رواية عاشق قهر النساء الفصل الخامس عشر 15 بقلم صباح عبدالله فتحي – تحميل الرواية pdf

لكن سرعان ما تغيّرت نظرات الحنين لأخرى غاضبة؛ فكما يذكّرها هذا المنزل بالحب والدفء الذي عاشته في أحضان والديها وإخوتها، فهو أيضًا يذكّرها بأبشع ذكرى… للحظات قليلة خطفت منها ما كانت تحيا لأجله، وهي عذريتها التي سُلبت منها بالقوة تحت عقد زواج باطل كما تزعم هي. رفعت رأسها باتجاهه ونظراتها الحارقة كالسهام نحوه، عندما سمعت صوته يقول بحدّة وهو يفك أزرار قميصه واحدًا تلو الآخر:
آخر مرة هسألك… في إيه بينك وبين ساهر؟
أجابته بحدّة وهي تعود للنهوض بقوة زائفة، ولا تعرف إلى أين يأخذها غرورها وكبرياؤها:
مش عارفة انت زعلان اوى ليه كده؟… ما انت جايبني من كابري ولا نسيت؟
اقترب منها يهمس بحنق:
مش مهم جايبِك منين… المهم إني متأكد مليون في المية إنك ما كنتيش لحد قبلي، ولا هتكوني لحد بعدي. ويكون أحسن لك ما تحطيش راسك براسي… علشان انتي اللي هتزعلى في النهاية.
أجابته بهدوء وهي تنظر له بتحدٍّ وتضم ذراعيها لصدرها قائلة:
وهتعمل إيه يعني أكتر من اللي عملته؟ أنا خلاص… ما بقاش في حاجة تفرق معايا. وموضوع في إيه بيني أنا وساهر… دي حاجة ما تخصكش. وبطّل تضحك على نفسك… لأن جوازي منك باطل.
نظر لها نيل بغضب جامح، فكل كلمة كانت تنطق بها كانت تدهس كبرياءه وغروره؛ فلأول مرة يقف أحد أمامه بهذه الجرأة ويُعارضه. ولم تشعر إلا وهو يقبض على معصمها بقوة ويسحبها خلفه، ليصعد بها إلى الطابق الثاني بصمتٍ مريب، دون أن يُبالي بتعثّرها أو محاولتها الضعيفة لتخلص من قبضته..
في القصر كان جالس كلٌّ من حازم وقاسم في مكتب والدهم، ملامحهم مثقلة بالحزن لفراق والدهم، والقلق والخوف من تفرّق العائلة وبالأخص أبنائهم بعد ما فصح لهم جلال عن وصيته قبل موته. نظر حازم لقاسم بقلق ظاهر وهو يفرك كفيه قائلاً:
هنعمل إيه يا قاسم في وصية بابا؟
تنهد قاسم بثقل وهو ينعدل في جلوسه قائلاً بحيرة شديدة وخوف ظاهر في نبرته:
مش عارف يا حازم… أكتر حاجة مخوّفاني عشق. مش قادر أتوقع إيه اللي ممكن يعمله لما يعرف وصية جده.
نظر له حازم بصمت.. تردد للحظات قبل أن يقول بهدوء مقلق:
طيب… إنت إيه رأيك في الكلام اللي شوق قالته في المستشفى ده؟ معقولة تكون مش بنتك؟ وعشق عرف حاجة وله يد في موت بابا؟
طالَت نظرات قاسم لوجه شقيقه يفكر في ما قالته شوق وبكلمات حازم، قبل أن يجيب بحيرة وقد تسللت خيوط الشك إلى كلماته:
متأكد إن شوق بنتي… بس اللي مش متأكد منه عشق. بس خلينا نفترض إن الكلام اللي شوق قالته ده صح، مش معقولة تكون غبية للدرجة دي علشان تعترف بسهولة كده. في حاجة مش قادر أفهمها… ليه شوق قالت كده؟ وإشمعنى عشق بالذات اللي جابت اسمه؟
أضاف حازم بشك:
مش ممكن يكون اللي قالته ده حقيقي؟
رفض قاسم حتى أن يفكر، فأجاب بتلقائية:
إنت بتقول إيه يا حازم؟ لا، مش معقولة عشق يعمل حاجة زي دي. أنا وإنت عارفين علاقة عشق ببابا الله يرحمه. متأكد في طرف تالت مش قادر اتوقع مين هو…
قطع حديثهم صوت طَرقات الباب، فهتف قاسم بهدوء:
انفتح الباب ودلفت أسيل وهي تحمل في يديها منديلاً تجفف دموعها.
