رواية الوكر الفصل الثامن 8 بقلم مريم محمد – تحميل الرواية pdf

الفصل الثامن ( لحظات مميزة )
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، الفصل الثامن من رواية الوكر بعنوان “لحظات مميزة”، متنسوش الڤوت ورأيكم♡♡♡.
٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭
وصل بعد فترة من الوقت، ليجدها تقف خلف سور الفيلا الخلفي، جسدها متصلب وملامحها مشدودة بتوتر واضح، وكأنها تحاول السيطرة على اضطرابها عبثًا، أبطأ السيارة قليلًا، ثم أهبط زجاجها، محركًا رأسه ببطء وهو يقول بصوت هادئ:
أركبي.
+
تحركت نحوه بخطوات مترددة، فتحت الباب وصعدت، بينما كان هو قد بدأ بالفعل في تحريك السيارة، للحظات ظل ينظر أمامه، قبل أن يلقي سؤاله بنبرة رتيبة، لكنها تحمل اهتمامًا دفينًا:
في إيه؟
+
لم تلتفت نحوه، اكتفت بالنظر إلى الأمام وهي تجيب بصوت منخفض يكاد يكون هامسًا:
أختي في المستشفى.
+
لم يبدِ رد فعل سريع أو إهتمام بما يحدث، أبقى نبرته هادئة، لكن عينيه كانتا تراقبانها بحذر:
طب وفي إيه بالظبط؟ ليه رنيتي وقولتيلي تعالا خدني؟
ازدردت ريقها، وكأنها تحاول تهدئة الأرتجاف الخفيف الذي تسلل إلى صوتها، ثم قالت بعد لحظة صمت قصيرة:
بابا عرف عن الهجوم إللي حصل لنا.
+
هذه المرة، لم يستطع منع نفسه من الالتفات نحوها، حركة رأسه كانت سريعة، لكنها لم تكن مبالغ فيها، فقط كافية لتكشف عن التوتر الذي حاول إخفاءه، حاجباه انعقدا للحظة، وعيناه ضاقتا وهو يسأل بنبرة حادة، رغم محاولته إبقاءها متزنة:
قولتيله إيه؟ حصل إيه؟ ما تتكلمي أنتِ هتنقطيني بالكلام؟
+
رفعت عينيها نحوه أخيرًا، نظرة متوترة لكنها تحمل بعض التحدي، وكأنها ترفض أن تُعامل كمتهمة هكذا وبهذة الطريقة:
أتكلم معايا براحة، مقولتش عليك عشان الموضوع ميكبرش، بس الحراس مكنوش راضيين يخرجوني، ملقتش غيرك أرن عليه.
+
ظل صامتًا لثوانٍ، كأنما يزن كلماتها في عقله، ثم زفر ببطء، وكأنما يحاول تهدئة نفسه، قبل أن يسأل أخيرًا بنبرة أكثر هدوءًا لكنها لا تزال جادة:
طب المستشفى فين؟
أخرجت هاتفها بسرعة، وأصابعها تتحرك فوق الشاشة بتركيز مرتبك:
اصبر، هرن وأشوف هو فين بالظبط.
+
مرت ساعات طويلة، كانت تقف في غرفة المرضى، عيناها معلقتان بشقيقتها التي تجلس على السرير، وذراعها متصلة بالمحلول الملحي، في نهاية الغرفة، كانا يقفان معتز وإليان، لا يتحدثان، فقط يراقبان المشهد بصمت.
+
تمتم معتز بصوت هادئ، كسره سكون الغرفة:
دارين، ممكن ثواني؟
رفع حاجبيه قليلًا وهو يشير بعينيه نحو الخارج، وكأنه يطلب منها الخروج معه دون الحاجة إلى مزيد من التوضيح بالأحرف، نظرت نحوه وأومات له بالايجاب، ثم تحركت بهدوء لتتبعه إلى الخارج.
+
وقف هناك ينتظرها، يده في جيب بنطاله، وملامحه تحمل ما يشبه التردد، لكنه سرعان ما قال بنبرة ثابتة عندما لمحها خلفة:
هضطر أروح للأسف، ألف سلامة عليها.
