا… اؤمر… عايز إيه؟”
قال حسن بنبرةٍ متحفّزة:
– “رهف مش في البيت، بسأل أبوها وأمها قالوا إنك وديتها لطوكيو عشان تحتفل بعيد ميلاد لوجي هناك.”
وضع حمزة يده على خاصرته متسائلًا ببرودٍ ساخر:
– “ايوة برضو مفهمتش مغزى مكالمتك إيه؟”
– “هحاول أتغاضى عن أسلوبك وهرد عليك… المفروض كنت تقولي حاجة زي كده قبل ما تعملها.”
– “ده ليه إن شاء الله؟”
– “عشان أكبر في عين رهف.”
ابتسم حمزة ابتسامةً مقتضبة وقال باستخفاف:
– “لا متقلقش، انت مش موجود أصلًا في بالها عشان تكبرك أو تصغّرك… ريّح نفسك وخليك في حالك.”
– “هو بعد ما نوح ظهر يعني بقيت أنا الكخة؟ ما كانت علاقتنا كويسة في الأربع سنين اللي كان نوح مش موجود فيهم، دلوقتي بقيت وحش، صح؟”
– “في الأربع سنين اللي بتقول عليهم، كنت شايفك نبيل إنك عايز تاخدها وبتحبها، ولأني كنت شايفها بتتعذّب لوحدها. لكن بعد ظهور نوح المفروض تنسحب، لأن جوزها خلاص رجع.”
– “لا يا حمزة، نوح مرجعش… اللي رجع غريب عن مراته، واحد متعرفوش.”
احمرّت عينَا حمزة وغلت الدماء في عروقه، وقال بحدة:
– “أيا يكن، انت مالكش دخل بالموضوع، دي مشكلة بين راجل ومراته… إيش حشرك؟”
– “مش بنت خالتي؟”
ارتسمت على شفتي حمزة ابتسامةٌ ساخرة وقال باستهزاء:
– “آه، قولتلي بنت خالتك… وياترى بنت خالتك ترضى إن بيتها يتخرب بسببك؟ ولا انت نفسك لو يتخرب، عشان كده بتتطمن كل شوية تشوفه اتخرب ولا لسه؟”
ردّ حسن بثقةٍ ممزوجةٍ بالسخرية:
– “حبيبي، هو كده كده خربان. انت عارف نوح هياخدله كام سنة عبال ما يطلع لو فكر يرجع مصر؟”
اشتعلت الدماء في عروق حمزة، وصرخ بصوتٍ مجلجل:
– “وحتى لو ميت سنة، إياك تفكر إن رهف هتكون ليك يا حسن!”
ضحك حسن بسخريةٍ واستفزازٍ وقال:
– “طب ما نسيب الأيام هي اللي تورينا… رهف هتكون لمين في النهاية؟”
__________________________
كانت دنيا في غرفة تمارا، وقد صعدت إليها منذ قليل لتطمئن على حالتها بعد حديثٍ دار بينها وبين رحيم. أخذت ترتّب خزانة تمارا وتضع فيها بعضًا من ملابسها، ثم ناولتها قطعةً منها مبتسمة:
– “أنا مليانة سيكا عنك.. بس أعتقد هيبقوا كويسين عليكِ.”
ابتسمت تمارا وقالت بشكرٍ صادق:
– “والله بجد شكرا يا دنيا، أنا مكنتش عارفة أرجع أجيب هدومي وحاجتي من السكن بتاعنا، لأن أكيد هيجيبوني.”
شهقت دنيا ممازحة وهي ترفع حاجبيها بدهشةٍ مفتعلة:
– “يا لهوي! وحد يرجع تاني لعصابته برجليه بعد ما خزوقهم؟!”
انفجرت الاثنتان ضاحكتين، وتعالت قهقهاتهما التي ملأت المكان بخفةٍ ودفء. لكن سرعان ما قاطعهما صوت طرقٍ على الباب. نهضت تمارا لتفتحه، وحين رأته، اتسعت ابتسامتها على الفور. كان رحيم واقفًا أمامها.
