رواية قارئة الفنجان الفصل السابع 7 بقلم مني لطفي – تحميل الرواية pdf

قارئة الفنجان
+
الفصل (7)
+
بقلمي/احكي ياشهرزاد(منى لطفي)
+
كانت تقف بداخل غرفة وحيدتها تمسك ببرواز صورتها الموضوع على منضدة الحاسوب الشخصي، ارتسمت ابتسامة حانية واغرورقت عيناها بالدموع وهي تهمس بصمت:
+
– ربنا يهدي سرّك يا قلبي، ويصلح لك حالك، ويرزقك بابن الحلال ويفرحني بيك وبولادك قبل ما أموت…
+
تعالى صوت قلق من خلفها ينادي:
+
– كريمة!!….
+
مسحت بيدها دمعة انسابت على وجنتها التي مهما تقدم بها العمر فهي لم تفقد نضارتها، ولا تزال تحمل مسحة من جمال فاتن كانت عليه ذات يوم في شبابها، ذلك الجمال الذي أورثته لصغيرتها، اعتمدت ابتسامة صغيرة على وجهها ووضعت الصورة مكانها فوق المنضدة قبل أن تلتفت الى زوجها ورفيق دربها بل وحبيبها الوحيد والأوحد والذي اقترنت به بعد قصة حب عاصفة كانت حديث القاصي والداني في جامعتهما في ذاك الوقت، حيث كانت لا تزال طالبة بالفرقة الأولى في كلية التجارة في حين كان يدرس هو في السنة النهائية، وفي أول يوم لها بالجامعة وما إن خطت أولى خطواتها وهي تحتضن حقيبتها الى صدرها وتدلف بقلب مرتجف من السعادة والترقب، فها هي قد أصبحت من روّاد الجامعة، حتى اصطدمت عيناها بذلك الشاب الفتيّ، ليتقدم منها معرّفا عن نفسه أنه “عز الدين مختار الراوي”.. طالب بالسنة النهائية بالكلية ورئيس اتحاد الطلبة لثلاث سنوات متواصلة، ويقوم هو ورفاقه بتعريف الطلبة الجدد بأقسام الكلية وأماكن المحاضرات، وقتها علمت… بل وتيقنت.. أن “عز الدين مختار الراوي” لن يمر في حياتها مرور الكرام أبدا!!!… وصدق حدسها، فكلما مرّت الأيام كلما تعمق شعورها هذا، حتى فاجئها ذات يوم حينما رآها تقف مع معيد لها كان قد أوقفها ليسألها عن أمر ما، يومها.. انفجر في وجهها، يسأل، يحقق، و…. يهدر غاضبا!!.. وصدر فرمانه السامي الأول – والذي لم يكن الأخير بل توالت الفرمانات تباعا – لا للوقوف مع أي شاب أو رجل أو كهل حتى، وكان ذلك بعد محاضرة طويلة لوقوفها مع ذلك المعيد وقتها، حينها انفعلت عليه، وتعمدت استفزازه والضغط عليه، فقد كانت تراها جليّة في عينيه، وأكثر ما كان يثير غيظها هو امتناعه عن التصريح بمشاعره الحقيقية اليها، خاصة وهي ترى أولئك الحمقاوات تتهافتن عليه بطوله الفارع ووجهه الرجولي الوسيم، وقفت أمامه تهتف به أن لا دخل له بها أو بشئونها وأنها ومنذ اللحظة خارج نطاق اهتماماته!!..
+
ارتسمت ابتسامة شاردة على وجهها وهي تطالع عيني حبيبها الذي بادلها النظر بتساؤل قبل أن يدنو منها رويدا رويدا، فيما سافرت بعقلها الى تلك اللحظة التي تغيرت بعدها حياتها مائة وثمانون درجة، لحظة أن هدر فيها بعنف بالغ أن تنسى هذا الهراء وأنه أبدا لن يسمح لها بأن تبتعد عنه ولو لبضعة أمتار قليلة، فوقفت أمامه تجابهه بتحد بالغ متسائلة”لما؟.. وكيف؟”.. ليقترب منها حتى تلفحها أنفاسه الساخنة ويجيبها وهو يغوص داخل عسلي عينيها “لأنه ما من عاقل يترك روحه تغادر جسده، فهي الروح بالنسبة له، فهو.. يحبها!!. وكيف؟.. الأمر سهل وبسيط… سيتقدم لخطبتها من أبيها، وهي…. ستوافق!!!”… وإن كان ينتظر أن يرى الفرحة تتقافز في عينيها فقد خاب ظنه، فقد أغاظها أن يعتبر موافقتها أمر مسلّم به، فأجابته ببرود ظاهري أنها ستفكر قبلا في أمر رغبته تلك، وان كانت تناسبها أم لا، قبل أن تقوم بتحديد موعدا له مع والدها، لينهي هو هذا الجدال العقيم بالنسبة له بكلمة واحدة.. خرجت من أعماق قلبه لتمس وبقوة شغاف قلبها “أحبك!!”.. وقتها شعرت بنفسها تذوب من مجرد أحرف من شفتيه، لتحمر وجنتيها خجلا وتهرع راكضة بخطوات متعثرة، فيما يلاحقها هو بنظرات عشق سرمدي صافي، وفي المساء كان حاضرا لديهم بعد أن قام هو بالاتصال بوالدها يستأذن في الحضور مع والده، والذي يعمل كمديرا عاما لإحدى المصالح الحكومية، وفي وسط عائلي بهيج، ارتاحت أفراد العائلتين لبعضهم البعض، وعد والدها والد حبيبها بأن يوافيه بالرد على طلبه بعد السؤال عنه ذاكرا أنه يقصد بالسؤال ليست الحالة المادية ولكن الأخلاق والسلوك، ولو أنه يراه رجلا بحق، ولكنه يريد التأكد فابنته أمانة يريد التأكد ممن سيصون تلك الأمانة، ويتكلل حبهما بالزواج في غضون أشهر، فحبيبها المجنون لم يستطع الصبر، وصمم على أن تتابع دراستها وهي في بيته، وبمبلغ نقدي كان والده قد أودعه في دفتر للتوفير خاصّا به منذ ولادته استطاع استئجار شقة معقولة في منطقة جيّدة، وتم الزفاف، لتبدأ حياتها الجديدة، وقد رفض حبيبها أي مساعدة مالية من والدها مع العلم أن الأخير مقتدر ماديا وقد أخبره أنه ليس لديه سوى ابنتيه “كريمة الكبرى وفاطيما”.. وأنه يريد لهما العيش بهناء، ولكنه رفض مخبرا الوالد أن زوجته لن تُضام أبدا، ليعلو في نظر حماه أكثر وأكثر، وما إن تخرّج من كليته حتى سارع بتعيينه في شركته التجارية للاستيراد والتصدير، بعد ممانعة من عز الذي كان متخوفا أن يكون مجرد تعيينه له ما هو إلا مساعدة مقنعة، ولكنه يقنعه باحتياجه له وأن يشعر بأنه ابنه الذي لم يشأ الله له إنجابه، وتتوالى الايام.. ويثبت عز للجميع أنه على قدر المسئولية، وبعد وفاة والد زوجته وبعدها بأشهر لحقته والدتها حزنا عليه، كانت الشركة من نصيب البنتين، فقد كتبها لهما والدهما حال حياته بيعا وشراءا، ليمسك عز بزمام الإدارة، وتكتفي زوجته وشقيقتها بأرباحهما السنوية التي تتزايد عاما بعد آخر، وفي هذه الأثناء كانا قد منّ الله عليهما بوحيدتهما “قطر الندى”.. تلك الصغيرة والتي منذ قدومها كانت فرحتهما سوية وثمرة حبهما الطاهر النقي، ولم يشأ الله أن يرزقا بأبناء آخرين، فالحمل فيه خطورة شديدة على حياتها، وقتها أخبرها عز أنه يملك الدنيا بما فيها، فقد رزقه الله نِعم الزوجة والذرية بإذنه تعالى الصالحة، وسارت مركب الحياة بهم، حتى تعرضت ابنتها لتلك التجربة الأليمة، ألا وهي فقدان حبيبها.. “معتز”، لا تنكر كريمة أن معتز قد ترك فراغا كبيرا لدى الجميع، لم يتعرف عليه إنسان إلا واستطاع الحصول على حبه بسهولة، معتز كان مثالا للإنسان التقيّ، الحيي، الخلوق، كان يعامل ابنتها كالأميرة، لم يُغضبها يوما، ولم يتذمر من دلالها عليه أبدا، بل إنه كان يغدق عليها من الدلال ما كانت هي أمها تتشاجر معه بسببه!!.. وكثيرا ما حذرته من إفراطه في تدليلها، وكان وقتها يبتسم وكأنه كان يشعر بدنو أجله قائلا لها بأن العمر قصير، وهو لا يريد أن يرى ولو لمحة حزن في عيني حبيبته، بل وصغيرته، فهو من ربّاها، وكبرت على يديه، لتنهار بعد فاجعة موته، وبعد شهور عصيبة مَنّ الله عليهم بشفائها وعودة قدرتها على النطق، ومن وقتها وهي مرعوبة من رفض ابنتها المستمر لكل خاطب يطرق بابها، خاصة بعد الوعكة الصحية الأخيرة التي ألمت بزوجها فقد ازداد خوفها، فالأجل يقترب، وابنتها ليس لها أخوة أو أخوات، وهي لا تريد تركها بمفردها في هذا العالم، تريد الاطمئنان عليها، تدعو الله في كل حين ووقت أن يرزقها بمن يملأ قلبها محبة، وأن يعوّضها فقدانها لمعتز خيرا…
+
تكلم عز الدين وقد انتبه الى شرود زوجته الواضح بل وغرقها في التفكير العميق:
+
– مالك يا كريمة؟… من ساعة ما دخلت وانتي في دنيا غير الدنيا!!…
+
رفعت كريمة عينيها إليه، ليسبح في لونهما العنبري الغريب، والتي أورثته لصغيرتهما، فندى صورة مصغرة عن أمها في كل شيء، وإن كانت قد ورثت صفة العناد الشديد منه هو، فهو لا ينكر أن كريمة قد عانت معه في بداية حياتهما، ولكنها استطاعت بفطرتها وذكائها وحبهما الشديد من احتوائه، ليحاول هو بدوره التخلي عن هذه الصفة ولكن كثيرا ما تخونه وتتملك منه فتضطر كريمة صاغرة الى الرضوخ لها فهي تحبه على أي وضع كما تصرّح لها وقتها!!..
