رواية الوكر الفصل الثاني 2 بقلم مريم محمد – تحميل الرواية pdf

الفصل الثاني( ظلال القدر )
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، الفصل الثاني من الوكر بعنوان “ظلال القدر” ، متنسوش رأيكم والڤوت يا حلوين♡♡.
_____________________________________________
+
هل يمكن أن تتغير حياة الإنسان في يوم وليلة، أو في بضع ساعات؟
إنه القدر، وحده القادر على ذلك، ولا أحد يستطيع منعه من الحدوث، يأتي فجأة، يقلب الموازين، بينما نقف نحن بعيدًا بوجوه يملؤها الذهول مما يحدث أمامنا.
+
ترددت كلماته في عقلها مرارًا، هل سمعت خطأ؟ أم أن ما قاله حقيقة؟ رفعت عينيها لتلتقي بعينيه، تبحث فيهما عن أي علامة تنكر ما سمعته، لكنه لم يمنحها ذلك، كانت عيناه تشعان بالحزن، تمتلئان بالدموع التي تأبى السقوط.
+
شعرت بثقل أنفاسه بعد كلماته الأخيرة، لكنها لم تصدق حديثة، فأردفت بابتسامة جانبية ساخرة:
عشان تبرر، تقول كلام مجنون؟
+
حرك رأسه بيأس، وأعاد نظره إلى السماء وكأنه يبحث عن إجابة لم يجدها داخله، بدا محبطًا، منهكًا، وكأن كل ما فيه ينهار ببطء.
+
أمسكت بمعصمه، أجبرته على الاستدارة إليها، وحدّقت في عينيه بذهول:
زيدان، أنت بتقول إيه؟
زفر بعمق، وتحاشى النظر إليها، قبل أن يهمس بصوت خافت:
زي ما سمعتي.
+
مدّت يدها وأمسكت فكه، أجبرته على النظر إليها مباشرة. رأته أخيرًا، ودموعه التي تملأ مقلتيه دون أن تسقط، الحزن العميق الذي يسكن ملامحه، والصدق الجارح الذي لا يمكن إنكاره.
+
لم تفكر، لم تتردد، فقط تقدمت واحتضنته بقوة، كأنها تحاول عبثًا مواساته، كأنها تحاول أن تحمل عنه ولو قليلًا من الألم الذي يحاصره، لكنها أدركت أن الدموع الساخنة التي أنهمرت كانت دموعها وحدها.
+
كيف عانى وحده كل هذه السنوات؟ كيف عاش في كذبة طويلة لم يكتشف حقيقتها إلا بعدما أصبح رجلًا بالغًا؟ كم كان مؤلمًا أن يكون وحده في مواجهة كل ذلك، بينما كانت هي تبكي فقط لغيابه كالفتاة المراهقة، دون أن تحاول معرفة ما أصابه؟
+
خرج صوتها متحشرجًا، مرتجفًا، لكنه صادق:
أنا آسفة… آسفة إني سبتك لوحدك في ده كله.
+
لم يرد، فقط شدد من احتضانها، بينما أخيرًا سمح لدموعه بالسقوط، بهدوء وسلام، بكى في أحضانها كطفل صغير ضاعت لعبته المفضلة، كمن أدرك فجأة أنه لم يكن عليه أن يتحمل كل ذلك وحده.
+
وهكذا، يا صديقي، ليست الحياة عادلة أبدًا، تأتي في لحظات، تحطم القلوب بقسوة، تنهال بالصدمات واحدة تلو الأخرى، دون أن تمنحك حتى فرصة لإلتقاط أنفاسك.
_____________________________________________
+
بينما في منزل كمال البرغولي، كان يجلس وأمامه بعض الورق ينظر إليهم بتمعن وإهتمام شديد، فكان عمله أهم ما يشغل حياتة، كان المنزل يتكون من طابقين، الطابق السفلي وهو غرفة واسعة للضيوف كان أساسها حديث ومبهر للعين، وأخرى للمعيشة لجلوسة هو وبناتة، وأخرى لورقة الخاص وعمله المهم، وغرفة المطبخ الواسعة والمرحاض، بينما في الأعلى كانت غرف للنوم لكل فردًا.
+
في الظلام الدامس، كانت تجلس على مقعدها، رأسها مدفون بين يديها، أفكارها تتشابك في دوامة من الرعب والتخبط ذلك الغريب… كيف ظهر فجأة؟ كيف اختفى بنفس السرعة؟ والأهم… ما الذي يريده منها وما الذي يردف به؟
+
وضعت رأسها على الطاولة بإرهاق، أنفاسها ثقيلة، لكن صوتًا منخفضًا، عميقًا، تقطر منه البرودة والغموض، أخترق السكون كحد السكين:
أما زلتِ لم تقرري بعد؟
+
تجمد الدم في عروقها، أتسعت عيناها بصدمة وهي ترفع رأسها ببطء… الصوت لم يكن قادمًا من عقلها، بل من غرفتها، قبل أن تنطق، شعرت بيد قوية تمسك بفمها، ضغطه كان محكمًا لكنه لم يكن مؤلمًا، همس قرب أذنها، صوته منخفض لكنه حمل تهديدًا واضحًا:
أصمتي… قبل أن أجعل صمتك أبديًا.
+
لم يكن تهديدًا فارغًا، كان هناك شيء قاتم في صوته، شيء يجعل قلبها يضرب بعنف، كأنه لا يمزح، أومأت برأسها ببطء، أنفاسها متسارعة، عيناها تتحركان بجنون تبحث عنه في الظلام، وعندما التقتّ بعيناه… شعرت بقشعريرة تجتاح جسدها بالكامل.
+
كانت عيناه سوداوين تمامًا، كأنهما ثقبان عميقان لا نهاية لهما، لا إنعكاس فيهما، فقط ظلام مطلق، بشرته شاحبة بلون البدر، ملامحه منحوتة بحدة، فك قوي، حاجبان مستقيمان، وجسد طويل مغطى بثياب داكنة جعلته يبدو كظل خرج من عالم آخر.
