مكتملة – مكتبة الأنا المتعددة | السلسلة الثانية | عشرة أجزاء 25/10/2025 – أفلام سكس مصري محارم جديد


الفصل الأول
الكتاب العاشر: سرعة الضوء وبطء الندم
لم يتردد أحمد هذه المرة. الرعب من التشتت الوجودي كان أقوى من أي فضول. أمسك بكتاب “سرعة الضوء وبطء الندم”، وهو مجلد أسود ذو حواف حادة، وكأنه يقطع الزمن نفسه. كان هذا الكتاب يعد بالكشف عن محاولة أخطر من مجرد خيار حياة: محاولة التلاعب بالوقت.
مقتطفات من “سرعة الضوء وبطء الندم”
“هذا هو أحمد الذي وصل إلى ذروة التكنولوجيا. ليس مهندساً تقليدياً، بل عالِم فيزياء كمّية متخصص في نظرية الأوتار والزمن. كان هذا الأحمد يؤمن بأن ‘الندم هو أضخم إهدار للطاقة في الكون’، لذلك كرس حياته لهدف واحد: إلغاء الندم عبر تعديل الماضي.
لقد نجح. اخترع جهازًا بسيطًا يسمح له بإرسال إشارات كمّية عبر الزمن، هدفها تغيير قرار واحد فقط، قرار صغير كان نقطة التحول في حياته. لكنه لم يكتفِ بتغيير حياته؛ بل بدأ يغير حياة الآخرين.
* في العام 2020، أرسل إشارة لإنقاذ صديقه من حادث سيارة. النتيجة: الصديق نجا، لكنه فقد ذاكرته بالكامل، ليصبح عبئًا على عائلته.
* في العام 2022، أرسل إشارة لمنع خسارة مالية كارثية. النتيجة: نجح في إنقاذ المال، لكن الشركة المنافسة التي ربحت بسببه في النسخة الأصلية انهارت، مما أدى إلى انتحار صاحبها.
هذا الأحمد كان يعتقد أنه ملاك الرحمة، لكنه أصبح شيئًا فظيعًا يمزق النسيج الكوني. كلما أصلح شيئًا، أفسد شيئًا أهم في المقابل. لم يكن يفهم أن الندم هو جزء من منظومة الكون الأخلاقية؛ إنه بوصلة الروح. وبإزالته، أصبح كل شيء عبثيًا.
وصل هذا الأحمد إلى نقطة العجز. لم يعد يستطيع تمييز الماضي الذي قام بتعديله عن الماضي الأصلي. أصيب بـ ‘فقدان الذاكرة الزمنية’؛ عاش حياته في حالة من الجري المتواصل، يهرب من عواقب تعديلاته. لم يعد يعرف من هي زوجته أو ما هو عمله الحقيقي. كل شيء كان عبارة عن شظايا زمنية متناثرة.
في المقطع الأخير، كان أحمد عالِم الفيزياء محتجزًا في مصحة نفسية. كان يجلس وحيدًا، يهمس لنفسه:
‘أسرع من الضوء! هذه هي كذبة الفيزياء. ليس هناك شيء أسرع من سرعة الضوء سوى سرعة الندم عندما يضرب الروح. لقد حاولتُ الجري بعيداً عنه، لكنه يلحق بي من كل تغيير ارتكبته. أنا محاصر بـ الماضي الذي لم يعد ماضياً.’
لقد كان هذا الأحمد مثالًا على أن محاولة السيطرة المطلقة على الزمن لا تؤدي إلى الحرية، بل إلى جنون التشظي.
أغلق أحمد الكتاب وهو يلهث، كأن هو من كان يركض عبر الزمن. أدرك أن محاولة العودة واختيار حياة أخرى لن تجلب له السعادة، بل ستجلب له هذا الجنون الكمّي. لا يمكن إصلاح الحياة عبر تغيير الماضي، بل عبر تقبله.
كان الرنين في المكتبة قد وصل إلى ذروته. بدأ جزء كامل من الأرفف يميل، والكتب تتهاوى كقطع الدومينو. الضوء الخافت أصبح متقطعًا، وكأن المكتبة تستمد أنفاسها الأخيرة.
توجه أحمد نحو ركن كان يبدو محجوبًا وغير مُضاء. هناك، وجد كتابًا لا يشبه أي كتاب آخر. لم يكن له غلاف، بل كان مجرد مجموعة من الأوراق المتهالكة والمكشوفة. لم يكن يحمل اسمًا أو عنوانًا. فقط كلمة واحدة مكتوبة بالطباشير:
“أنا”
أدرك أحمد أن هذا ليس مسار حياة، بل هو خلاصة لكل ما هو مكبوت ومُرفوض فيه. كان عليه أن يواجه الآن أحمد الذي يكرهه، أحمد الذي يتمنى ألا يكون. هذا هو الاعتراف الأخير قبل أن ينهار المكان بالكامل.
كان عليه أن يقرأ الذات الخفية.
يتبع في الفصل الثاني عشر: الذات الخفية
للكاتب: H I T L E R
الفصل الثاني
الكتاب الحادي عشر: الذات الخفية
كان كتاب “أنا” أشبه بالدخول إلى كهف مظلم في أعماق الروح. لم يكن مجموعة من الأوراق المتهالكة فحسب، بل كان الوعي الخام، غير المهذب، وغير المُصفّى لـ أحمد عبر جميع أكوانه. عندما فتح المجلد، لم تظهر جمل متسلسلة، بل تدفقت الأفكار والصور دفعة واحدة، كطوفان.
تدفق الوعي من “الذات الخفية”
“أنا… لستُ الضحية. أنا من اختار الملل كي لا أُحاسب على فشل عظيم. اخترتُ هند لأنها آمنة، وليست لأنها شغفي. لو كانت الفتاة المجنونة التي رأيتها في الجامعة، لكنتُ هربتُ. أنا جبان. المهندس البائس ليس نتيجة الظروف، بل نتيجة خوفي من الحرية.
شهاب الفنان؟ كذبة. كنت أحسده، لكنني كنت أعرف أنني لن أملك الشجاعة لأنام جائعاً من أجل قصيدة. أنا أحب المال، أحب الرتابة، أحب الأقساط. الأقساط تعني النظام، والنظام يعني الهروب من الفوضى.
