رواية الوكر الفصل السادس 6 بقلم مريم محمد – تحميل الرواية pdf

الفصل السادس( لعبة الموت )
وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {البقرة:216}.
الفصل السادس من رواية الوكر، بعنوان “لعبة الموت”.♡♡♡
_____________________________________________
كان يجلس في منتصف الرجال، يتناول الطعام معهم بصمت، لم يكن من عادته الانخراط في الأحاديث، بل فضّل أن يكون مراقبًا، مستمتعًا بتحليل التفاصيل الصغيرة التي تغفل عنها الأعين الأخرى، لكن ما أثار انتباهه هذه المرة كان غياب معتز، ووجود والده مصطفى وحده، دون تفسير واضح لذلك.
+
الحارة كانت تضج بالحياة، تُشبه أجواء الشهر الكريم. الطاولات امتدت على جانبي الطريق، يعلوها الطعام، ويحيط بها الرجال والنساء والأطفال في مشهد دافئ ينبض بالحياة، ضحكات الأطفال تملأ المكان، ورائحة الطعام تُغري الجائعين.
+
طفلة صغيرة كانت تتشبث برقبة مصطفى، تضحك بحماس وكأنها تشعر بأمانٍ لا يقطعه شيء، كانت ابنته الصغرى(نغم)، وهذا المشهد أضفى عليه لمحة إنسانية لم يكن يراها من قبل.
+
تنهد زيدان ببطء، ثم رفع عينيه إلى الأعلى، هناك، عند إحدى النوافذ، تقف تراقب المشهد في صمت، محتمية بالخفاء، لكنه كان يعلم أنها تراقب، تمامًا كما يفعل هو.
+
لم يفت عليه التوتر الطفيف الذي زحف إلى ملامح مصطفى بعد انتهاء مكالمته الهاتفية، لم تكن مكالمة عادية، بدليل أنه أجرى بعدها عدة اتصالات أخرى، وعيناه ما زالتا تعكسان قلقًا خفيًا.
+
نظر زيدان إلى هاتفه، لم يتبقَ سوى ثلاث ساعات على المهمة المنتظرة، لحظات قليلة تفصله عن الخطوة التالية، تلك التي ستجعله داخل الدائرة، حيث تُبنى الثقة الكاملة. أعاد عينيه إلى الحشد من جديد، متابعًا بصبر، منتظرًا انتهاء هذا اليوم، الذي لن يمر مرور الكرام.
_____________________________________________
+
كانت المعركة طاحنة، لكن القوة كانت واضحة عليه، لم تكن إصاباته غزيرة مثلها، بل طفيفة، ورغم ذلك لم يكن يقاتل فقط، بل كان يحميها بكل الطرق الممكنة، لكنها لم تكن فتاة ضعيفة تنتظر الحماية؛ فمنذ طفولتها، كان والدها يرسلها هي وشقيقتها إلى تدريبات عسكرية استعدادًا لأي خطر قد يواجههما.
+
لم تكن تعلم كيف سينتصران أمام هذا العدد، فالكثرة تغلب القوة أحيانًا، ومع ذلك، لم تستسلم، استغلت لحظة فراغ، وانطلقت نحو السيارة صارخة بأعلى صوتها:
إليان، تعالا بسرعة!
+
استطاع أن ينسلّ من بينهم ويلحق بها، قافزًا إلى المقعد المجاور، وبلا تردد، ضغطت على دواسة الوقود، لتنطلق السيارة بسرعة جنونية، كان أنفاسها تتسارع، ملامحها الطفولية تلاشت، وحلّت مكانها نظرة قاتلة، متوحشة، بلا رحمة، عيناها الزرقاوان أصبحتا مخيفتين، على العكس منه؛ إذ كان الهدوء يحتل ملامحه.
+
نظر إلى يديه، محاولًا إيقاف النزيف، ثم قال بسخرية:
أليست طبيبة؟
أومأت له باستغراب، بينما كانت تتفادى السيارات هاربةً من الرجال الذين يطاردونها، أكمل حديثه:
كيف لكِ بهذه القوة؟ الأطباء يعالجون، لا يقتلون.