قال مبتسمًا:
– “عاملة إيه دلوقتي؟”
– “الحمد لله… اتفضل.”
دخل رحيم إلى غرفة النوم، فرأى دنيا ما زالت ترتب الخزانة، فبادر قائلاً:
– “الحفلة معادها اتقدم، وهتكون بعد شهر.”
ابتسمت دنيا وقالت بحماسٍ مشوبٍ بالدهشة:
– “حلو أوي، الشباب متدربين كويس، إيه القلق اللي انت فيه ده؟”
تنهد رحيم بعمقٍ، ثم اتجه نحو سليم الصغير ليلاعبه بلعبته، وقال:
– “غزل مش راجعة دلوقتي… وهي المسؤولة عن عزف البيانو. وقعدت تقولي الحفلة فين ورجوعي فين ولسه بدري، وهخلص المهمة وارجع بسرعة. بس كده لو رجعت حتى بعد كام أسبوع، مش هتعرف تتدرب ولا تعمل بروفا كويس على دورها، وساعتها هنتزنق وهيضيع مننا الفوز.”
تلألأت عينا تمارا بفكرةٍ مفاجئة، فقالت بحماس:
– “طب ما تدربني بيانوا الفترة اللي قبل الحفلة… مش قولت هتدربني أصلاً؟ ولا انت خليت بوعدك؟”
ضحك رحيم وقال بمكرٍ لطيف:
– “لا، وانتي لسه على وعدك أوي إنك تطبخي وتتعلمي الطبخ؟!”
ضحكت تمارا بخفةٍ وقالت:
– “اديني وقتي، أخد علشقة، بعديها أطبخ! أنا بشحت لبس من عند دنيا دلوقتي.”
تدخّلت دنيا وهي تضحك قائلة:
– “لا صعب أوي يا تمارا… انتِ لسه هتتعلمي؟ ده بيقولك لو غزل رجعت قبل الحفلة بأسبوعين مش هتلحق تتدرب على المعزوفة في الفترة دي، وغزل متعلّمة الأساسيات! ما بالك بيكي وانتي أبيض خالص ولسه هيعلم من الأول!”
أجابت تمارا متحدّية، وقد ارتسمت على وجهها ملامح عنادٍ وذكاء:
– “مادام عاملين حسابكم إن في الحالتين هتخسروا وبقى عندكم يأس، فمش هتخسروا حاجة لو علمتوني أو لا. ما يمكن أنجح في الشهر ده واتعلم فعلاً.”
ساد الصمت لحظة، تبادل فيها رحيم ودنيا النظرات، ثم نظر رحيم إلى تمارا طويلاً، وقد بدا في عينيه تفكيرٌ عميق. فجأة، ابتسم وهتف قائلًا:
– “اشطا، موافق! هنبدأ تدريب من النهاردة الصبح تدريب للبيانو، وبالليل شغل.”
نظرت إليه دنيا نظرة فهمها جيدًا.. فقال رحيم محاولًا تبرير قراره بتلعثمٍ خفيف:
– “عشان المسابقة… عشان المسابقة متضيعش من إيدينا بس.”
____________________________
وصل الجميع إلى ديزني سي، وكانت لوجي أكثرهم حماسًا بلا منازع؛ تركض هنا وهناك، تتنقّل بخفّةٍ ومرحٍ كفراشةٍ لا تعرف التعب، وصدح ضحكها الطفولي في الأرجاء كأنغامٍ تُذيب جروح رهف وتُنسيها كل ما أثقل قلبها.
غير أن الغريب في الأمر، أنّ حمزة للمرة الأولى يرى على وجه غزل ملامح لم يألفها من قبل… وجهًا طفوليًّا بريئًا، كأنّه وجهُ فتاةٍ لم تتجاوز العاشرة من عمرها، تمامًا كلوجي. أقسم في نفسه أنّها امرأة ناضجة، نضجَ قلبُها وعقلُها، غير أنّها الآن ليست كذلك؛ كانت طفلةً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، طفلةً حُرِمت من طفولتها، فها هي اليوم تستردّها بفرحٍ عارمٍ لا يشبه فرح الكبار.