أنا أحمل الأنانية كبذرة في كل حياة. القاضي ليس غريباً عني؛ أنا أيضًا أُصدر أحكاماً قاسية على هند عندما تتأخر، وأحكم على زملائي بالغباء خلف ظهورهم. كل رجل سلطة هو أنا، لو أُعطيتُ مفتاح التحكم.
في حياتي الحالية، أنا أغار من نجاح الآخرين، وأدّعي الرضا. هند كانت تستحق يوسف (الناشط)؛ إنه أكثر صدقًا في بؤسه مني في راحتي. أنا لم أمنحها حياة، بل منحتها قفصاً مُريحاً. وهذا هو ذنب الحب الأكبر.
أنا أكره الأطفال أحياناً عندما يزعجون هدوئي. أنا لستُ أباً مثالياً. أنا أتظاهر. أنا أبحث عن مجد مفقود. كل دقيقة قضيتها في هذا المكتبة لم تكن بحثاً عن الحقيقة، بل بحثاً عن مبرر ليأسي. أنا لا أريد أن أكون ‘الأصلح’، بل أريد أن أكون ‘المعذور’.
الندم؟ أنا نادم على كل دقيقة ضائعة. نادم على كل كلمة لم أستطع قولها. نادم على كل امرأة لم أجرؤ على محادثتها. أنا كومة من الآمال المجهضة مغلفة ببدلة عمل فاخرة.
توقف عن الكذب يا أحمد. أنت تعرف ما هو الحقيقي. الحقيقي هو هذا الشعور بالغثيان الآن. الحقيقي هو أنك لستَ كاملاً، ولن تكون. أنتَ تركيبة من كل هذه الأخطاء. تقبّلها أو مُتْ مشتتًا.”
أغلق أحمد عينيه، ولم يجرؤ على لمس المجلد مرة أخرى. كان كتاب الذات الخفية هو صرخة الروح العارية. لقد أُجبر على مواجهة ظله، وظله لم يكن وحشاً، بل كان إنساناً مُعقداً، مُتناقضاً، وجبانًا مثله.
الاعتراف بـ “الأنا الخفية” كان بمثابة ترياق غريب؛ لقد أزال عنه عبء محاولة أن يكون “مثالياً”. لقد أدرك أن الحقيقة ليست في الكتب الأخرى، بل في قبوله لهذه الفوضى الداخلية.
الانهيار بلغ ذروته.
كانت المكتبة تموج الآن، كأنها في زلزال. الأرفف تتهاوى كالشلال، والكتب تتحول إلى غبار فضي مشع. في تلك الفوضى، لم يعد أحمد يرى الكتب، بل يرى ومضات سريعة من حياته الحالية: وجه هند القلق، ضحكة ابنه، رائحة القهوة في مطبخه. كانت هذه الومضات تتصارع مع صور الفنان الجائع والقاضي البارد. القرار يجب أن يُتخذ الآن.
لم يعد الحارس موجودًا ليحذره، بل أصبح الآن أحمد هو الحارس الجديد لذاته. كان عليه أن يختار؛ إما أن يترك وعيه يتفتت بين كل هذه النسخ المتناقضة، أو أن يعود إلى “النسخة” الوحيدة التي لديها مستقبل غير مكتوب: حياته الحالية.
نظر أحمد إلى الصدع الضخم في الحائط. لم يكن الصدع الآن يُمثل تهديداً، بل كان المدخل الوحيد للعودة. لم يعد يبحث عن كتاب، بل يبحث عن القوة الكافية للتحمل.
كان عليه أن يمر عبر تلك الأبواب المنهارة وأن يحمل معه عبء كل النسخ التي قرأها. ليصبح المهندس الذي لديه شغف الفنان، والأب الذي يقدر الأمان بعد رؤية الفقد، والرجل الذي لديه حكمة العدم.
عليه أن يجد الكتاب الأخير الذي لا يتحدث عن الماضي، بل يفتح نافذة على خيار حقيقي ومستقبلي.
لمح أحمد مجلدًا واحدًا صغيراً، لم يمسّه الانهيار بعد، موضوعًا على حامل حجري صغير في المنتصف. كان عنوانه مكتوباً بخط متعرج:
“الألم المشترك”
يتبع في الفصل الثالث عشر: الألم المشترك
للكاتب: H I T L E R
الفصل الثالث
الكتاب الثاني عشر: الألم المشترك
في خضم الفوضى العارمة، حيث تحوّل المكان إلى ركام من الورق المتلألئ، التقط أحمد مجلدًا لم يتأثر بالانهيار:
“الألم المشترك”.
كان خفيف الوزن، ولكنه بدا وكأنه يحمل أثقل الأسرار. وبمجرد أن لمس الكتاب، تجسد الحارس مرة أخرى. لكنه لم يكن شبحًا باهتًا هذه المرة، بل كان كيانًا متماسكًا يمثل خليطًا من كل النسخ التي قرأها أحمد: في عينيه حزن “الأب المفقود”، وفي وقفته برودة “القاضي”، وفي ثيابه خيوط من “فنان الشوارع”. لقد أصبح الآن يمثل الوعي الجماعي للمكتبة.
الحارس: (بصوت يتردد فيه صدى كل الذوات) “لماذا اخترت هذا الكتاب بالذات؟ كل شيء ينهار، والنجاة تكمن في الهروب، لا في الجدل.”
أحمد: (بإصرار هادئ) “لأنني أدركت أن سعادتي الحالية لم تكن نتيجة لـ اختياراتي العظيمة، بل نتيجة لـ تجنبي للألم العظيم. أنتَ سألتني: ما هو الأصلح؟ أقول لك، السؤال خطأ. لا يوجد ‘أصلح’، بل يوجد فقط ‘التحمل المشترك’.”
الحارس: “التحمل هو شكل آخر من أشكال البؤس. لقد رأيتَ الألم الذي عاشه الأب المفقود، والفقر الذي عاناه شهاب. ما الذي يجعلك تظن أن حياتك تستحق هذا العناء؟”
أحمد: “لأن حياتي لم تُكتب وحدي. هذا ما أدركته. عندما قرأت عن ‘عالم بلا هند’، رأيتُ أنها كانت سعيدة، لكنها كانت وحيدة في معركتها. عندما رأيت هند في حياتي، رأيتُ الرتابة، لكن رأيتُ أيضًا تحملًا مشتركًا للروتين وللأخطاء الصغيرة.”
