رواية بين الامس واليوم الفصل التاسع 9 بقلم انفاس قطر – تحميل الرواية pdf

+
في غرفته يدور..
+
حينا يجلس.. وحينا يقف..
+
لم يجد الليلة شيئا يستطيع دفن نفسه فيه.. حتى يحين موعد إرساله لرسالته اليومية لها..
+
الرسالة التي بقيت خيطا يعلم أنه يربط قلبه بقلبها حتى وإن لم تتكرم أن ترد عليه لو لمرة..
+
يقف ليفتح خزانة الملابس.. مازالت ممتلئة بملابسها..
+
يكاد أن يذكر لكل رداء منها حكاية من وله مصفى
+
وهي يشعر حينما رآها فيه وكأنه رأى حورية تسربلت بالحسن من أجله وحده
+
لا ينسى مطلقا شيئا خاصا ارتدته له..
+
لتصبح ذاكرته مزدحمة بعشرات الصور التي لم يغفل تفصيلا واحدا من تفصيلاتها..
+
وكيف يغفل وهذه التفاصيل انحفرت في ذاكرته حتى أقصاها؟!!
+
لماذا تركت كل هذه الأشياء الخاصة بها وراءها؟؟
+
لماذا؟؟
+
“هل أردتِ تعذيبي أكثر؟؟
+
هل أردتِ أن تتأكدي أنني سأظل مقيدا إليك.. وذكرياتك تخنقني وتغرقني وتستنزفني حتى الثمالة
+
هل أردتِ أن تتأكدي أن عبقك الساحر الذي تخلف عنك وبقي هنا سيبقى حبلا ملفوفا حول عنقي لا انفكاك منه؟!
+
أي أنانية لا قلب لها أنتِ؟؟
+
إن كنتِ عزمتي على الرحيل.. فلماذا لم تجمعي كل أغراضكِ الموبؤة المسكونة براحتكِ الدافئة المسكرة
+
إن كنت أنتِ رحلتِ.. فلماذا تتركين لي البقايا؟؟ لماذا؟؟ لماذا؟؟
+
إن لم تكوني أنتِ لي، فلا أريد هذه القمامة.. لا أريدها !!”
+
حين وصل تفكيره لهذه المرحلة..
+
انتزع أشيائها من الخزانة وبدأ يقذف بها بغضب مجنون وروح ثائرة أثقلتها الوحدة والوجع واليأس..
+
ولكنه سرعان ما توقف وهو يعيد جمعها بلهفة أكثر جنونا…
3
ليعيد ترتيبها كما كانت تماما
+
في ذات المكان الذي وضعتها فيه أناملها الساحرة التي يقتله الاشتياق للثم شفافيتها.. لضمها بين أنامله السمراء
+
” والله باستخف يانجلاء.. قربت استخف..
+
حرام عليش اللي تسوينه فيني
+
حتى تهديدي بالزواج ماجاب نتيجة معش
+
لذا الدرجة رخص صالح عندش؟!!
+
صالح اللي ما أرخصش يوم!!
+
أدري لساني يبي له قص أحيان
+
بس والله أحبش يا بنت الحلال..
+
خلاص ارحميني.. باستخف والله باستخف
+
ارحموا عزيز قوم ذل!!”
+
تنهد بعمق وهو يجلس على الأريكة..
+
إحساس اختناق يطبق على رئيتيه..
+
يخلع فانيلته ويلقيها بعيدا..
+
يشعر أنه عاجز عن التنفس.. مخنوق.. يبحث عن ذرة أكسجين فلا يجدها..
+
يتمنى لو يستطيع تمزيق جسده حتى.. ليخرج روحه من أسر هذا الاختناق
+
وهو غارق بهذا الإحساس الشديد المرارة واليأس والثقل.. تناول هاتفه .. ليرسل رسالته اليومية لها:
+
” تدري ليه أكره غيابك ؟!
+
لأني في الغيبة .. أموت
+
ضيقتي .. بعدك تجيني
+
و (البُكى) من غير صوت !”
+
*******************************
+
نجلاء قرأت الرسالة وهي تغمض عينا وتفتح أخرى..
+
وخائن صغير يتمرد عليها لينبض بجنون في يسار قفصها الصدري..
+
تُسكت تمرده الذي فضح برودها وهي تعض شفتها السفلى بألم
+
ثم تعيد الهاتف لمكانه وهي تصرخ في داخلها:
+
“كذاب.. كذاب.. كذاب”
+
سميرة نهضت من إغماءتها وهي تنظر لنجلاء في دهشة: أشوفش رجعتي التلفون
+
نجلاء تهمس بهدوء ظاهري وهي تتجه للتسريحة لتمشط شعرها: ليه وش تبيني أسوي؟؟
+
سميرة بنبرة غضب: ردي عليه.. خافي ربش في المسكين..
+
ثم أردفت بمرح غاضب: يأختي رياجيلنا يأهل الخليج عندهم تقشف مشاعر
1
احمدي ربش.. عندش واحد عنده فايض مشاعر ولا هوب عاجبش..
+
نجلاء تمسك بطرف التسريحة حتى إبيضت مفاصلها وهي تهمس بغيظ موجوع: قصدش عنده فايض كذب
+
سميرة تبتسم: زمان قالوا “أعذب الشعر أكذبه” وأختش سميرة تقول: ” أعذب الحب أكذبه”
+
تلتفت لها نجلاء وهي تبتسم رغم إحساس الألم المتزايد في روحها:
+
يعني أنتي تبين واحد يقول لش أحبش وهو يكذب عليش
+
سميرة تبتسم وهي ترقص حاجبيها: يازينه زيناه الرجال الكذوب..
+
وش فيها الغزيلات؟؟ الغزيلات أصلا ملح الرجّال (الغزيلات=الكذبات الصغيرة)
+
أما الرجّال اللي كل شيء صدق عنده.. فهو خيشة كبيرة
+
تبتسم نجلاء: يالله لا تحرمني من أني أشوف سميرة عند رجّال مايعرف ريحة الصدق ويقطّع بطنها بكذيباته..