لم يكن يدري ما الذي يحرّكه هذا المشهد في أعماقه، لكنّه كان على يقينٍ أن ابتسامتها تلك ليست مجرّد ابتسامةٍ عابرة، بل كانت فرحةَ من وجد العالم الذي سُلب منه ذات يوم.
ومع مرور الساعات، علت الضحكات،الجميع كان سعيدًا لأجل لوجي…
إلا حمزة؛ فقد كان سعيدًا لأجل غزل.
سعيدًا لرؤيتها تضحك، سعيدًا لأن قلبها أخيرًا عرف طريق الفرح.
اقترب منها بخفةٍ، وأمسك يدها هامسًا عند أذنها بنبرةٍ دافئة:
– “شايفك فرحانة أكتر منها!”
التفتت إليه غزل، وفي عينيها بريقٌ كأنهما تخرجان قلوبًا من النور، وقبضت على أصابعه بحنانٍ طفولي وقالت بصدقٍ يغمر صوتها:
– “أنا هموت من الفرحة… أنا بعيش كل أحلامي هنا… ياما اتفرجت على أفلام أميرات ديزني، أنا هنا عايشة قصصهم وشايفاهم حقيقيين قصادي… انت مش متخيل أنا بحس بإيه دلوقتي…”
مدّ حمزة يده ومسح دمعةً سقطت من عينيها على حين غفلة، فابتسمت بخجلٍ طفولي، ثم ما لبثت أن ارتمت على صدره تعانقه بقوةٍ كأنها تخشى أن تفلت اللحظة من بين ذراعيها.
أحاطها حمزة بذراعيه ومسح على رأسها بحنانٍ صامت، وابتسامةٌ عميقةٌ ارتسمت على وجهه.
___________________________
كان حسن يجلس في مكتبه، والهدوء يخيّم على المكان إلا من صوت عقارب الساعة. رفع الهاتف بعد تردد، وضغط على اسم رهف، ولما سمع صوتها، ابتسم.
– “رهف، عاملة إيه؟”
– “إزيك يا حسن؟”
ابتسم حسن وقال برقةٍ ظاهرة:
– “كنت حابب أقول للوجي كل سنة وهي طيبة، وكنت عاملها مفاجأة هنا، بس مكنتش أعرف إنكم سافرتوا.”
أجابت رهف بنبرةٍ هادئةٍ فيها اعتذار:
– “الموضوع جيه فجأة يا حسن والله… سامحني، مش هعرف أدي الموبايل للوجي دلوقتي، قولها كل سنة وهي طيبة لما تكلمها، هي دلوقتي مشغولة باللعب، وبالليل هنكون رجعنا وهخليها تكلمك.”
ساد صمتٌ قصير، ثم سأل حسن بنبرةٍ مترددة:
– “رهف… متعرفيش أي حاجة عن نوح؟ حاول يوصلك قبل كده؟ عارف إن السؤال غبي، وإنك أكيد مش حابة تردي، بس صدقيني، وجوده في السجن أهون بكتير من وجوده وسط عصابة تجار آثار أجانب….”
تجمد وجه رهف، وبدا على صوتها أثر وجع تحاول دفنه:
– “معرفش عنه حاجة… ومش عايزة أعرف. نوح خلاص خرج من حياتي من يوم ما اختار الطريق ده.”
ثم صمتت برهة، كأنها تبتلع غصّة، قبل أن تضيف:
– “بس أنا كنت هكلمك في موضوع تاني، وعايزاك تساعدني فيه.”
رفع حسن رأسه وقد غلبه الفضول قائلا باهتمام:
– “أوامرك يا رهف.”
– “أنا عايزة أرفع قضية طلاق… ومعرفش محامي بس قولت انت هتساعدني في ايجاد محامي كويس.”