نظر أحمد إلى الحارس، وهو يرفع الكتاب.
أحمد: “هل هذا الكتاب يتحدث عن الخيط الرقيق الذي يربط بين الذوات رغم تناقضها؟ هل يتحدث عن أن القيمة ليست في النجاح، بل في أن تكون لديك عين ترى بها تعب من تحب، ويد تمتد للمساعدة؟”
الحارس: (بعمق، وكأنه يناقش نفسه) “أنت تجعل الخيار المعقد بسيطًا. تبحث عن التبرير لعودتك.”
أحمد: “لا أبحث عن تبرير. أبحث عن المسؤولية. القاضي كان يمتلك السلطة، فقتل الإنسانية. الفنان كان يمتلك الشغف، فقتل نفسه. أنا، أحمد المهندس، امتلكتُ الأمان، فقتلتُ الشغف. لكنني لم أقتل الأمل في أن أستطيع تغيير طريقة عيشي دون تدمير الأساس.”
بدأت المكتبة تهتز بآخر أنفاسها. الشقوق امتدت إلى الأرضية.
الحارس: “إذا قررت أن تعود إلى حياتك الحالية، فإن هذا لن يجعلها مثالية. ستظل روتينية، وستظل بائسًا في بعض الأحيان.”
أحمد: “سأعود وأنا أحمل عيوبهم جميعًا. سأحمل جفاف المهندس، وحزن الأب، وشغف الفنان. ولن أبحث عن ‘الكمال’ مرة أخرى، بل عن الاستمرارية الواعية. عليَّ أن أُصلح ما بيني وبين هند. هذا هو ‘الترياق’ الوحيد.”
بمجرد نطق أحمد بهذه الكلمات، شعر الحارس بالارتياح والانهيار في آن واحد. بدأ جسده يتفتت مرة أخرى، لكن هذه المرة بسلام، وكأنه أدى مهمته.
الحارس: (بصوت يختفي تدريجيًا) “إذن، أنت ترفض التفتت. أنت تقرر أن تكون كتلة واحدة متناقضة… العودة ليست مكافأة، بل هي تحدي القبول.”
اختفى الحارس تمامًا. سقط كتاب “الألم المشترك” من يد أحمد. لم يكن يحتوي على فصول، بل كان مجرد ورقة بيضاء واحدة.
أدرك أحمد. هذا هو المعنى الحقيقي. “الألم المشترك” ليس كتابًا يُقرأ، بل هو صفحة فارغة يجب أن تُكتب بالتشارك والقبول.
الآن، أمامه هدف واحد: الهروب قبل الإفناء. كانت هناك بوابة تفتح خلف الرفوف المنهارة، تشبه باب القبو الذي أتى منه.
يتبع في الفصل الرابع عشر: إغراء العودة الصفرية
للكاتب: H I T L E R
الفصل الرابع
الكتاب الثالث عشر: إغراء
‘العودة الصفرية’
تلاشى الحارس، وبقي أحمد وحيداً بين أنقاض المكتبة المشتعلة بالضوء الفضي. كان الصدع الذي يُمثل باب العودة يتوهج، لكن قبله، على المنضدة الحجرية التي حملت كتاب “الألم المشترك”، ظهر مجلد جديد.
كان غريباً: غلافه أبيض ثلجي، ناصع، خالٍ من أي عيوب.
التقط أحمد الكتاب. لم يحمل اسم أحمد ولا أي تاريخ. كان العنوان بخط ذهبي رقيق: “العودة الصفرية”.
مقتطفات من “العودة الصفرية”
“هذا الكتاب هو وعد. هو خيار الهروب الأخير الذي تقدمه المكتبة للوعي الذي رفض الانهيار.
الخيار المتاح لأحمد الآن هو: العودة الصفرية.
العودة الصفرية تعني أنك ستعود إلى اللحظة التي دخلت فيها القبو لأول مرة، ولكن مع عملية مسح كامل للذاكرة الحديثة. ستنسى المكتبة، ستنسى الحارس، ستنسى كل الأكوان البديلة التي قرأت عنها.
ستعود إلى حياتك كـ صفحة بيضاء. ستستعيد حالة الملل والرتابة التي دفعتك إلى هنا، لكنك ستعود دون عبء هذا الوعي الجديد.
هذا الخيار يضمن لك السلام الداخلي المزيف؛ لن تعرف الألم الذي تجنبته، ولن تحمل مسؤولية الشغف الذي قمعته. ستستمر في العيش كمهندس جيد، زوج جيد، أب جيد. ستكون حياة مُريحة، خالية من القلق الوجودي الذي اكتسبته في هذه الرحلة.
العودة الصفرية هي بمثابة ترياق ضد الحكمة. أنتَ تختار الجهل السعيد على المعرفة المؤلمة.
* المميزات: الهدوء الفوري، الحفاظ على استقرار العالم الحالي دون تغيير.
* العيوب: ضياع كل الدروس المكتسبة، العودة الحتمية إلى الضجر الذي سيعيدك يومًا ما إلى قبو جديد، ومكتبة جديدة.”
وضع أحمد الكتاب على المنضدة. كان الغلاف الأبيض يبعث على الإغراء. يا له من سلام! أن ينسى القاضي، أن ينسى شهاب، أن ينسى الخسارة المؤلمة لهند في العالم الآخر. أن يعود إلى هند، ويرى ضجرها، دون أن يعرف السبب الحقيقي.
“الجهل السعيد…” تمتم أحمد، وشعر بلذة الفكرة. أن يمحو كل هذه المعرفة التي أثقلت روحه في تلك السُويعاتِ القليلة.
فجأة، تذكر شيئاً من كتاب “الذات الخفية”: أنا لستُ الضحية. أنا من اختار الملل كي لا أُحاسب على فشل عظيم.
لقد أدرك أن الهروب من المعرفة هو نفسه الهروب من المسؤولية. إذا اختار العودة الصفرية، فإنه يعود إلى نفس الشخص الجبان الذي كان عليه قبل اكتشاف المكتبة. لن يكون قد تعلم شيئاً، وسيكون مصيره التكرار الأبدي لنفس الأزمة الوجودية.
لا. لا مجال للراحة الآن.