+
لم يتحرك قيد أنملة، فقط كان يحدّق بها بنفس النظرة الباردة، عندما تأكد من أمتثالها، حررها ببطء، لكنه لم يبتعد، بل بقي في مكانه، كأنه يستمتع بارتباكها، رفعت يدها إلى عنقها، تحاول تهدئة نبضها، ثم تمتمت بصوت متحشرج:
إنت… إنت مين؟
+
لم يجب فورًا، ترك لحظة صمت مشحونة قبل أن يقول بصوت خافت، لكن عميق كصدى كهف:
أنتِ تطرحين الأسئلة الخطأ.
قطبت حاجبيها بخوف وهي تحاول الإبتعاد:
إزاي دخلت هنا؟
+
أطلق ضحكة منخفضة، لكنها لم تكن ساخرة، بل كانت أقرب إلى همهمة باردة، كأنها خرجت دون رغبة منه، ثم قال بهدوء قاتل:
أنتِ ترين ما أريدك أن تريه.
+
شعرت بقشعريرة أخرى، صوته كان غريبًا، كأن الكلمات لم تخرج من فمه، بل تسللت مباشرة إلى عقلها، أبتلعت غصة تقف في حلقها، حاولت التماسك، ثم قالت بحدة مصطنعة:
بغض النظر عن إللي بتقوله، لو حد عرف إنك هنا، مش هتلحق تخرج، هتموت في ثانية.
+
لم يبدُ عليه الانزعاج، فقط مال قليلًا للأمام، حتى كاد أنفه يلامس أنفها، صوته خافت لكنه ثقيل:
أنا الموت نفسه، ولا أحد يستطيع قتلي.
+
شعرت بأن الهواء حولها أصبح أثقل، كأن الغرفة ضاقت فجأة كانت على وشك الصراخ مرة أخرى، لكن قبل أن تفتح فمها، رأته يخرج شيئًا من سترته ببطء… مسدس أسود، لامع كأنه غير حقيقي، لم يرف له جفن وهو يوجهه نحو عنقها.
+
قال بصوت خالٍ من أي انفعال، كأن الأمر لا يعنيه على الإطلاق:
كنتِ على وشك الصراخ، صحيح؟ جربي، ولن تسمعي صوتك مرة أخرى.
+
تجمدت في مكانها، أنفاسها محبوسة، ثم أومأت سريعًا، تنفي أي نية للصراخ، راقبها للحظة طويلة، ثم بحركة هادئة، أنزل المسدس وأعاده إلى سترته.
+
أبتعد عنها وجلس على الفراش دون أن يبعد نظراته عنها، ثم قال بنفس البرود الجليدي:
أنا في مهمة وأنتِ الوحيدة القادرة على مساعدتي.
+
حاولت السيطرة على خوفها، لكنها لم تستطع منع نفسها من التراجع بضع خطوات، قبل أن تقول بصوت مرتجف:
مهمة؟ مساعدة؟ أنا مش فاهمة حاجة!
+
رفع حاجبه قليلًا، كأنه يدرسها، ثم تمتم بتهكم ناعم:
توقعت أنكِ أذكى من هذا، لكن يبدو أنني كنت مخطئًا فأنتِ مختلة عقليًا.
+
اشتعل الغضب في عينيها، محاولة نسيان خوفها:
إنت إللي مجنون، متقولش عليا كده.
+
لم يتغير تعبيره أبدًا، فقط أخرج سلاحه مرة أخرى من جيبه، لكن هذه المرة، لم يوجهه إليها، بل وضعه على الطاولة أمامها، كأنه اختبار، نظرت إليه بحذر، ثم أبتسمت بسخرية، فتحت درج مكتبها وأخرجت سلاحها الخاص، رفعته ببطء في وجهة وقالت بصوت ثابت:
فاكرني هخاف؟ مش أنت الوحيد إللي ماسك سلاح، ده البيت كله مليان أسلحة، كانت لعبتي المفضلة وأنا عندي ست سنين.
+
نظر إليها أخيرًا بنظرة جديدة… ليست تهكمية هذه المرة، بل إعجاب خافت، ثم، فجأة، رمى سلاحه أرضًا دون اهتمام، أستدار عنها، ثم قال بهدوء:
كفى لعبًا، لدينا عمل لننهيه.
+
عقدت حاجبيها بعدم فهم:
إنت عاوز مني إيه؟
+
التفت إليها، عيناه لا تزالان كحفرتي ظلام بلا قرار، ثم أبتسم أخيرًا، إبتسامة بالكاد يمكن تسميتها بذلك، وقال بصوت هادئ:
أنتِ المنقذة… أنتِ مَن كُتب عنها في الأسطورة، أنتِ الوريثة المفقودة لمملكة أزجاروث، والوحيدة القادرة على العيش بين العوالم ولكن هناك شرط… إن اخترتِ العيش في عالمي، ستصبحين زوجة الملك.
+
توقفت أنفاسها لثانية، نظرت إليه بصدمة، لكن قبل أن ترد، تابع بصوت أكثر هدوءًا، لكن هذه المرة حمل تحذيرًا دفينًا وإبتسامة غامضة:
وأنا الملك القادم.
+
شعرت برأسها يدور، هذا جنون، هذا مستحيل! فتحت فمها لتتكلم، لكنه كان أسرع رفع يده أمامها، وقال بثقة:
غدًا، الساعة الثامنة صباحًا، سأكون أمام المنزل، أن لم تهبطي، سأفترض أنكِ اخترتِ الموت.
+
ثم، دون أن ينتظر ردها، رأت شيئًا لا يُصدق… تحرك نحو النافذة، ثم قفز منها، لم تسقط منه قطرة عرق، لم تصدر منه أي حركة تدل على الخوف، بل أختفى في الظلام كأنه لم يكن موجودًا من الأساس.
+
حدقت في الفراغ بصدمة لا تعقل وهي لا تستطيع تصديق شيء مما حدث الآن وكأنه جنون أو أصبحت مختلة عقليًا كما قال، شعرت بإنها في وهم..
_____________________________________________
+
كان الليل هادئًا، لا يُسمع فيه سوى صوت عقارب الساعة التي تطرق الصمت بإيقاع منتظم، جلست دارين في المطبخ، يداها تحيطان بفنجان القهوة الدافئ، وعيناها معلقتان بالأوراق المبعثرة أمامها على الطاولة، كانت تلك الأوراق تحمل تفاصيل عن القضية، كانت القضية أكبر مما تتصور، كانت قضية رأي عام وقد تؤدي إلي إعدام ذلك الشاب.