تجمدت أنفاس حسن لوهلة، ثم قال متعجبًا بتمثيل بارع:
– “طلاق؟! من نوح؟ ليه؟”
تنهدت رهف بعمقٍ، وكأنها تفرغ أربع سنواتٍ من الكتمان في نفسٍ واحد:
– “نوح مغترب بقاله أربع سنين يا حسن… لا نفق عليا ولا على لوجي.و لما رجع، رجع غريب. رجع ومعاه ناس خطر شايلين سلاح وهددونا بيه كذا مرة…
واظب حسن على ابقاء ردة فعله المذهولة مما يسمعه:”امتى الكلام ده!!”
تنهدت رهف لتقول:”بعد ما نوح هرب منكم واعتقدتوا انه هرب مع العصابة ساعتها لوجي استخبت في شنطة العربية و….”
حكت له كل ما حدث في الايام السابقة مع نوح ورغم ان حسن كان على دراية بكل شيء الا انه ابدع في اظهار اندهاشه:”انا مش مصدق اللي بسمعه يا رهف…طب ولو كان قتلكم
…ازاي آمنتي لنفسك معاه انتِ وبنتك…وازاي خليتيه يقعد وسطكم!”
-انا فوقت يا حسن…بس فوقت متأخر…. وعرفت انه بعد رجوعه انا مش هقبل بيه يكون في حياتي تاني أنا مش بس متأذية، أنا مرعوبة منه… مرعوبة على بنتي، على نفسي…ارجوك خلصني من الموضوع ده بأسرع وقت.”
– “بس يا رهف، القانون هنا ليه ترتيبات… لازم تكوني عارفة. طالما هو غايب أكتر من سنة ومفيش نفقات ولا تواصل، تقدري ترفعي دعوى تطليق للغيبة. المحكمة بتطلب إثبات الغياب، وشهادة إنك متضررة من بعده، وإنه ما بيصرفش عليكِ. لو محدش يعرف له عنوان واضح أو مكان إقامة، القضية بتكسب بسرعة.”
– “طيب ده الحكم لو هو فعلا غايب ورجع منغير اي شوشرة لكن ده راجل تاجر آثار وشغال مع عصابة واتمسك قبل كده في الشرطة المصرية واكيد ده متسجل عندكم؟ “
– “أكيد، لأن ده بيدخل في بند الضرر. المحكمة ممكن تعتبر ده ضرر جسيم يخلّ بالحياة الزوجية…وفيه شهود انه ظهر وتم القبض عليه ومستندات تأكد ده… وكل ده هيخلينا نكسبها بسهولة….وهيطلع قوات بحث عنه وهيتجاب متقلقيش.”
سكتت رهف لحظة، وصوت أنفاسها يرتجف بين الكلمات:
– “أنا مش عايزة أأذيه يا حسن… أنا بس عايزة أعيش. نوح خلاص اختار طريق تاني، وأنا اختارت بنتي.”
– “اعتبري القضية اتفتحت من النهارده. هبدأ أجهز كل الورق، وهكلم المحامي اللي معايا في المكتب عشان نكتب المذكرة.”
____________________________
هتفت بها غزل حين آلفت وجه صديقتها القديمة، فهرعت نحوها راكضة، ووقفت أمامها مبتسمة تقول بفرح:
“انتِ سارة صح؟”
تأملتها الأخرى بصمت لحظة، ثم هتفت بصدمة ممزوجة بالسعادة:
“غزل!”
قفزت غزل إلى عناقها بحرارة، تضحك بفرح غامر، فقد كانت سارة صديقتها الأقرب في الملجأ، نشأتا معًا، وكبرتا كتوأمين لا يفترقان، إلى أن هربت غزل ذات يوم من هناك تاركةً صديقتها خلفها.
قالت سارة بشوق وهي تشدّها في عناقٍ أطول:
“وحشتيني أوي يا غزل…”
“وانتِ أوي يا سرسورة!”
ابتعدت سارة عنها قليلًا وقالت بلهفة:
“طمنيني عنك، أحوالك إيه؟”
-“أنا الحمد لله.”
-“اتجوزتي ولا لسه؟”
ضحكت غزل وقالت:
“فال الله ولا فالك… جواز إيه بعد الشر!”
قهقهت سارة وهي تجيب:
“كنت بقول زيك كده، لحد ما ربنا عطّرني بابن الحلال… بصي، دي الكتكوتة بتاعتي رزان، وده يا ستي عُمِّير.”