+
كريمة بهمس خفيف:
+
– قلقانة على ندى أوي يا عز، أنا عارفة أني اتسرعت في كلامي معها، ولؤي ممكن يكون مش في دماغه خالص كلامي أنا ومامته، لكن أنا لما لاقيتها بترفض مجرد المبدأ، ولسّه مصرّة على رفضها المطلق لموضوع الجواز دا مقدرتش أسكت، يا عز دي بنتي، يعني حتة مني، مقدرش أكون مرتاحة وحتّة مني موجوعة يا عز!!…
+
احتواها عز بين ذراعيه لتستند برأسها على صدره الواسع وقال بينما سالت دموعها صامتة:
+
– يا حبيبتي ما تقلقيش على ندى، ندى بنتنا متربية كويس والحمد لله، وبتراعي ربنا في كل خطواتها، واللي بيحفظ ربنا.. ربنا بيحفظه وبيكون جنبه في كل خطوة، ما تقلقيش عليها، أنا متأكد ان ربنا شايلها الأحسن، ندى صبرت واحتسبت، وجوايز السماء للصابرين ربنا بفضله هيجازيها خير عشان صبرها واحتسابها، محدش عارف الخير فين يا حبيبتي، المهم اننا ندعي ربنا انه يهديها ويعملها الخير دايما، حتى لو الخير دا في الظاهر لينا احنا كبشر أنه مش اللي احنا عاوزينه، لكن مش الحل أبدا هو الخناق، وانتي عارفة ندى كويس أوي وعارفة هي أد ايه عنيدة وبتتشبث برأيها، طيب أقولك على حاجة.. يمكن أول مرة أقولهالك… أنا كنت خايف من ارتباطها بمعتز الله يرحمه!!..
+
رفعت كريمة عينين تحملان بقايا من دموعها وعقدت جبينها وهمست تتساءل باستغراب وهي تمسح آثار الدموع التي سالت في صمت على وجهها:
+
– خايف؟.. ليه يا عز؟..
+
تنهد عز بعمق قبل أن يجيبها قائلا:
+
– أنا منكرش ان معتز الله يرحمه كان راجل الواحد يأتمنه على بنته، لكن كان بيتغاضى كتير عن تصرفات ليها أنا كأبوها ما كنتش بسكت عليها!!.. كانت بتدلع زيادة عليه، وهو عمره ما وقف لها ورفض لها طلب، بالعكس… دي أحيانا كانت بتوسّطه بيننا عشان أوافق لها على حاجة أنا رافضها!!.. في رأيي انه شخصية ندى كانت عاوزاه يكون أكتر سيطرة، وبارد شوية، عشان يقدر يستحمل دلعها من غير ضعف، أنا مش بقول ان بنتي متدلعة وأنانية وكدا.. لا.. بالعكس، ندى عندها أطيب قلب ممكن تقابليه، فاكرة وهي في المدرسة كانت بتيجي من غير ساندوتشاتها ولما تسأليها أكلتيهم تقولك انها أعطتهم للدادة عشان غلبانة معهاش فلوس تجيب أكل؟.. ومرة تانية لبنت البواب بتاع العمارة، ومرة أكلِّتهم للقطة!!!!… ندى مشكلتها في عنادها، لما بتعند بتكون صعب أوي، عشان كدا أنا كتير كنت بتكلم في كدا مع معتز الله يرحمه، أنه يشد عليها شوية، وخصوصا انها بتحبه وأنا عارفها ما تستحملش حد بتحبه أنه يكون زعلان منها..
+
سكت قليلا ثم أردف بهدوء:
+
– شوفي.. معتز الله يرحمه مات، والكلام دا دلوقتي مافيش فيه فايدة، المهم أننا ندعي لها، ونوجهها، ننصحها، من غير تجريح ولا هجوم، لأنها أولا كبرت.. بنتك ما شاء الله 28 سنة دلوقتي، وإذا كنا عمرنا ما أجبرناها على حاجة وهي صغيّرة هنعملها دلوقتي؟.. وتاني حاجة بقه أنه الضغط عليها هيخليها تعاند أكتر.. ادعي لها حبيبتي، ربنا يهديها وينوّر لها بصيرتها…
+
هتفت كريمة من أعماقها:
+
– يااااااا رب.. يا رب اهديها يا رب…
+
*******************************
+
كان يسترق النظر اليها من طرف خفي بين كل فينة وأخرى وابتسامته تكاد تفضحه من تلك.. الطفلة المشاغبة التي تقبع بجواره!!!!…
+
كانت تجلس عاقدة ذراعيها بشدة، وتقطب بين حاجبيها بعمق فيما تزم شفتيها بحنق طفولي واضح!.. كاد ينقلب على ظهره من فرط الضحك الذي يهدد بالانفجار أمامها وهو يراها على هذه الهيئة الطفولية ولكن في نفس الوقت.. اللذييييذة!!..
+
وقف في إشارة المرور الحمراء، متظاهرا بالبرود هو الآخر، ومتسائلا في داخله في ذات الوقت.. ترى بما تفكّر؟.. لم تلتفت إليه ولو بالخطأ طوال مدة جلوسها بجانبه، هذه الفتاة تثير لديه تساؤلات عدة، وهو الأمر الذي يثير دهشته وتساؤلاته، فهو لم يحدث له أبدا أن أثارت انتباهه أيّة أنثى من قبل، بل من كانت تنال إعجابه وكان يعلم بخبرته أنها ليست غرًّا ساذجة كان يتخذ معها أقصر الطرق بعبارة واحدة “تتجوزيني؟.. عرفي.. أنا مش بتاع أسرة سعيدة وعيال وكلام من دا!!”… وكنّ يوافقن بعضهن بعد ممانعة بسيطة وأخرى بعد تظاهرها بالحنق لهكذا طلب كـ.. مايسة مثلا ثم سرعان ما يقبلن حينما يكتشفن أن رفضهن لم يهز فيه شعرة واحدة!!!..
+
اختلس اليها النظر بينما لم تكلف هي عناء نفسها بالنظر اليه ولو بطرف عين حتى، لينتبه بعدها على أصوات أبواق السيارات فهو يعيق السير بعد أن سمحت الاشارة بالمرور بلونها الأخضر، لينطلق بالسيارة مواصلا سيره إلى…..!!..
+
ضمّ ما بين حاجبيه بشدة، فقد اكتشف أنه لا يرغب لهذا الطريق أن ينتهي، كان فضوله تجاهها يثيره وبقوة ليعلم جواب سؤاله الذي ما انفك يتردد داخله منذ أن سرد له أنور حكايتها مع شقيقه الراحل معتز.. ألا وهو ” هل أحبت معتز بالفعل بمثل هذا العمق؟.. ما الذي يميّز معتز عن غيره لدرجة أن ترفض أي فرصة للاقتران بآخر فهي بالفعل… مقترنة بحبيبها حتى وان غاب بجسده عنها؟!!!… هل هناك حقًّا ما يسمّى بالحب؟!!”…. لترتفع طرف شفته العليا في شبح ابتسامة ساخرة وعقله يردد بداخله:
+
– حب؟.. الحب د كدبة كبيرة، قناع بيغلفوا بيه الرغبة بمسمى أكتر شياكة اسمه… الحب!.. فوووء يا جو.. اوعى تخليها تشدّك لدهاليز هتُّوه فيها، ابعد عنها، دي واحدة عايشة على الذكرى، خلِّيها في ماضيها وخلِّيك أنت في الحاضر بتاعك…
+
ليهمس صوت داخليا يقول:
+
– انت بشر مش آلة، وواحدة زي قطر الندى نادر لو قابلتها، دي فرصة عشان تسترد آدميتك اللي ضاعت بين جحود وظلم الأهل.. أقرب الناس اليك، قرّب بس بحذر!!..