في ظابط برّه بيقول إنه اللي ماسك قضية بابا.
تبادلت النظرات بين حازم وقاسم بصمت، ثم نهضا وتوجها بهدوء ليقابلا المحقق.
*******
في السيارة… كان عشق عائدًا إلى القصر بصحبة شوق بعد ما تَأكّد أنها ليست شقيقته، وأن العيب ليس بها بل به، فهناك أسرار ما زال لم يكتشفها بعد. كانت تجلس تُسند رأسها على نافذة السيارة، تنظر بشرود للعجلات والسيارات العابرة بين لحظة وأخرى، تنتظر بصمت لتعرف إلى أين سيأخذها مصيرها. أمّا عشق فكان صامتًا، يقود السيارة بهدوء مريب، وكل ما كان يشغله هو اكتشاف حقيقته… تلك الحقيقة التي ستغيّر مجرى حياته. ورغم أنه أصبح يعرف أن تلك شوق من الممكن أن تخطف منه حياته التي يمتلكها، أو يظن أنه يمتلكها، إلا أنه شعر بشيء من السعادة بداخله لكونها ليست شقيقته كما كان يظن وما زال جاهل عن تفسير شاعره تلك اتجاهها. قاطع حاجز الصمت صوت شوق تنظر له بخوف كطفلة تخشي العقاب، وهي تقول بعفوية:
هو أنا كده ممكن أُنعدم… صح؟
التفت إليها وهو يعقد حاجبيه متعجبًا وأجاب بهدوء:
مش فاهم… هتتعدمي ليه؟
أضافت بقلق وهي تنظر له بخوف:
علشان أنا اللي سممت جدّك؟
وهنا أوقف عشق السيارة فجأة. فقد نسي موت جلال وتلك الكذبة التي ألّفتها له تلك الحمقاء، ولم يعرف كيف نسي أمرًا مهمًا كهذا. طال الصمت وهي تراقب ردّه برعب… شعرت أن قلبها سيقع منها وهي تتخيل كيف ستكون ردّة فعله… فبلا شك سيُخرج سلاحه في أي لحظة وينهي حياتها، فهو عرف لأن أنها ليست شقيقته وبالتأكيد لن يعفوا عنها، هذا ما كانت تفكر به. لكنها لا تعرف أنه يمكن أن ينهي حياته لكي يحافظ على حياتها.
وبعد لحظات من الصمت مرت عليها كدهر، نظر لها وهو يعيد تشغيل السيارة ليمتزج صوته بصوت المحرّك وهو يقول:
أيوه… هتتعدمي. بس لما تكوني إنتي اللي سممتي.
أضافت بصوت خافض قائلة بحيرة:
إنت ليه مش عاوز تصدّق إني أنا اللي قتلت جدّك؟
أجاب وهو يركز في القيادة، وعقله منشغل بالتفكير في شيء آخر:
لو ما كنتيش جبتي اسمي في الموضوع… كان ممكن أصدّق.
نظر لها وهو يتابع:
بس أنا واثق، زي ما أنا شايفك دلوقتي، إنك مش إنتي اللي سممتي جدي… وفي طرف تالت، وأظن أنا عارف مين هو. بس اللي أنا مش قادر أفهمه… إنتي ليه قولتي اللي قولتيه ده؟
وبينما كان يتحدث لاحظ سيارة سوداء تسير على الطريق من جهة شوق، شعر بوجود شيء غير طبيعي.
وقبل أن يستوعب شيئًا، انفتح زجاج نافذة السيارة الأخرى ليظهر عدد من الرجال يخفون وجوههم.