+
نظرت إليه بسخرية، ثم أعادت انتباهها إلى الطريق قائلة بثقة:
عزيزي، الناس دي تستحق الموت، أي شخص لازم يكون عنده جانب رحيم، لكن برضو يكون فيه جانب قوي لو كنت بنت تانية، كان زماني ميتة.
+
ظل يحدّق بها للحظات، قبل أن يفاجئها بقوله الذي يملئ نبرتة الإعجاب:
امرأة قوية… وجميلة.
+
تجمدت للحظة، وعادت ملامحها إلى طبيعتها الرقيقة، لتشعر بحرارة الدماء تصعد إلى وجنتيها، لم تكن تستطيع إخفاء خجلها بسهولة، فأقل كلمة مدح كانت كفيلة بأن تربكها.
+
بعد فترة، أوقفت السيارة على جانب الطريق، حيث لا أحد. السماء كانت تنعكس على سطح البحيرة الصغيرة، والأشجار تحيط بهما من كل اتجاه، ترجل من السيارة، فتح صندوقها الخلفي، وأخرج بعض الأدوات الطبية، ثم اقترب منها قائلاً:
اجلسي، رزان.
+
أطاعته وجلست على المقعد الخشبي القريب، بينما جلس بجانبها، ممسكًا بكفها المجروح بحنان شديد، وبدأ في تضميده سألها بهدوء مستفسرًا:
من هؤلاء؟
+
هزّت كتفيها علامة على الجهل:
مش عارفة.
+
أنهى تضميد جرح يدها، لكن نظراته وقعت على الجرح الصغير فوق حاجبها، فاقترب ليعالجه أيضًا، كانت تراقب ملامحه عن قرب؛ عيناه السوداوان، بشرته الخمرية، خصلاته القصيرة السوداء، وطوله اللافت، مع تلك العضلات التي تكشف عن قوته الهائلة، قطع شرودها عندما سألها باهتمام:
هل ما زلتِ تشعرين بالألم في كفك؟
+
هزّت رأسها نفيًا، بينما نهض متجهًا إلى السيارة، ثم عاد محملًا ببعض الأشياء، جلس بجانبها، وأخرج طبقًا قائلاً بابتسامة:
أخبرتني أنكِ تريدين تجربة طعام عالمي، تفضلي.
+
نظرت إلى الطبق بتردد، كانت الهريسة غريبة اللون والشكل، لكنها استسلمت لفضولها وتذوقت منها، وبمجرد أن لامست شفتيها، علّقت بانبهار:
واو! طعمها شبة البطاطس التي بتعملها دارين!
+
نظر إليها بإمعان، ثم ضيّق عينيه وهو يسألها:
دارين مَن؟
+
أجابت دون أن تنظر إليه:
أختي.
ـ هل لديكِ شقيقة؟
+
أومات له بالإيجاب من بين تناولها للطعام، متمتة:
ايوا عندي اتنين، رفد ودارين.
+
أومأ برأسه بإعجاب:
أسماء مميزة.
صمت قليلًا قبل أن تترك الطعام وتسأل بصوت خافت:
ينفع أسالك سؤال؟
ـ بالتأكيد.
+
أبتسمت بخفوت وأعطته تركيزها وسألت:
لو جيت معاك حياتي هتكون إزاي، وهعيش فين؟
+
حرك رأسة دون إرادة وأجاب:
إذا أتيتِ معي، ستعيشين في القصر، مع عائلتي، أظن أنكِ ستحبين الأميرة الصغرى أكثر من الكبرى، فهي تملك خفة دم مذهلة.
+
توقفت عن الطعام، رفعت عينيها إليه وسألته باهتمام واضح:
لو جيت معاك هينفع أرجع تاني هنا؟
أومأ برأسه موافقًا، ثم كرر العبارة التي طالما أخبرها بها:
لقد أخبرتط كثيرًا أنكِ الفتاة الوحيدة التي تستطيع التنقل بحرية، إلى أي مكان تشائين.
+
لكنها تنهدت قائلة:
الفترة الجاية مش هعرف أنزل معاك.