كانت رزان قد بلغت السادسة، وعمير لم يتجاوز الرابعة.
ابتسمت غزل برقة، وسلّمت عليهما بلهجةٍ طفوليةٍ حنونة، ثم حملت الصغير وقالت مداعبةً:
“يا صغنن إنت… إيه الاسم العسل ده؟”
ظلّت الاثنتان تتحادثان طويلًا عن أحوال الماضي والحاضر، وغزل تخفي الحقيقة كعادتها، لا تستطيع أن تبوح بأنها صارت محتالةً محترفة تعيش على الكذب والسرقة.
علمت أن سارة تزوّجت منذ سبع سنوات من رجلٍ عرفها في عملها وأُعجب بأخلاقها، ثم سافر حديثًا إلى طوكيو حيث نُقل عمله هناك، فاصطحبها وطفليهما. كانت تزور في الصيف عائلة زوجها، التي غدت بمثابة أهلها وعوضها.
قالت غزل بنبرةٍ فيها شيء من الحنين:
“تعرفي حاجة عن مدام سماح وابتهال؟ وحشوني أوي… بس مش قادرة أوريهم وشي بعد اللي عملته.”
فجأة تذكّرت سارة أمرًا مهمًّا وقالت متحمّسة:
“أنا كنت عايزة أقولك حاجة بخصوصهم… وكان نفسي أوصلك عشان أبلغك باللي حصل!”
انعقد حاجبا غزل دهشةً وقالت باستغراب:
“خير؟ حصل إيه؟”
قالت سارة بتوضيح:
“بعد ما مشيتي بتلات سنين، جات الأبلة ابتهال عندي في الشغل، وكانت لسه على تواصل معايا، وقالتلي إن عيلتك تواصلوا مع الملجأ!”
اتسعت عينا غزل دهشة وقالت بارتباك:
“بجد؟!”
أومأت سارة قائلة:
“كانت عايزة توصلك، بس إنتِ كنتي غيرتي الخط اللي كنا كلنا مستلمينه في الملجأ، فاتواصلت معايا عشان كانت عارفة إننا قريبين من بعض، وقالت يمكن أكون عارفة عنك حاجة… بس إنتِ يا زفتة اختفيتي خالص!”
قاطعتها غزل بصوتٍ مبحوحٍ يخالطه الغضب والوجل:
“قالتلك إيه يا سارة؟ متختبريش نقطة صبري…”
أخذت سارة نفسًا عميقًا وأكملت:
“عيلتك جُم… كان فيهم جدّك، ومعاهم اتنين من اعمامك وعمتك. جُم يطلبوا يشوفوكي، بس الأبلة ابتهال قالتلهم إنك مشيتي. فطلبوا عنوانك أو يعرفوا يوصلوا لك إزاي، قالتلهم منعرفش حاجة. رفضوا يمشوا غير لما يقولوا كل اللي عندهم… قالولها: مش عايزين البنت الغلبانة دي تكرهنا وتفتكر إننا السبب، وهي فاكرة إننا أهلها الحقيقيين…”
تجمدت ملامح غزل، وانحبست أنفاسها، واغرورقت عيناها بالدموع وهي تهمس:
“يعني إيه؟! يعني هما مش أهلي؟!”
قالت سارة بحزنٍ خافت:
“القصة إن باباكِ ومامتك اللي تعرفيهم وماتوا دول… كانوا متجوزين رغم اعتراض الأهل.”