نظر أحمد إلى الصدع المتوهج، الذي يمثل بوابته للواقع. لقد كان مُجبراً على العودة، لكنه اختار أن يعود ومعه حِمل الحكمة. يجب أن يعود إلى هند وأبنائه وهو يحمل وعي كل النسخ الأخرى، وأن يبدأ بكتابة الكتاب الذي لم يتمكن أي منهم من كتابته: كتاب القبول والتغيير الواعي.
مد يده، ليس ليفتح الكتاب الأبيض المليء بالنسيان، بل ليدفعه بعيداً. ومع ذلك، لم يتبق سوى كتبٍ قليلة تسبق القرار النهائي. عليه أن يرى القيمة في الحياة التي تعرّضت لأكبر قدر من المعاناة قبل أن يغادر. لقد كان بحاجة لرؤية “جمال المعاناة”.
توجه نحو رفٍ يكاد يسقط، ووجد كتاباً رقيقاً لم يتحول بعد إلى رماد، يحمل عنواناً مؤلماً:
“كتاب الرماد والولادة”
يتبع في الفصل الخامس عشر
‘الرماد والولادة’
للكاتب: H I T L E R
الفصل الخامس
الكتاب الرابع عشر: الرماد والولادة
في لحظات إنهيار المكتبة، كانت الرؤية تزداد وضوحًا. تجاهل أحمد الإغراء الأبيض للنسيان، ومد يده بثبات إلى كتاب “الرماد والولادة”. كان الكتاب رقيقًا ومحترقًا جزئيًا من حوافه، ورائحته خليط من البخور والحريق.
مقتطفات من “كتاب الرماد والولادة”
هذا الكتاب لم يكن سيرة ذاتية، بل كان سجلاً للحكمة المكتسبة عبر الكوارث. كان يضم سلسلة من اللقطات السريعة والمكثفة لحياة أحمد في أكوان شديدة القسوة، حياة لم يكن فيها مكان للملل أو الرتابة.
لقطة 1: أحمد المُشرّد (الناجي من الحرب الأهلية)
يظهر أحمد في صورة باهتة، في الخمسينيات من عمره، وجهه محفور بالتجاعيد، لا يمتلك شيئًا سوى معطف بالٍ ومجموعة من القصص التي يرويها للأطفال في ساحة مهجورة. لقد خسر كل شيء: عائلته، ماله، وحتى ذاكرته المريحة. لكنه يمتلك القدرة على التعاطف المطلق.
يضحك رغم الجوع، ويعلّم الأطفال قيمة الماء في أرضٍ يابسة. هنا، لم يكن أحمد ناجحًا، بل كان صادقًا في كل نفس يتنفسه. لم تكن حياته سعيدة، لكنها كانت ذات معنى غير قابل للإنكار.
لقطة 2: أحمد التائب (المُدان بالخطأ)
أحمد الشاب، الذي أُ*** بجريمة لم يرتكبها. قضى عشرين عاماً في سجن انفرادي. خلال هذه السنوات، لم يقرأ كتبًا عن الهندسة، بل قرأ كتبًا عن الروح والفلسفة. لقد فقد حريته الجسدية، لكنه اكتسب الحرية العقلية الكاملة. عندما خرج من السجن كهلًا، لم يسعَ للانتقام، بل سعى للمغفرة. ليس للناس، بل لنفسه. حياته كانت مثالًا على أن الحكمة تُولد من أقسى أشكال العزلة والظلم.
لقطة 3: أحمد الراعي (المعزول في الجبال)
في هذا الكون، لم يختر أحمد أي من خيارات العالم الحديث. عاش راعياً منعزلاً في الجبال، بعيداً عن التكنولوجيا والضوضاء. كانت حياته بدائية، متكررة، لكنها كانت متزامنة مع إيقاع الطبيعة. لم يكن لديه وقت للشعور بالضجر. كل لحظة كانت تتطلب انتباهه: الرعاية، الصيد، الحماية.
أدرك أحمد (الواقف في المكتبة) أن الوعي بالبقاء يقتل الملل. الحياة البسيطة ليست خالية من التحديات، بل خالية من التعقيدات المصطنعة.
أغلق أحمد الكتاب وشعر بوزن الوجود كله. لم يكن الهدف من هذه الرؤى هو أن يعيش هذه المآسي، بل أن يدرك أن القيمة ليست في راحة البال، بل في عمق التجربة. كل هؤلاء الأحمد، رغم معاناتهم، حققوا شكلاً من أشكال الكمال الإنساني الذي افتقده هو في حياته الآمنة. الرماد يُولد الحكمة.
في تلك اللحظة، تحولت المكتبة إلى مشهد سريالي. الجدران كانت تتلاشى، والسقف يذوب في دوامة من الألوان الداكنة. سمع أحمد صوتاً جديداً، ليس همس الحارس ولا صدى الذات، بل كان صوتاً واضحاً داخلياً: “أنتَ الآن مُحمّل بكل شيء. لكنك لم تعرف بعد لماذا حدث هذا الآن بالذات.”
أدرك أحمد أن هناك خيطاً مفقوداً. لماذا ظهرت له هذه المكتبة تحديداً في هذه اللحظة من حياته؟ هل كان مجرد يأس، أم أن هناك سرًا زمنياً يربط لحظة اكتشاف المكتبة بمسار حياته الحالية؟
كان عليه أن يجد الإجابة على السؤال: “لماذا الآن؟”
قبل أن يغادر هذا الفضاء المتفكك. عيناه وقعت على مجلد صغير جداً، يكاد يكون ورقة مطوية، مختبئاً في زاوية صخرية لم تتهاوَ بعد، وكأنه رسالة أخيرة:
“لماذا الآن؟ (السر الزمني)”
يتبع في الفصل السادس عشر
لماذا الآن؟ السر الزمني
للكاتب: H I T L E R
الفصل السادس
الكتاب الخامس عشر: السر الزمني
لماذا الآن؟
اندفع أحمد نحو شيئًا ظنًا منه أنه كتاب. لم يكن كتابًا بقدر ما كان نبضة زمنية. كان مجرد ورقة مطوية بعناية، وعندما فتحها، لم يجد نصًا سرديًا، بل وجد سلسلة من التواريخ والأحداث المُعلّقة.
مقتطفات من “السر الزمني”
21 يناير 2024:
الحدث: اجتماع طارئ في مكتب أحمد المهندس.