ضيّق عينيه متسائلًا:
لماذا؟
+
أجابته بلا مبالاة:
عندي امتحانات في الكلية بداية من بكرة، ولازم أذاكر الأسبوع ده هخلص الامتحانات الخميس، يعني من هنا للأسبوع الجاي.
+
نظر بعيدًا للحظات، ضيقًا خفيًا يلوح في ملامحه، لكنه في النهاية أومأ متقبلًا، فلاحظت ذلك واستغربت:
لو عاوز تروح لوحدك، روح.
حرك رأسه بأسى شديد، وعاد بأنظاره إليها قائلاً:
في الكتاب كُتب أنني لن أستطيع فعل شيء وحدي، دون أن تكوني بجانبي.
+
نظرت إليه بتفهم، وقالت بأسف:
معلش، استنى الأسبوع ده… دي آخر سنة ليا، ومش هضيعها أكيد.
_____________________________________________
+
على الناحية الأخرى، كان يرقد في غرفة المعيشة، عيناه مغلقتان، وأنفاسه متلاحقة، بينما هي لم تتوقف عن التحرك جيئة وذهابًا في الغرفة، تردد كل بضع ثوانٍ بصوت عالٍ، وكأنها تحاول إعادته للواقع كلما غاب قليلًا:
معتز، خليّك صاحي.
+
كعادته، سخر منها رغم ألمه، لكن صوته كان ضعيفًا، يخفي خلفه ألمًا لم يفلح في إخفائه هذه المرة، لم يلبث أن تحدث بصوت خافت، يخرج الحروف بصعوبة، وكأن كل كلمة يلفظها تسرق منه جزءًا من وعيه:
رني تاني على الدكتور.
+
شعرت وكأن التوتر صعد فجأة إلى رأسها، جلست بجواره سريعًا، عيناها متسعتان من الهلع وهي تراقب الدماء المتدفقة بلا توقف، وعيناه التي أوشكت على الانغلاق، بيدين مرتعشتين، أمسكت هاتفه واتصلت بالطبيب، وما إن أجاب حتى قالت بلهفة:
الو، معتز شكلوا هيغم عليه، حضرتك فين!
+
جاءها صوت الطبيب متعجلًا، يحمل قلقًا واضحًا:
الطريق واقف، مش عارف أجي ولسه قدامي كتير، ومش هيرضى يروح المستشفى، هو مريض هيموفيليا، والدم مش هيقف، ومش هيستحمل لغاية ما أوصل.
+
شعرت وكأن الهواء يُسحب من حولها، ازدردت ريقها بصعوبة قبل أن تتحدث سريعًا، وكأنها تحاول الإمساك بأي خيط للنجاة:
ـ أنا هعرف أخرج الرصاصة، بس فين الأدوات؟
ـ إنتِ دكتورة؟
ـ شبه كده، قولي أعمل إيه؟
+
ـ خشي الأوضة بتاعته وقلّبي في الدولاب، هتلاقي شنطة سفر، افتحيها وهتلاقي كل الأدوات، خرجي الرصاصة، خيطي الجرح، واديله مضاد حيوي، سيبيه ينام، بس طول ما إنتِ بتخيطي، اتأكدي إنه صاحي.
+
أنهت المكالمة بسرعة، ثم التفتت إليه، تحاول إبقاءه واعيًا بأي وسيلة، تحدثت إليه وهي بالكاد تحافظ على ثبات صوتها:
معتز، حاول تفضل صاحي.
+
لم تنتظر رده، بل أسرعت إلى الغرفة التي وصفها الطبيب، فتحت الباب لتجدها مرتبة بشكل لم تتوقعه، كل شيء في مكانه بدقة وكأن صاحبها يعاني وسواس النظام، تحركت سريعًا إلى الدولاب، قلبت في محتوياته إلى أن وجدت حقيبة السفر، سحبتها بيدين مرتجفتين وخرجت مسرعة.
+
وجدته يحاول جاهدًا إبقاء عينيه مفتوحتين، اقتربت منه، شعرت بأن دموعها على وشك الانهيار لكنها تمالكت نفسها، لا مجال للبكاء الآن، بصوت مهزوز، همست إليه مرة أخرى:
معتز، حاول تفضل صاحي.