+
” والله لا يحرمني منش يأم خالد بيضتي وجهي”
+
الاثنتان تقفزان وهما تنظران للباب المفتوح الذي يقف غانم عنده
+
سميرة تلوي شفتيها وتمدها وهي تصرخ: من متى وأنت هنا..؟؟
+
غانم يضحك وهو يتقدم لداخل الغرفة: ” من أعذب الحب أكذبه” يا فيلسوفة زمانش..
+
حينها تقفز سميرة لتجلس عند قدميه وهي تتمسح به باستجداء تمثيلي:
+
داخلة على الله ثمن عليك ياطويل العمر ما تكوفني.. توبة من دي النوبة.. حرمت أتفلسف..
+
غانم يبعدها وهو يهمس بمرح: باعديها عشان أم خالد بس..
+
وإلا أنتي لو ما تكوفنين كل يوم يكون فيه شيء ناقص في روتين حياتش
+
غانم يقترب من نجلاء ويقبل رأسها ويهمس بمودة ممزوجة بالاحترام:
+
بيضتي وجهي يأم خالد.. الشباب يقولون وش ذا المطعم العجيب اللي أنت مسوي عشاك عنده..
+
قلت لهم: شغل البيت.. ماشاء الله تبارك الله كلوا لين قدهم بينفقعون من حلات العشا
+
ثم أردف وهو يضحك: لا وفهيدان الكلب يشاورني يقول ردوا علينا مرت أخي.. هاد حيلها في عزايمك ثمن تمدّح على قفاها..
+
أقول له وأنت وشدراك إنها مرت أخيك.. العشا مسويته سميرة.. (قالها وهو يضرب مؤخرة رأس سميرة بخفة)
+
تدرين وش قال فهيدان: قال يحرم علي مجالس الرجال وشرب الفنجال
+
كن ذا من زيان أختك العِثبر (العثبر= التي لا تحسن صنع شيء)
+
هذا زيان أم خالد ما يخفاني..
+
حينها انفجرت سميرة ضاحكة بغيظ: وولد عمك ذا بيموت وهو لسانه يلوط آذانه..
+
حينها عاود غانم ضربها على مؤخرة رأسها: مثلش.. ظني يقبرونش ولسانش يلالي..
+
ابتسمت نجلاء بمودة: جعل فيه العافية لك ولفهد.. بياض وجهك يابو راشد بياض لوجهي..
+
ثم قاطعتها سميرة بمرح: بس لا عاد تعودها.. تراك مسختها..
+
شكلك كنت تدعي إن نجول ترجع علينا عشان تكرفها في عزايمك..
+
ثم أردفت وهي تمصمص شفتيها: ياعيني على بختك يأختي.. ئليل البخت يلئى العظم في الكرشة..
+
هنا كارفينش وهناك كارفينش..
+
ثم أردفت وهي تطبطب بحركة تمثيلية على كتف نجلاء: مسيرك هتموتي وهترتاحي يا بنتي عند رب كريم..
+
غانم يضربها على مؤخرة رأسها للمرة الثالثة: مأ اشين فالش.. جعل يومش قبل يومها..
+
سميرة تتراجع وهي تضع يدها على فمها وتقلب ملامح وجهها في مشهد تراجيدي خالص ودموعها تبدأ بالتساقط:
+
اعترفوا.. اعترف أنت وياها
+
ينقلب وجه غانم ونجلاء من تغير ملامح وجهها بينما أكملت بصوت باكٍ مفعم بالتراجيديا التمثيلية:
+
أكيد أنا مانيب بنتكم.. أنا بنت بطل الفيلم.. وأنتو عيال الحرامي العود اللي خطفني عشان ينتقم من بابا..
+
بس بابا لازم بيرجع وينتقم منكم على اللي سويتوه فيني وأنتو تعذبوني طول الفيلم.. قصدي طول ذا السنين اللي فاتت..
+
ثم أردفت وهي تسقط على الأرض وترفع يديها للسماء وتكمل تمثليتها:
+
يارب أنت وحدك اللي شايف.. ابعت لي بابا.. أنا تعبت خلاص
+
غانم يضحك وهو ينفذ عن ذراعيه: هدوني عليها ياناس.. وتقول ليش تكوفني..
+
سميرة تقفز وتختفي خلف ظهر نجلاء وهي تضحك: تراني في وجه أم خالد.. إلا لو أم خالد مالها حشمة عندك.. هذا شيء ثاني..
1
*********************************
+
طرقات حازمة على الباب..كانت حينها قد بدأت بخلع ملابسها..
+
أعادت حشر كتفيها المرمريين المصقولين في قميصها الحريري ليستر الحرير حريرا أكثر نعومة منه
+
أغلقت أزرارها على عجل وهي تهمس باحترام: دقيقة يمه
+
تعرف كل طارق من دقته.. ولم يخب حدسها يوما
+
والدتها طرقاتها حازمة قصيرة
+
وضحى طرقاتها ناعمة وكأنها تخشى أن تؤلم الباب
+
مهاب طرقاته لها صدى ضخم لأنه يطرق الباب بقبضته
+
تميم نقراته هادئة وطويلة وبين كل طرقة والآخرى زمن ما..
+
فتحت الباب لوالدتها على اتساعه وهي تهمس باحترام: هلا يمه.. فيه شيء؟؟
+
مزنة بعتب رقيق: يعني لازم إني ما أجي لغرفتش إلا لسبب..
+
كاسرة تبتسم: لا والله يمه مهوب القصد.. بس توني كنت معش من خمس دقايق..
+
مزنة بحزم حنون: بكرة أبيش تودين وضحى وسميرة يشترون لهم طابعة زينة عشان مشروع تخرجهم.. يقولون تعبوا من الطباعين..
+
كاسرة بعتب: ووضحى تبي لها وسيط.. ما تقدر تجي تطلب مني على طول؟!!
+
مزنة بهدوء عاتب: يعني كل شيء لازم تفهمينه مقلوب.. وضحى أصلا طلبت مني أنا أوديها هي وسميرة..