السبب: مناقشة مشروع ضخم يغير مسار شركته بالكامل، ولكنه يتطلب مغادرة هند والابتعاد عن العائلة لعامين.
قرار أحمد: التردد لساعات. ثم، الرفض القاطع بحجة “التزام العائلة”.
الواقع الكامن: أحمد رفض خوفًا من الفشل في المشروع، وليس حبًا للعائلة. اختار الأمان المالي والاجتماعي على المغامرة.
15 مارس 2024 (عيد ميلاد أحمد):
الحدث: هند تخطط لمفاجأة رومانسية لإعادة الشغف إلى علاقتهما.
رد فعل أحمد: “شكراً يا هند، لكنني متعب، ويجب أن أصحو مبكرًا غداً”.
الواقع الكامن: أحمد لم يكن متعبًا جسديًا، بل كان متعبًا وجوديًا. قتل فرصة الحب والتجديد بيده، واختار الرتابة.
25 مارس 2024: (بعد عشرة أيام من عيد ميلاده)
الحدث: زيارة أحمد لأمه المريضة، وسؤالها الأخير له: “هل أنت سعيد يا بني؟”
رد فعل أحمد: “بالطبع يا أمي. أنا بخير.”
الواقع الكامن: هذه الكذبة لم تكن لأجل أمه. كانت لأجل نفسه. في تلك اللحظة، شعر أحمد أن روحه قد تخلت عنه تمامًا.
26 مارس 2024 (اليوم السابق لاكتشاف المكتبة):
الحدث: أحمد يجلس وحده في غرفة المعيشة. لا عمل، لا عائلة، لا شغف. مجرد فراغ مُعترف به.
السر الزمني: في هذه اللحظة، وصل وعي أحمد إلى أدنى نقطة له. لقد أدرك بصدق أنه لم يعد “هو”. هذا الانهيار النفسي كان بمثابة طاقة جاذبية كونية سحبت المكتبة إلى واقعه.
أغلق أحمد الورقة المتهالكة وشعر بأن كل قطرة ددمم في عروقه قد تجمدت.
لقد فهم السر: المكتبة لم تظهر لتعرض عليه خياراته، بل ظهرت كـ نداء استغاثة أطلقه وعيه الذي كان يحتضر من الملل والجبن. المكتبة لم تكن قدرًا، بل كانت انعكاسًا لليأس.
* رفض المشروع الضخم (خوفًا من الفشل) كان ما دفعه إلى رؤية “القاضي” و”الأكاديمي”.
* رفض مفاجأة هند (خوفًا من الحب) كان ما دفعه إلى رؤية “شهاب الفنان” و”هند في عالم آخر”.
لم تكن المكتبة لتعرض له بدائل كان يمكنه أن يعيشها؛ بل لتعرض عليه أجزاء من روحه التي كان يقتلها يوميًا في حياته الحالية.
الآن، تحول المشهد من فوضى عارمة إلى صمت مروع. توقف الاهتزاز، لكن الأرفف ظلت مائلة، والكتب متناثرة. كان الصمت أشد رعبًا من الضجيج.
أحمد: (يصرخ في الصمت) “لقد فهمت! لم يكن هدفي البحث عن النسخة الأفضل، بل قبول النسخة الأسوأ!”
شعر أحمد بوضوح تام، أن هناك كتاباً واحداً متبقياً يتطلب اهتمامه، كتاب كان مخبأً تحت كل هذه الأكوان البديلة. كتاب يخص حياته الحالية تحديدًا، لكنه لم يكتمل بعد.
اكتشف أحمد في زاوية الباب المتوهج الذي يجب أن يعود منه، مجلداً يبدو أنه وُلِد للتو من الفوضى: غلافه بني داكن، وكأنه يمثل أرضًا خصبة.
“الورقة المفقودة من حياتي”
كان عليه أن يقرأ هذا الكتاب الأخير عن حياته قبل اتخاذ قرار العودة النهائية.
يتبع في الفصل السابع
الورقة المفقودة من حياتي
للكاتب: H I T L E R
الفصل السابع
الكتاب السادس عشر: الورقة المفقودة من حياتي
لم يتبق وقت. المكتبة كانت تتفكك حرفيًا، وأصبحت جزيئات الرماد الفضي تتطاير كأنها عاصفة ثلجية كونية. سحب أحمد المجلد الأخير، “الورقة المفقودة من حياتي”. كان المجلد البني الداكن ناعم الملمس، وكأنه نسيج لم يتلوث بالزمن.
فتح أحمد الكتاب، الذي كان يحمل اسم حياته الحالية كـ “أحمد المهندس”. لكنه لم يجد نصًا مكتملًا بداخل “الورقة المفقودة”.
كانت معظم صفحات الكتاب مكتوبة بخط بارد ومنظم، يسرد روتين حياته اليومي، تماماً كما قرأ في الفصل الثاني، لكن في المنتصف، وجد شيئاً مفاجئاً:
صفحة فارغة تمامًا. ليس عليها حبر، لا خطوط، ولا حتى آثار للطباعة. كانت ورقة بيضاء، تلمع بنقاء غريب وسط صفحات الروتين. كان النص الذي يليها يبدو وكأنه انقطع عند هذه النقطة، ثم استُؤنف بأسلوب آخر بعد الفراغ.
تحت الصفحة الفارغة، كان هناك شرح مُتعقب بخط يد أحمد نفسه (ولكن بخط مختلف، أقرب إلى توقيع الروح):
(هذه هي اللحظة الفاصلة. هذه هي اللحظة التي لم يتخذ فيها أحمد قراراً. لم يختار المغامرة، ولم يختار الروتين. ظل معلقاً في المنتصف. هذه الورقة هي تمثيل لـ “الجمود” الذي أدى إلى يأسه. لقد كان ينتظر أن يكتب له القدر، بدلاً من أن يكتب هو لنفسه.)
شعر أحمد بضربة قوية في وعيه. لقد كان يبحث عن “الحقيقة” في حياة الآخرين، بينما كانت الحقيقة الوحيدة التي تهمه هي المستقبل غير المكتوب في حياته الحالية. تلك الورقة البيضاء لم تكن خطأً في الطباعة، بل كانت دعوة للعمل.
تذكر همسة الحارس: “الحياة الحقيقية ليست كتابًا تقرأه، بل هي ما تكتبه الآن.”