+
لم يعد هناك وقت، نهضت بسرعة ودخلت إلى المرحاض، فتحت صنبور المياه، ووضعت يديها تحتهما، تنظر إلى انعكاسها في المرآة، ملامحها شاحبة، نظراتها مضطربة، لكنها سرعان ما انتزعت نفسها من تلك اللحظة، غسلت وجهها، ثم يديها، وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تخرج مجددًا.
+
خلعت القميص الذي ترتديه، ثم اقتربت منه، بدأت في نزع التيشيرت عنه بحذر، لكنه حاول مساعدتها رغم ضعفه الشديد، كأنه يتمسك بالبقاء فقط لمساعدتها، ما إن أزالت الوشاح الملفوف حول ذراعه، حتى تراجعت أنفاسها للحظة، الجرح عميق، والدماء لا تزال تنزف بغزارة.
+
بيد ثابتة أو هكذا تحاول أن تبدو بدأت في تنظيف الجرح، وعيناها تراقبان ملامحه التي امتزجت بين الألم والمقاومة. نصف وعيه فقط كان معه، لكنه رغم ذلك فتح عينيه نصف فتحة، وبتعب واضح همس:
وأنتِ دكتورة ولا محامية بقى؟
+
رفعت عينيها إليه، ثم ابتسمت بسخرية خفيفة وهي ترد عليه بنبرة حاولت أن تبدو هادئة:
أنا بعمل كل حاجة محدش يتوقعها.
رغم الألم، رغم وعيه المتذبذب، إلا أنه ابتسم ابتسامة باهتة، وصوته خرج ضعيفًا لكنه محمل بيقين غريب:
أنتِ عملتي كل حاجة فعلًا.
+
شعرت بوخزة في قلبها مع كلماته، لكنها تجاهلت ذلك، وواصلت العمل، أخرجت الرصاصة بحذر، ثم بدأت في تخييط الجرح، ومع كل غرزة، شعرت وكأن الألم يتغلغل داخلها هي، لا داخله.
+
تدور في عقلها فكرة واحدة، هل ستخبر والدها؟
+
لو أخبرته، لن يتركها وحدها بعد الآن، سيرسل رجالًا خلفها لحمايتها كما فعل في الماضي، وهي تكره ذلك، تكره الشعور بأنها مراقبة، بأنها عاجزة عن حماية نفسها.
+
لا… لن تخبره بشيء، ما حدث هنا الليلة، لن يكون سوى سر جديد يُضاف إلى قائمة أسرارها الطويلة.
__________________________________________
+
وقفت السيارة على مسافة قصيرة من منزلها، حيث بدا المشهد مألوفًا، لكن هذه المرة لاحظت شيئًا مختلفًا… عدد الحراس الهائل الذين يحيطون بالمكان وكأنهم يستعدون لحرب وشيكة، زفرت بضيق، مؤكدة لنفسها قرارها بعدم إخبار والدها بما حدث، يكفي ما يفرضه عليها من رقابة، وإن عرف بما حدث الليلة، فالأمر لن يمر مرور الكرام.
+
وقبل أن تهبط، التفتت إليه فجأة، نظراتها تعكس استغرابًا حقيقيًا وهي تسأل بعدما تذكرت:
هوا أنت لما طلعت أوضتي طلعت إزاي؟
+
لم يجبها على الفور، بل أبتسم بمشاكسة، وكأن سؤاله هو الرد الحقيقي على تساؤلها:
هل تريدين أن تري؟
+
لم تتردد في إيماءة حماسية، وبمجرد أن فعلت، هبط من السيارة بخفة، وتبعته هي، فضولها يدفعها لمتابعة كل خطوة يقوم بها، ابتعدا قليلًا عن مدخل الفيلا حتى وصلا إلى الجهة الخلفية، حيث الأشجار الضخمة والسور الحديدي العملاق الذي يحجب الرؤية تمامًا.
+
لم تتوقع أن يأخذها نحو شجرة بعينها، وحين اختفى بين فروعها الكثيفة، أشار لها لتتبعه، ترددت للحظة، لكنها تقدمت ببطء، وعندما دخلت خلفه، فوجئت بأن جزءًا من السور الحديدي كان مفتوحًا، مخفيًا خلف الأوراق الكثيفة.