+
أخذت رشفة من قهوتها، تاركة مرارتها تمتزج مع الأفكار المتزاحمة في رأسها، ثم، دون أن تقصد، وجدت نفسها تسترجع ذلك اللقاء… الذي طرأ غريبًا عليها.
+
وضعت دارين كوب القهوة على الطاولة، ثم شبكت أصابعها أمامها وهي تنظر إلى معتز بترقب، قبل أن تسأله بنبرة هادئة لكن حازمة:
وإنت بقى إيه علاقتك بالقضية؟
+
أبتسم معتز نصف إبتسامة، وكأنه توقع السؤال، ثم مال قليلًا للأمام وقال بصوت منخفض لكنه يحمل قوة خفية:
أنا ممول القضية، إللي هو نفس الشخص إللي هيشيل عنك ضغط الفلوس والمصاريف والمحاكم.
+
رفعت حاجبها باستغراب، ثم اتكأت على الطاولة وسألته مباشرة:
ومين قالك إني محتاجة ممول؟
أدار كوب القهوة بين أصابعه ببطء وهو يجيب:
أنا ما قلتش إنك محتاجة… بس عارفة طبعًا إن أي قضية كبيرة زي دي بتحتاج فلوس كتير، ومش أي حد يقدر يدفعها، خاصة لما تبقى قضية رأي عام.
+
لم ترد دارين فورًا، بل ظلت تحدق فيه، تحاول أن تفهم نواياه، لم تكن تثق في الأشخاص الذين يظهرون فجأة ويعرضون المساعدة دون مقابل، فدائمًا هناك شيء مخفي:
ولية مهتم بالقضية أصلاً؟
+
تنهد معتز، ثم استند إلى الكرسي وأجاب بصراحة واضحة:
لأن الولد إللي بتحاولي تدافعي عنه إبن واحد كان شغال عندي زمان، راجل محترم وما يستاهلش إللي بيحصلوا بس للأسف، الدنيا ما بتمشيش بالعدل.
+
تأملته دارين للحظة، تحاول قياس مدى صدقه، ثم قالت:
طب وإنت شايف إنه بريء؟
ضحك بخفوت وهو يرد:
أنا مش مهم رأيي في براءته، اللي يهم هو إنتِ تقدري تثبتيها ولا لأ.
+
شعرت دارين للحظة وكأنه يختبرها، وكأنه يريد معرفة إن كانت قادرة على خوض هذه القضية فعلًا أم أنها مجرد فتاة تحاول إثبات نفسها في عالم لا يرحم، لكنها لم تكن من النوع الذي يُختبر:
وهل ده يعني إنك هتتدخل في شغلي؟
+
أجاب بجدية:
لا، بس هكون موجود، هتابع كل حاجة من بعيد، وأي دعم تحتاجيه، هتلاقيه.
هزّت رأسها ببطء، ثم أمسكت كوب القهوة مرة أخرى وأخذت رشفة أخيرة قبل أن تقول بهدوء:
هقبل تمويلك، بس بشروطي أنا، وإنت ملكش دعوة بقراراتي.
+
أرتسمت على شفتيه إبتسامة جانبية قبل أن يردّ بنبرة خفيفة لكن واثقة:
اتفقنا، بس خلي بالك، اللعب في القضايا الكبيرة لية تمن… وأحيانًا، التمن بيكون غالي أوي.
+
لم ترد دارين، لكنها شعرت بوخزة خفيفة في صدرها، وكأن كلماته لم تكن مجرد تحذير، بل حقيقة تنتظرها في الأيام القادمة.
عادت من ذاكرتها وبدأت في التركيز مرة أخرى في الورق الذي أمامها باهتمام شديد.
_____________________________________________
+
لم يغمض لرُزان جفن طوال الليل، كانت الأفكار تتلاعب بعقلها، تلقي بها من تساؤل إلى آخر بلا راحة، من هذا؟ وهل حديثة صادق؟ ولماذا يحتاج إلي هذا الكتاب تحديدًا؟ وما الذي سيحدث إن وجده؟
+
بحركة بطيئة، التفتّ إلى الساعة، فوجدتها تشير إلى الثامنة والنصف دفعت الغطاء جانبًا وتقدمت نحو النافذة ما إن رفعت الستائر حتى لمحته… كان إليان واقفًا عند البوابة، ينظر إليها بثبات وكأنه ينتظرها.
+
نظرت له قليلًا وكأنها تحاول أن تخبر عقلها بإن ما يحدث ليس حلم بل حقيقة، تراجعت بسرعة، ثم توجهت إلى خزانتها والتقطت ملابسها على عجل، أرتدت سترة بيج واسعة فوق قميص أبيض، مع بنطال جينز أسود ضيق، وأكملت مظهرها بحذاء رياضي أبيض، رفعت خصلاتها في كعكة غير مرتبة، تاركة بعض الخصل تنسدل على وجهها، ثم التقطت حقيبتها وهبطت.
+
عندما خرجت، كان إليان قد فتح باب السيارة بالفعل، وهو لا يزيح نظراتة عنها، ركبت بجواره في صمت، فأنطلقت السيارة بهما.
ساد الصمت للحظات، قبل أن تقرر رُزان كسره، وهي تنظر إليه بطرف عينها:
على فكرة، إنت ما قلتليش… أي هوا عالمك والكتاب ده هيعمل أي؟
+
لم ينظر إليها، بل ظل يلقي أهتمامة على الطريق وهو يجيب بصوته الهادئ المعتاد:
هذا الكتاب يحمل معلومات ضرورية لعالمي.
رفعت حاجبها، وقالت بنبرة ساخرة:
فهمت أنا كدة، برضه بتتكلم بالألغاز! معلومات إيه؟ وعالم مين؟ وليه بالذات الكتاب ده؟
+
تنهد إليان ببطء، ثم قال دون أن يلتفت إليها:
الأمر معقد، وليس سهلًا أن تصدقي شيء، كل ما عليكِ معرفته الآن هو أنني بحاجة إليه، وأنتِ الوحيدة التي تستطيع مساعدتي.
