رواية الوكر الفصل الحادي عشر 11 بقلم مريم محمد – تحميل الرواية pdf

الفصل الحادي عشر من رواية الوكر بعنوان “وعدٌ مكتوب”.
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ
إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلا بِالمُعَطَّلِ
فَجِيدُهَا إِرْتَاجُ دُرٍّ مُفَصَّلٍ
بِحَبْكِ النَّقِيِّ بَيْنَهُ مُتَسَلْسِلِ
+
المطر يهطل بغزارة، ينساب كخيوط فضية فوق نهر النيل الذي يزداد امتلاءً بماء السماء، والبرودة تتغلغل في الأجساد، تترك أثرها كرجفة خفيفة لا تزول، المشاعر متضاربة، مربكة، كأنها شفرة معقدة لا سبيل لفك رموزها، أمام النهر، مقعدان خشبيان، تحتلهما العزلة والصمت، حتى احتلتهما أجسادهما المنهكة.
+
جلست على أحدهما، بينما هو على الآخر، يراقبها بصمت، قبل أن يخلع معطفه ويمده نحوها بحركة عفوية، كأنه يمنحها شيئًا من دفئه، لم تعترض، فقط لفته حول جسدها بإحكام، بينما هو اكتفى بالجلوس، يتناول الطعام الذي جلبته، صار يزداد برودة مع تساقط قطرات المطر فوقه، لكنه لم يهتم، مضغ لقماته ببطء، وكأن الطعم يتسرب إلى أعماقه، يتغلغل في وعيه بمزيج من المذاق والمشاعر غير المفهومة.
+
رفع عينيه نحوها، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة خافتة، قبل أن يتمتم بصوت هادئ:
تسلم إيدك يا غزال.
+
لم تقل شيئًا، فقط بادلته الابتسامة، لكنها شعرت بشيء غريب، الإسم الأخير الذي ناداه به حفر مكانه في قلبها منذ الوهلة الأولى، وكأنه شيء يستحق أن يُحفظ، منذ قليل، كانت مشاعرها مرتبكة، متوجسة في ذلك البيت المهجور، أما الآن، وهي بجانبه، شعرت بأمان لم تعهده من قبل. أمان غريب، يطوقها من كل اتجاه، كأن وجوده بات درعًا يحيط بها.
+
لكن… هل سيظل هذا الأمان للأبد؟ أم أنه مجرد فاصل قصير قبل أن يتحول إلى كابوس لا مفر منه؟
+
••••••••••••••••••••••••
صباحٌ جديد، وشمسٌ تشرق كأنها لم تبكِ بالأمس.
+
تتسلل أشعتها الدافئة إلى الأركان الباردة، تغمر الجلود بلمستها، وكأنها تمسح آثار برودة الليل الطويل، احتضنت شقيقتها بحنان، عناق مشبع بالشوق، وكأنهما تعودان إلى شيء افتقدتاه طويلًا، ذلك الحب الصافي الذي لا يعكر صفوه شيء.
+
جلسوا جميعًا في غرفة المعيشة، الجو هادئ لكنه متوتر قليلًا، زيدان بينهم يجلس بوقار واحترام لصاحب المنزل، ثابتًا في مكانه، حتى بدأ حديثه بنبرة مرتبة، خالية من التردد:
حضرتك يا سيادة اللواء، عارف علاقتي برفد من زمان، وجت الفرصة المناسبة دلوقتي إني أتجوزها.
+
ساد الصمت، وتعلقت الأنظار بوالدهم، مترقبين ردة فعله، الترقب كان سيد الموقف، لكن وسط كل هذا، امتدت يد دارين لتقرص شقيقتها الكبرى بخفة، تهمس لها ضاحكة:
قولتلك لو رجعتي له هدغدغ راسك!
+
لم ترد، فقط ابتسمت لها ابتسامة غريبة، عميقة بطريقة لم تعتدها:
أنتِ عرفاني.
ضحكات مكتومة تبادلتاها، لكن العيون ظلت متجهة نحو كمال، مترقبين كلماته التالية، لحظات من الصمت، قبل أن يخرج صوته ثابتًا، قويًا، يحمل وقعًا خاصًا على الجميع:
حاطط عهد على نفسي إني مرميش بناتي لأي حد، بس أنت مش حد… وأنا عارف إنك هتخلي بالك منها كويس أوي، ومكنتش هديها لحد غيرك.