+
نظرت إليه بدهشة حقيقية، لكن قبل أن تنطق بكلمة، كان قد تسلل إلى الداخل بخفة، تاركًا لها الخيار في أن تلحق به أو تتراجع، لم تفكر طويلًا، فدلفت خلفه، ووجدت نفسها تسير بجواره في ممر خفي خلف المنزل، حيث يقف الحراس في أماكنهم المعتادة، غير مدركين لوجودهم.
+
نظر إليها، ثم دون سابق إنذار، قفز على إحدى فروع الأشجار القريبة بسهولة وكأنه اعتاد الأمر، ثم مد يده نحوها، يشجعها على الصعود.
+
كتمت ضحكة خافتة، ورفعت حاجبها وهي تهمس بسخرية:
ـ ده طلع زي ترازان… هعملها إزاي دي يا ترازان؟
+
قهقه بصوت منخفض، ثم مد يده أكثر، كأنه لا يمنحها فرصة للرفض، نظرت إليه قليلًا، ثم زفرت باستسلام ووضعت كفها بين كفه، وفي لحظة واحدة، وجدت نفسها تقف بجواره فوق الفرع، لا تعلم كيف فعل ذلك بسرعة هكذا… هل هو قوي إلى هذا الحد؟
+
كانت محاطة بالأوراق الكثيفة، بعيدًا عن أعين الحراس، لكنه رغم ذلك تمسك بها جيدًا، كأنه يخشى أن تسقط منه. وقبل أن تستوعب ما يحدث، كان قد قفز بها إلى شجرة أخرى، مما جعل صرخة مكتومة تفلت منها، تمسكت برقبته بقوة بينما قلبها يكاد يقفز من مكانه على جنونه هذا.
+
وحين هبط بها أخيرًا، وكانا قد وصلا إلى مكان آمن بعيدًا عن الحراس، استدارت نحوه بسرعة، وصوتها يخرج هامسًا لكنه محمل بالغضب:
أنت عاوز تموتني؟
+
هز رأسه نفيًا، وابتسامة مستمتعة تعلو وجهه وهو يرد ببرود:
ـ لا، لكنك جبانة للغاية.
+
رمقته بنظرة غاضبة، لكنه لم يمنحها فرصة للرد، فقط استدار يتحرك داخل المكان وكأنه منزله، وكأن كل شيء هنا مألوف لديه أكثر مما هو مألوف لها، كانت تراقبه باندهاش حقيقي، كيف يعرف كل هذه التفاصيل؟ كيف يتصرف وكأنه يتجول في منزله الخاص؟
+
وصل أخيرًا أسفل نافذتها، التقط السلم الخشبي الملقى بلا اهتمام، وأسنده إلى الحائط، ثم بدأ في الصعود بسهولة، وكأنه اعتاد على فعل ذلك مرارًا، تأملته للحظة، ثم زفرت بضيق، وتبعت خطواته، حتى وجدت نفسها أخيرًا داخل غرفتها.
+
جلست على الفراش بتعب، وشعرت للمرة الأولى بالإرهاق يتسلل إلى عضلاتها، لكنها رغم ذلك لم تستطع منع ابتسامة شكر خفيفة وهي تقول:
ـ ألف شكر… إلى اللقاء، إليان، أشوفك بعد أسبوع بقى.
+
بدلًا من المغادرة، جلس على الفراش أمامها، نبرته ساخرة وهو يرد ببرود مستفز:
ـ سآتي لكِ غدًا لأقوم بتوصيلك.
+
رفعت حاجبها بدهشة، ثم سألته بصوت يشبه النساء اللواتي يردحن في الأسواق:
ـ نعممم؟ لغاية هنا وخلاص، هروح لوحدي.
+
هز رأسه نفيًا، وكأن الأمر محسوم بالنسبة إليه، رد بلا مبالاة واضحة، غير متأثر بتغير نبرتها:
ـ سآتي لكِ غدًا، إلى اللقاء.