أدرك أحمد المعضلة: حياته لم تكن فارغة لأنها روتينية، بل لأنها كانت غير مُقررة. لقد عاش على افتراض أن الروتين سيكتب القصة، بينما كان عليه هو أن يملأ الفراغات بالشجاعة.
في تلك اللحظة الحرجة، شعر بأن قوى الانهيار تسحبه نحو الداخل. جسده أصبح خفيفًا، وكأن الأكوان الأخرى تحاول سحبه ليمتزج بها. كان عليه أن يتخذ قرارًا نهائيًا لتأكيد هويته قبل أن يتلاشى.
ركز أحمد على الورقة الفارغة. يجب أن يكتب عليها. يجب أن يملأ فراغ الجمود. لكن بماذا؟ بالحب؟ بالشغف؟
لا، بشيء أعمق. بالقبول.
بحث أحمد بلهفة عن أي أداة للكتابة. لم يجد شيئًا، فقط شظية متلألئة من زجاج المكتبة المتفكك. أمسك بها، وبدأ يضغط على الورقة البيضاء في محاولة لحفر كلمة.
ضغط بقوة، لدرجة أن الشظية خدشت إصبعه. سالت قطرة ددمم واحدة حمراء على الورقة الناصعة.
قطرة الدم هذه لم تكن كافية لكتابة جملة، لكنها كانت كافية لـ التوقيع.
الدم يمثل الوجود المادي المطلق؛ إنه تأكيد على أن هذه الذات، بجسدها وروحها الممزقة، تختار البقاء.
في اللحظة التي لامست فيها قطرة الدم الورقة، توقف الانهيار بشكل مفاجئ. الصمت عاد، لكنه صمت الإنجاز، لا صمت اليأس. الصدع المتوهج الآن أصبح بوابة شفافة وواضحة.
وقف أحمد، متألماً من الجرح، لكنه يشعر بقوة الوعي المكتسب. لم يعد يبحث عن النسخة “الأصلح”، بل يبحث عن القوة الكافية لحياة حقيقية.
كانت هناك خطوة واحدة أخيرة قبل العودة: مراجعة سريعة لما تعلمه لضمان أن الذاكرة لن تخدعه.
يتبع في الفصل الثامن عشر
الميزان الأخير: وزن الحياة
للكاتب: H I T L E R
الفصل الثامن
الميزان الأخير: وزن الحياة
توقف الانهيار، لكن التفكك لم يلتئم. وقف أحمد عند حافة البوابة المتوهجة، ويده تنزف قطرة واحدة من الدم على صفحة فارغة. كان هذا هو الوداع الأخير للمكتبة. قبل العودة، شعر بضرورة وضع كل ما رآه على ميزان الحقيقة، لتثبيت الدروس في ذاكرته.
ميزان أحمد (العواقب مقابل الإنجازات)
المهندس البائس (الفصل الثاني):
النجاح: الأمان والاستقرار المادي.
الثمن: قتل الشغف وجمود الروح.
الوزن: حياة بلا إلهام هي موت بطيء.
الأب المفقود (الفصل الثالث):
النجاح: الحب العميق والمخلص لنورة.
الثمن: خسارة الابن والفقد الأبدي.
الوزن: لا أمان مادي يساوي وجع القلب، لكن الحكمة تُولد من الرماد.
الفنان المجنون (الفصل السادس):
النجاح: الشغف المطلق والحرية الإبداعية.
الثمن: الفقر والهلاك المبكر وانعدام المسؤولية.
الوزن: الشغف ضروري، لكنه ليس بديلاً عن البنية.
القاضي والإمبراطور (الفصل الثامن):
النجاح: السلطة المطلقة والكفاءة التنظيمية.
الثمن: قتل الرحمة والعزلة الأخلاقية.
الوزن: النفوذ بلا إنسانية هو مجرد وحش مُنظم.
عالم بلا هند (الفصل الخامس والتاسع):
النجاح: الهدف والتحرر من الروتين.
الثمن: الوحدة القاسية أو تحمل الأعباء المالية والصحية لوحدها.
الوزن: هند ليست قيدًا. هي خيار لتقاسم الأعباء، حتى لو كانت روتينية.
عالم السيطرة الزمنية (الفصل الحادي عشر):
النجاح: القدرة على إصلاح الأخطاء.
الثمن: الجنون الكمّي وفقدان الذاكرة الزمنية.
الوزن: لا يمكن إصلاح الماضي. يجب تقبله.
الذات الخفية (الفصل الثاني عشر):
النجاح: لا يوجد نجاح، فقط اعتراف.
الثمن: الجبن والتهرب من المسؤولية.
الوزن: الاعتراف بالنقص هو نقطة الانطلاق الوحيدة للنمو.
بعد هذه المراجعة السريعة والقاسية، أصبح أحمد مُحمَّلاً بثقل كل تلك الحيوات. لم يكن يستطيع أن يختار إحداها، لكنه أصبح يعرف نقاط ضعفها وقوتها.
الآن، أحمد لم يعد المهندس البائس. لقد أصبح أحمد جامع الأكوان.
لم يتبق سوى الباب المتوهج أمامه. لكن قبل المرور، كان هناك شيء واحد يجب أن يُعرف عن اللحظة التي سيغادر فيها: هل هذه العودة اختيار أم حتمية؟ هل ما زال القدر يلعب دورًا؟
نظر إلى البوابة، ثم إلى الوراء حيث كانت الأكوان تنهار. أدرك أن العودة الآن هي خيار التمرد على القدر، لا الخضوع له. العودة الصفرية كانت قدرًا، لكن العودة مع الوعي كانت حرية.
شعر بأن الوعي يتشكل لديه بوضوح تام، وكأنه يكتب بنفسه الفصل الذي يسبق النهاية.
يتبع في الفصل التاسع عشر
القرار الذي ليس اختيارًا
للكاتب: H I T L E R
الفصل التاسع
القرار الذي ليس اختيارًا
وقف أحمد أمام البوابة المتوهجة، وهي الآن نفق من الضوء الشفاف يمتد نحو عالمه الحقيقي. لم يعد هناك حارس، ولا كتب تُقرأ، فقط هو والفراغ. كان القرار وشيكاً، ولكنه أدرك فجأة أن هذا القرار لم يكن اختياراً بين “نعم” أو “لا”، بل كان إقرارًا بالوجود.