+
بس أنا تدرين ما أحب المجمعات وإزعاجها وهم يبون فيرجن في فيلاجيو
+
فانا حبيت إنش تكفيني… عندش مشكلة في ذا الشيء..خلاص قولي لي وأوديهم..
+
كاسرة بعتب مشابه: وأنتي بعد يمه لازم تلاقين شيء تغلطيني فيه ..
+
ثم أردفت بهدوء عذب: خلاص فديت عينش.. عشانش أودي مندوبهم لو جاني
+
بكرة عقب المغرب أوديهم.. وقولي لوضحى تقول لسميرة عقب صلاة المغرب على طول تجهز مهوب تنقعنا عند بابهم مثل كل مرة..
+
******************************
+
يدخل إلى شقته وهو يسحب نفسه سحبا.. مستنزف من الإرهاق.. مستنزف من الوجيعة..
+
مستنزف من كل شيء في الحياة التي تبدو باهتة خالية من الألوان بعيدا حتى ألوان ذكراها التي أصبحت محرمة عليه
+
حتى الذكرى!!
+
حتى الذكرى لا حق له فيها!!
+
يلقي بنفسه على الأريكة بعد رحلته الطويلة… فهو لم يجد رحلة مباشرة لجنيف.. وكانت أقرب رحلة لبرلين..
+
لذا حين وصل برلين أخذ قطار منها لجنيف.. ليتعطل القطار في الطريق.. ويعاني في رحلة التوقف التعيسة فوق إحساسه المر بكل شيء
+
ما كاد يريح كتفيه.. حتى تعالى رنين هاتف شقته.. لم يكن له أبدا رغبة في الرد.. لكن الرنين استمر واستمر
+
التقط الهاتف وبصوت مثقل بالإرهاق أجاب: ألو
+
الطرف الآخر بغضب مستحكم: كذا تسوي فيني عليان..
+
علي تنهد مطولا وهو يمسح وجهه ويستعيذ بالله من الشيطان: السموحة طال عمرك.. سامحني جعلني الأول
+
زايد بذات الغضب: أشلون تسافر بدون حتى ما تسلم علي..
+
ومن البارحة لين اليوم وينك.. حرقت جوالك اتصالات مسكر.. وتلفون شقتك ماترد عليه
+
علي بإرهاق وهو ينتزع الهاتف اللاسلكي من قاعدته ويبدأ بنزع ملابسه عن جسده المنهكة ليستحم:
+
جوالي فضا شحنه.. ورحلتي كانت طويلة شوي
+
وأنا كلمت مزون على البيت وطمنتها عني.. ماقالت لك
+
زايد بغضب متزايد: والله ياعيال زايد.. الظاهر ماعاد حد عطاني خبر شيء.. كلن يسوي اللي في رأسه وأنا مالي حشمة ولا تقدير
2
على الأقل خافوا ربكم.. وإلا حتى ربي ماله مخوفة..
+
علي يجلس على سريره وهو يحتضن الهاتف بين أذنه وكتفه ويخلع حذائه ويهمس بجزع:
+
تكفى يبه لا تقول كذا
+
ثم أردف بوجع شفاف في مصارحة مؤلمة: يبه أنا مستوجع.. مستوجع
+
خلني جعلني فدا خشمك أروق شوي ومالك إلا اللي يرضيك
+
قفز قلب زايد إلى حنجرته وأحرف كلمات “مستوجع” تتلبس جسده كتيار كهربائي صاعق ينسف خلاياه وجعا صاعقا..
+
فهذا علي!! علي!!
+
تمنى أنه جواره الآن ليأخذه في أحضانه.. ليقول له:
+
” دعني أحمل هذا الوجع عنك
+
فمازلت صغيرا على هذا الألم
+
سامحني يا بني.. سامحني
+
أعلم أني قسوت عليك.. ولكني وأنا أقسو عليك قسوت على نفسي
+
وكل حزن جرح قلبك.. مزق قلبي تمزيقا
+
لِـمَ لم تصارحني منذ البداية؟
+
إن كان لها في قلبك مكان ما.. لِـمَ لم تخبرني؟!!
+
متى اعتدت أن تخبئ أسرارك علي ياعلي؟!!
+
ظننت أن الامر لا يعدو شهامة منك تجاه ابنة خالتك
+
ما ظننت للحظة أن هناك المزيد
+
فأبوك يا بني خير من يفهم ألم الحرمان من حلم المعشوقة
+
أعرف أي ألم صارخ هو..
+
فكيف أكون من يهديك إياه؟!!
+
كيف أكون أنا؟؟!!”
+
همس زايد بحنان مجروح: أجيك يأبيك؟!!
+
انتفض علي بجزع.. يتركه في الدوحة.. ليجده أمامه في جنيف!!
+
قد تكون رؤية زايد في هذا الوقت مقلبة لمواجعه
+
ولكنه يا لا الغرابة مشتاق له!!.. فهو لم يكتفِ بعد من رؤية عينيه الصارمتين الحنونتين
+
لا يستطيع أن يغضب من زايد.. لا يستطيع..
+
مجروح منه حتى عمق العمق لذا لا يريد أن يراه الآن
+
ولكنه ليس غاضبا منه.. ولا يستطيع الغضب منه
+
فهذا زايد..
+
مهما فعل يبقى زايد..
+
لو حتى قطع لحمه بمنشار صدئ لن يشتكي
+
ويبقى زايد…
+
“فزايد كفاه ماعاناه حتى مني.. لن أكون سببا للمزيد
+
الكل جرحه قاصدا أو بدون قصد
+
جرحتني يا أبي ولكن أ تصدق إن قلت لك أنني أفهم مبرراتك..
+
أ لم أكن رفيقك الدائم.. رفيق سمرك وحكاياتك؟!
+
منذ توفيت أمي وأنا كظلك الذي لا يفارقك إلا مضطرا
+
صدقني يا أبي حين هربت في المرة الأولى وحتى الثانية.. لم أهرب منك..
+
فكيف أهرب من روحي التي تتلبسني؟!
+
كيف أهرب من جلدي الذي يحتويني؟!