+
أنهى حديثه ببساطة، ثم استدار نحو النافذة مجددًا، وبدأ في الهبوط منها بنفس الطريقة التي صعد بها، وكأن الأمر لا يحتاج إلى مجهود يُذكر، كانت تتابعه بعينيها حتى اختفى عن ناظريها، ثم زفرت بسخرية وهي تهمس لنفسها:
ـ لا، ده أنا لازم أقول لبابا يخلي باله زيادة عن الأول… عشان خاطر ترازان ده!
+
وأخيرًا، استلقت على الفراش، سحبت الغطاء فوقها، وأغمضت عينيها بإرهاق، كانت ليلة طويلة، مليئة بالأحداث التي لم تتوقع حدوثها أبدًا، وكأنها دخلت مغامرة لا تخصها.
+
لكن رغم التعب، كانت مشاعرها مختلفة هذه المرة… خليط غريب بين الحماس، القلق، والإثارة التي لم تعتد عليها من قبل.
+
وفي غمرة كل ذلك، استسلمت أخيرًا لنوم عميق، لم يترك لها مجالًا للتفكير أكثر.
_____________________________________________
+
بعد عدة ساعات…
+
كانت الأجواء فوضوية، هرج ومرج يسيطران على المكان، أصوات متداخلة، حركة مستمرة، الجميع في حالة تأهب. انتشرت الأنباء سريعًا عن اقتراب الشرطة من المنطقة، فتحرك الرجال كخلية نحل، بينما تم دفع النساء والأطفال إلى الداخل، أما الطفلة الصغيرة “نغم”، فقد تمركز حولها عدد مضاعف من الحراس، يقفون بأسلحتهم، كأنهم يحرسون كنزًا لا يقدر بثمن.
+
في الخارج، كان الرجال يقفون في صف واحد، ظهورهم مسنودة إلى بعضها البعض، وجوههم جامدة، أنفاسهم ثقيلة، وكأنهم على أعتاب معركة لا يعرفون كيف ستنتهي.
+
وصل الضابط…
+
تقدم ببطء، خطواته واثقة، تعكس شخصية لا تخشى المواجهة، كان يُدعى “سالم”، رجل ذو ملامح حادة ونظرات باردة، تحيط به هالة من الصرامة والجدية، توقف أمام مصطفى، عينيه مثبتة عليه وكأنه يدرسه بعناية، ثم قال بصوت بطئ، لكن يحمل تهديدًا ضمنيًا:
ـ جالنا أخبار غريبة شوية يا مصطفى… مع الأسف، المحل هيتفتش… وكمان العربيات.
+
لم يتحرك مصطفى على الفور، بل تراجع خطوة للخلف، مشيرًا لهم بالدخول، بدا على وجهه اللا مبالاة، لكن في داخله، كان الارتباك يتسلل إلى جسده كتيار بارد، يلتف حوله ويضغط على أنفاسه.
+
المشكلة لم تكن في المحل… بل في السيارات.
+
نظر مصطفى حوله، يبحث بين رجاله عن شخص يستطيع الوثوق به في هذا الأمر، لكن الجميع بدوا له وكأنهم مجرد أشباح، لا يمكنه الاعتماد على أحد. حتى ابنه معتز لم يكن متواجدًا الآن، مما زاد من شعوره بالقلق. زفر الهواء ببطء، محاولًا استعادة هدوئه، لكنه شعر ببرودة غريبة تسري في أوصاله، وكأنها إنذار بما هو قادم.
+
تحرك العساكر نحو السيارات، وذهب معهم مصطفى، ليجد مفاجأة غير متوقعة.
+
أمام السيارات، وقف شاب لم يره من قبل، ملامحه جديدة عليه، لكن وقفته الواثقة، ونظرته الهادئة، جعلت الهدوء يتسلل إلى داخله، الشاب لم يكن سوى “زيدان”، الذي استدار ببطء نحو سالم، ابتسامة باردة تعلو شفتيه وهو يقول بثقة لا تتزعزع ولكن لها مغزى بينهم:
في أي يا باشا؟
+
تفرس سالم ملامحه بجمود، ثم سأل بصوت جامد ولكن هناك إبتسامة جانبية خبيثة:
العربيات دي بتاعت مين؟
+
كان الرد سريعًا… حاسمًا… مليئًا بالثقة، خرج من فم زيدان:
بتاعتي يا باشا.