+
تناثر الفرح على وجوههم، استنشقت أنفاسها بعمق، بينما زيدان لم يستطع إخفاء ابتسامته، لكنها سرعان ما اتسعت أكثر حين تابع بجدية:
زي ما حضرتك عارف، أنا وهيّا في قضية مشتركة والوقت قليل جدًا، وأنا عاوزها تبقى مراتي من دلوقتي، وبعد ما القضية تخلص على خير، نعلن جوازنا ونعمل فرح، أي رأيك؟
+
مرة أخرى، تحولت الأنظار نحو كمال، ينتظرون جوابه، لكنه فاجأهم بابتسامة إيجابية وهو يجيب ببساطة:
وأنا موافق.
+
في تلك اللحظة، استقام زيدان واقفًا، وابتسامته العريضة كشفت عن فرحة لا يمكن احتواؤها، لم يحاول حتى أن يخفيها، تركها تتجلى بحرية تامة على وجهه، بداخله، حب نما منذ الثانية عشرة من عمرهما، كبر مع طفولتهما، ترعرع في شبابهما، وسيظل ممتدًا حتى الشيخوخة، علاقتهما لم تكن مجرد حب عابر، بل روابط معقدة، متشابكة، لا يفهمها إلا من تذوق العشق الحقيقي.
+
•••••••••••••••••••••
التوتر يملأ الأجواء، وحزنٌ ثقيل يُرخي بظلاله على الوجوه.
+
القلوب تخفق بأسى، ط تتشبث بلحظاتها الأخيرة مع من تحب، احتضن شقيقته الصغيرة بكل الحنان الذي يحمله لها وحدها، لم تكن مجرد شقيقة بالنسبة له، كانت ابنته، قطعة من روحه، لطالما ردد ذلك على مسامعها الطفولية، عيناه امتلأتا بالدموع، لكنها أبت السقوط… ليس الآن، ليس أمامها وهي تغادر بعيدًا عن أحضانه.
+
تحركت الصغيرة إلى والدها، ترتمي في حضنه وهي تبكي بحرقة، طفلة لم تختر مصيرها، لا تعلم ماذا يحدث ولا إلى أين ستذهب، كانت الحياة دائمًا قاسية عليها، شعرت باليُتم والوحدة مبكرًا، لم تعرف يومًا دفء الأم، ولم ترَ الأب إلا مرة واحدة في الأسبوع، كان أخوها كل عالمها، والآن… عليها أن تتركه خلفها أيضًا وترحل وحيدة.
+
تعلقت برقبته، أجهشت بالبكاء، وهو يضمها بقوة، كأنما يحاول أن يُبقيها جزءًا منه حتى بعد رحيلها، أبنته وكما يقولون الابنه لدي الأب أشد حبًا في فؤادة، بعد لحظات، هبطت من بين ذراعيه، ابتعدت خطوتين للخلف، تمسك بيد المرأة التي لا تعرفها، والمدية الصغيرة التي تحبها متشبثة في يدها الأخرى، عيناها السوداوان، المليئتان بالدموع، تحدقان بهما، تشير بيدها الصغيرة للوداع، لكنها تتراجع فجأة، تعود نحو أبيها، تجعله يجثو على ركبتيه أمامها، يحتضن وجهها بين كفيه، قبل وجنتيها بحنان، وعيناه لم تفارقا عينيها للحظة، تمتم بصوت يشبه الهمس:
هتروحي عند ياسر، هتعيشي حياة حلوة هناك، هتلاقي عيال ياسر صغيرين زيّك كده بيحبوكي ومستنيينك.
+
هزّت رأسها بالنفي فورًا، كأنها لم تعد طفلة في السادسة، بل امرأة ناضجة تفهم معنى الفقد أكثر مما ينبغي، همست بصوت مرتعش:
أنا بحب ياسر وهو وحشني أوي… بس أنا بحبك إنت ومعتز أكتر، مش عاوزة أروح لياسر، إنت هتنساني كده؟ وهتحب بنت غيري؟
+
أغمض عينيه للحظة، ابتلع ريقه بصعوبة، غصة مريرة تخنقه، لكنه أسرع بهزّ رأسه نافيًا، ثم نطق بصوت متحشرج، بالكاد يخرج من حلقه:
إنتِ هتفضلي حبيبتي دايمًا… وهجيلك، وهبعتلك معتز، بس متنسيش بابا، وأعرفي إنه عمل كده عشان يحميكي، بابا مش وحش… الدنيا هي إللي وحشة.