+
ليجيب عقله ناهرا بحزم:
+
– لو قربت مش هتعرف تبعد، قربها عامل زي الرمال المتحركة، كل ما قربت بتكون عاوز تقرب أكتر، وانت شوفت بنفسك، في الكم مرة اللي اتقابلتوا فيها كنت عاوز اللقاء يتكرر حتى لو كدبت على نفسك وقلت غير كدا، إبعد يا جو…. إبعد…. وصّلها شركتها وبعد كدا تبعد طريقك عنها خالص، خلّيك زي ما أنت… لا توجع حد ولا حد يقدر يوجعك!!..
+
اشتدت قبضة يديه فوق مقود السيارة وتعمقت عقدة جبينه فيما اشتد فمّه في خط حازم وقد قرر أنه… يكفي!!.. لن يشغل باله بهذه الندى أكثر من ذلك، وما إن يقوم بإيصالها الى وجهتها حتى يبتعد عنها نهائيا، فقطر الندى تهدد سلامه الداخلي وهو ليس على استعداد للزجِّ بنفسه في أمور معقدة، فحياته تعجبه كما هي ولن يغير فيها أي شيء… فقطر الندى ومنذ اللحظة هي بالنسبة لها عميل وفقط، فهي كأنثى جذابة وغامضة قد انتهت بالنسبة إليه تماما!!!!!!!… ولكن ما هي الا برهة قصيرة حتى كان قراره ذاك قد ذهب أدراج الرياح وهو يكاد يحرق بنيران غضبه ذلك الأرعن الذي ما انفك يغازلها بنظراته الوقحة فيما هي ترسم على شفتيها ابتسامة ناعمة بلهاء جعلته يكاد يطحن أسنانه غضبا، بل يودّ لو محا ابتسامتها الغبية تلك ساحقا هذا الثغر الكرزي الذي لم يسبق له وأن رسم ابتسامة ولو مجاملة له هو، في حين ها هي توزع الابتسامات يمينا ويسارا على أحمق مثل هذا!!!..
+
في تلك الأثناء كانت ندى ومنذ اجباره لها على جلوسها بجواره تفكّر كيف لها أن تقتص منه؟.. كان عقلها يعمل كالمكوك لإيجاد الوسيلة المثلى لرد الكيل لهذا الصفيق كي لا يفرض عليها نفسه ثانية، متغافلة وعن قصد منها الالتفات اليه، لتبتسم ابتسامة ناعمة على ثغرها وتبرق عيناها ببريق الظفر وقد ومضت في عقلها الطريقة المثلى لانتقامها منه… لا بد وأن يحترق دمه كما أغاظها وتسبب في اندلاع نيران غضبها بوقاحته وبروده بل وغروره القاتل، فليس هناك ما قد يثير حنقه واستفزازه أكثر من…. عمله!!.. أوَ لمْ يحذرها من التدخل في عمله؟.. إذن… اجهز سيد يوسف للآتي، فأنت من جلبه الى نفسه بعنجهيتك الذكورية الغبية!!!…
+
انتبهت ندى من شرودها على وقوف السيارة لتتطلع حولها فاكتشفت أنهما قد وقفا في محطة الوقود، وكان يوسف قد لاحظ الإضاءة الحمراء الخاصة بمستوى الوقود وهي تنير أمامه في لوحة السيارة، ليعرج على أقرب محطة للوقود بدون أن أي تعليق من تلك المستفزة القابعة في صمت تام كمن نسي الكلام بجواره، ليكتم زفرة خانقة وما إن وقف حتى سارع بالترجل من السيارة فلو مكث بجوارها لثانية إضافية لقام بما لا يحمد عقباه، فآثر النزول متوجها الى الماركت الصغير التابع للمحطة لشراء قارورة من المياه المثلجة كي تبرّد بعضا مما هو فيه من لهيب أشعلته تلك الـ… عنيدة الفاتنة ببرودها المغيظ التي لم تكلف نفسها عناء سؤاله لما يتركها بمفردها دون أي كلام؟!!!!..
+
وفي الحقيقة لم تكلف ندى نفسها سؤاله إلى أين ذهب فهي لا تهتم له من قريب أو من بعيد، وكل ما كان يشغلها هو كيف ترد له الصاع صاعين، إلى أن توصلت الى الحل الذي سيجعله يتميز غيظا، وكيف لا وهو شريف طاهر مخرج الإعلانات المشهور، ترى ماذا سيكون رده عندما تخبره بكل برود أن الأعلان سيء.. وأنها تريده أن يقوم بإعادة تصويره مرة ثانية؟.. كادت تقهقه وهي تتخيل منظره وقتها، لترتسم الابتسامة الناعمة وتلمع عينيها ببريق الشقاوة لحظتها فيراها ذلك الشاب الذي صادف وجوده خارج سيارته التي يقوم أحد عمال المحطة بالكشف على عجلاتها لتلفت انتباهه بابتسامتها الرقيقة وغمازتها التي جعلته لا يستطيع الاشاحة عنها، وكانت قد أنزلت زجاج النافذة المجاور لها فيما كان يقف هو بمحاذاتها تماما،
+
وفي نفس اللحظة كان يوسف يدلف خارج الماركت يحمل كيسا ورقيا لتتسع عيناه بذهول غاضب حال اصطدمت عيناه بذلك الصفيق الذي يغازل بعينيه تلك الحمقاء فيما تبتسم هي ابتسامة لعينة غبية!!!…
+
قطع المسافة القصيرة في خطوتين اثنين لتفاجأ به وهو يفتح الباب المجاور لمقعد السائق بقوة ويصعد الى السيارة وهو يرغي ويزبد ليرمي بما يحمله عليها هاتفا بكل حزم وصرامة:
+
– امسكي!!..
+
لتتلقف الكيس وهي تشهق في دهشة سرعان ما تحولت الى غضب ناري لتهتف بهد بحدة من بين أسنانها:
+
– أنا مش خدامتك عشان ترمي عليّا حاجتك بالشكل دا، وبعدين…
+
قاطعها بنظرة سوداء قائلا بفحيح غضب ناري:
+
– ولا كلمة، وإياك تبتسمي الابتسامة الغبية بتاعتك دي تاني، انتي في الشارع يا هانم، ولا مش واخده بالك من كدا؟..
+
قطبت حاجبيها في ذهول غاضب والتفتت الى الخلف تضع الكيس الورقي قبل أن تهتف متسائلة باستنكار تام:
+
– انت بتقول إيه؟.. وبعدين أنا قاعده في العربية، مش واقفة عمّالة أوزّع ابتسامات على خلق الله..
+
يوسف بسخرية:
+
– بجد؟.. والعربية دي مش في الشارع؟.. إيه.. عاوزة تفهميني انك ما اخدتيش بالك من الأفندي اللي فاكرك بتضحكي له؟..
+
جحظت عيناها بصدمة وهمست بغير تصديق:
+
– انت.. انت بتقول إيه؟.. أفندي مين دا؟..
+
وحانت منها التفاتة الى الخارج بغير وعي منها تتلفت حولها فنهرها بصرامة وعنف:
+
– طيب حاولي تلتفتي بس كدا يا ندى وهتشوفي أنا هعمل إيه؟..
+
همّت بالحديث حينما أدار المحرك واندفع بسيارته ولكن ليس قبل أن يصطدم بمقدمة سيارة ذلك الشاب والذي فتح عينيه واسعا وهو يرى ذلك المجنون وهو يدور بسيارته للخروج من المحطة فيصطدم بسيارته والتي لم تكن تقف في طريقه أبدا بل هي إلى جواره، فما الذي جعله يدور بمقدمة سيارته لأقصى اليمين فيرتطم بمقدمة سيارته ثم يعود الى الخلف ليعدل وجهتها منطلقا خارج المحطة؟!!..
+
لم يستغرق ذلك من يوسف إلا وقتا قصيرا للغاية لا يتعدى ثوان معدودة، بينما صاح به الشاب الحانق عاليا ليتوقف فما كان من يوسف إلا أن أخرج له يده من نافذة السيارة في إشارة وقحة له مواصلا انطلاقه خارج المحطة!!..
+
راقبت ندى ما فعله يوسف بعينين مذهولتين حتى اذا ما اعتدل على الطريق همست به بغير تصديق:
+
– أقدر أعرف ايه اللي انت عملته دلوقتي دا؟.. انت خبطت عربيته؟..