دون ارتباك، دون تردد، كأنه مالك الأرض، وليس مجرد غريب وسط هذه الحارة.
+
نظر سالم إليه لثوانٍ، ثم أشار بيده للعساكر ليبدأوا في التفتيش، وبينما كانوا يتحركون، كان زيدان يحوّل بصره ببطء إلى مصطفى، ينظر إليه نظرة طويلة، قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة مطمئنة، لكنها في الأصل كانت ماكرة… ابتسامة شخص يعرف كيف يصطاد فريسته بصبر وذكاء، دون أن يمنحها فرصة للهرب.
+
في الجهة الأخرى من الحارة…
+
تحركت بهدوء، كأنها فأر يحاول التسلل وسط الظلام، خطواتها كانت خفيفة بالكاد تُسمع، ترتدي جاكيت أسود طويل، وتُخفي خصلات شعرها تحت غطاء رأسها، بينما تمشي بحذر، تتفادى أعين الجميع.
+
اقتربت من إحدى سيارات الشرطة المتوقفة وسط مجموعة من السيارات الأخرى، تحركت بسرعة، فتحت الباب الخلفي، وصعدت إلى الداخل قبل أن يلاحظها أحد، ثم أغلقت الباب خلفها، تختفي تمامًا عن الأنظار.
+
لا أحد يواجه قوة خارقة إلا إذا امتلك قوة مماثلة…
وإن لم تكن لديك القوة اللازمة، فاعلم، عزيزي القارئ، أنك ستكون المهزوم.
_____________________________________________
في غرفة مظلمة بالكاد تخترقها ضوء القمر من نافذة صغيرة، جلس رجل على كرسي خشبي عتيق، يحيط به دخان سيجار يتصاعد ببطء، أمامه وقف رجل آخر، مستقيم الظهر، ملامحه جامدة كالصخر.
+
تكلم الرجل الواقف بصوت هادئ لكنه يحمل نبرة قاتلة:
الفتيات سيتقتلوا الآن يا سيدي، لكن… الفتاة الكبرى، لا نعلم أين تتواجد.
+
صمت الرجل الجالس لثوانٍ، عيناه تتأملان الفراغ أمامه قبل أن يضع السيجار جانبًا ويميل للأمام، صوته خرج منخفضًا لكنه ثقيل كالرصاص:
ابحثوا عنها… لا أريد أن يبقى أي طرف منهم مفتوح.
ثم أرتسمت على وجهه إبتسامة باردة، لم تحمل أي أثر للرحمة.
_____________________________________________
منتصف الليل…
+
في قاعة لم يُكشف عنها من قبل، حيث يسود الغموض، تمتد طاولة طويلة من بدايتها حتى نهايتها، تحيط بها مقاعد خشبية تحمل فوقها رجالًا ونساءً بملامح جامدة، لا أثر للعاطفة أو التردد في أعينهم، إضاءة خافتة تسرق من ملامحهم بعض التفاصيل، لكنها تترك خلفها ظلالًا مخيفة تتراقص على الجدران.
+
البعض عربي، والآخرون ليسوا كذلك، الجميع يرتدون بدلًا رسمية داكنة، وعلى وجوههم ترتسم ابتسامات مرعبة، ابتسامات تحمل بين طياتها أكثر مما تظهره.
+
في نهاية الطاولة…
+
يجلس رجلٌ في منتصف عمره، بشعر أبيض كالجليد، وبشرة فاتحة، جسده لا يزال يحمل قوة واضحة رغم تقدمه في السن، على الجانب المقابل منه، تجلس امرأة في مثل عمره، بشعر أبيض كذلك، وفستان أسود يصل إلى ما بعد ركبتيها بقليل، عاري الكتفين. على الرغم من ملامحها الهادئة، إلا أن عينيها تحملان ذات البرود الذي يسكن القاعة بأكملها.
+
بعض النساء يجلسن بين الحضور، أعدادهن أقل من الرجال، لكنهن يلفتن الانتباه أكثر مما يخفين، يرتدين فساتين سوداء، كأنهن ينعين شيئًا لم يمت بعد.