+
قبلت وجنتيه، دموعها تغرق وجهه، وكأنها طفلة تحاول طمأنة والدها بدلًا من العكس، تمتمت بصوتها الباكي:
إنت جميل أوي يا بابا، مش وحش، وأنا مش هزعلك… بس متنساش بنتك، حبيبتك.
+
أمسك بيديها، قبّلهما سريعًا، مسح عينيه بيده الأخرى حتى لا يلاحظ أحد دموعه، همس بصوت بالكاد يُسمع لها:
عمري ما هنساكِ.
+
جثا معتز بجانبه، أحاط وجهها الصغير بكفيه الكبيرين، نظر إليها مطولًا، كأنما يحاول حفظ ملامحها للأبد، ثم قبّل جبينها بثقل، وهمس في أذنها:
هرجعك تاني… خلي بالك من نفسك، وأوعي حد يزعلك، لو حد بصلك نظرة مش عاجباكي، كسّري دماغه وأنا وراكي.
+
وسط بكائها، ابتسمت بخفة، أومأت له، اقتربت منه أكثر، تهمس في أذنه بصوتها الطفولي:
ماشي… ولما تروح كُل الشوكليت إللي في الدولاب، وأوعي تخلي دادا تشوفها عشان متزعلش مني.
+
ضحك بصوت خافت، أومأ لها بجدية مصطنعة، قبل أن يبتعد عنها قليلًا، يتركها تمسك بيد المرأة التي ستأخذها بعيدًا، تحركت ببطء، تغادر، طفلة صغيرة تغادر عائلتها، تترك كل ما تعرفه خلفها، دون أن تفهم لماذا.
+
لكنها استدارت فجأة، ابتسمت رغم الدموع، ورفعت يدها الصغيرة ملوّحة لهم، ثم صاحت بصوت عالٍ قبل أن تختفي عن أنظارهم:
سلملي على سُهاد يا معتز!
+
تسارعت نبضاته، شعور غريب اجتاحه عند سماع الاسم، ذلك الاسم الذي هز كيانه منذ أعوام، الذي غيّر فيه شيئًا لا يستطيع وصفه، وقف مكانه، شاردًا، حتى اخترق سكونه صوت والده الحاد:
أي حكاية سهاد دي يا معتز؟
+
انتفض قليلاً، التفت نحو مصطفى، ملامحه لم تفصح عن شيء، لكن بسمته الهادئة كانت كافية ليخفي بها أفكاره وهو يجيب ببساطة:
سُهاد المحامية… اتعرفت عليها لما جت الحارة، وبقوا أصحاب.
+
أومأ مصطفى برأسه، نظراته لم تكن مطمئنة تمامًا، لكنه لم يعلّق، فقط قال بهدوء:
يلا، جه دورك انت كمان تسافر.
+
نظر معتز بعيدًا، ثم تحرك تاركًا والده خلفه، خطواته واثقة، لكنها تحمل ثقلًا ما، تمتم بصوت خافت، لكنه كان واثقًا:
قبل ما أمشي… فيه حاجة لازم أعملها يا معلم مصطفى.
+
وغادر المطار بالكامل.
+
مصطفى تبعه بنظراته، ثم زفر بعمق، تجاهل شعور القلق الذي بدأ يتسلل إلى قلبه، وتحرك مغادرًا هو الآخر، عائدًا إلى منطقته، حيث ينتظره أمر أخير عليه إنهاؤه اختيار من سيحمل مسؤولية المكان في غيابه.
+
••••••••••••••••••••••••
+
في غرفة دافئة يملؤها الفرح، تتناثر السعادة على قلوبهم جميعًا، لم يكن بينهم قلب حاقد أو عين حاسدة، بل دعوات صادقة وأمنيات بالسعادة. جلست رفد بجوار أبيها، وكما فعلت بها شقيقتاها من قبل، جعلوها ترتدي فستانًا أبيض اللون من فساتين دارين جعلوها كأميرة في قنوات ديزني، وأضافوا لمسات بسيطة من مساحيق التجميل، ليزيد وجهها إشراقًا.