+
يوسف ببرود يخفي أتونا مشتعلا بداخله وهو يسلط عيناه على الطريق أمامه:
+
– مش أحسن ما كنت خبطته هو شخصيًّا؟.. المرة دي قرصة ودن ليه، عشان يتعلم بعد كدا يمشي وعينيه في وسط راسه وما يبصش لأي واحدة خصوصا لما يكون معها راجل، مش مرسوم على الحيطة أنا!!!…
+
ندى بحنق متزايد من ذلك المتبجح المغرور:
+
– هي وصلت لتخبطه هو شخصيا كمان؟.. وعشان إيه؟.. بيبُص!!!.. هو ما اتعداش حدود الأدب ولا فتح بؤه حتى.. يعني من الآخر لا ضايقني ولا قال كلام معاكسة ولا…
+
هدر يوسف بغضب وهو يلتفت اليها وقد فقد انتباهه للطريق:
+
– انت اتهبلتي؟.. معاكسة إيه وكلام إيه؟.. لا هو انتي كمان كنت عاوزاه يعاكسك ويسمّعك كلام من اللي بيقولوه دا؟.. لا وكل دا وانتي معايا؟.. ليه؟.. تكونيش فاكراني سوسن ولا إيه؟..
+
ندى من بين أسنانها المطبقة:
+
– من غير تريقة لو سمحت، وبعدين أنا أقدر أدافع عن نفسي كويس أوي، يعني من الآخر.. وفّر خدماتك… مش محتاجة بودي جارد!!!…
+
كاد يوسف أن يصطدم بعمود الإنارة فضغط على مكابح السيارة بقوة حتى كادت ندى أن ترتطم بالزجاج الأمامي، ولكن أنقذها حزام الأمان الملتف حولها، والتفت يوسف اليها يطالعها بنظرات سوداء وقد تخلى عنه بروده وظهر طبعه الناري بقوة فيما برزت عروق رقبته النافرة دليلا على غضبه الوحشي وهو يهتف بها بصوت يجمد الدم في العروق:
+
– بودي جارد!!!!… انتي فاكرة نفسك مين؟.. انتي واحدة في منتهى الغرور والوقاحة اللي في الدنيا…
1
همست تقاطعه باعتراض ساخط:
+
– إيه؟.. أنا!!!!!
+
هدر فيها بعنف:
+
– أيوة انتي!!.. من أول ما حبيت أوصّلك وانتي بدل ما تشكريني عمّالة تتعاملي معايا زي ما أكون بشحت منك!!.. مش هموت يعني عشان ست الحسن والدلال تركب جنبي، ومضايقتي من أخينا دا مش عشانك انتي لا… لو أي واحدة غيرك بردو كنت هتضايق، دي حاجة كانت هتحصل لو مين اللي راكب جنبي حتى لو.. معزة!!.. أنا راجل دمه حامي وما أحبش حد يبص لواحدة معايا.. وبدل ما تشكريني حضرتك عشان عرّفت الوقح دا مقامه.. لأ… بردو بمنتهى الغرور وقلة الأدب تتكلمي كأني فعلا شغّال عندك أو كأني هنول الرضا السامي لما الهانم تتبسط إني بدافع عنها!!.. سمعتيني قلت إيه؟.. لو مش أنتي اللي جنبي، لو معزة… ها.. معزة كنت عملت كدا بردو!!!..
+
همست ندى بانشداه وهي تطالعه بنظرات مصعوقة:
+
– معزة!!!!!!!…
+
لتفيق من ذهولها تردف صارخة:
+
– انت اتجننت؟.. بتشبهني أنا بمعزة؟!!!!!
+
ليجيبها بغرور جعلها تقبض على يدها الصغيرة محاولة التحكم برغبتها في صفعه لمحو هذه الابتسامة الساخرة وهو يقول فيما ينطلق مجددا بالسيارة:
+
– لا طبعا، العكس هو الصحيح!!..
+
قطبت بريبة ليردف وهو يرمقها بنظرات لا مبالاية:
+
– أنا شبّهت المعزة بيكي!!!!!!!!…
+
فتحت عينيها واسعا وهتفت بغير تصديق مشيرة اليه بسبابتها:
+
– انت مجنون صح؟..
+
رمقها بطرف عينه قبل أن يعيد انتباهه الى الطريق أمامه مجيبا ببرود غليظ:
+
– بيتهيألي الجنون أفضل من الوقاحة وقلة الأدب والتنطيط على خلق الله!!!!…
+
رددت ورائه بعينين متسعتين من الذهول الشديد:
+
– وقاحة وقلة أدب؟!!..
+
أكمل ببساطة مستفزة:
+
– وما تنسيش التنطيط على خلق الله!!!…
+
ندى بتلعثم فيما بدأت حمرة الغضب تزحف الى بشرتها البيضاء ليصبح وجهها أكثر حمرة من الشمندر السكري:
+
– أنا؟!!.. أنا… قليلة.. الـ.. الأدب؟!!..
+
لينفلت لسانها من عقاله وتصرخ به بعنف:
+
– ولا أنت اللي مغرور ووقح ومتعجرف، وفاكر أنه أي راجل بيبص لبنت يبقى بيفكر في شيء سافل؟.. بس هقول إيه ما كل يرى الناس بعين طبعه!!!…
+
اشتدت قبضة أصابعه فوق المقود وهمس من بين هسيس أنفاسه الغاضبة:
+
– أقسم بالله حرف زيادة وهخليك تبلعي كل كلامك.. كلمة كلمة وحرف حرف… وبطريقة فعلا في منتهى الوقاحة وقلة الأدب يا آنسة يا… مؤدبة!!!!!!!!!…
+
همّت بالرد عليه ليحدجها بنظرة صارمة فابتلعت كلماتها مرغمة وهي تتوعده في سرّها أن تحيل أيامه سوادا… فقد آن الأوان ليوسف طاهر أن يوقفه شخص ما عند حدّه، وستكون هي أكثر من سعيدة أن تكون هي هذا الشخص!!!!..
+
وصلا الى البناية حيث مجموعة الندى، ولم يكد يقف بالسيارة حتى سارعت بالترجل منها صافقة الباب خلفها بعنف، ثم مالت على النافذة المفتوحة وهتفت له بأمر:
+
– على فكرة الإعلان سيء جدا، أعتقد سعادات كانت ممكن تعمل إعلان أفضل من كدا بكتير، الإعلان يتعاد، ماذا وإلا غير الشرط الجزائي اللي هتدفعه اسمك وسمعتك يا مخرج يا عظيم هيتأذوا، وأعتقد دول عندك أغلى بكتير من الشرط الجزائي؟!!
ثم اعتدلت واقفة وتابعت سيرها برأس مرفوع في علو وشموخ دون أن تنتظر سماع جوابه فتابعها يوسف بنظرات نارية وتمتم بوعيد بينه وبين نفسه:
+
– ماشي يا.. قطر الندى هانم، غلطتك انك اتعديتي الخط الأحمر عندي، وهعرّفك بجد مين هو يوسف طاهر، وهخليكي تدفعي تمن عنادك ووقاحتك دي غالي، غالي أوي!!!!..
+
************************
+
دلفت الى مكتبها دون أن ترد تحية رنا التي قطبت ولحقتها فهي ولأول مرة ترى ندى على مثل هذه الصورة، فهي ليست فقط لم تلقي عليها السلام بل تبدو وكأن الشياطين تتقافز أمام عينيها، لتدخل في أعقابها سريعا فيما الأخرى تروح وتجيء في المكان تكاد تحفر الأرض أسفلها من شدة غضبها فيما تدمدم بكلمات ساخطة وان كانت لم تستطع رنا سماعها جيدا ولكنها تكاد تقسم أن صديقتها تصب لعناتها على شخص ما في التوّ واللحظة!!!..
+
دنت منها رنا حتى إذا ما وقفت خلفها قالت بابتسامة خفيفة:
+
– إيه يا نادو؟.. مالك حبيبتي؟..
+
ولكنها لم تحر جوابا من ندى التي واصلت تمتمتها الغاضبة، فاقتربت أكثر رنا وهي تتساءل بريبة وان كانت لا تزال ابتسامتها تنير وجهها:
+
– نادو… حبيبتي… مين عملّك إيه بالظبط؟… قوليلي بس وأنا هتصرّف لك معاه…
+
وأيضا لم تجبها الأخرى، لتزفر رنا بضيق واضح وتناديها بصوت عال هاتفة:
+
– ندى!!!!!… إيه اللي حصل؟!!!!..
+
قطبت ندى والتفتت خلفها لتشاهد رنا وهي تطالعها بتساؤل وريبة، فهدرت غاضبة:
+
– اللي حصل أني بتعامل مع أحط أنواع البشر، اللي حصل أنه على آخر الزمن أنا ندى الراوي يتقال لي أني قليلة الأدب ووقحة وبتنطط على مخاليق ربنا!!!!… اللي حصل أنه أنا.. يشبهني بالمعزة!!!!!..
+
فتحت رنا عينيها على وسعهما في ذهول تام، ثم اقتربت من ندى ورفعت يدها تحسس جبهتها قبل أن تنزلها وسط تقطيبة الأخرى وتقول ببساطة:
+
– لا حرارتك كويسة!!!..