شبكت ذراعيها أمام صدرها وقالت بتهكم:
يا سلام، فجأة بقيت بطلة الإنقاذ! بس أنا مش بساعد حد من غير ما أفهم أنا بعمل إيه.
+
هذه المرة التفت إليها، ونظر في عينيها مباشرة، فشعرت بوخزة خفيفة في صدرها، وكأن نظراته تحمل ثقلًا لم تفهمه بعد، قال بصوت ثابت:
إنه كتاب قديم جدًا، وكلماته قادرة على إعادة الأمور إلى نصابها.
+
عبست رُزان وهي تسأله بشك:
إعادة إيه لنصابها؟ إنت بتتكلم عن الكتاب كأنه سحر!
لم يرد هذه المرة، بل عاد يوجه نظره للطريق بصمت، وكأن الحديث لم يكن موجودًا من الأساس، زفرت بضيق شديد، وتحشرج صوتها قبل أن تعلوه صرخة غاضبة:
لا! ما أنا لازم أفهم، أنا مش فاهمة لية خرجت مع مجنون زيك أصلا!.
+
أوقف السيارة فجأة بعصبية تكاد تفجر محركها، وعينيه تشتعل بالغضب، أخرج سلاحه بسرعة من جيب بنطاله، وأوجهه نحو عنقها، أقترب منها حتى كادت أن تشعر بأنفاسه الساخنة على وجهها وهو يهمس بلهجة هادئة لكن قاتلة:
لا تفقديني أعصابي، أصمتِ.
+
لكنها لم تكن فتاة هينة أو ضعيفة الشخصية، تجمدت لحظة، ثم أخرجت سلاحها من حقيبتها وأشارت به نحو صدره بقوة، وصوتها لم يتغير إنشًا:
بقولك إيه! لا أعصاب ولا بتنجان، كل شوية تهددني، أقسم بالله لو قربتلي تاني، هضربك بالنار، ومحدش هيقدر يوقفني! أبويا لواء، أختي رائدة، والتانية محامية، يعني مش هخاف من حد!
+
تواجهت عيونهما، وأحتبست الأنفاس في لحظة صمت طويلة قبل أن ينطق هو بصوت ثقيل، محاولة تهدئة نفسه:
قلت لكِ أنني لا أخاف من الموت… فأنا الموت نفسه.
+
ثم، وكأن لا شيء حدث، أبتعد عنها ببطء، وكأنه قد أنتهى من هذا الفصل، عاد لتشغيل محرك السيارة وكأنها مجرد حادث عابر في يومه، لكنها لم تتحمل، فصرخت بأعلى صوتها، خنقت الأنفاس في حلقها، وتردد غضبها في أرجاء المكان.
+
بعد قليل وصلوا لأمام المكتبة الخاصة بها، بمجرد أن دَخَلَا، توجهت رُزان إلى الموظف الذي يعمل لديها وسألته بنبرة جادة:
كريم، فاكر الكتاب إللي إسمه مفاتيح الزمان؟ مين إللي أشتراه؟
+
نظر كريم إليها بتفكير، ثم هز رأسه قائلاً:
والله يا آنسة رُزان، أنا مش متأكد أوي، بس فيه ست كبيرة في السن إشترته من فترة… وكانت معاها واحدة يعني أعرفها.
+
قطبت رُزان حاجبيها، وسألته بجدية:
مين البنت إللي كانت معاها أو تقربلها أي؟
أومأ كريم برأسه لها وهو يبحث في أحد دفاتره، ثم كتب عنوانًا على ورقة ومدّها لها قائلا:
أيوه أعرف، دي جارتها تقريبًا، تقدروا تلاقوها هنا.
+
التقط إليان الورقة قبلها، وقرأ العنوان بصوت خافت، ثم نظر لرُزان وهو يغادر المكتبة، وقال بهدوء:
لنذهب فورًا.
+
نظرت إليه رُزان، ثم إلى الورقة بفقدان صبر، وهي تشعر إنها تضع نفسها على الهاوية مع إنسان لا تعلم من هو، هل هو بشر مثلها؟
_____________________________________________
أحيانًا نقع في وسط الجرائم دون أن نشعر، نُزجّ بأنفسنا في عالم لا يشبهنا، لكن ليس الجميع يستطيع الخروج، البعض يستسلم للسقوط، بينما يقاتل آخرون للصعود، غير مدركين كم سيكلفهم ذلك.
+
لم يغمض لها جفن طوال الليل، كان قلبها مثقلًا بالحزن، وعيناها البنيتان متورمتان من أثر البكاء، شعرت بأنها عالقة في دوامة من الأفكار، حديث ليلة أمس يتكرر داخل عقلها. عقلها يخبرها بأن البكاء لن يغير شيئًا، لكن قلبها لم يستطع الاستسلام بهذه البساطة، كانت تدرك كمية الألم الذي بداخلة، ويعود عقلها ليخبرها بإنها في حدود العمل ويجب الإهتمام بهذة القضية المهمة، ومع ذلك، وجوده هو… بقربها، في نفس العمل، في نفس المهمة، هذا كان أسوأ شيء على الإطلاق.
+
نهضت من سريرها بتكاسل، تشعر بجسدها مرهقًا وكأنها خاضت معركة طوال الليل، توجهت إلى خزانتها وفتحتها، تبحث عن شيء ترتديه، اختارت كوتًا طويلًا بلون ليموني ناعم ينساب برقة على جسدها، تحته قميص أبيض بسيط يضفي لمسة من الصفاء داخل البنطال الأسود،ج لم يكن اختيارًا عشوائيًا، كانت تحاول أن تبدو طبيعية، متماسكة، حتى لو كانت العاصفة في داخلها لا تهدأ.
+
جمعت خصلاتها في كعكة مرتبة، وكأنها تحاول فرض النظام على فوضى مشاعرها، ثم وضعت القليل من الروج البني الذي بدا متناغمًا مع بشرتها، يمنحها لمسة من الأناقة الهادئة.