+
رسمت إبتسامة إمتنان دافئة على وجهها، وضمت ذراعيها حول كتفيها، وكأنها تمنح نفسها بعض الراحة، قبل أن تردّ بصوت ناعم كعادتها:
الله يسلمك، شكرًا أوي يا معتز.
+
هزّ رأسه نافيًا بلطف، وظهرت على وجهه إبتسامة خفيفة، تكاد لا تُرى، لكنه ردّ بجدية صادقة:
لو أحتاجتي أي حاجة، أنا موجود.
+
لم تجد ما تقوله، فقط أكتفت بابتسامتها التي حملت في طياتها كل المشاعر التي تعجز الكلمات عن نقلها، شعرت بامتنان حقيقي لمساعدته لها، لكنها لم تستطع التعبير عنه أكثر من ذلك، قبل أن يغادر، أضاف بصوت هادئ لكنه حاسم:
هستناكِ بكرة في المحكمة.
+
أنهى حديثه وتحرك مبتعدًا، لتراقب خطواته وهو يختفي عن أنظارها، نظرة هادئة لكنها غريبة ارتسمت على وجهها، وكأنها تعرفه منذ سنوات، وليس مجرد أسبوع قضى بينهم، لم يمضِ وقت طويل حتى شعرت بيد ثقيلة توضع على كتفها بقوة.
+
استدارت بسرعة، لتجد والدها واقفًا أمامها، ملامحه قاسية وعيناه مشتعلة بالغضب، وصوته خرج كالرعد:
هو مش أنا قولت متخرجيش؟
ارتبكت للحظة، حاولت تبرير موقفها بسرعة، صوتها خرج متوترًا:
بس يا بابا…
+
لكنه لم يمهلها فرصة، صوته ارتفع أكثر، صار يشبه الصراخ وهو يسأل:
هو مش أنا قولت متخرجيش؟
+
أومات برأسها سريعًا وهي تحاول تجنب النظر في عينيه، لكن نبرته ازدادت حدة، وكلماته حملت تهديدًا واضحًا:
مبتسمعيش كلامي ليه؟
+
تنفست بعمق، ثم ردّت بصوت منخفض لكنه لم يخلُ من الضيق:
معلش يا بابا، مش هسيب أختي لوحدها عشان حضرتك مش عاوز تخرجني من الڤيلا.
حدق بها لثوانٍ كإنما يستوعب حديثها، ثم قال بلهجة قاطعة:
حسابنا في البيت.
+
لم تجبه، فقط استدارت ودخلت الغرفة مجددًا، لكنه لحق بها بخطوات سريعة، عند دخوله، وقعت عيناه على شاب غريب الملامح يقف في نهاية الغرفة، ملامحه هادئة لكن عينيه كانتا تراقبان الموقف بصمت، يعقد يداه عند صدرة ولا يزيح نظرة عنهم، عقد حاجبيه وسأل بصوت بارد، يحمل نبرة غير مستحبة:
وأنت مين أنت كمان؟
+
قبل أن يتمكن الشاب من الرد، جاء صوت رزان، ضعيفًا لكنه متسرع قبل أن يجيب إليان ويقعوا في الخطاء سويًا:
ده معايا في الكلية يا بابا، هو إللي جابني.
+
لم يُظهر كمال أي اهتمام، فقط ألقى نظرة بلا مبالاة نحو الشاب، قبل أن يردّ بجفاء واضح كأنه قمامة:
تمام، شكرًا يا بشمهندس، أتفضل.
+
كان إليان يراقبه بنظرات طويلة، لم يردّ، لم يعترض، فقط ظل ينظر إليه، لكن كمال لم يكن في مزاج يسمح بالانتظار، لذا عاد بنظره نحوه وقال بحدة أكبر وصوت أعلى:
قولتلك شكرًا، اتفضل بقى.
+
تراجع إليان خطوة، ثم استقام في وقفته، تحرك نحو الباب، لكنه قبل أن يغادر، التفت نحو رزان وقال بصوت هادئ لكنه حازم:
سآتي لكِ غدًا لإيصالك.