+
صاحت ندى بحنق وهي تزيح يد رنا بعيدا عنها:
+
– يوووه يا رنا، مش وقت تريقة خالص!!!..
+
رنا باهتمام:
+
– والله ما بتريق، أنا بس أول مرة أشوفك عصبية أوي كدا، إيه اللي حصل حبيبتي، مين اللي عمل فيكي كدا؟.. وإيه الكلام دا اللي انتي بتقوليه؟…
+
صاحت ندى بسخط:
+
– عاوزة تعرفي مين؟.. الأستاذ اللي المفروض أنه بيشتغل عندي، اللي البيه أنور طالع لي بيه السما، واحد في منتهى الصفاقة وطولة اللسان اللي في الدنيا، أنا عمري في حياتي ما شوفت انسان قليل الأدب زي كدا!!!!
+
ليهدر صوتا غاضبا من أمام الباب الذي نسيته رنا مفتوحا:
+
– احترمي نفسك أنا بقول أهو، انا ما بشتغلش لا عندك ولا عند حد، وكلمة زيادة مش هيحصل لك كويس!!…
+
لتلتفت كلا من ندى ورنا الى مصدر الصوت فتشهق الأولى غضبا بينما الثانية دهشة ووجلا، اقتربت ندى منه وهي تصيح بينما رفعت ذراعها الأيمن تشير بسبابتها الى الباب خلفه:
+
– انت مين اللي أذن لك أساسا انك تدخل؟.. اتفضل حالا اطلع برّه، مش مسموح لك تعتب المكتب دا من غير إذني!!.
+
ليدلف يوسف الى الداخل بخطوات قوية تشي بمدى وحشية الغضب التي تعتري صاحبها، صارخا بها بعنف:
+
– قسما بالله لوما إنك واحدة ست كنت عرّفتك شغلك كويّس!!.. ولآخر مرة بقولك احترمي نفسك، وشوفي انتي بتكلمي مين؟!!!..
+
ندى بنظرة قرف واشمئزاز وهي تشير اليه بذقنها الأبيض الصغير:
+
– هكون بكلم مين يعني؟.. الكونت دي مونت خريستو!!!.. وآخرك أيه يعني؟.. وريني هتعمل إيه؟… وأنا اللي بحذرك دلوقتي.. اخرج برّه، ماذا وإلا هكلّم الأمن ييجوا يشيلوك هيلا بيلا ويرموك برّه الشركة كلها!!!!…
1
وضعت رنا يديها على الوشاح الذي يغطي شعرها وهي تتمتم بيأس:
+
– لا.. لا…. خبطِّي جامد كدا انتي في الحلل يا نادو!!!…
+
لتسمع صوت يوسف وهو يهدر بقسوة وعنف:
+
– وأنا مش هتحرك خطوة واحدة من هنا، وريني أنتي بقه هتعملي إيه، ولو على الأمن أنا بقه اللي هطلب لك البوليس مش الأمن وبس، انتي واحدة صفيقة وما بقاش يوسف إما رفعت عليكي قضية سب وقذف علني وعندي بدل الشاهد عشرة، إيه رأيك بقه؟!!..
+
ندى بابتسامة ساخرة:
+
– زور!!!… طبعا، هنتظر إيه من واحد زيّك، بلطجي من الآخر!!!!!!
+
ليقطع يوسف المسافة التي تفصلهما في عدة خطوات وقبل أن تستوعب ما يحدث كان قد قبض على مرفقها بقوة كادت تكسره، وهتف بها من بين أسنانه المطبقة فيما نفرت عروق رقبته بشدة:
+
– قسما بالله إما اتلميت يا ندى وحطيتي لسانك جوّه بؤك لـَكُون مورِّيك البلطجة على أصولها، إيه رأيك بقه؟!!!!..
+
نظرت اليه ندى وعينيها تلمعان ببريق شديد جعلته يشرد للحظات فيهما بينما لم تنتبه اليه وقالت بتحد سافر فيما تحاول جذب ذراعها من قبضته دون جدوى:
+
– أهي دي البلطجة بجد، تتهجم عليّا في مكتبي وبتهددني، عاوز إيه أكتر من كدا إثبات أنك بلطجي؟!!!
+
تمتمت رنا بخفوت:
+
– لا يا ندى، كدا هياكلك صاحية!!!
1
بينما أردفت ندى بعناد شديد وتشبث بالرأي أشد:
+
– وعتيد الإجرام كمان!!!!!!!
+
لتغمض رنا عينيها وهي تهمس بخفوت:
+
– لأ.. لأ…
2
فوصلها صوت يوسف وهو يقول بحزم قوي:
+
– الستات اللي زيّك اللي ميعرفوش يتعاملوا مع غيرهم غير من طرف مناخيرهم مينفعش معهم غير أسلوب البلطجة دا، المحترم بيخلي غيره يحترمه، احترامك لنفسك بيفرض على غيرك انه يحترمك!!
+
سارعت ندى بمقاطعته هاتفة بتحد:
+
– أديك قلتها بنفسك، المحترم بيفرض احترامه على غيره، وعشان كدا أنا مش بحترمك، لأنك للأسف إنسان….غير محترم!!!!..
1
علمت أنها قد صعّدت الأمور بينهما، وتيقنت أن عقابه آت لا محالة، ولكنه وبدلا من أن يصرخ بها غاضبا أو يكسّر المكتب بما فيه فوق رأسها، تكلم بصوت منخفض آمر موجها حديثه الى رنا وان كانت عيناه لا تزالان مسلطتان على ندى التي وقفت تبادله النظرات بدون أن تشي عيناها بخوفها الذي بدأ يطرق قلبها من ردة فعله المرتقبة:
+
– لو سمحت يا رنا كلمي أنور عشان ييجي نفض العقد اللي بيننا وبينكم، هو شريكي ولازم يكون موجود..
+
رنا وهي تنقل نظراتها بينهما بتردد:
+
– أيوة، بس….
+
هتفت ندى برعونة:
+
– اعملي اللي الاستاذ قالك عليه يا رنا، خلينا نخلص من الشّبكة الهباب دي!!..
+
تراجعت رنا بخطوات متعثرة وهي تقول:
+
– طيب دقايق هكلمه من الموبايل بتاعي، أنا سايباه على مكتبي برّه..
+
وخرجت تاركة الباب خلفها مشرّعا، لينظر يوسف بنظرات غامضة الى ندى ويقول بشبح ابتسامة ساخرة وان كانت متوعدة:
+
– بقه أنا مش محترم؟… طيب وبما إني في رأيي انتي من الأول اللي عمّالة تشوطي فيّا وأنا مستحمل مستحمل وأقول معلهش ناقصات عقل ودين بردو، وبعد دا كله مش نافع، يبقى خلّيني أأكد لك معلومة إني مش محترم دي!!!!!
+
وسارع بالقبض على خصرها بيده الأخرى الطليقة بينما اشتدت قبضته على مرفقها بشدة آلمتها، فهتفت بريبة وخوف واضحين فيما تحاول دفعه براحتيها فوق عضلات صدره بعيدا عنها:
+
– أنت.. أنت هتعمل إيه؟.. انت اتجننت!!.. ابعد عني.. هصوّت..
+
ولكن يوسف كان قد أحكم قبضته على خصرها محتويا إياها بين ذراعيه الضخمتين، وقال بابتسامة عابثة:
+
– أنت مش بتقولي أني مش محترم؟.. وأنا ما أحبش أكسّر كلمة لواحدة ست، عشان تعرفي بس أد إيه أنا لارج أوي مع الستات..
+
ندى وهي تضربه بقبضتها الصغيرتين دون طائل:
+
– هصوّت، أقسم بالله…….
+
ولكنه ابتلع باقي عباراتها الساخطة بين شفتيه معتصرا إياها في عناق أقل ما يقال عنه أنه.. ناريّ!!!!!!…
1
لم يفك أسر ذراعيه بعيدا عنها إلا بعدما كفّت تماما عن مقاومته وقد أعيتها ذراعيها، ليستشعر طعم الملوحة في فمه، ففتح عيناه التي سبق وأغمضهما بعد أن تحول عناقه من عقاب لها لآخر… حنون عليها، وكأنه يربت على كل كلمة نطقها وتسبب في جرحها بها!!..
+
ابتعد عنها ينزلها على قدميها حيث كان قد رفعها لتكون بمحاذاة وجهه، ولكن ساقيها كانتا من الضعف بحيث لم تستطيعا أن تحملاها، فأسرع بإسنادها قبل أن تهوي ساقطة أسفل قدميه، وأسند رأسها الى صدره لتنفجر هي في بكاء حار، بينما.. لا يعلم هو لما لم يبتعد عنها؟!!.. فهي قد نالت ما تستحقه على صفاقتها ووقاحتها معه، ولكنه يشعر أنه لا يريد الابتعاد، بل لو تُرك لرغبته لكان الآن يرمي بها في أتون عناق وراء آخر لعل شوقه الذي أشعلته بيديها الصغيرتين وهي تحاول دفعه بعيدا عنها.. ينطفئ!..