+
خرجت من الغرفة، وعندما وقعت عيناها عليه، شعرت بشيء ما يضيق في صدرها، كان جالسًا على الأريكة، غارقًا في شروده، وكأنه في عالم آخر، للحظة، تساءلت عمّا يدور في ذهنه، أقتربت منه ببطء، وكأنها تحاول فك شفرات أفكاره، ثم تمتمت بصوت هادئ:
سرحان في إيه؟
+
رفع عينيه إليها، يوجد بها شيء من الدفء رغم الشرود. أبتسم حين رأى إطلالتها التي تأسر قلبه، ثم قال:
سرحان في سؤال عاوز إجابة.
+
جلست بجانبه، تقلب كلماته في رأسها، قبل أن تسأله بإستغراب:
سؤال إيه ده؟
+
تردد للحظة، وكأنه يخشى الإجابة، ثم نظر إليها بحذر، وعيناه تبحثان عن طمأنينة في ملامحها:
أعتبر حضن إمبارح… رجوع؟
+
ساد الصمت للحظات، وكأنه يخشى الإجابة، كاد قلبه يتوقف وهو ينتظر منها شيئًا واضحًا، كلمة، إشارة، أي شيء، لكنها لم تردّ مباشرة، بل أكتفت بإبتسامة غامضة، قبل أن تميل برأسها قليلًا وتقول بهدوء:
إنت شايف إيه؟
+
شعر بارتباكها الخفي، لكنه لم يكن متأكدًا مما يعنيه ذلك هزّ كتفيه بعدم معرفة، وأبتسامة قلقة تتسلل إلى وجهه:
مش عارف.
+
أبتسمت، وكأنها أخيرًا قررت إنهاء هذا الغموض، ثم مدّت يدها لتمسك بكفه بحنان، وكأنها تطمئنه، تخبره دون كلمات أن الإجابة بين يديها:
أنا محبتش حد قدّك… إنت حبيبي من وأنا في تانية إعدادي، تفتكر هضيع الفرصة؟
+
شعر بقلبه يقفز في صدره، وكأنه لم يكن يتوقع تلك الكلمات، رغم أنه تمنى سماعها، أرتسمت إبتسامة واسعة على شفتيه، وضغط على يديها بين يديه، قبل أن يقول بصوت يشوبه إمتنان حقيقي:
بشكر ربنا إنه إداني هدية حلوة زيّك.
+
لكن اللحظة لم تدم طويلًا، طرقات على الباب قطعت كل شيء، وكأن الواقع قرر أن يسحبهم من هذا الدفء فجأة. أستقام سريعًا، وجهه يعود إلى صلابته المعتادة، ثم فتح الباب بهدوء، أمامه، وقف رجل مألوف، كان قد رآه ليلة أمس. نظر إليه الرجل بحدة وقال:
المعلم معتز مستنيك إنت والمدام تحت.
+
لم يردّ، فقط أومأ له، ثم استدار إلى الداخل، قائلاً بإبتسامة خبيثة وهو ينظر إليها:
يلا بينا.
+
بادلتْه نفس الابتسامة الخبيثة، وكأنهم يردّون داخلهم
لقد بدأت الرحلة الآن، لكن ما لم يدركاه، عزيزي القارئ، هو أن هذه الرحلة لن تكون سهلة، وأن الألم الذي ينتظرهما لا يتخيلة أحد.
+
كانوا يقفون بجانب بعضهم البعض، القوة والثبات مرتسمان على وجوههم، بينما يراقبهم الجالس أمامهم بتركيز، يتابع حركات ملامحهم بإمعان، حتى همس أخيرًا بنبرة متأنية:
قولتلي أمبارح إنك عاوز شغل ليك وللمدام.
+
أوما له زيدان بهدوء، عينيه لا تفارقان تعابير معتز، مترقبًا حديثه القادم، تابع معتز بصوت هادئ لكن نافذ:
المدام هتشتغل في بيت أم نجات، هتساعد في تجهيز الأكل بتاع الأسبوع.
+
لم يظهر على زيدان أي انفعال، فقط سأله بثبات يخفي خلفه يقظته المعتادة:
وأنا؟
كاد معتز أن يجيبه، لكنه توقف عندما رن هاتفه معلنًا عن مكالمة واردة، ألقى نظرة على الشاشة، ثم رفع عينيه إليهم قبل أن يجيب.
+
على الجانب الآخر، كانت دارين تقف في غرفتها، الهاتف مثبت على أذنها بينما تحدّق في انعكاسها بالمِرآة، معطف طويل بلون رمادي داكن ينسدل على جسدها برقة، يحدد خصرها بحزام رفيع يبرز أناقتها ورشاقتها، تحته، قميص أسود بأكمام طويلة، ينسجم بسلاسة مع البنطلون الأسود الواسع الذي يمنحها مزيجًا من الجدية والراحة.
+
تركت خصلاتها البنية متموجة بحرية، تنسدل على كتفيها بانسيابية تعكس تناقض شخصيتها بين القوة والنعومة، لم تبالغ في زينتها، فقط لمسة خفيفة من الكحل زادت عينيها عمقًا، وأحمر شفاه هادئ أضفى لمسة خفيفة من الحيوية.
+
جاء صوتها هادئًا عبر الهاتف، يحمل مزيجًا من الجدية والنعومة:
ألو، أستاذ معتز؟
ساد الصمت للحظات قبل أن يأتيها صوته بنبرة ساخرة، لكن بها شيء خفي من الدفء:
أهلًا يا سُهاد.
+
ضيّقت عينيها بإستغراب طفيف، لم تفهم مغزى الإسم لكنها سألت بحيرة:
سُهاد مين؟ أنا المحامية دارين كمال.
جاءها صوته هذه المرة مصحوبًا بقهقهة خفيفة:
منا عارف… بس أنا شايفك سُهاد، أتفضلي يا آنسة سُهاد، في حاجة؟
+
شعرت بإنزعاج خفيف من اللقب، لكنها تجاهلت الأمر وردّت بلا اكتراث:
أنا عاوزة أقابلك.
رفع حاجبيه ببطء، ثم ألقى نظرة على الجالسين أمامه، يلاحظ اهتمامهم العميق بالمكالمة، قبل أن يجيب بهدوء:
تمام، فين؟
“نفس المطعم بتاع المرة اللي فاتت.”
أوما معتز برأسه وهو يفرك وجهه بتفكير، ثم تمتم:
تمام، أنا رايح دلوقتي.