+
تابعه كمال بعينيه حتى أختفى، ثم عاد بنظره إلى ابنته، نبرته كانت مشوبة بالاستنكار وهو يسأل:
إيه ده؟ وفي إيه؟
ظهر التوتر واضحًا على وجهها، رفعت يديها لتغطي ملامحها قبل أن تجيب بصوت مرتبك:
يا بابا، ده زميل ليا.
لم يكن رده سوى سؤال يحمل قلة صبر واضحة:
زميل ليكي وعادي ييجي ياخدك؟ الدنيا سايبة كده؟
+
قبل أن تتمكن رزان من الردّ، جاء صوت دارين الغاضب ليقطع التوتر في الوسط:
يا بابا، اهدى! هي دلوقتي تعبانة، مش وقته.
+
نظر كمال إليهما، نظرة جمعت بين الغضب وقلة الصبر، لكنه لم يقل شيئًا، فقط زفر بضيق وجلس على الأريكة المقابلة، منتظرًا انتهاء المحلول الذي في يد ابنته الصغرى.
+
لم يكونوا يفهمونه، لم يفهموا أن غضبه لم يكن إلا خوفًا، وأن شدته لم تكن إلا وسيلة لحمايتهم، هو لا يريد سوى الاطمئنان عليهم، أن يراهم محاطين بأشخاص يثق بهم، أشخاص يستحقون أن يكونوا في حياتهم، لكنه لم يكن يجيد التعبير عن ذلك، خاصة مع دارين، التي بدت دائمًا في مواجهة معه.
+
أراح ظهره للخلف وأغمض عينيه للحظة، فيما كانت عيناه تدوران في رأسه بأفكار كثيرة، لم يكن مستعدًا لمواجهتها الآن.
_______________________________________
+
بعد عدة ساعات، كان الليل قد أرخى سدوله على المدينة، وغلف برد المساء الأجواء، لكنه لم يكن كافيًا ليخمد الحماس المتقد في صدرها.
تحركت بخطوات ثابتة بجوار زيدان، متنكرة في ملابس واسعة، وقناع يخفي ملامحها، متجهة إلى المكان الذي سيجمعها بمصطفى لأول مرة، لم يكن هناك مجال للخطأ، كل حركة محسوبة، كل نفس موزون، والمخاطرة على أشدها، كأنها خطة إنتحارية.
+
عند وصولهما إلى المحل، كان المكان ينبض بالحياة رغم صمته، زيت المحركات يعبق في الأجواء، وضوء المصابيح الكابية ينعكس على الأجساد المتحركة داخل الورشة، كان “معتز” منهمكًا في تصليح سيارة، شاردًا وكأنه في عالم آخر. لحظة دخولهما، رفع رأسه قليلًا ونظر نحوهما دون أن ينبس ببنت شفة، ثم عاد إلى عمله بينما سأل بلهجة هادئة دون أن يلتفت:
وأنت بقى يا إبراهيم… كنت شغال إيه قبل كده؟
+
شعرت رفد أن هذه فرصتها لتعليمهم ماذا تعمل، فردت بسرعة، محاوِلة ضبط نبرتها لتبدو أقرب لصوت الرجال:
كنت شغال في البرمجة، يعني بفهم في التهكير وكده.
+
رفع معتز نظره إليها، عينه تلمع باهتمام، ثم أومأ برأسه قائلاً بأعجاب:
“ده حلو…” ثم حول نظره إلى زيدان متنكرًا باسم “سيف”، وسأله:
وأنت؟
رد زيدان بنبرة هادئة:
كنت شغال في الحسابات عندنا في الصعيد.
+
أومأ معتز مرة أخرى، ثم انزلق من تحت السيارة، وقف، وبدأ في خلع قميصه المتسخ استعدادًا لارتداء آخر نظيف، للحظة، رفد تجمدت، عيناها اتسعتا، ثم هبطت بسرعة إلى الأرض، تحاول استيعاب الموقف دون أن تثير الشكوك، لم يكن هذا المشهد في الحسبان! إلى جوارها، زيدان لاحظ ارتباكها، إبتسامة صغيرة شقت وجهه، لكن قبل أن يعلّق، جاء صوت معتز مستفسرًا باستغراب وهو يراقب توترها:
في إيه يا إبراهيم؟ إحنا رجالة زي بعض.