+
هربت فقط من جو ضاغط لا يتفهم ولا يرحم
+
أتفهم ما فعلته حتى وإن كان جرحني ومزّق مشاعري
+
فقد أحببت خليفة كما أحبتته أنت
+
فأنت أرضعتني هذه المحبة مع حكاياتك التي لا تنتهي عنه
+
في أحيان كثيرة كنت أشعر أنني رفيقكم الثالث في مغامراتكم وحكاياتكم وصداقتكم الفريدة
+
لا أعلم يا أبي.. ربما لهذا السبب أردت جميلة
+
أردت أن أضم بعض رائحة خليفة إلى صدري
+
عل الصورة حينها تكتمل في عقلي
+
(لماذا كان لقرب خليفة منك كل هذا التأثير؟!) “
+
علي انتفض من وطأة أفكاره وهمس بمودة: تبي تأتي حياك الله
+
زايد بحنان عميق: يمكن تبي لك شوي وقت تقعد بروحك..
+
تلافى زايد إخباره عن سفر عفراء وكسّاب اللذين سينزلان في جنيف أولا.. لأنه لم يرد أن يقلب عليه مواجع أي ذكرى
+
وهو يتذكر أنه لا يستطيع السفر وترك مزون لوحدها حتى يعودا..
+
رد عليه علي بذات الحنان: أشلون أقعد بروحي وأنت روحي طال عمرك..
+
زايد بتأثر عميق: لا تعتب على أبيك..
+
والله إني مستوجع أكثر منك
+
تدري بغلاك يا علي.. فلا تخلي شيء يشكك في غلاك وإلا يبعدك عني..
+
*******************************
+
مطار شارل ديغول
+
طائرة جميلة تصل
+
مازالت جميلة لم تصحُ من مخدرها..
+
والمصحة في مدينة أنسي البعيدة جدا عن باريس على حدود سويسرا..
+
ولكن كان لابد من النزول أولا في باريس.. حتى يستقبلهم المكتب الطبي القطري في باريس.. ويقومون بتسجيل دخولهم وبياناتهم
+
لينتقلوا بعد ذلك لطائرة طبية خفيفة لم يكن على متنها إلا هم..
+
وهاهو خليفة يعاود الجلوس في مكانه جوارها.. يعاود النظر لوجهها الخالي من الحياة..
+
ومشاعر شديد الكثافة تخترم روحه..
+
يشعر أنه غريب مع امرأة غريبة في أرض غريبة.. ومع ذلك يجدان نفسيهما مرتبطين برباط لا انفكاك له
+
رباط خانق يكتم على أنفاسه
+
يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم
+
وهو يعاود النظر لوجهها..
+
تخرج خصلة من شعرها من تحت الطاقية التي ترتديها
+
يحاول مد يده لإدخالها.. فلا يستطيع
+
لا يستطيع…
+
فيشير إلى الممرضة أن تفعل ذلك
+
بينما عاود هو إسناد ظهره للمقعد.. والغرق في دوامات أفكاره العاتية
+
***********************************
+
مزون في غرفتها.. في موال بكاء دائم.. ماعادت تعرف لماذا تبكي؟؟
+
ليس لأنها لا تعلم ما الذي يدعوها للبكاء
+
ولكن لأن كل شيء يدعوها للبكاء
+
ولا تعلم أيهم يستحق البكاء أكثر.. أو هي تبكي من أجله
+
أمن أجل وجعها الشخصي.. ونظرة المجتمع لها.. وقسوة كساب عليها؟؟
+
أو من أجل كساب الذي فقد الإحساس بالسعادة؟؟
+
أو من أجل جميلة التي يبدو أنها قد تغادر الحياة دون أن تراها حتى؟؟
+
أو من أجل خالتها التي ما عرفت الراحة يوما؟؟
+
بل من أجل علي.. أحدث الجرحى وأقدمهم.. القلب الصافي المطعون؟؟
+
بل من أجل زايد.. نعم من أجله.. يحمل وجيعة الكل.. ولا أحد يحتمل مشاركته الألم..
+
الكل يحمله الذنب.. لا يعلمون أي وجع مضاعف يشعر به.. أوجاعهم فوق وجعه..
+
تنهدت بعمق.. توجهت للحمام لتغسل وجهها بماء بارد.. ارتدت روبها فوق بيجامتها.. وتوجهت لغرفته..
+
وكم فعلت ذلك!!
+
“ماذا بقي لي يازايد سواك؟؟
+
وماذا بقي لك سواي؟؟
+
الحياة ستمضي يازايد.. ستمضي.. كلهم سيعيش حياته
+
سيتزوجون وينجبون الأطفال
+
وينسوننا
+
سأبقى أنا وأنت نجتر الوحدة..
+
هل تعتقد يازايد أن كسّاب لو أنجب أطفالا سيسمح لي أن أحملهم؟؟
+
لن أصبح أما يوما.. فهل سيحرمني أن أشتم رائحة الأمومة في ثنايا أطفاله؟!!
+
علي لا أظنه سيعود يوما يا أبي.. أصبح طيرا مهاجرا
+
ماعاد يألف جونا.. اعتاد أن يهرب.. وسيبقى هاربا..
+
لماذا يعود؟؟ ماذا وجد هنا غير القهر والحزن
+
مني أولا.. ثم من جميلة..
+
خالتي عفراء.. كم أتمنى أن تعود.. ما معنى الحياة خالية منها؟!
+
ولكن روحها معلقة بجميلة
+
لو رحلت جميلة.. سترتحل روحها خلفها..
+
قد تبقى جسدا ولكن بدون روح
+
فكيف أعيش من دون روحها التي إليها أنتمي؟!
+
أي أفكار مخابيل تلتهمني الليلة..
+
بل تلتهمني كل ليلة
+
تعبت يا أبي.. تعبت من هذا الجنون والحزن واليأس
+
ليت السنوات تعود ليصحح الإنسان أخطائه يا أبي.. ليتها تعود؟!”
+
مزون كانت غارقة في أفكارها حتى وصلت لباب غرفة والدها
2
طرقت الباب ودخلت
+
كان يصلي قيامه حين دخلت..