+
انتبهت ندى الى أنها لا تزال بين ذراعيه، فابتعدت عنه شاهقة بعنف، وكان هو أول من تكلم قائلا بصوت خرج متحشرجا:
+
– اهدي يا ندى… اهـ…
+
لترفع يدها عاليا لتنزل بها في صفعة مدوية ولكن يدها تسمرت في الهواء بفعل قبضته القوية عليها، ليسحبها اليه ناظرا الى عينيها لهنيهة قبل أن يقول بوعيد:
+
– المرة دي مش هحاسبك عليها، عشان مقدّر حالتك كويس، أنما لو اتكررت تاني.. وديني يا ندى وما أعبد أني ما هرحمك، أنا همشي، وانتي اتصرفي مع أنور، والعقد هيكمل يا ندى… وابقي اعملي حاجة تانية غير اللي أنا بقوله، وهتشوفي أنا أقدر أعمل إيه!!!!…
+
ثم ترك يدها وهو يطالعها بغموض وأردف:
+
– بكرة تكوني موجودة في الـ location الساعة 10 الصبح، عشان تصوير الاعلان، ما تتأخريش…
1
وانسحب الى الخلف لتفيق من ذهولها وتهتف بحنق:
+
– مش هآجي…
+
يوسف بابتسامة قاسية:
+
– هتيجي يا ندى… وانتي عارفة كويس زي ما أنا عارف أنا أقدر أعمل إيه لو مالاقيتكيش بكرة في المعاد… صدقيني.. حاجة أكبر من الوقاحة بكتييييير!!!!!!!…
1
وغمزها بخبث قبل أن يستدير منصرفا، فكاد يرتطم برنا التي كانت تدلف لتوّها الى الداخل فطالعته بشك وهي تقول:
+
– انت رايح فين؟.. انت مش قلت لي أكلم أنور عشان ييجي؟.. صاحبك غلّبني على ما رد عليّا، البيه كان تليفونه مشغول…
+
يوسف بابتسامة غامضة وهو يرمق ندى الشاحبة بطرف عينه:
+
– لا.. ما أنا خلاص.. اتفقت على كل حاجة مع ندى… سلام…
+
وانصرف تطالعه رنا بشك وريبة، قبل أن تلتفت الى ندى التي كاد وجهها يحاكي شحوب الموتى، فشهقت بهلع واندفعت ناحيتها فيما كانت ندى تتهاوى الى الأسفل ولكن تلقفتها رنا وهي تهتف منادية:
1
– ندى.. ندى….
+
**************************
+
– طمنّا يا دكتور..
+
تحدث طبيب المجموعة والذي طلبته رنا على جناح السرعة مجيبا سؤال أنور القلِق:
+
– خير إن شاء الله يا أستاذ أنور، أستاذة ندى ضغطها واطي شوية بس، ان شاء الله المحلول اللي علقتهولها دا هيجيب نتيجة كويسة.. عن إذنكم وألف سلامة عليها مرة تانية..
+
هز أنور رأسه متمتا بتحية خافتة، قبل أن يقترب من ندى الراقدة فوق الأريكة فيما محلول الدواء الذي أرسل في شرائه من الصيدلية بناءا على أوامر الطبيب الذي أعطاها إياه معلق فوق حامل بجانبها، قال أنور بصوت خافت متسائل:
+
– الحمد لله انك لما كلمتيني أنا كنت فعلا قرّبت من هنا، اللي عاوز أفهمه ايه اللي جرالها؟.. كانت كويسة جدا وهي معنا، والاعلان عجبها أوي، ومشيت وهي مبسوطة، إيه اللي حصل؟..
+
نهضت رنا التي كانت تجلس الى جوارها وأشارت له بالابتعاد عنها قبل أن يقفا في زاوية بعيدة نسبية وتهتف بحنق من بين أسنانها:
+
– يعني مش عارف؟…
+
أنور باستغراب وعقدة بين حاجبيه:
+
– أفهم إيه يا رنا؟..
+
رنا بسخط:
+
– صاحبك يا كابتن، الوقعة المهببة اللي وقعت ندى فيها، شريك السعد والهنا!!.. كان هنا، ومعرفش قالها إيه، مسافة ما روحت أكلمك في التليفون ورجعت لاقيتها منهارة بالشكل دا..
+
تعمقت عقدة جبينه وهو يتساءل بدهشة وحيرة:
+
– يوسف؟!!.. يوسف كان هنا!!.. وليه؟.. وإيه اللي جابه؟..
+
أشاحت رنا بيدها وهي تزفر باختناق وأجابت:
+
– معرفش، كل اللي أعرفه انها دخلت وزعابيب أمشير معها ، ولما سألتها مالها قالت كلام مفهمتش منه حاجة، وفجأة لاقيت الكابتن صاحبك طب علينا واتخانقوا سوا، خرجت أتصل بيك زي ما طلب مني عشان تيجوا تفسخوا العقد اللي بينكم وبين المجموعة رجعت لاقيته طالع واخد في وشّه وما وقفش ثانية وهي بصيت لها لاقيت وشّها أصفر زي اللمونة ولسّه هكلمها لاقيتها وقعت من طولها، ممكن تفهمني بقه فيه إيه بالظبط؟..
+
لمعت عينا أنور وهمس من بين أسنانه بحدة:
+
– اللي هيجاوبنا على السؤال دا هو جو…
+
وفي ثوان كان قد استلّ هاتفه الشخصي من جيبه وضغط بعض الأرقام قبل أن يضع الهاتف على أذنه ويستمع قليلا قبل أن يقول بجمود تام:
+
– جو… إيه اللي حصل بينك وبين ندى بالظبط؟..
+
انزوى بالهاتف بعيدا كي لا يزعج ندى، ليأتيه صوت الآخر يحدثه ببرودة جمّة بأنه لا يدري عمّ يتحدث، فانفعل أنور واحتد عليه هامسا بسخط:
+
– مش عارف يا جو؟.. ندى وقعت من طولها أول ما انت مشيت، وجبنالها الدكتور، ممكن أعرف فيه إيه بينك وبين بنت خالتي؟.. أنا سبق وحذرتك وقلت لك مالكش دعوة بيها ولا لأ؟.. آلو… جو.. آلو….
+
ليطلق لعنة من بين أنفاسه وهو ينظر الى الهاتف الذي أغلقه يوسف في وجهه بدون أن ينطق بحرف واحد، فتوعده أنور هامسا:
+
– ماشي يا جو، صدقني لو طلع ليك يد في اللي جرى لندى أنا اللي هقف لك يا.. صاحبي!!..
+
وما هي إلا دقائق حتى كان يوسف يندفع كالصاروخ الى الداخل، فوقف أمامه أنور محاولا اعتراضه فيما هتف فيه يوسف وهو يدفعه بعيدا عنه:
+
– اوعى يا أنور…
+
ولكن أنور أبى الابتعاد وبدلا من ذلك أمسك بذراعه ونظر إليه وهمس بحزم وهو يركز عيناه على بركتي الفحم المشتعل في مقلتي الآخر:
+
– مش قبل ما أعرف إيه اللي حصل بالظبط؟…
+
زفر يوسف بضيق وقال سريعا:
+
– هقولك، بس أطمن عليها الأول…
+
ليطالعه أنور قليلا ثم يبتعد وهو يزفر بحنق هاتفا بغلظة:
+
– اتفضل.. خلّصني..
+
اقترب يوسف بخطوات متلهفة من ندى، ثم ركع على ركبتيه أمامها ينظر الى وجهها في قلق ولهفة، فيما زفر أنور بحنق ليبصر تلك الحمقاء التي ما إن شاهدت يوسف حتى اقتربت لتقف بجوار صديقتها وترميه بنظرات مهددة إن اقترب منها، ولكن يوسف لم يلق بالاً لها، فهمست رنا من بين أسنانها بحنق شديد:
+
– انت عملت فيها إيه بالظبط؟.. ثم.. أنت جاي ليه؟.. عشان تكمّل عليها؟…
+
يوسف دون أن يرفع عينيه عن ندى:
+
– ما انت كنتي معانا، ما شوفتيش؟..
+
رنا بصوت منخفض نزق:
+
– ما انت قلت لي أطلب صاحبك، وللأسف ما شوفتش ايه اللي حصل بينكم بعد كدا، حتى لو الباب كان مفتوح، المكتب عندي مش كاشف أودة المكتب كلها، دا غير انه صوتكم كان واطي ما سمعتوش…
+
يوسف بهدوء يغيظ:
+
– لما تصحى ابقي اسأليها…
+
همّت رنا بالرد حين قاطعها أنور بحزم:
+
– خلاص يا رنا بقه… وياللا انت يا جو… أنت مش شوفتها وخلاص، اتفضل معايا عاوزك..
+
يوسف بلهجة آمرة باردة وعيناه تأكلان تلك الراقدة أمامه لا تدري عمّا يدور من حولها شيئا:
+
– ممكن تاخد الآنسة اللي واقفة زي أسدين قصر النيل دي وتسيبوني معها شوية؟..