+
رفعت رفد رأسها سريعًا، محاولة تدارك الموقف، وردت بصوت أجشته عمدًا:
طبعًا، طبعًا يا معلم معتز… كمل براحتك.
+
لم يزد معتز في الحديث معها، لكنه ألقى عليها نظرة غريبة قبل أن ينشغل مجددًا بلا إهتمام بهم.
+
بعد قليل، دخل مصطفى، رجل تملأه الهيبة، عيناه تجوب المكان بثقة، أقترب من معتز وهمس له بصوت بالكاد يُسمع:
يوم التلات هيخلص ورق نغم عشان تسافر، وأنا هاجي الاتنين أشوفها.
+
ارتسم الحزن في عيني معتز دون أن ينطق بكلمة، لكنه تمتم أخيرًا بصوت خافت يملئ الأمل:
يعني كده خلاص… نغم هتسافر؟
أجابه مصطفى بقلة حيلة:
للأسف… هنعمل إيه، ده آمن ليها.
+
لم يرد معتز، فقط تحرك بعيدًا، خطواته ثقيلة وكأنها تجر خلفها شيئًا من قلبه، لم يكن يريد فقدان نغم، لم يكن لديه سواها بعد رحيل والدته.
—
منتصف الليل، على طريق صحراوي مهجور…
+
تحركت السيارات في خط مستقيم، أضواءها تشق العتمة بينما تحوي بداخلها البضائع المهربة، كان زيدان في سيارة، ورفد في أخرى، أما مصطفى فكان في المقدمة، لكن فجأة، ظهرت في الأفق عدة سيارات تعترض الطريق، رجال ملثمون يقفون بوجوه جامدة، وأسلحة موجهة، ليصدح أحدهم بصوت رخيم:
هتعدوا من طريقنا؟ يبقى هناخد نص البضايع.
+
ترجل مصطفى ببرود، خطواته واثقة، عينيه لا تعكسان أي خوف، وهو يرد ساخرًا:
والقانون ده طلع من إمتى؟
أجابه الرجل ببرود مماثل:
من دلوقتي.
+
في لحظة خاطفة، أمسك مصطفى قائد المجموعة من رقبته، وضع فوهة المسدس على رأسه، وصوته جاء كطلقة رصاصة:
إحنا هنعدي من غير أي شوشرة، ولو عايزين شوشرة… أنا بحبها، معنديش مانع.
+
ساد صمت قاتل، رجال مصطفى أخرجوا أسلحتهم، ومن بينهم زيدان ورفد متنكرين وسط المجموعة، كان التوتر يملأ المكان، لكن فجأة
+
طلقة نارية تشق السكون!
+
التفت الجميع إلى مصدرها، كان زيدان، مسدسه ما زال مرفوعًا، بينما جثة رجل تسقط أرضًا. نظر إليه مصطفى باندهاش، ليعلق زيدان بصوت بارد:
إحنا مبنلعبش على غدر… بس الراجل ده كان هيغدر بيك.
+
ارتسمت على وجه مصطفى إبتسامة إعجاب خاطفة، لكن قبل أن يعلق، دوّى صوت آخر:
إذا كان كده… إحنا كمان بنحب الشوشرة!
+
في لحظة، تفجرت الفوضى.
+
الرصاص ينهمر من كل أتجاه، الجميع يركض، يتفرق، يختبئ، أو يطلق النار، وسط المعركة، احتمت رفد خلف سيارة بجوار زيدان، كلاهما يتنفس بصعوبة، يطلقان النار لحماية بعضهما البعض.
+
لكن زيدان… زيدان كان مشغولًا بشيء آخر.