قاطعتها غزل بسرعة:
“أيوه، دي عارفاها… إيه الجديد يا سارة؟”
تابعت سارة قائلة:
“الجديد انهم مش بيخلفوا وده كان سبب اعتراض اهل باباكي على مامتك انها مش بتخلف وكانت سابق ليها جوازة تانية واتطلقت عشان مبتخلفش وباباكي ساعتها كان بيحبها جدا ورفض فكرهم وقالهم انه بيحبها ولا يمكن يتخلى عنها عشان السبب ده وانه مش شايف غيرها وفعلا اتجوزوا وفضلوا سنتين سوا بعيد عن اهلهم وعايشين سوا مبسوطين لحد ما كانوا في حديقة الحيوان لان مامتك كانت بتحبها ولقيوكي فيها ضايعة كان لسه عندك تلت سنين ونص فضلوا يدوروا معاكي على اهلك ملقوهمش وانتِ كنتِ بتعيطي والنهار مشي وحديقة الحيوان فضيت لكن ملقوش حد ولا قدروا يعثروا على باباكي ومامتك الحقيقيين وقرروا ساعتها انهم ياخدوكي يربوكي ولما تميتي سبع سنين وهما ماتوا الشرطة ودوكي لاهلهم لكن الاهل رفضوا انهم يربوكي لانهم عارفين انك تبني ومش من صلبهم وودوكي الملجأ ومن ساعاها وانتِ هناك ده بكده معناه انك مش يتيمة يا غزل وان مامتك وباباكي عايشين! “
امتلكت الصدمةُ حدقتي غزل، فجمُد وجهها كتمثالٍ من ذهولٍ وصمت. تجمّدت نظراتها في الأفق، كأنّها ترى العالم لأول مرة بعد انكسارٍ طويل، لا تنبس ببنت شفة، ولا يرفّ لها جفن. كانت أنفاسها تختنق في صدرها، وقلبها يضرب بجنونٍ تحت وطأة ما سمعت.
وفجأة صاحت سارة تنادي ابنتها:
“رزان! تعالي هنا يا رزان!”
ركضت الصغيرة نحو لعبةٍ جذبتها، فابتعدت الأم عنها، غابت غزل عن الوجود لحظة، تائهةً بين الحقيقة والوهم، بين ماضيها الذي تهشّم، وحاضرها الذي يُعيد رسمه القدر بخيوطٍ من الدهشة والوجع.
لم تشعر بمن حولها، حتى ارتجّ كتفها على صوتٍ مألوفٍ يهتف بقلقٍ عارم:
“أنا عمال أدور عليكِ، كنتِ فين؟ خضّيتيني عليكِ!”
ما إن التقت عيناهما حتى تجمدت نظراتها فيه، وبدأت عيناها تذرفان دموعًا حارة.
توقّف حمزة عن أسئلته، وقد اعتراه القلق حين رآها تبكي:
“سمر… سمر، في إيه؟ بتعيّطي ليه؟!”
وفجأة انفجرت غزل في بكاءٍ موجعٍ يهزّ القلب، وغطّت وجهها بكفّيها تشهق بحرقة، فضمّها حمزة إلى صدره، يربّت على رأسها هامسًا:
“اهدي… سمر، اهدي، أنا معاكِ… إيه اللي زعلك؟”
كانت غزل تصرخ بحرقةٍ تمزّق القلب، كأنّ الوجع قد وجد طريقه إلى حنجرتها لينفجر في صرخةٍ داميةٍ تهزّ السكون من حولها. احتضنته بقوةٍ يائسة، ترتجف بين ذراعيه، ولسانها عاجزٌ عن النطق، تائهٌ بين الحقيقة والإنكار، لا تصدّق ما سمعته، ولا تدرك كيف تمزّق عالمها في لحظة.