رفع أحدهم سلاحًا ليصوّب نحو شوق، وبحركة سريعة بلا إرادة، رفع عشق يده على رأسها ليجبرها على الانحناء. وقبل أن تفهم شوق شيئًا، تصاعد صوت إطلاق الرصاص، لتُصيب إحدى الرصاصات عشق.اتّسعت عينا شوق عندما رأت الدم يسيل من كتف عشق الأيسر، والإصابة كانت قريبة جدًا من عنقه.خرجت منها صرخة عالية تنادي باسمه:
وفي لحظة، هَدَأ كل شيء من حول عشق… ولم يعد يرى الطريق أمامه. وآخر ما سمعه… صوتها وهي تهتف باسمه.
كان ساهر جالسًا في مكتبه، ملامحه مثقلة بالحزن. ورغم موت ولده أمام عينيه، إلا أنه لم يقدر أن يعفو عنه، وهذا أكثر ما يؤلمه. فجروح الماضي، رغم مرور عشرين عامًا، لم تشفَ بعد. انهالت من عينيه دمعة حارقة وهو يهتف بغضب مكتوم ويدفع كل شيء أمامه على سطح المكتب ليصدر اصوت تحطيم كوب القهوة الخاص به واصطدام الملفات بالأرض:
“ليه… ليه وصلتني للمرحلة دي؟ رغم موتك لسه مش قادر أنسى وأسامحك… ليه؟”
لفت انتباهه قلادة لين الذهبية التي سقطت من على سطح المكتب من ضمن الأشياء الأخرى، وانفتح القلب لتظهر صورتان للين ونيلي وهما راضيعَتان. اقترب ساهر بخطوات ثقيلة ليأخذ القلادة، وهو لا يلاحظ الصورة بعد. وقبل أن ينحني عليها… اندفع الباب فجأة وهجم ليل على ساهر بغضب، أمسكه من قميصه ووجّه له عدة لكمات وهو يصيح ودموعه تنهمر على وجهه وسط غضبه الشديد:
“ليه… ليه سبته يموت؟ ليه ما عملتش حاجة؟ ليه؟”
دفعه ساهر ووجّه له لكمة قوية أجبرته على الرجوع عدة خطوات للخلف، وهتف بغضب وصوت مرتفع:
“ده قضاء وقَدَر! لو كنت هديت الدنيا وبنيتها تاني كان هيموت برضه!”
أضاف ليل بانهيار: “كان ممكن تعمل حاجة… كان على الأقل حاول!”
ثم اندفع نحوه بغضب وأمسكه بقوة من قميصه قائلًا:
“أنا بابا مات بسببك! لو ما كنتش قلت له اللي قولته ده… كان زمانه لسه عايش!”
دفعه ساهر بعيدًا عنه، وهو يجيب بغضب جامح وصراخ ودموعه تنهمر:
“بابا؟! بابا؟! بابا؟! انت عامل زي اللي بيكدب الكدبة ويصدقها! ده فشل يكون أب لعياله من لحمه ودمه ورماهم في الشارع… هيكون أب ليك إنت وأخوك إزاي؟!”
أجابه ليل بنبرة حادة وغاضبة: “سواء بمزاجك أو غصب عنك… هو أبويا اللي رباني! وعلاقتنا مش علاقة لحم ودم… علاقة أب وابنه! اللي إنت مستحيل تفهمها!”
كور ساهر يديه بغضب حتى برزت عروقه، وضغط على أسنانه بقوة. فليل رغم غضبه محق… فهو فعلًا لا يعرف شيئًا عن علاقة الأب بابنه؛ فهناك من سلب ذلك منه كما سُلبت منه طفولته، وكذلك شبابه. ربّى له ألم الماضي عقدة حتى الآن لا يقدر على نزعها. أجاب بصوت غاضب وهو يعطيه ظهره محاولًا التحكم في غضبه لكي لا يقتله:
“اطلع برّه يا ليل… وياريت ما تخلّينيش أشوفك تاني.”