لقد رأى أحمد المهندس البائس، ورأى الفنان الملتهب، ورأى القاضي البارد. أدرك أن محاولته للعثور على النسخة “الأصلح” كانت محاولة للبحث عن شخصية خالية من العيوب يمكن أن يختبئ خلفها.
لكن ما تعلمه من “الذات الخفية” ومن “الرماد والولادة” هو أن الإنسان الحقيقي هو المجموع الفوضوي لأخطائه ونجاحاته.
“لا يمكنني أن أعود كـ أحمد واحد.” تمتم أحمد، وشعر بجميع الأصوات تتردد في رأسه. “إذا حاولتُ أن أكون الفنان، سأهمل عائلتي وأُهلك نفسي. وإذا حاولتُ أن أكون القاضي، سأقتل روحي. وإذا حاولتُ أن أعود إلى المهندس البائس، سأعود إلى الملل الذي قتلني وأتى بي إلى هنا.”
وصل إلى قناعة عميقة: رفض الاختيار هو الاختيار الحقيقي.
رفع أحمد رأسه ونظر إلى الضوء. كانت مهمته ليست إيجاد “أفضل أحمد”، بل إيجاد طريقة لـ دمجهم جميعًا في النسخة الوحيدة القابلة للاستمرار: النسخة التي لديها هند وأبناء ومستقبل غير مكتوب.
“أنا أرفض أن أختار.” قال بصوت عالٍ، يملأ صمت المكتبة المنهار. “أنا أرفض أن أحكم على أي منكم بالفناء. أنت يا مهندس، أعطيتني الأمان. وأنت يا فنان، أعطيتني الشغف. وأنت أيها الأب الحزين، أعطيتني قيمة ما أملك. أنا أقبلكم جميعاً كأجزاء من الوعي الذي سأعود به.”
في تلك اللحظة، شعر بشيء غريب. لم تعد الأصوات تتصارع، بل بدأت تتناغم. شعر بقوة الفنان تمنحه الشجاعة لترك الوظيفة المملة، وشعر بمنطق المهندس يمنعه من الانغماس في جنون لا يُحتمل. كان هذا القرار هو التحرر المطلق من القدر.
الآن، تحول الباب المتوهج من مجرد نفق إلى وعد. لم يعد يمثل العودة إلى نقطة البداية، بل العودة إلى نقطة الانطلاق.
وضع أحمد يده على قلبه. شعر بأن الجرح الذي أصابه من شظية الزجاج يشتد ألمه، لكنه لم يعد جرحًا في الجسد، بل خاتم للعهد.
أحمد لم يجد النسخة “الأصلح” في المكتبة. لقد اكتشف أن النسخة الأصلح هي النسخة التي تُكتب لحظة بلحظة، خارج جدران اليقين.
كانت الخطوة الأخيرة هي عبور البوابة. ولكن قبل أن يدخل الضوء، شعر بأنه بحاجة إلى وداع أخير لعالمه الحقيقي، ووداع أخير لكل النسخ الميتة التي حررته.
تقدم أحمد بثبات نحو البوابة. لم يركض هرباً من الانهيار، بل سار باتجاه الهدف.
“وداعاً… أيها الكتب التي لم أقرأها كلها.”
بخطوة واحدة، دخل أحمد إلى الضوء. لم يكن الضوء ساخناً أو بارداً، بل كان دافئاً وحقيقياً، كإحساس العودة إلى المنزل بعد رحلة طويلة ومضنية.
يتبع في الفصل العشرين والأخير
عودة إلى الضوء
للكاتب: H I T L E R
الفصل العشرون والأخير
عودة إلى الضوء
شعرتُ بالضوء يغمرني، لا كشعاع ساطع، بل كـ ملاءة حريرية دافئة تنسحب عن جسدي. كان صوت الضجيج يختفي، ليحل محله صوت مألوف، رتيب، ومحبوب: صوت مروحة التهوية في قبو المنزل.
فتحتُ عيني. كنتُ مُلقى على الأرض الباردة للقبو الحقيقي. القبو لم يكن مكتبة لا نهائية، بل كان مجرد مساحة صغيرة مُكدسة بالصناديق القديمة وعبوات الطلاء الجافة. لا أرفف مائلة، لا رماد فضي، ولا حارس يتلاشى. فقط الواقع الثابت والنهائي.
رفعتُ يدي اليمنى. كان الجرح الذي أحدثته شظية الزجاج في المكتبة لا يزال ينزف قطرة ددمم صغيرة. كانت هذه هي الذكرى المادية الوحيدة على أن ما حدث لم يكن حلماً. لقد عدتُ، ولكنني عدتُ مُحمَّلاً.
نهضتُ بصعوبة، وشعرتُ بثقل غريب في روحي. لم يكن ثقلاً من اليأس، بل ثقل الحكمة المكتسبة. لقد كانت لدي الآن أربعون عامًا من حياتي الحالية، بالإضافة إلى الوعي بآلاف السنين من الحيوات البديلة.
صعدتُ الدرج ببطء. كانت رائحة الخبز المُحمص والقهوة الطازجة تملأ المنزل. رائحة روتينية، مملة في السابق، لكنها الآن بدت كـ قصيدة حياة بسيطة وجميلة.
تركتُ القبو، ودفعتُ الباب الخشبي العادي خلفي. هذه المرة، لم يكن الباب صامتاً. لقد أحدث صريراً خفيفاً ومُهذباً، وكأنه يرحب بعودتي إلى الحياة الطبيعية.
وصلتُ إلى المطبخ. هند كانت واقفة عند الموقد، تعد وجبة الإفطار. كانت ترتدي بيجاما قطنية قديمة، شعرها مربوط بعشوائية، ووجهها يحمل آثار التعب الصباحي. لم تكن مثالية، بل كانت حقيقية.
نظرت إليَّ بتعجب. “أحمد؟ أين كنت؟ القبو؟” سألت، ثم لاحظت يدي. “يا إلهي، يدك تنزف! ماذا فعلت؟”
في اللحظة التي نظرت فيها إلى عينيها، لم أرَ فقط هند زوجتي، بل رأيتُ هند الفنانة والناشطة التي كانت ستختار حياة التضحية. رأيتُ كم هي قوية، وكم هي تستحق رجلاً بشغف.