+
كادت رنا تسبّه بعد أن رمته بنظرة استنكار قوية حين قال أنور وهو يحدجها بنظرات صارمة:
+
– نسيبك فين يا جو؟… بقولك إيه.. انجز، هي أساسا نايمة ومش حاسة بيك، الدكتور قال انها شوية وهتصحى، وبيتهيألي لو فتّحت عينيها وشافتك قودامها مش هيبقى كويّس ليها، دا غير أني عاوز أتكلم معاك…
+
قاطعه يوسف بحزم:
+
– دقيقتين بالظبط وهحصّلك..
+
نفخ أنور بضيق قبل أن يهتف في رنا بغيظ:
+
– تعالي يا رنا نقف هنا بعيد عنه شوية، لما اشوف آخرتها، وانت – مشيرا الى يوسف – انسى خالص اني أسيبك لوحدك معها، أنا لسّه أساسا معرفش انت هببت إيه وصّلها للحالة اللي هي فيها دي!!..
+
ابتعدت رنا على مضض كما قال أنور، لتتوجه هي وأنور بعيدا عن يوسف الذي لا يزال راكعا بجوار ندى على ركبتيه، زفرت رنا ببغض وهي تطالع ظهر يوسف، في حين همس أنور:
+
– بالراحة على نفسك شوية، متخافيش.. مش هيعمل لها حاجة، جو مش وحش أوي كدا!..
+
رنا باستنكار بصوت منخفض:
+
– نعم؟!!.. مش وِحِشْ وهو السبب في اللي جرالها؟.. كل دا ومش وِحِشْ؟.. أومال لو وِحِشْ بقه كان عمل إيه أكتر من كدا؟!!!!..
+
ابتسم أنور رغما عنها ابتسامة طفيفة سرعان ما محاها، موقنا أن تلك الفاتنة التي تقف أمامه لديها القدرة على استدعاء ابتسامة من أمامها مهما كانت حالته النفسية، تابعت رنا والتي لم تنتبه لنظراته الساهمة:
+
– بقولك إيه يا أنور… ابعد صاحبك عن صاحبتي خالص، انت عارف كويس أوي زي ما أنا عارفة تمام أنه ندى مش حِمْل صدمات تانية، واضح كدا أنه بيستفزها لأقصى درجة، وأهُو.. شوفت بنفسك.. أعصابها ما استحملتش، أنا معرفش هو عملها إيه لكن اللي أعرفه انه انسان مستفز وبارد جدا، كفاية الطريقة اللي كان بيكلمنا بيها دلوقتي، فلو تهمك ندى فعلا خلِّيه يبعد عنها خالص…
+
لا يعلم أنور لما هذه الاختلاجة التي مرّت به حينما سمع اسمه من بين شفتيها الكرزتين وان كانت قد نطقته بمنتهى الصرامة، ولكنها تقريبا المرة الأولى التي يسمعه فيها منها من دون ألقاب سواء قبل أو بعد.. كالاستاذ أو الـ.. كابتن، وفي معظم الأحيان فإنها تتفادى نطقه بتاتاً!!!.. ولكن الآن فهي قد قالته وبكل وضوح، وخرجت أحرف اسمه بقوة، ليفيق من شروده محاولا متابعة حديثها بينما شردت عيناه على شفتيها اللتان نطقتا باسمه ليسحراه تماما!!!…
+
تنحنح أنور قليلا قبل أن يجيبها بعد انتهاء حديثها قائلا:
+
– أولا انت عارفة كويس ندى تهمني أد إيه، ندى أختي قبل ما تكون وصيّة المرحوم ليّا إني ما أسيبهاش لوحدها، وصّاني عليها قبل وفاته بيوم واحد، وكأنه كان حاسس باللي هيجراله، قال لي “خلّي بالك من ندى يا أنور لو جرالي حاجة.. ندى على أد ما بتظهر أنها قوية لكنها في الأصل طفلة صغيرة، ندى مالهاش أخوات وعاوزك تكون أقرب لها من الأخ كمان، أوعدني يا أنور!!”…
+
دمعت عينا أنور وتابع همسه:
+
– الله يرحمه زي ما يكون قلبه كان حاسس، ووعدته فعلا، بس طبعا بعد ما اتريقت عليه وقلت له انتو لما تتجوزوا أول واحد هتقولها ابعدي عنه هو أنور.. يومها ضحك وقالي طبعا… مش هتبقى مراتي ساعتها؟.. يعني أنا اللي هكون أبوها وأخوها وجوزها كمان… الله يرحمه…
+
رنا بتأثر ظهر في الغلالة الرقيقة من الدموع التي غشت عينيها:
+
– الله يرحمه..
+
أنور وهو يحاول نفض الحزن جانبا:
+
– رنا… جو فعلا مش سيء أوي كدا، لكن أنا عارف انه عنيد، ممكن يظهر لك انه بارد لكنه عصبي جدا، يمكن عصبيته دي مش واضحة لأنه بيقدر يخبي كويس أوي، وندى زي ما انتي عارفة.. عنيدة جدا جدا جدا !!.. ويمكن دي أكتر حاجة كان معتز الله يرحمه بيحاول يتعامل معها فيها بحرص شديد جدا منه، ما كانش بيحب يزعلها أبدا، وكان بيحاول أنه بكل هدوء يقلل من عنادها دا، لكن للأسف القدر ما أمهلوش، كان متوقع لما يتجوزوا هيقدر أنه يحتويها أكتر ويخليها تبطل عناد ومكابرة لكن… قدر الله وما شاء فعل، المهم… اللي عاوز أقولهوله أن لو حصل وواحد عنيد جدا وعصبي أوي قابل واحدة أعند منه تتوقعي يحصل إيه؟..
+
رنا بتلقائية:
+
– حريقة!!!
+
أنور بابتسامة صغيرة:
+
– تمام، ودا اللي حصل.. حريقة، عشان كدا أنا معاكي انهم لازم يبعدوا عن بعض، عشان ما يحصلش ما لا يُحمد عقباه زي ما بيقولوا!!..
1
رنا بتفكير عميق وهي تطالع ظهر يوسف المنحنى على ندى:
+
– أو.. يقربوا من بعض!!!!!
+
أنور بريبة مقطبا حاجبيه في توجس:
+
– نعم؟.. يقربوا!!!
+
رنا وهي تلتفت اليه وبشبح ابتسامة ولمعة في عينيها جعلت أنور يكاد يقسم أن ما ستتفوه بها سيكون خارج حدود العقل تماما:
+
– همّا مش بيقولوا.. داوِها بالتي كانت هي الدّاءُ؟!!.. يمكن القُرب يكون هو الحل الوحيد لندى، عشان تخرج من الشرنقة بتاعتها اللي حابسة نفسها فيها بقالها تلات سنين، حد عارف؟.. المهم اننا نراقبهم كويس أوي، مش عاوزاه صاحبك يأذيها.. أنا عاوزاه يعالجها… احنا تعبنا نصايح وكلام ما فيش منه فايدة.. يبقى نجرّب الطريقة دي..
+
أنور بتشكك:
+
– طريقة إيه دي؟..
+
رنا بعزم:
+
– لا يفلُّ الحديد… إلا.. الحديد!!!
+
فزادت عقدة جبين أنور عمقا وهو يطالع ابتسامة الظفر الصغيرة التي ارتسمت على وجه رنا بريبة، بينما شعرت رنا أخيرا بوجود قبس من نور في آخر النفق الذي حبست صديقتها نفسها فيه بإرادتها!!!!..
+
في تلك الأثناء:
+
كان يوسف منحني على ندى، يطالعها بعينين تلتهمان تفاصيل وجهها بشوق سافر، فهو لأول مرة يراها من هذا القرب، لترتسم ابتسامة صغيرة على شفتيه وهو يرى أمامه طفلة جميلة في ثوب امرأة فاتنة، لم يستطع الاشاحة بنظره بعيدا عنها، وكأنها قد أسرت عينيه فلا يستطيع أن يطرف بأهدابه، صوت ضعيف صدر منها ليميل على وجهها يطالعها بلهفة هامسا:
+
– ندى..
+
ولكنه لم يحر جوابا، وكأنها لم تسمعه، فقطب بعدها متشككا وهو يرى دمعة وحيدة نزلت تجري على حليب بشرتها، فمد سبابته يمسح دمعتها بحنو، ليسمع تمتمة خافتة تصدر عنها، فدنا بوجهه منها كي يتمكن من سماعها، ليتيبس في مكانه، بينما دقة خائنة طرقها قلبه وهو يسمعها تتمتم بوهن شديد وهي لا تزال مغمضة عينيها وكأنها تتحدث في نومها:
+
– حبيبي!!!!….