+
أنهى المكالمة، ثم استقام واقفًا، ألقى نظرة على زيدان وقال بنبرة جامدة:
أنت هتكون واحد من الرجالة هنا شغال في المحل، روح لعم أكرم، هو هيفهمك كل حاجة.
+
ثم غادر بخطوات ثابتة غير مبالٍ بنظراتهم التي تعقبه، بينما تبادلت رفد وزيدان نظرات ذات مغزى، قبل أن تهمس رفد متسائلة بفضول:
يا ترى مين سُهاد دي؟ تكون حبيبته؟
نظر لها زيدان بلا معرفة، الإستغراب ذاته منعكس في ملامحه، ثم تمتم بصوت خافض:
كل حاجة هتتعرف مع الوقت… دلوقتي ناخد ثقتهم بس.
_____________________________________________
+
كان الصمت سيد الموقف، لا شيء سوى صوت المحرك يملأ الأجواء نظرت رزان من النافذة إلى الطريق الممتد بلا نهاية، بينما السيارات القليلة تمر بجوارهم كأشباحٍ سريعة، كانت عادةً لا تحتمل الصمت، لكن هذه المرة لم تكن تملك الرغبة في الحديث.
+
أحست بجوعٍ يضغط على معدتها، فتنهدت وهي ترمق إليان بنظرة جانبية، ثم قالت:
لو سمحت، وقف العربية ثانية.
التفت إليها، حاجباه معقودان باستغراب:
لماذا؟
زفرت بضيق وهي تجيب:
جعانة، عاوزة أجيب أكل.
أعاد بصره إلى الطريق، وكأن الطلب لا يستحق التوقف، ثم قال بنبرة باردة:
وماذا تريدين أن تأكلي؟
ردت بنفس إللا مبالاة، متكاسلة حتى عن التفكير:
أي حاجة.
+
ظل يقود بضع دقائق أخرى دون أن يُبدي أي نية للتوقف، فرفعت حاجبها وهي تتأمله بعدم تصديق:
إيه يا جدع! هتفضل ساكت كده لحد ما أموت من الجوع؟!
نظر إليها بطرف عينيه، ثم قال بهدوء:
لن تموتي، لا تقلقي.
أطلقت تنهيدة طويلة وهي تهز رأسها:
لا يا شيخ، طب ما توقف هنا عند المطعم ده بدل ما أموتك في الطريق.
+
أطلق قهقهات سخرية على حديثها، ثم نظر إلى حيث أشارت، كان مطعمًا صغيرًا على جانب الطريق، أضواؤه تُلقي وهجًا دافئًا على الرصيف، أبطأ السيارة أخيرًا، ثم أوقفها أمامه.
+
عندما نزلا، سارت رزان أمامه بخطوات سريعة، وكأنها ستُهاجم الطعام قبل أن يختفي، أما هو، فتبعها بصمت، يراقب تصرفاتها كأنه يراها لأول مرة، جلست على أحد المقاعد الخارجية، وأسندت رأسها على يدها، متأملة القائمة بلا تركيز:
يا ترى أطلب إيه؟ هممم… كل حاجة شكلها حلو.
رفع حاجبه قائلاً بجدية:
ألم تقولي “أي حاجة”؟
قطبت جبينها وهي تردف بمكر:
آه، بس لما شفت الأكل أفتكرت إني ليَّا ذوق برضه.
+
لم يرد عليها، بل رفع يده للنداء على النادل، وعندما اقترب، سأله بصوته الرصين:
ماذا لديك من الطعام؟
بدأ النادل في تعداد الأطباق، لكن رزان قاطعته بحماس:
هاتلي كريب بالشوكولاتة، وساندويتش فراخ سبايسي، وكمان عصير مانجا.
ثم نظرت إلى إليان وهي ترفع حاجبها:
وأنت هتاكل إيه؟
نظر إليها كأن سؤالها غير منطقي، ثم قال ببساطة:
لا أشعر بالجوع.
فغرَت فمها بدهشة:
إيه؟ ازاي؟ احنا بقالنا كتير في العربية!
رفع كتفيه بلا اكتراث، وعاد بنظره إلى الطريق، وكأن الأمر برمته لا يستحق التفكير.
+
بعد دقائق، جاء النادل بالطعام، فتناولت رزان أول لقمة بحماس، ثم أغمضت عينيها بسعادة:
ياااه! الأكل ده جنة.
نظر إليها للحظة، ثم قال بلا تعبير:
أتمنى لكِ وجبة شهية.
أبتسمت له، ثم قالت بعدما أنهت نصف الكريب تقريبًا:
شكرًا إنك وقفت.
نظر إليها بهدوء، ثم قال ببساطة:
لا بأس.
+
رغم بساطة الرد، شعرت أن هناك شيئًا غريبًا في طريقته، لم يكن باردًا هذه المرة، لكنه لم يكن دافئًا أيضًا… مجرد غموض. ومع ذلك، لم تهتم كثيرًا، فالمهم الآن أنها أكلت، ويمكنها مواصلة الطريق دون الشعور بأنها ستموت من الجوع.
+
ظل إليان شاردًا في الطريق، عيناه مثبتتان إلى الأمام وكأنه لا شيء مما حوله يستحق أنتباهة، راقبته رزان للحظات، لم تستطع تجاهل الحزن الذي بدأ يتسلل إليها، شعرت أنه غريب، ليس فقط في حديثه أو تصرفاته، بل حتى في طريقة نظره للعالم من حولها.
+
قطعت شطيرة الدجاج إلى نصفين، ثم مالت نحوه قليلًا وهي تقول بصوت خافت، كأنها تهمس بسرٍّ ما:
شش… أنت، ياللي أسمك إليان.
+
استدار إليها مستغربًا، عيناه تتابعان حركتها وكأنه ينتظر ما ستقوله تاليًا، مدّت يدها بنصف الشطيرة وهي تقول:
خد… دوق.
+
نظر إلى الطعام وكأنه سُمٌّ قاتل، ثم هز رأسه سريعًا بالنفي، ملامحه تعبر عن رفض قاطع، شعرت رزان بخيبة أمل غريبة، وكأن رفضه لم يكن مجرد رفضٍ للطعام، بل رفضٌ لها هي شخصيًا، أبتلعت ضيقها وقالت بصوت خافت يشوبه الحزن:
خلاص… يلا نرجع العربية.