+
في وسط الفوضى، أخرج من جيبه علبة صغيرة، فتحها، لتظهر داخلها خاتم فضي بسيط، عاقدًا حاجبيه وهو يقول بإبتسامة:
ملقتش لحظة مميزة أكتر من دي… تتجوزيني قبل ما نموت؟
+
رفد، رغم صوت الرصاص والزحام، لم تستطع إلا أن تضحك، ضحكة حقيقية خرجت من أعماقها، نظرت إلى الخاتم، ثم إلى وجهه الذي لطالما أحبته، وضعت يدها على وجهها من بين ضحكاتها العالية، بينما كان الحب يتناثر في الهواء رغم صوت المعركة.
+
لم يكن هناك وصف لهذه اللحظة، سوى أن الحب قد تحدى الحرب.
__________________
+
كان يرقد بجانب شقيقته الصغرى “نغم”، ينظر إليها بعينين يثقلهما الحزن، لكن وسط كل ذلك، كان الحنان يتدفق منه كالنهر، لا يمنحه سوى لها وحدها، لطالما كانت الوحيدة التي تؤنس وحدته، تنير عتمته، وتمنحه شيئًا من الدفء وسط عالمه البارد.
+
الآن، سيرى المنزل خاليًا من ضحكاتها، من وجودها، من حضورها الذي كان يجعل جدرانه الكئيبة تبدو أقل قسوة. كيف يمكنه أن يعود كل ليلة إلى هذا المكان دون أن يجدها؟ كيف سيتحمل الغياب من جديد؟
+
رفع هاتفه ببطء، ضغط على رقمها، لم يكن يعرف حتى لماذا يتصل، لكنه تحجج بالاطمئنان على شقيقتها، وضع يده خلف رأسه في الظلام الذي يلف الغرفة، حتى جاءه صوتها الناعم، البسيط، ينساب عبر السماعة:
ألو.
+
صمت للحظات، لم يجد ما يقوله، ولم تبادر هي بالكلام، فقط تنتظر، زفر ببطء، ثم قال بصوت هادئ:
أختك عاملة إيه؟
+
ردت بصوت خافت، به تحشرج بسيط كأنها تحاول كتم شيء ما:
كويسة الحمد لله.
لكن شيئًا ما لم يكن على ما يرام. شعر بانقباض غريب، فسأل باستغراب:
مالك؟
ساد الصمت من جهتها، ثم سمع صوتًا خافتًا… لم تكن كلمات، بل همهمات متقطعة، كأنها تحاول أن تحبس بكاءها لكنها تفشل، عقد حاجبيه، صوته جاء أهدأ لكنه يحمل قلقًا خفيًا:
إنتِ بتعيطي؟
+
لم تجب. فقط ذلك الصوت المرتعش، نحيب تحاول أن تخفيه لكنه يفضحها.
قبل أن يتمكن من قول شيء آخر، جاء صوت رجل من بعيد، صوته هادئ لكنه ذو وقع ثقيل يسأل:
نِمتي يا دارين؟
+
وفي لحظة، أغلقت الهاتف.
ظل معتز يحدق في الشاشة المظلمة، يشعر بشيء لم يستطع تفسيره، لماذا يشعر بهذا الانجذاب الغريب نحوها؟ ما الذي يجعله يفكر بها هكذا؟ ملامحها، صوتها، نظراتها… وحتى عيناها اللتان يراهما كغزال شارد، تائه بين البرية والحلم، أطلق عليها اسم “سُهاد”، كأنها جزء من ليلة طويلة بلا نوم، تملأ عقله دون أن تغيب.
+
وضع الهاتف جانبًا، أغمض عينيه، يحاول طرد كل تلك الأفكار التي تنهال عليه دون إذن… لكن كيف؟
—
على الجانب الآخر…
+
كانت دارين جالسة على فراشها، الدموع تنهمر بصمت، تضغط بأصابعها على الغطاء كأنها تحاول التمسك بشيء ما، لكنها لا تجد سوى الفراغ، لطالما كانت سريعة التأثر، أضعف من شقيقاتها، والمشاعر تداهمها قبل أن تتمكن من مواجهتها.