+
لذا جلست على طرف سريره تنتظر انتهاءه
+
حين سلم من صلاته التفتت ناحيتها وابتسم ..فزايد يشعر براحة عميقة بعد مهاتفته مع علي..
+
ردت عليه مزون بابتسامة مشابهة وهي تقف وتتجه ناحيته لتنحني وتقبل رأسه:
+
مساك الله بالخير.. ولو أنه عدينا نص الليل
+
زايد بحنان: اللي تقولينه كله زين..
+
نهض ليطوي سجادته ويضعها على المقعد..
+
ثم يخلع طاقيته ويجلس على سريره
+
تجلس مزون جواره وهي تمسح شعره.. وتهمس بمرح:
+
ماشاء الله يبه على ذا الشعر كله.. تبي تسوي سبايكي..
+
ضحك زايد: عيب يا بنت..
+
ثم أردف بحنين عميق: هذا سر أمي الله يغفر لها.. شعرها كان كثيف وواجد..
+
ثم عاد ليردف بابتسامة: ولو أنه اللي في عمري المفروض خلاص يصلع.. بس شعري عاده مقاوم عمليات التعرية
+
ربعي الشيبان محترقين يقولون أنت وش تسوي بشعرك علمنا..
+
مزون تقبل شعره تم تحتضن ذراعه وهي تسند رأسها لكتفه:
+
خلهم يموتون حرة ..
+
وبعدين وش سالفة عمري ويصلع…توك شباب يا زايد.. ووسامة ورزة..
+
ضحك زايد: أما وسامة .. كثري منها يأبيش..
+
تضحك مزون: والله العظيم يبه إنك كل ما تكبر تحلى..
+
ثم أردفت بخبث لطيف: لو أنك بس تخليني أزوجك وحدة مزيونة..
+
قرص زايد خدها: عقب ما شاب ودوه الكتّاب..
+
مزون بابتسامة حانية: يبه والله ما أمزح.. توك شباب.. والله ما فيها شيء لو بغيت تتزوج..
+
ثم أردفت وهي تضحك: بس مهوب تستخف وتتزوج بنية في العشرينات تجننك وتجننا معك..
+
زايد يحتضنها بحنو: لا يأبيش.. لا عشرينات ولا خمسينات..
+
ثم همس وهو يشدد احتضانها: خلينا فيش.. مستعدة لبكرة؟؟
+
تصلب جسدها قليلا ثم همست ووجها مختبئ في صدره: إن شاء الله..
+
أنا أصلا اللي كلمتهم وقلت لهم بجي للمقابلة بكرة
+
عقب ماكنت مأجلتها على أساس إنه حنا بنسافر مع جميلة
+
همس لها زايد بثقة حانية: لا تحاتين شيء يأبيش.. أنا وصيت الجماعة عليش
+
وأبشرش بتطيرين مع طاقم نسائي كامل..
+
الكابتن وحدة انجليزية اسمها إيمي ميلر.. والمساعد الأول بنت سورية.. فسافري وإنتي مطمنة
+
حينها انتفضت مزون بسعادة مفاجئة وهي ترفع رأسها لتنظر إلى عينيه: صدق يبه.. صدق.. مامعنا رجّال..
+
زايد بحنان: أفا عليش.. وراش زايد.. واللي تبينه يصير..
+
بيضي وجهي والله الله في الستر والحشمة..
+
*********************************
+
طائرة تتهادى بين السحاب.. تفتح عينيها بهدوء لتجده جوارها مستغرقا في قراءة كتاب..
+
تهمس بابتسامة: شكلي نمت واجد.. لي يومين ما نمت.. شكلي ماصدقت يرتاح بالي شوي أنام
+
يغلق الكتاب ويضعه أمامه ويهمس بمودة: شكلش منتهية من التعب..
+
ثم أردف بمرح: لا وتشخرين بعد
+
ضحكت بمرح: لا عاد في هذي كذبت.. أنا ما أشخر.. وإسأل جميلة ومزون
+
حينها شعرت بانقباض ما.. وهي تتذكر صغيرتيها التي كل واحدة منهما في بلد
+
همست بهدوء حذر: يأمك يا كسّاب ما تشوف إنه كفاية اللي تسويه في مزون قطعت قلب البنية..
+
تصلب جسد كسّاب ولاحظت بوضوح عروق عضده ورقبته التي برزت بعنف ودلت على استثارة الغضب التي يشعر بها:
+
خالتي سكري ذا الموضوع خلي ذا الرحلة تعدي على خير.. طاري بنت أختش يعصبني
+
قاطعته خالته بسخرية مرة: يعني أشلون ماعاد هي بأختك؟؟ ما تحبها؟؟
+
كسّاب ببرود ساخر: أحبها؟؟ لو أقدر مصعت رقبتها مصع.. لكن خايف ربي بس ..وإلا هي مهيب كفو
+
عفراء بجزع: يأمك وش ذا الكلام.. عمر الدم ما يصير ماي.. وأنا عمري ما شفت أخ يحب أخته مثلك
+
كساب بذات البرود الساخر: كان يحبها.. ذاك زمان مضى..
+
هي ماقدّرت ولا حفظت معزتي لها.. 13 سنة كاملة من عقب وفات أمي الله يرحمها وأنا حاطها فوق رأسي
+
ومبديها على كل شيء في حياتي
+
لو حتى بغت لبن العصفور والله لأجيبه لها.. والزعل على قد الغلا اللي كان
+
عفراء بهمس موجوع: يعني خربتها بالدلع وعقبه تجي تحاسبها..
+
كساب بمقاطعة: لا يا خالتي.. لا تركبيني الغلط.. هذا كلام مأخوذ خيره
+
ثم أردف بوجع مغلف بالبرود أو ربما برود مغلف بالوجع: مزون ماكانت أختي بس
+
كانت بنتي.. كانت أغلى مخلوق عندي..
+
كل الحنان اللي ما لحقت أمي تعطينا إياه.. أنا عطيتها إياه..
+
وعقبه تجي وتكسرني.. وتصغرني قدام الرياجيل..