نظر له ليل وصدره يعلو ويهبط من الغضب، وقال بحد وتحدي رغم حزنه قبل أن يغادر:
“ماشي يا ساهر… بوعدك مش هخليك تشوفني تاني غير لما أعرف الحقيقة كاملة… وليه بابا عمل اللي عمله زمان… وصدقني وقتها هتندم ندم عمرك.”
ترك ليل المكتب وغادر غاضبًا… حزينًا على فراق من ربّاه. أمّا ساهر، فشعر بالانكسار، فانهار راكعًا على ركبتيه. فحقًّا كان ليل محقًا… هو لا يعرف شيئًا عن حنان الأب وعلاقة الأب بابنه، رغم وجود أباه طول الوقت؛ لأنه كان غائبًا كالأموات. لم يشعر يومًا بالعاطفة أو الحنين تجاه أبداً … وكان يكره وجوده؛ فبسببه تربّى وكبر في مدارس داخلية. وعندما تخرج، وجد ولده يغرق أبناء غيره بالحب والحنان الذي كان من حقه هو وإخوته، والذي افتقده طوال حياته. وكلما تذكّر ما مرّ به من وحدة وعذاب… زاد كرهه له.
حاول كثيرًا إخراج الماضي من رأسه ومواصلة حياته، لكنه فشل فشلًا فاضحًا في كل مرة. أحنى رأسه بين كفّيه وانهار في البكاء، وصوته تصاعد في الغرفة… ولم يلاحظ الصورة التي في القلادة إلى جانبه تنظر إليه وكأنها تناديه، لكنه كان غارقًا في همومه ولم يستجب لها.
*******
كانت لين مستلقية على الفراش، تنظر إلى كوثر التي كانت تقف على مقربة منها، تتحدث في الهاتف. كانت تستمع للمتحدث ثم صاحت بسعادة غامرة، وهي تهتف بعدم تصديق:
“إنت متأكد إنه مات خلاص؟”
تصمت للحظة ثم قالت بمرح:
“مش مهم البنت تموت أو لأ… أنا كده كده هعرف أتصرف معاها. والغلطة اللي مش محسوبة دي عجبتني أوي… وليكم مكافأة حلوة عندي.”
أغلقت الهاتف وهي تبتسم بسعادة قائلة:
“ده أحلى يوم في حياتي! مش معقولة خلصت عليهم… الجوكر وعشق في يوم واحد! ده يوم حظي!”
وفجأة تتغير ملامحها للحزن، وتضيق أنفاسها، وتنهال من عينيها دمعة حارقة وهي تتمتم:
“وأخيرًا انتقمت لابني حبيبي اللي حرمتوني منه حتى قبل ما أشوفه… ورغم إني جبت ليل وزين بعده، إلا إني لحد دلوقتي مش قادرة أملّي فراغه. لو كان عايش دلوقتي… كان… كان زمانه 30 سنة… 30 سنة وقلبي محروق عليه… 30 سنة وأنا مش قادرة أنسى اليوم اللي كنت بحلم بيه وأنا واخداه في حضني… كان أول فرحتي في الدنيا الذكرة الوحيدة من حب عمري… أنا دلوقتي بس حاسة براحة…”
أفاقت من لحظة العاطفة وشوقها لطفلها الذي حُرمت منه… وهي لا تعرف أن فرحتها الآن ستكلّفها الكثير. استدارت على صوت لين وهي تهتف بضعف، وبالكاد يُسمع صوتها:
“أنا… أنا… فين؟”
زفرت كوثر بضيق قائلة:
“أوف… أنا كنت نسيتك… بس حظك حلو. الأخبار الحلوة اللي سمعتها دلوقتي غيرت مزاجي.”
لين، بضعف وتعب واضح في صوتها:
“إنتي… إنتي مين؟ وأنا فين؟ وفين ماما وبابا؟ أنا عاوزاهم…”
ونقول: استووووب…
شوق… عشق… لين… نيلي… ساهر… كوثر…
تفتكروا إيه اللي ممكن يواجهوه في الحلقة الجاية؟
السادس عشر من هنا