+
دخل والدها إلى الغرفة، نظر إليها بنظرة تحمل بين طياتها خوفًا أكثر من مجرد قلق أبوي، ثم قال بصوته الرخيم:
نِمتي يا دارين؟
+
هزّت رأسها بالسلب، فتحرك داخل الغرفة، جلس أمامها، أمسك كفّيها بين يديه، وصوته جاء دافئًا كعادته عندما يحاول طمأنتها:
إنتِ عارفة إني خايف عليكم… مش هقدر أعيش لو واحدة فيكم اتأذت، فيه ناس كتير عاوزة يأذوني فيكم يا دارين، وإنتِ بالذات… أنتِ مختلفة عن أخواتك، مش زيهم، هما بيعرفوا يتصرفوا بسرعة، لكن إنتِ أول حاجة بتعمليها لما يحصل أي حاجة إنك بتعيطي…
+
تنهد بعمق، تابع بصوت أكثر ثقلًا وهو يتابع ملامح وجهها:
قلبي بيوجعني لما أفكر إنك ممكن تتأذي، وأنا مش عاوز كده.
+
لم تستطع دارين أن تتحمل أكثر، ارتمت في حضنه فجأة، ويدها تتشبث به وكأنها طفلة خائفة من العاصفة، ضمها إليه بحنان، يربت على كتفيها، يهدئ من ارتجافها، وكأن صدره ملاذها الوحيد من كل هذا الخوف الذي يملأها.
+
قالت بصوت مخنوق من بين دموعها:
أنت عارف إني بحبك أوي… بس أنت بتضايقني لما بتخاف عليا بالشكل ده، أنا بعرف أتصرف، والله بعرف، وهقدر أواجه أي حد.
+
ابتسم قليلًا، قبل رأسها، ثم قال بحنان:
وأنا عارف إنك قوية، شاطرة، وتقدري تعملي كل حاجة بنفسك، أنتِ الوحيدة من بناتي، اللي بتعرف تعتمد على نفسها في كل حاجة، بس ده مش خوف بس، ده أمان، عشان قلبي يطمن عليكِ.
+
أومأت برأسها، ما زالت بين ذراعيه، ثم تمتمت بصوت خافت:
اللي تشوفه صح اعمله، يا حبيبي.
ابتسم، حنان الأب يغمره وهو يرى طفلته التي ما زالت رغم كل شيء، تحتاج إليه، تحتاج إلي حضنه للشعور بالأمان، تحتاجه في كل شيء بلا استثناء وأن كانت عنيدة، استقام من على الفراش، وقال مداعبًا، محاولًا أن يخفف عنها:
ما تعيطيش تاني، عيون الغزال دي مينفعش تعيط.
+
ضحكت رغم دموعها، شعرت بقلبها يهدأ قليلًا، كأن جزءًا من العبء قد زال أخيرًا.
+
بعدما غادر، أمسكت هاتفها، فتحت الرسائل، وكتبت ببطء، كلمات بسيطة لكنها تحمل بين حروفها الكثير:
أنا آسفة إني قفلت فجأة… أنا كويسة شكرًا يا معتز.
___________________________
+
كان كمال قد خرج من غرفتها، نظر نحو غرفة ابنته الكبرى التي لم تكن متواجدة، تنهد بهدوء ثم توجه إلى الصغرى، تلك التي تحتل فؤاده وتشبهه في الملامح أكثر من أيٍّ من بناته. دخل بخطوات هادئة، وجدها مستغرقة في النوم، لا تشعر بشيء، اقترب من فراشها، سحب الغطاء برفق ليغطيها جيدًا. عيناها انفتحتا ببطء وسط النعاس، ابتسمت وهي تمسك بكفه بأصابعها الصغيرة، صوتها ناعس ومرهق:
إيه يا بابا.
+
انحنى ليطبع قبلة حانية على جبهتها، همس لها بكلمات دافئة يغلبها الحنو:
نامي يا حبيبة بابا.
راقبها لثوانٍ حتى أستسلمت للنوم مجددًا، ثم أنسحب بهدوء وذهب إلى غرفة المكتب، جلس على الفراش، أخرج هاتفه، ضغط على رقم خاص، وبمجرد أن جاءه الرد، قال بصوت ثابت لا يعلوه أي تردد، نبرته الحانية تغيرت إلي أكثر قسوة:
خلّص عليه… وقبل ما يموت، قوله بناته محدش هيقدر يقرب منهم طول ما قلبه لسه بينبض.