+
لو أنا ما رجيتها بدل المرة ألف كان دورت لها عذر
+
لكن مزون مالها عذر.. مالها عذر..
+
والله لو كانت بس تغليني نص ما كنت أغليها ماكان هان عليها تبيعني عشان شي مايستاهل
+
الجرح يوم يجيك من الغاليين مهوب يجرح بس يا خالتي.. لكن يذبح!!
+
مزون خلاص ماعاد لها في قلبي مكان…فسكري ذا الموضوع أحسن..
5
ثم أردف وهو ينظر تحته ليتشاغل عن همومه التي أثارتها خالته بينما يحاول هو تناسيها: شكلنا على البحر المتوسط الحين..
1
**************************
+
“جوزا مابعد نمتي.. ممكن أدخل”
+
همسها الهادئ: تعالي شعاع
+
فتحت شعاع الباب ودخلت وأغلقته خلفها بخفة..
+
وجدت جوزاء تجلس على سريرها وهي تقلب ألبوما تريه لحسن الصغير وتسأله: من ذا؟؟
+
يجيب بابتسامة صافية: بابا
+
فتسأله بحنان: وبابا وين الحين؟؟
+
يجيب بذات الأبتسامة : عند لبي. (ربي)
+
فتسأله بحنان أعمق: واللي عند ربي.. وش نقول له..
+
حسن بعذوبة: الله يلحمه.. (يرحمه)
+
شعاع فاضت عيناها بالدمع دون أن تشعر وهمست بصوت مبحوح:
+
تكفين جوزا خلاص لا عاد تورين حسن صور أبيه.. تعلقينه فيه وهو حتى ما عرفه
+
ترا اللي تسوينه غلط والله غلط… هو وش عرفه وش معنى عند ربي
+
الحين يظن إنه رايح شوي ويرجع..
+
جوزاء بألم شفاف: مهوب هاين علي إن حسن ما يكون عنده على الأقل ذكرى أب..
+
شعاع تجلس معهما على السرير وتحتضن حسن وتنظر معهما للصور
+
وتحاول أن تبتسم: بس تدرين مثل زين عبدالله الله يرحمه ماشفت.. إن شاء الله حسون يطلع يشبهه
+
جوزاء بعتب: أحسن.. عشان ما يطلع مثل أمه الشينة… اللي كل الناس أحلى منها
+
شعاع همست بحرج وهي تعرف سبب تلميح أختها:
+
جوزا أنتي والله مافيش قصور وكلش جاذبية..وهذا الشيء أنتي عارفته زين
+
بس هذاك اليوم يوم عذربتي في وضحى.. طلعتيني من طوري
+
جوزاء بنبرة عدم اهتمام موجوعة: يا بنت الحلال أدري أني مافيني قصور اللهم لك الحمد والشكر ولا عندي أي شك في شكلي..
+
بس الحق يقال عبدالله الله يرحمه كان أحلى مني ..
+
قوية المرة تقول إن رجّالها أحلى منها.. بس هذي الحقيقة
+
شعاع تقاطعها بحزن: بلاه ذا الموضوع.. وهاتي الألبوم أدسه.. وانسي..
+
يعني اللي يشوف حرصش على عبدالله بذا الطريقة.. يقول إنش كنتي تموتين عليه..
+
ترا كل اللي قعدتيه معه ما يجون شهرين حتى.. مالحقتي حتى تعرفينه الله يرحمه
+
جوزاء تقف لتنظر لنفسها في المرآة الطويلة وتهمس بوجع:
+
أول ما شفت عبدالله ليلة عرسنا توترت من وسامته اللي زيادة عن الحد
+
قلت صحيح أنا حلوة وماشي حالي بس هذا المفروض يأخذ ملكة جمال.. ليش أمه اختارتني؟؟
+
بس عقب قلت.. يمكن عشان ستايلي يعجب العجايز.. بس هو ما ظنتي عجبه شيء فيني
+
اقتربت من المرأة اكثر وهي تضيق بيجامتها الحريرية عليها لتتضح تضاريس جسدها المثالية لدرجة الخيال المستعصي على كل تصور
+
والتي لم تتأثر مطلقا بإنجاب طفل
+
شعاع بمرح: تكفين رخي البيجامة.. أنا أختش ما أستحمل.. أشلون اللوح اللي كنتي ماخذته
+
ثم أردفت بجزع: يا الله لا تأخذني.. الله يرحمه.. اللهم أني استغفرك وأتوب إليك
+
جوزاء أكملت وكأنها تحادث نفسها: أحيان كثيرة كنت أشك إنه يدري لو أنا موجودة معاه في الغرفة.. أقول يمكن لو أنا كرسي كان انتبه لي
+
والمشكلة إنه الناس كلهم يقولون عنه: رجّال مافيه منه اثنين..
+
وين الرجّال هذا؟؟ أنا عشت مع لوح بكل معنى الكلمة..
+
الشهرين اللي قعدتهم معه حتى سالفة وحدة على بعضها ماقالها لي..
+
أحيانا كنت أشك في قواه العقلية.. بس عقب صرت أشك في عقلي أنا
+
لأني كنت أشوف هله باقي ويحطونه فوق رووسهم من كثر ما يحبونه ويحترمونه..
+
ومعهم يكون شخص ثاني.. شخصية غير وطلاقة في الكلام.. واحد ثاني مذهل
+
لكن يتسكر علينا باب.. يرجع لوح مرة ثانية.. يتجاهلني كأني غير موجودة
1
حاولت بكل الوسائل أثير أنتباهه.. ألفت إعجابه.. أحسسه إنه على الأقل فيه مخلوق بشري معه في الغرفة.. بس بدون فايدة
+
لا وتخيلي عقب ذا كله.. أحاد عليه 8 شهور كاملة…
+
يعني الأخ ما تنازل ولمسني إلا مرتين وأخرتها أتورط بحمل يمدد الحداد الدبل
+
ثم التفتت خلفها وهي تنظر بحنان لحسن الذي نام : بس أحلى ورطة في حياتي الله يخليه لي
+
شعاع بألم وهي تحتضن عضد جوزاء وتسند خدها لكتفها: جوزا ما تتعبين من ذا السيرة
+
جوزاء بألم عميق وهي تمسح على خد شعاع: خليني أفضفض.. أنتي الوحيدة اللي تدرين…
+
أحيان كثيرة والله احتقر نفسي على أفكاري الغبية والمريضة
+
بس شاسوي يا اشعيع غصبا عني.. غصبا عني.. ما أدري ليه أتصرف كذا
+
والله إني صرت أكره نفسي من تصرفاتي
+
مثلا والله أدري كاسرة مالها ذنب عشان أكرهها..