+
نظر إلى وجهها تارة، وحول نظرة إلي الطعام تارة أخرى، كانت علامات الضيق واضحة، لكنه لم يكن يعرف لماذا يشعر بذلك الإحساس الغريب تجاه انزعاجها، تنهد وكأنه يسلم نفسه لقرار لا يريده، ثم مد يده وأخذ الشطيرة من يدها، قائلًا بلا حول ولا قوة:
حسنًا، أخذتها… أنهي طعامك الآن.
+
لمعت عيناها بفرحة عارمة، إبتسامة ١صغيرة شقت وجهها، ثم عادت لتأكل بشهية مفتوحة، نظر إليها للحظة، ثم حول بصره للطعام في يده، يتأمله بريبة، لم يجرؤ على وضعه في فمه حتى.
+
لاحظت تردده، فقطبت جبينها وسألته بإستغراب:
مالك؟ ما تاكل.
تنهد، ثم مدّ يده بالطعام نحوها مرة أخرى وقال بتهكم وهو يحرك رأسة برفض:
أنا لا آكل هذه الأشياء أعذريني… معي طعامي في السيارة.
+
رفعت حاجبها بسخرية:
عمرك ما كلت من العالم ده قبل كده؟
هز رأسه نفيًا وهو يجيب بجدية تامة:
لا.
+
ضاقت عيناها بإستغراب، وكأن كل ما يحدث حقيقي حقًا وليس وهمًا كما هيئ لها عقلها، غمزت له بطرف عينها وهي تقول بلهجة واثقة:
طب دوق ده بس، وأبقى دوقني أكلكم بعدين، صدقني هتحبه أوي.
+
نظر إليها ثم إلى الشطيرة بشك، وكأنها تخطط لخداعه. وأخيرًا، زفر بضيق وقال محذرًا:
إن كان سيئًا… سأقتلك.
ضحكت وهي تلوّح بيدها في الهواء:
ياعم دوق وأنت ساكت!
+
أخذ أول قضمة بحذر شديد، كأنه يتوقع أن يكون الطعم كارثيًا، لكنه لم يكن كذلك… بل على العكس، كان لذيذًا بطريقة لم يكن يتوقعها، تذوق اللقمة التالية بنهم أكبر، ثم نظر إليها بإعجاب صادق:
إنه… جميل حقًا.
+
رفعت حاجبها بغرور، وقالت بإبتسامة جذابة:
عشان بعد كده تسمع كلامي… بالهنا والشفا.
أنهى الطعام بسرعة، لدرجة أنها توقفت عن الأكل وهي تنظر إليه بدهشة:
الله! أنت خلصت قبل مني؟
+
لم يعلق فقط قام بمسح شفتاه، لكنه توقف فجأة وسألها مسرعًا:
هل أنهيتِ طعامك فعلًا، أم ما زلتِ جائعة؟ أجلب لكِ شطيرة أخرى؟
+
نظرت إليه للحظات، ثم انفجرت ضاحكة وهي تردف:
خد كُل دي كمان، شكلك هفتان.
لم يرد فقد لحظات من الصمت ينظر إلي الشطيرة بين يداها، قاطعت تفكيرة وهي تسأل بضحك:
أنت قرفان تاكل من ورايا؟
هز رأسه نفيًا، لكن ملامحه كانت تحمل صدقًا غريبًا وهو يقول:
لن أكذب عليكِ، أنا لا آكل حتى من خلف طفل صغير، أو حتى من خلف عائلتي، ولم أكن أتوقع أنني سأستطيع تناول من خلف أحد من عالمكم أو أكل طعام من عالمكم، لكن… لا أعلم لماذا، معكِ أنتِ الأمر مختلف.
+
شعرت بحرارة غريبة في وجهها، نبضات قلبها أزدادت سرعة، وكأن كلماته اخترقتها بشيء لم تفهمه بعد، حاولت إخفاء ارتباكها، فقالت بصوت خافت وهي تمد له باقي الشطيرة:
هتاخد ولا لا؟
+
نظر إليها، ثم إلى الطعام، قبل أن يمد يده أخيرًا ويأخذه منها وقبل أن يضعة بفمه سألها:
هل أنهيتي طعامك حقًا؟
أومات له بصدق وهي تقرب من فمها كوب العصير لتبدأ ترتشف منه بهدوء، وهي تشعر بدفء غريب يحاوطها، يتعامل الآن وكأنه ليس كالسابق، أقل برودًا و حِده، أكثر دفء وهدوء.
+
عندما أنهى طعامه، دفعت نحوه كوب العصير قائلة بابتسامة خفيفة:
مقرفتش مني، يبقى خد… دوق مانجا كمان.
+
تردد قليلًا، لكنه في النهاية أخذ الكوب منها ورفعه إلى شفتيه قال قبل أن يشرب بصوت غريبًا عليها:
كنت دائمًا أشعر بالاشمئزاز من أقل الأشياء… ولكنكِ تختلفين.
+
نظرت إليه بصمت، شعرت أن شيئًا في داخلها تغيّر في تلك اللحظة، شيء بداخلها يداعب معدتها بقوة.
___________________________________________
+
المطبخ كان يعجّ بالحركة والضحكات، النساء يتحركن بخفة بين الأواني والأطباق، يقطعن الخضروات ويجهزن الطعام بإيقاع متناغم كأنه طقس أسبوعي أعتدن عليه كانت رفد، رغم أنها جديدة بينهم، قد اندمجت سريعًا بفضل طريقتها الإجتماعية المتصنعة التي تتقنها بمهارة.
+
ضحكت وهي تلتفت إلى السيدة ممتلئة الجسد، ذات الوجه البشوش، قائلة بمرح:
والله يا أم نجات دمّك شربات.
+
ضحكت أم نجات وهي تردّ بمودة:
أنتِ إللي شربات يا رفد يا حبيبتي، ربنا يسعدك.
+
أتسعت إبتسامة رفد، لكن عيناها كانت تراقبان أم نجات باهتمام خفي، حان الوقت للانتقال إلى ما تريد أن تعرفه، فمالت نحوها قليلًا وقالت بنبرة يغلّفها الخبث الخفي:
بصراحة أنا دايمًا بخاف من الناس قبل ما أتعامل معاهم، بس أنتِ من جوّا وبرّا طيبة والله، أصل في ناس بتبان حاجة وتطلع حاجة تانية خالص.