+
فكانت تلك الكلمة أشبه بتعويذة ألقيت على يوسف ليتسمر في مكانه، وتتجمد يده على وجهها، ثم ما لبث أن فتح عينيه على وسعهما وازدرد ريقه بصعوبة شديدة وقد شعر بالحرارة وهي تسري بطول عاموده الفقري وهو يسمعها تتمتم بتلك الكلمة بذلك الضعف الشديد ولكنها كانت وكأنها تتشبث بها لتستمد منها قوتها لتغلب ضعفها ذاك، همس بوجوم وبدون وعي منه أمام وجهها لتضرب أنفاسه الساخنة بشرة وجهها القشدية بينما يتنشق رائحة أنفاسها الممتزجة مع رائحة منعشة من الفواكه الاستوائية خاصة بالصابون الذي تستخدمه:
+
– عيونه…
2
شبح لابتسامة ضعيفة بدأت تزحف الى شفتيها التي منذ أن ارتشف رحيقهما وهو لا يزال يشعر بمذاقهما الذي يشبه الشهد في حلاوته… اللاذعة!!.. ثم تمتمة خافتة صدرت عنها، ليقترب بأذنه منها في لهفة، فيسمع ما جعله يتجمد في مكانه، وكأن سهم قد طعنه بقوة، كلمة واحدة همست بها شفتيها فشعر بها كنغزة سكينة حادة:
+
– معتز….
+
جمود تام أصابه، ومكث يطالعها بنظرات غامضة لعدة دقائق، قبل أن يعلو وجهه تعبير حياة أو موت، كمن توصّل إلى قرار حياتي لا يقبل النقاش، فمال عليها هامسا في أذنها وكأنه يتلو قسما أمامها:
+
– المرة الجاية اللي هتقولي فيها الكلمة دي… مش هتكون أبدا ليه… وعد مني يا ندى!!!..
+
ثم رفع وجهه قليلا عنها يكاد يأكلها بعينيه وكأنه يريد حفر تقاسيم وجهها في ذاكرته، قبل أن يدنو منها ثانية بينما ظهره لا يزال مواجها لأنور ورنا اللذان انشغلا في مناقشتهما الحامية الوطيس، حاجبا عنهما مرأى ندى، فهبط بوجهه على تلك الراقدة التي لا حول لها ولا قوة متناولا شفتيها في قبلة قوية، وكأنه يريد محو أحرف آخر كلمة تفوّهت بها، بل وكأنه يعاقبها على تفوهها باسم آخر حتى وان كان قد فارق عالمهم، حتى وإن كان في وقت من الأوقات يعدّه أخا له، ولكنه لا يريد لتلك الشفتين أن تنطقا باسم رجل آخر وقد سبقته تلك الكلمة التي نطقتها بكل ضعف، بكل رقة، وبكل نعومة، كلمة جعلته يشعر كمن عادت إليه أنفاسه من جديد، ليحسُّ بأنه حيُّ بالفعل، كلمة جعلته ولأول مرة يتذوق طعم الحياة فعلا، تماما كما فعل عناقه ذاك، والذي تسبب في انهيارها، فذلك العناق لم يكن أبداً عقابا لها بقدر ما كان صفعة مدوية له ولغروره الذي تحطم بين يديها، فقد تأكد أنه ليس منيعا ضدها كما كان يتباهى، والدليل أن ما بدأه كعقاب أصبح عقابا له هو ولعنجهيته الكاذبة، بل كاد يتحول لشبه توسل منه إليها، ألا تطرده من جنّتها التي اختبرها بين ذراعيها ولأول مرة في حياته المليئة بالصخب والعبث، فتلك الصغيرة التي ترقد أمامه ووجها يحمل براءة لا متناهية لو علمت ما حدث له ما ان احتواها بين ذراعيه لسقطت من شدة الضحك عليه، ولعلمت أي سلاح فتّاك تملكه ضدّه، ولذا… لا يمكنه أن يجعلها تعلم ما حدث له، فهو على يقين من أنها ستستخدم هذا الذي لا يستطيع تسميته إلى الآن في أذيته وبدون شفقة ولا رحمة، ولكنه لن يكون يوسف طاهر إن لم يجعلها تصل الى مثل حالته تلك بل وأكثر، فتلك الصغيرة لن تفلت منه، ليس بعد أن أعادت الحياة الى هذا الجسد الميت ثانية، وكما أصبحت كهاجس ملحُّ لديه، سيجعلها هو تهذي به… وهذا وعد منه بذلك!!!!…
1
نهض يوسف عن قدميه وعيناه معلقتان بها، وهمس:
+
– وعد مني يا ندى… اللي ابتدى بيننا هيكمل… وللآخر!!..
+
ثم التفت متجها الى الباب وهو يقول لأنور ورنا المنخرطان في حديثهما الجانبي:
+
– أنا ماشي يا أنور….
+
وانصرف تاركا رنا تطالعه في ريبة بينما أنور همس كمن يحدث نفسه:
+
– هو جو صوته كان بيرتعش ولا أنا اللي بيتهيألي؟!!!!!!!!
+
لتنظر اليه رنا في ريبة ثم تعيد نظراتها ثانية إلى تلك الراقدة في غفلة تامة عمّا حولها!!..
+
****************
+
كان يقود سيارته في طريقه الى شقة والده السكنية في ذلك الحي القديم بوسط البلد، حيّ عماد الدين، حيث المباني بطرازها الفخم العتيق، كان لا يتجه الى شقة عائلته القديمة إلا عندما يكون في حالة نفسية إما سعيدة جدا أو… مضطربة جدا.. جدا!!.. هو لا يعلم إلى أي الحالتين ينتمي الآن، ولكن ما هو متأكد منه أن ندى بكلمتها تلك التي سبقت اسم الآخر قد أصبحت منتمية إليه هو… لا يدري كيف أو لما؟.. ولكن ما يعلمه جيدا أن قطر الندى لم تعد مجرد وجه جميل لفتاة عنيدة، ولكنها روح متوثبة بثّت الحياة الى أيامه الباردة وجعلته يشعر بأنه حيّ يتنفس، بل ويترقب القادم من أفعالها الغير متوقعة بتوق لا مثيل له، كما أنه على يقين أن القادم سيكون صعب للغاية إن لم يكن مستحيلا خاصة مع عنادها الشديد وتمسكها بأذيال الماضي وتشبثها بالبكاء على الأطلال، ولكنه لن يستسلم، بل هي من ستستسلم بل و.. ستُسلّم!!.. فما لم تعرفه عنه بعد ست الحسن والجمال أنها لو كانت عنيدة قيراطا فهو أعند منها بـ.. أربع وعشرين قيراط، بالإضافة الى أنه يمتلك كمية من البرودة كفيلة بتجميد الغابات الاستوائية، إذن فالمحصلة النهائية للمعادلة ستكون.. بروده + عناده أكبر من عنادها وحده….
+
ابتسامة صغيرة شقت طريقها الى فمه الحازم قبل أن يمد يده يعبث براديو السيارة قبل أن يلتقط صوت عبد الحليم حافظ وهو يشدو بتلك الأغنية التي كان يسمعها قديما فيبتسم ساخرا على هذا الحبيب الذي يكاد يموت في سبيل الوصول لحبيبته في.. قصرها المرصود، ولكنه الآن يستمع إليها مستشعرا كل كلماتها، فكأنه يسمعها لأول مرة….
+
بحياتك يا ولدي امرأة عيناها سبحان المعبود
+
فمها مرسوم كالعنقود
+
ضحكتها أنغام وورود
+
والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا
+
قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا
+
…… لكن سماءك ممطرة وطريقك مسدود مسدود
+
فحبيبة قلبك يا ولدي نائمة في قصر مرصود
+
من يدخل حجرتها من يطلب يدها من يدنو من سور حديقتها من حاول فك ضفائرها يا ولدي
+
مفقود مفقود مفقود
+
يا ولدي …………. يا ولدي..
+
هتف يوسف في نفسه بصوت حازم فيما عيناه تومضان ببريق عزم لا ينضب:
+
– هوصلّك يا ندى، هدخل قصرك المرصود، وطريقي هفتحه بإيدي… مش هسيبك لأشباحك يا ندى… ومش هكون حبيب مفقود… لا… هكون حبيبك الوحيد الموجود!!… من لحظة ما أخدتك بين إيديا.. وأنا حاسيت انك رجعت لمكانك الطبيعي تاني، حضني هو بيتك وسكنك… ومش هتنازل عن دا أبدا، انتي الفرصة الوحيدة ليوسف الإنسان أنه يرجع تاني، بعد ما دفنته بعيد، لكن من لحظة ما شاف عينيكي وهو بيحاول يقوم وينفض عنه رماده، انتي طوق الإنقاذ من بحر الظلام اللي عايش فيه بئالي سنين من عمري، وأنا مش هفرّط فيه أبدا.. مهما قاومتي هتستسلمي في الآخر، لأنه مش بإيدك ولا بإيدي، القدر هو اللي جمعنا سوا… وهو اللي حَكم اننا نكون لبعض، وحُكمه ما فيهوش تأجيل ولا استئناف، حُكم نهائي.. واجب النفاذ!!!!!!!!…
+
– يتبع –
+