+
بس والله ما استحملت خالات عبدالله اللي دايم يقطون كلام وظنهم إني ما أسمع
+
(من جدش تأخذين هذي لعبدالله خيرت عيالنا.. شوفي بنت خالها.. هذي اللي المفروض تأخذ عبدالله ..)
+
في أحيان كثيرة أسأل نفسي لو عبدالله خذ وحدة جمالها صارخ مثل كاسرة.. وحدة تملأ عينه
2
يا ترى كان اللي صار صار
+
ما تتخيلين يا شعاع الشهور الثمانية الحداد اللي قعدتها في بيت هله.. كانت عذاب..عذاب.. حتى العذاب شوي على اللي شفته
+
لولا نجلاء مرت صالح كانت تخفف علي أو كان استخفيت
+
الحزن والذنب خنقوني.. كل ما حطيت عيني في عين عمي أو عمتي.. حسيتهم يحملوني ذنب اللي صار عبدالله
+
ثم انهارت في بكاء مفاجئ بعد تماسكها الظاهري: وجهي كان نحس عليه.. أنا نحس.. نحس
+
ليتني ماخذته .. ليتني ماخذته وقعد عايش لهله
2
****************************
+
مازال يدور في غرفته..
+
يغتاله السهد الليلة ووطأة الذكريات
+
لا يعلم لِـمَ كان لديه أمل ما أنها قد ترد عليه بأي شيء الليلة..
+
فهو وصل منتهاه.. منتهاه!!!
+
عاجز عن النوم.. مثقل بالتفكير..
+
يتمنى لو ينام قليلا فقط.. فلديه عمل غدا
+
أصبح كل شيء مملا بعيدا عن ألقها.. بعد أن كان يصحو على رفرفة قبلاتها كفراشات معطرة حطت على وجهه..
+
هاهو يصحو وحيدا على صوت منبه مزعج أشبه بصفير الموت
+
بعد أن كان يرتدي ملابسه وعيناه تطاردان بولع حركتها الدؤوبة في الغرفة وهي ترتب فوضاه
+
يرتديها وهو يتحاشى النظر لأي شيء قد يثير ذكراها مع هبوب نسمات الصباح التي تذكره بها قسرا..
+
فهذا النسيم العليل الموجوع يمر على وجهه بحنان مشفق.. مثلها!!
+
لماذا انقلبت هكذا للنقيض؟؟
+
لماذا؟؟
+
يشعر أنه يختنق يختنق.. سينفجر من غرفته.. ومن كل ذكرياتها الموبؤة.. من رائحتها المعطرة الشفافة التي تملأ جنبات الغرفة
+
لتشعل شوقه الملتهب..
+
أي ألم هذا؟؟
+
كل شيء يخصها هنا.. إلا هي.. إلا هي!!
+
طرقات حازمة على باب غرفته
+
يهتف بهدوء ظاهري: ادخل ياللي عند الباب..
+
يدخل فهد العائد لتوه من بيت عمه راشد..
+
ينظر لصالح الجالس على الأريكة ويقول بهدوء مرح: شكلك كنت تبي تسبح يأبو خالد..
+
صالح ينتبه أنه يجلس بدون فانيلة..يقف ليتناول له واحدة أخرى من الخزانة
+
يرتديها وهو يقول بذات الهدوء الظاهري: لا كنت ألبس يوم دخلت حضرتك
+
فهد يتقدم خطوتين للداخل ويهتف بابتسامة: وينك ماحضرت عشاء غانم
+
فاتك خوش عشاء
+
ثم أردف بخبث مرح وهو يغمز بعينه: شغل أم خالد حجت يمينها..
+
حينها صرخ صالح بثورة مفاجأة مزقت هدوءه الظاهري: فهيدان أذلف تراني ماني بناقص ملاغتك الليلة..
+
فهد مازال يبتسم: أفا أفا يأبو خلودي تونا اليوم الصبح حبايب.. صلوحي وفهودي..
+
صالح من بين أسنانه: أقول فهيدان أذلف.. ترا أبليس راكبني الليلة.. فارق قدام أخلي وجهك شوارع
+
حينها غادر فهد وهو يرسم على وجهه علائم الغضب المصطنع..
+
أغلق الباب خلفه بخفة.. ولكنه عاود فتحه وهو يطل عبر الباب نصف إطلاله وهو يضحك:
+
ما ألومها أم خالد هجت..
+
قالب وجهك ترّوع لك قبيلة..
+
تيك إت إيزي بيبي..
+
وقبل أن يرد صالح عليه أغلق الباب خلفه وصوت ضحكاته مازال يتعالى.. بينما تعالى غضب صالح المكتوم:
+
هذي أخرتها يا نجلاء.. خلتيني مضحكة حتى للبزارين..
+
زين أخرتش بترجعين وبيطخ اللي في رأسش..
+
بعد عدة دقائق صامتة.. قفز ليرتدي ملابسه.. ويلتقط مفتاح سيارته.. ويخرج دون غترة حتى..
+
دار في الشوارع طويلا.. قبل أن يقف في شارع فرعي.. يتناول هاتفه ويرسل لها رسالة:
+
“أنا الليلة بايعها بايعها
+
لو ما رديتي علي بأي شيء.. أي شيء
+
والله لأجيكم لين البيت..