+
أنهى المكالمة قبل أن يسمع أي رد، ترك الهاتف يسقط بجواره، تنهد ببطء، وعيناه شاردتان في اللا شيء أمامه، فقط عقله يعمل دون توقف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+
في منتصف الليل، كان الجميع غارقين في النوم عندما شعرت بحركة غريبة في غرفتها، لم تدرك الأمر في البداية، لكنه تسلل إلى أحلامها، كأنه ظل يتربص بها، عيناها انفتحتا ببطء، وفي ضوء الغرفة الخافت، رأت جسدًا ضخمًا يتحرك معها في نفس المساحة الضيقة، شهقت، كانت على وشك الصراخ، لولا أن يدًا قوية امتدت لتكتم صوتها برفق، وصوت مألوف همس بسرعة:
لا تصرخي، هذا أنا… إليان.
+
عقلها استوعب الاسم قبل أن يستوعب وجوده، شعرت بقلبها يهدأ قليلًا، اعتدلت في جلستها على الفراش، بينما هو تحرك نحو مفتاح الإضاءة وأشعل الغرفة، وقف أمامها، عاين ملامحها المتعبة للحظات قبل أن يسأل بهدوء:
هل ما زلتِ مريضة؟
+
لفّت الغطاء حول جسدها بإحكام، ردت بصوت هادئ لكنه مرهق:
ـ يعني.
طرف فمه أرتفع بابتسامة خفيفة، نبرته حملت سخرية خفيفة وهو يغمغم:
ـ لم أعلم أنكِ ضعيفة إلى هذا الحد.
+
توهجت عيناها بغضب، لكنّها لم تجبه، فقط رمقته بنظرة نارية، تجاهل ذلك، أخرج من خلفه حقيبة صغيرة ومدّها إليها، الابتسامة ما زالت على وجهه وهو يردّ:
جلبت لكِ شيئًا سيعجبك.
+
نظرت إلى الحقيبة بتردد، لكن في النهاية، مدّت يدها وأخذتها منه. فتحتها ببطء، فرأت داخلها شيئًا كرويًا، يشبه التفاح، بلون أحمر يتخلله خط أسود يمتد في المنتصف رفعت عيناها إليه باستغراب، حدقت فيه بتمعن قبل أن تسأل بصوت متوجس:
إيه ده؟
+
الإبتسامة لم تفارق وجهه وهو يرد بهدوء:
مُنظّر… سيساعد على شفائك بسرعة كبيرة.
صمتت للحظات، تتردد بين أن تأكله أو ترجعه إليه، ثم رفعت عيناها من جديد، تراقب تعابير وجهه وهو يراقبها بثبات. همست بصوت خافت:
عمري ما وثقت في حد… ولا دخلت حد حياتي… بس أنا بدأت أثق فيك، علفكرة.
+
لم يبتسم هذه المرة، فقط أومأ لها بهدوء، وعيناه ما زالتا مسمّرتين عليها، همس بصوت خافت لكنه يحمل ثقلًا غريبًا عليها:
وأنا لن أعطيكِ شيئًا يؤذيكِ… يا ملكة.
+
إبتسامة صغيرة تسللت إلى شفتيها، نظرت إليه للحظة، ثم بدأت تمضغ الثمرة ببطء، نكهتها غريبة، لكنها لم تكن سيئة. ظلت عيناها ثابتة عليه، وعيناه لم تبتعدا عنها، أحيانًا، لا تحتاج الحياة إلا إلى لحظة واحدة لتتغير تمامًا… لحظة واحدة تجعلك تقف في المنتصف، تنظر إلى كل شيء، وتتساءل بصمت:
ـ ماذا يحدث؟
٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭٭
أنتهى الفصل يا حبايبي، متنسوش الڤوت ورأيكم، وتوقعاتكم للجاي♡♡♡.
+