+
نظرت إليها أم نجات باهتمام وسألت بفضول:
ليه يا حبيبتي؟ شوفتي إيه؟
+
هزّت رفد كتفيها وهي تقطع الخضروات وكأنها تتحدث بلا اهتمام حقيقي:
شُفت كتير أوي، تلاقي الراجل قدّام الناس شهم وجدع، لكن من وراهم بيتعامل مع ناس غلط… زي الحاج مصطفى، مثلًا. سمعت عنه كلام حلو كتير، هو وأبنه معتز، بس برضه سمعت حاجات تانية…
+
أنهت جملتها بصوت خافت، وكأنها تتحدث عن سرّ خطير، مما جعل أم نجات تميل نحوها بدورها وتخفض صوتها بحذر:
مقدرش أقول عليه راجل وحش، ده بيساعد الناس كلها، بس شغله غلط… ده راجل تقيل أوي في البلد، حتى الحكومة مش عارفة توصله.
+
شهقت رفد بصدمة متصنعة ووضعت يدها على فمها قائلة بفضول مبالغ فيه:
يا أختي! وصلت للحكومة؟!
+
أم نجات أومأت برأسها، ونظرت حولها قبل أن تضيف:
بينّي وبينِك، اللي أعرفه إنه بيهرب سلاح، وشغله مش قليل، طول الأسبوع بيكون في مهام كتير، بس والله العظيم راجل محترم، مخلي الحارة مش ناقصها حاجة… هو وأبنه معتز ربنا يديهم ويفرحهم.
+
قبل أن تردّ رفد، قاطعهما صوت فتاة شابة متوسطة الطول، بشعر منسدل وملامح شعبية، وهي ترفع حاجبها بشك:
في إيه يامّا؟ مالو معتز؟
+
رفعت أم نجات يدها بتهكم وهي تقول:
“ملوش يا أختي، ملوش، روحي كمّلي شغلك.”
راقبتها رفد للحظات وهي تبتعد، بينما التفتت أم نجات إليها من جديد وضحكت بخفة:
يا أختي البنت دايبة في سي السيد معتز، وهو ولا حاسس بيها حتى.
+
رفد لم تستطع منع نفسها من الشعور ببعض الشفقة تجاه الفتاة، فحبّها لشخص مثل معتز يعني أنها تُلقي بقلبها إلى مستقبل مجهول، قد يكون خلف قضبان السجن قريبًا.
+
لكنها لم تترك نفسها تغرق في هذه الأفكار، بل انتقلت لسؤال آخر وهي تتابع تقطيع الخضروات:
بس صحيح يا أم نجات، ليه بتعملوا كل الأكل ده؟ مش فاهمة.
+
أجابت أم نجات وهي تهزّ رأسها كأن الإجابة بديهية:
أفهمِك، الحاج مصطفى طول الأسبوع مش بيكون في الحارة، لإنه بيكون في شغله، وإللي بيمسك كل حاجة هنا ابنه معتز. لكن يوم الجمعة، الحاج بيرجع، والحارة كلها بتتجمع وبيتغدوا مع بعض في الشارع، بيكون يوم حلو أوي، بكرة هتشوفي بنفسك.
+
ثم أضافت بتذكر وهي تشير إلى الطعام الذي بيدها:
وبالمناسبة، في نص الأسبوع كمان، المعلم معتز بيعمل نفس إللي بيحصل يوم الجمعة.
+
أومأت وهي تخفي ابتسامة جانبية، كل معلومة كانت تقع بين يديها كقطعة جديدة من اللغز الكبير الذي تعمل عليه.
______________________________________________
+
بينما في مكان آخر في نفس المنطقة، كان زيدان يقف وسط مجموعة من الرجال، يحملون حقائب ثقيلة مليئة بالبضائع، يعملون بجد وكأن الليلة عيد، الجو كان مشحونًا بالحركة، أصوات الأقدام الثقيلة تمتزج مع همسات سريعة، والوجوه تحمل مزيجًا من الجدية والحذر.
+
أقترب زيدان من أحد الرجال، شاب لم يتخطَّ وجوده في المكان الشهرين، وسأله بصوت هادئ يغلّفه الخبث:
هو في إيه؟ وإيه كل الشنط اللي بنشيلها دي؟
+
نظر له الرجل بلا مبالاة، وهو يضع إحدى الحقائب في السيارة:
بكرة المعلم والحاج طالعين مهمة، ودي البضاعة إللي هتطلع .
+
ضيّق زيدان عينيه قليلًا وسأل باهتمام لم يُرد أن يكون واضحًا:
والمهمة دي هتطلع منين؟
+
هذه المرة، لم يرد الرجل بسرعة، نظر إليه بشيء من الشك، ثم سأله بحذر:
هو أنت مش طالع معانا بكرة؟
+
زيدان لاحظ تغير نبرة الرجل، وفهم من عينيه أنه بدأ يشك في كثرة أسئلته، لم يظهر أي توتر، بل هزّ كتفيه بلا مبالاة متقنة، وردّ بنبرة عادية:
محدش قالي حاجة، لسه مش عارف هطلع ولا لا.
+
ضحك الرجل بسخرية وهو يضع آخر حقيبة في السيارة:
أستنى بقى لما حد يقولك.
+
شعر زيدان بضيق داخلي، لكنه لم يُظهر أي انزعاج، بدلًا من ذلك، حوّل نظره بعيدًا وبدأ في نقل الحقائب ببرود، كل تركيزه منصبٌّ على محاولة التقاط أي معلومة إضافية من الأحاديث المتناثرة حوله، غدًا، سيحدث شيء كبير، وعليه أن يكون مستعدًا لذلك.
____________________________________________
+
أنتهى الفصل الثاني يا حبايبي متنسوش الڤوت ورأيكم في الفصل، وتحليلاتكم هيحصل أي لما إليان ورُزان هيروحوا للست دي؟
ودارين هتكسب القضية ولا لا؟
وإي هيا خطة حبايبي رفد وزيدان؟♡♡.
+