+
وتراني أصلا في سيارتي.. دقيقتين وأكون عندش”
+
في وقتها كانت نجلاء.. تستعد للنوم بعد أن عادت من غرفة ولديهما وحصنتهما بالأذكار وأطمئنت على وضعهما
+
رفعت رأسها عن المخدة وهي تشعر بتوجس.. “يالله مسا خير”
+
قرأت الرسالة.. تنهدت بعمق.. وكتبت له:
+
“أبو خالد الله يهداك.. أمسي
+
إذا أنت فاضي.. انا وراي قومة الصبح مع عيالك”
+
“وهذا اللي الله قدرش عليه تقولينه
+
لو قدرت أمسي كان أمسيت.. ما أنتظرت أوامرش”
+
“لا تنبشني يأبو خالد
+
خلني ساكتة”
+
“اشتقت لش
+
ما تحسين أنتي؟؟
+
ويش اللي يمشي في عروقش.. ماي؟؟
+
اشتقت لش.. حسي فيني خلاص
+
والله ما أقدر أصبر من غيرش ومن غير العيال”
2
حينها تنهدت نجلاء بعمق وهمست لنفسها بغيظ : زين يالرومانسي.. تبي كلام حلو.. حاضرين
+
أرسلت له:
+
” جرحتني جرح(ن) كبير(ن) وباين
+
جرحتني جرح(ن) يمس
+
هنت الغلا كله وعيني تعاين
3
بعت الهوى وأقفيت تنعي حطامه
+
لا تحسبنّي وإن قسى الوقت لاين
+
لا والذي يحصي بعلمه أنامه
+
إنسى غرامي ثم فكّر وعاين
+
شف موقعك وإرسم لحدّك علامه
+
حدّي رسمته وأصبح اليوم باين
+
( حب الكرامة ) “
+
لم يرد عليها.. وشعرت نجلاء بتوتر غير مفهوم.. وحزن أكثر استعصاء على الفهم..
+
“جرحته.. أدري إني جرحته.. بس هو اللي جابه نفسه”
+
بعد خمس دقائق.. وصلها رسالته:
+
“يا بنت عمي.. أنتي والله على قولت المثل:
+
سكت دهرا ونطق كفرا
+
.
+
.
+
طلي على حوشكم”
+
نجلاء شعرت بالرعب يتصاعد في قلبها.. خرجت تتسحب من غرفتها للصالة العلوية التي تطل شبابيكها الكبيرة على باحة البيت
+
شعرت بالرعب وهي تتعرف سيارته التي تقف في منتصف الباحة
+
اتصلت به فورا وهي تهمس برعب من بين أسنانها:
+
وش جايبك هنا يالمجنون؟؟
+
نظر صالح للأعلى رأى خيالها بين الستائر.. نزل من سيارته..
+
ليقف بجوار السيارة ويسند جنبه اليمين على مقدمة السيارة ويهمس بثقة: انزلي… بأروح لمقلط النسوان.. لازم نتكلم
+
نجلاء شعرت بألم غير مفهوم وهي تراه يقف بدون غترة..
+
طوال عشرة السنوات الماضية.. يستحيل أن ينزل من غرفتهما حتى لداخل البيت دون غترة
+
فأي هم هذا اللي أنساه إياها؟!!
+
ولكن انفعالها التهم أي مشاعر اخرى: وش كلامه.. أنت عارف إني أبي الطلاق.. الحال بيننا هذا ما يمشي
+
ولا هذي أول زعلة تصير بيننا على سبت ذا الموضوع.. كل مرة تقول آخر مرة.. بس ما تتوب من تجريحي
+
صالح كأنه لم يسمع شيئا وهو يرفع عينيه للأعلى ويهمس بنبرة أمر صارمة:
+
أقول انزلي يأم خالد.. انزلي قدام أطلع لش
+
شعرت نجلاء برعبها يتصاعد لتنحدر لهجتها للرجاء:
+
صالح تكفى.. روح.. غانم في غرفته وابي وبعد.. لو حد منهم شافك.. وش بيكون موقفك؟؟
+
صالح بثقة : أنا ما سويت شيء غلط.. أبي أكلم مرتي.. اقصري الشر وانزلي لي قدام اطلع لش
+
رعب نجلاء يتزايد.. تعلم أنه قد يفعلها: تكفى صالح لا تفضحني
+
تعال بكرة الصبح.. خلاص والله بأقعد معك ونتكلم
+
صالح بغضب: كذابة.. صار لي 4 شهور ما شفتش يالظالمة.. وكل ما طلبت أشوفش تحججتي بألف حجة..
+
نجلاء بغضب مغموس بخجل عميق: قومي شين فعايلك تيك المرة.. خوفتني أقابلك مرة ثانية.. أنت واحد ما تتحكم في نفسك
+
رغم غضب صالح.. ولكنه ابتسم لمجرد الذكرى.. ليهمس بخبث مغلف بنبرة خاصة:
+
يومش خايفة ومستحية كان جبتي أمش معش..
+
والله ما حد قال لش تجيني بروحش في المقلط.. لا وتردين الباب بعد
+
أنا بصراحة فهمتها دعوة.. ولو جيتي للحق هي ما تتفسر إلا كذا
+
وبعدين واحد ميت من الشوق لمرته.. وش تتوقعين يسوي.. يقول لها مساش الله بالخير من بعيد
+
ليش مكبرة السالفة.. ترا كلها إلا كم بوسة..
+
نجلاء تغمض عينيها وتضغط جانبي رأسها من شدة الخجل…
+
مازالت رغم مرور السنوات تحتفظ في داخلها بروح صبية مغلفة بحياء مهذب..
+
الروح التي لطالما أسرت صالح وأذابت جوانبه بحياءها الرقيق
+
لتصرخ من بين أسنانها:
+
قليل أدب.. وما تستحي
+
توكل على الله و لا تجي بكرة
+
والله لما تحرك سيارتك الحين إني لأقول غانم يتصرف معك
+
حينها رأته يميل بجسده أكثر على مقدمة السيارة وهو يستند بثقله عليها.. ويهمس بثقة ساخرة:
+
تخوفيني بغنوم البزر… خليه ينزل.. أنا أتناه
+
إذا أنتي بايعة أخيش.. خليه ينزل..
+