اشتدّ نحيبها حتى غلب صوتها الرجفة، وبدت صرختها كطعنةٍ في صدره، فاغرورقت عينا حمزة بالدموع دون إرادةٍ منه، ومدّ ذراعيه ليضمّها أكثر إلى صدره، يربّت على رأسها هامسًا برجاءٍ مكلوم:
“اهدي… اهدي يا سمر بالله عليكي…”
غير أنّ خاطرًا مباغتًا شقّ طريقه إلى ذهنه، فارتسمت على وجهه ابتسامةٌ باهتةٌ من السخرية؛ تذكّر كيف بكت أمامه يوم ظنّها تبكي حبًّا لخالد، وكيف اكتشف لاحقًا أنّها كانت تمثّل. فمسح دموعه سريعًا وضحك في سره قائلًا باستهزاءٍ صامت:
“بتستعطِفيني تاني يا سمر؟ شاطرة… لسه بتعرفي تمثّلي كويس! “
__________________________
وضعت تمارا يديها في جيبي بنطالها، غير أنّ أناملها اصطدمت بشيءٍ غير متوقع، بورقةٍ صغيرةٍ بالية الملمس. أخرجتها ببطءٍ لتجدها مطويّةً ومهترئةً، قد بهت لونها الأحمر حتى صار أقرب إلى القِدم منه إلى الحياة. رمقتها لحظةً باستغراب، ثم فتحتها بعنايةٍ كمن يوقظ ذكرى نائمة. كانت رسالةً مكتوبة بخطّ اليد، وحروفها متداخلةٌ تحمل أثر ارتجافٍ وصدقٍ دفين. بدأت تقرأها بتمعّن، ومع كلّ سطرٍ كانت أنفاسها تتثاقل، وعقلها يختلّ توازنه حتى كادت تفقد الإحساس بكل ما حولها.
>”حاولت كتير أقولها وش لوش، لكن كل مرة كنت بقف قدامك والكلمة تخونني…
كنت ببص في عينيك وأنسى كل حاجة، حتى نفسي.
مكنتش عارف أبدأ منين، ولا إزاي أقدر أقول اللي جوايا من غير ما أبين ضعفي…
بس الحقيقة إني ضعيف قدامك، من أول مرة شوفتك وأنا مش قادر أقاوم الشعور ده.
أنا بحبك… بحبك بطريقة مخوّفاني، بحبك كأني لقيت فيكِ نفسي اللي ضاعت مني زمان.
عيونك فيها وجعي وراحتي في نفس الوقت، فيها سكوت الدنيا وضجيجها.
كل تفصيلة فيكِ بقت جزء مني، ضحكتك اللي بتغير لون يومي، وصوتك اللي بيطمن قلبي حتى لو كنت تعبان.
أنا بحبك أكتر من إني أقدر أشرح، وأخاف أقولها قدامك فتبعدي.
يمكن تفتكريها لحظة طيش، بس هي عمر طويل اتحشر جوّا صدري، بين كل تنهيدة وخوف.
أنا مش عايز منك وعد ولا ردّ فوري،
كل اللي عايزه إنك تعرفي إني حبيتِك بصدق،
وإني حتى لو محبتنا ماكتملتش، هتفضلي أنضف إحساس عدى في حياتي.
لو موافقة ، فاستنيني بكرة فوق السطح… المكان اللي بنقعد فيه،
ولو لأ، فانسي كل حرف في الورقة دي،
وخليكي عارفة بس إنك كنتِ الحلم اللي متحققش بس كان أحلى حلم عيشته وعمري ما هنساه.
تجمّدت تمارا في مكانها، وعيناها تتسعان حتى كادتا تنفلتان من جفنيهما، ثم انحدرت الورقة من بين أصابعها كأنها تحمل ثقل ألف حقيقة.
وقع الاسم على سمعها كالصاعقة، فارتجف قلبها وسقط بين ضلوعها كشيءٍ محطمٍ لا يُلملم.
هذا البنطال… بنطال دنيا!
والرسالة… من رحيم إلى دنيا!!
أحسّت تمارا بأن الأرض تميد تحت قدميها، وبأن الهواء قد ضاق صدره عنها.
رحيم يحبها… إلى هذا الحدّ؟!
مواعيدها هتكون كل يوم أربع
ولا تخافي عزيزتي الأربع القادم
كده أربع لا تخافي
وأربع موعدنا
محدش يناقشني في الميعاد بالله لاني بكتب بالعافية ومزنوقة زنقة ما يعلم بيها الا ربنا ولو معايا وقت وكتبت اكتر من كده مش هبخل عليكم ابدا وهنزل اللي كتبته الفكرة ان وقت الكتابة بقى قليل اوي عن زمان لاني بنزل الكلية يعتبر كل يوم لكن زمان كنت مبروحش في حتة.
حفظكم الله
متنسوش تصلوا علنبي
السابع عشر من هنا