ابتسمتُ، وهذه المرة كانت الابتسامة نابعة من مكان جديد، مكان فيه صدق وتصالح لم يعرفه المهندس البائس.
“لا شيء مهم يا حبيبتي،” قلتُ، ويدي تمسك يدها. “كنت أبحث عن شيء قديم، لكنني وجدتُ شيئًا جديدًا بدلاً منه.”
نظرت إليَّ هند بعمق، وكأنها تشعر بالتحول الذي حدث في داخلي. “ما هو هذا الشيء؟”
لم أستطع أن أشرح لها المكتبة، أو الحارس، أو القاضي، أو شهاب. الكلمات كانت ستفشل. كان الشيء الجديد هو القرار.
“لقد وجدتُ نفسي، يا هند.”
في تلك اللحظة، ركض ابني الصغير (سالم) إلى المطبخ وهو يصرخ بفرح. أمسك بساقي، وطالبني بأن ألعب معه. قبل أربع وعشرين ساعة، كان هذا الطلب سيجعلني أتأفف وأتراجع. لكن اليوم، تذكرتُ الأب المفقود، وتذكرتُ جمال اللحظة التي لا تعود.
انحنيتُ، وحملته بين ذراعيّ، وعانقته بشدة لم يعهدها مني. “بالتأكيد يا بطل. لكن أولاً، لنأكل خبز هند.”
جلستُ على طاولة الإفطار. لم يكن خبزًا مُتعبًا، بل كان قربانًا بسيطًا للحياة. بدأتُ آكل ببطء، وأنا أراقب هند، وأنا أراقب ابني، وأنا أراقب النوافذ التي يدخل منها ضوء الصباح الروتيني.
أدركتُ أن المكتبة لم تكن لتعرض عليّ حياة أفضل، بل لتعلمني كيف أعيش هذه الحياة بأفضل ما لدي.
المكتبة لم تذهب. لقد انتقلت إلى داخلي. كلما شعرتُ بالضجر، أو بالملل، أو بالإغراء لاختيار الأمان على حساب الشغف، فإنني الآن أسمع صوت شهاب الفنان وهمسة القاضي البارد.
لن أترك وظيفتي وأصبح فناناً (لأنني الآن أقدر الأمان)، لكنني سأبدأ في كتابة الرواية التي كنت أحلم بها (لأنني الآن أقدر الشغف). لن أتجنب الأقساط (لأنني أقدر البِنْية)، لكنني لن أتركها تقتل علاقتي بهند (لأنني أقدر الحب).
أنا الآن أحمد، جامع الأكوان.
وفي المساء، بينما كان المنزل غارقاً في هدوء الليل المألوف، ذهبتُ إلى مكتبي. فتحتُ حاسوبي، وبدأتُ أكتب.
السطر الأول كان:
“أنا، أحمد، رجل الأربعينيات الذي يتقن فن العيش دون أن يحيا…”
وبدأتُ أكتب روايتي الجديدة، مستخدماً كل صوت من الأصوات التي اكتشفتها: ساخرًا، شاعريًا، حزينًا، ومنطقياً. كنت أكتب رواية مكتبة الأنا المتعددة.
لقد عدتُ من الرحلة إلى الوجود، لأبدأ أخيراً في كتابة حياتي بدلاً من قراءتها. كان المستقبل صفحة بيضاء، وهذه المرة، كنتُ سعيداً بـ تحدي الفراغ.
******
الصفحة البيضاء الأخيرة
بدأ أحمد بكتابة روايته، قصة المكتبة التي كادت أن تدمره، كعهد على أنه لن يقتل شغفه مرة أخرى.
وفي ليلة هادئة، بينما كان يكتب الفصل الأخير، شعر بشيء غريب. مدّ يده إلى كتاب حياته الحالية (الذي عاد معه من المكتبة، المجلد البني).
فتحه، وتوقع أن يجد الصفحة البيضاء التي وقع عليها بدمه.
لكنه وجد أن الصفحة لم تعد فارغة.
في منتصف الورقة، حيث سقطت قطرة دمه، كانت هناك كلمة واحدة مكتوبة بخط يد لا تشبه خطه، ولا تشبه خط الحارس، بل تشبه خط هند:
“أهلاً بك.”
تجمد الدم في عروق أحمد. لم يكن قبو منزله مجرد مدخل. هند، التي كانت تشتكي من نسيانه، والتي كانت تقيدها رتابة زواجها… هل كانت تعلم بوجود المكتبة؟ هل كانت هي، أو نسخة منها، هي من كتب رسالة “لماذا الآن؟”؟
وفي اللحظة التي التمع فيها هذا الشك المخيف في ذهنه، شعر بلمسة خفيفة على كتفه. التفت بسرعة، ليرى هند تقف خلفه، تبتسم ابتسامة غامضة لم يرها من قبل، وبيدها كوبان من الشاي.
“ماذا تكتب يا حبيبي؟” سألت بهدوء. “آمل ألا تكون قصصًا عني.”
“لا…” همس أحمد، وهو ينظر إلى الصفحة الفارغة المكتوب عليها “أهلاً بك”.
ثم سألها سؤالاً واحداً فقط: “هل ذهبتِ يوماً إلى القبو؟”
هند لم تجب. نظرت إليه مباشرة، ووضعت كوب الشاي على الطاولة. ثم مالت قليلاً وهمست في أذنه ببطء، بصوت يتردد فيه صدى عميق وبعيد، كصوت الأرفف وهي تنهار:
“جميعنا نزور المكتبة، يا أحمد. في اللحظة التي نشعر فيها أن حياتنا ليست كافية.” ثم ابتعدت، لتعود ابتسامتها المألوفة.
نظر أحمد إلى الشاي، ثم إلى الكتاب المفتوح. أدرك أن اللعبة لم تنتهِ. البحث عن الذات لم يكن رحلة فردية. ربما كانت هند هي حارس المكتبة الحقيقي، أو ربما كانت هي الأصل الذي يحاول الجميع العودة إليه.
أحمد أخذ رشفة من الشاي. لم يكن الشاي، بل كان القرار.
عليه أن يكتب الفصل القادم من حياته، وهو يدرك أن كل كلمة تُكتب، تقرأها عينان غامضتان تنتظران النهاية.
— انتهت الرواية —
للكاتب: H I T L E R