+
عندما اكتمل العدد، تنحنح الرجل بهدوء…
قال بصوت ثابت، يحمل رهبة غريبة:
اليوم… منذ سبع سنوات، جمعتكم مرة أخرى، ورأيت كيف أن الصغار أصبحوا كبارًا، رجالًا ونساءً… لا شك أن من لم يأتِ إلينا الليلة، قد أُرسلت أرواحهم إلى الخالق، لمخالفتهم الأوامر.
+
توقّف للحظة، عيناه تمسحان الوجوه بدقة، ثم تابع بصوت أكثر ثقلًا:
حان الوقت ليترك الجيل القديم مكانه لجيل جديد… سنختار اليوم رجلًا وامرأة منكم للارتقاء، ليكونا ضمن السبعة الأوائل.
+
تجمّدت النظرات في أماكنها، عيون تراقب بحذر، أنفاس تكاد لا تُسمع.
نهض الرجل من مقعده ببطء، ونطق بصوت قاطع:
أبي هو من سيختار… وكما تعلمون… المـهـزوم مـقـتول.
+
ثم اختفى خلف باب خشبي، ليعود بعد دقائق قليلة، نظرته هذه المرة كانت أكثر ظلامًا، وأكثر حدة، رفع ورقة أمام عينيه، قرأها بصوت صارم:
ـلقد وقع الاختيار على…
رستم… الصناديلي… جاد… قنديل… وأبوستين.
المـهـزوم… مـقـتـول.
+
نهض خمسة أشخاص من مقاعدهم…
+
الرجل الأول، غير عربي، ذو ملامح باردة أشبه بجدار لا يمكن اختراقه.
الرجل الثاني، طويل القامة، أسمر البشرة، بعينين سوداوين كظلمة الليل.
الرجل الثالث، بملامح خمرية، جسده صلب كأنه منحوت من حجر.
المرأة الأولى، طويلة، بشرة ناصعة البياض، خصلاتها تميل إلى الذهبي، كحل أسود يحيط بعينيها، وفستان أسود يصل إلى ركبتيها، لكنها تغطي كتفيها بشال أبيض، ابتسامتها خفيفة لكنها تحمل معاني كثيرة.
خلفها، وقفت المرأة الثانية، متوسطة الطول، ذات بشرة سمراء، بملامح بريئة لكن عينيها لا تحملان البراءة، خصلاتها السوداء المجعدة تتدلى بحرية، وترتدي بدلة سوداء بدلًا من الفستان.
+
جلسوا في دائرة…
الطاولة الصغيرة في المنتصف، وفوقها لعبة خشبية بدأت بالدوران.
بدأ القطار بالتحرك ببطء… ببطء… حتى توقف عند الرجل الأول.
+
لم يكن لديه حتى الوقت لرفع رأسه، رصاصة أُطلقت من مكان مجهول، استقرت في صدره، فتوقف نبضه إلى الأبد.
+
دوران جديد…
توقّف هذة المرة، عند المرأة الثانية.
+
لكنها لم ترتبك، رفعت رأسها بثقة، نظرت إلى أحد الرجال الجالسين على الطاولة، فبادلها بإبتسامة باردة، استقامت بهدوء، وانتقلت إلى مقعد آخر بجانبه وكأن شيء لم يكن.
+
دورة جديدة… هذه المرة كان الجميع أكثر حذرًا… أكثر انتباهًا.
دق… دق… دق… دق…
+
توقّف القطار عند الرجل الثاني…
رصاصة أخرى… حياة أخرى تنتهي في ثوان.
الصمت يخيم على القاعة… لم يتبقَّ سوى اثنين.
+
نهض الرجل العجوز مجددًا، وبنبرة تحمل الفخر والهيبة، نطق بأسمائهما بصوت واضح:
واليوم، 17 فبراير 2025، ينضم إلى رجال أبي اثنان…
“معتز الصناديلي” و “أيرلي أبوستين”.
___________________________________________
+
صدمة يافوزي صدمة، أيي رأيكم يا حبايبي، وأي توقعاتكم ؟
متنسوش الڤوت ورأيكم عشان يهمني♡♡♡.
+