+
نظرات الحب تتنقل بينهم بصمت، كل عين تعبر عن عشق صامت، عن وعد قديم يُجدَّد دون كلمات، الحب لم يكن مجرد شعور بينهم، بل عهدٌ مكتوب، أمانٌ لا يهتز، وملاذٌ من كل ألم، مرَّ الزمان، وتغيَّرت الأحوال، لكنهما بقيا، لم يتبدل بينهما شيء، سوى أن اليوم قد كُتب لهما أن يكونا لبعضهما البعض، رسميًا وأمام الجميع.
+
أنهى المأذون مراسم الزواج، وقال ببسمته المعتادة:
بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.
+
تعالت زغاريد دارين، ولحقتها رزان، بينما الدموع تهبط من أعين الجميع. حتى كمال نفسه، ذلك الرجل القوي، أدمعت عيناه وهو يسلّم ابنته لعريسها، ضمها إليه بحنان، وهمس في أذنها بصوت يملؤه الدفء:
جه اليوم إللي هسلمك فيه لزيدان وأنا مطمن، عاوزك تعرفي إني في ضهرك مهما حصل.
+
أحاطت خصره بذراعيها بقوة، كأنها تحاول أن تحفظ هذا العناق في ذاكرتها للأبد، بعدها، عانقت شقيقتيها، فأخبرتها دارين كم هي سعيدة من أجلها وتتمنى السعادة لهم، بينما رزان، رغم بكائها المستمر، كانت تضحك وسط دموعها، تخبرها أنها لم تكن تتوقع يومًا أن يتحقق هذا الحلم، حتى والد زيدان، رغم جديته المعتادة، كان يبدو سعيدًا وهو يتبادل الحديث مع كمال.
+
حين استدارت، وجدته يقف هناك، وعيناه مثبتتان عليها، يراقبها بابتسامة هادئة، تحمل بريقًا لامعًا لا تخطئه عين، لم تكن نظراته مجرد إعجاب أو فرحة، بل كانت عيون رجل يرى عالمه كله في امرأة واحدة، فتح ذراعيه نحوها، دون أن ينطق بكلمة.
+
ابتسمت بحب، بينما شعور غريب يزحف إلى قلبها… شعور يخبرها بأنها أصبحت له وحده، ملكه وفقط، ترددت لثوانٍ، ثم اندفعت نحوه، لترتمي في حضنه، تعانقه بحرارة، كأنها تعلن أنها وجدت أخيرًا موطنها الحقيقي والأبدي.
+
وفي الخلفية، كان صوت أم كلثوم ينساب برقة، يحمل معهم لحظة الحب هذه وهي تقول:
“نـسيت الـدنـيا وجـريـت عـليـه، سـبقـني هـوا وفـتح إيـديـه…”
+
لكن وسط كل هذا الفرح، كانت هناك عيون أخرى تراقب المشهد بصمت… عيون زائغة، مترددة، رزان كانت تقف بعيدًا، تحدق فيهم جميعًا، قلبها ينبض بخوف خفي لا تفهمه، تحاول أن تحفظ ذلك المشهد العائلي الدافئ في ذاكرتها للأبد، التفتت نحو النافذة، وكأنها تبحث عن مهرب، لكنها فوجئت به هناك، واقفًا بالخارج، يرفع رأسه نحوها بابتسامة هادئة. شيء ما في نظراته جعل أنفاسها تضطرب، هل هذه إشارة؟ هل عليها المغادرة؟
+
حاولت أن تنظر بعيدًا، أن تشارك في فرحة أختها، لكن جسدها كان يرتجف بخفة، وابتسامتها التي ارتسمت بدفء على شفتيها، كانت تخفي خلفها رعشة صغيرة، ورغبة صامتة في البكاء.
+
••••••••••••••••••
+
بعد ساعة تقريبًا، وقفوا جميعًا بجانب بعضهم البعض، أيديهم متشابكة، والابتسامات تشق وجوههم، وكأنهم يلتقطون آخر أنفاس الفرح قبل العودة مجددًا إلى دوامة القضية، كان الوداع حارًا، مليئًا بالمشاعر، لكن أكثرهم تأثرًا كانت رزان…
+
لم يفهم أحد لماذا تبكي بهذه الطريقة، هي التي لم تعتد إظهار مشاعرها بسهولة، والتي كانت دائمًا الأقوى بينهم، لكنها الآن، بدت كطفلة صغيرة تتشبث برقبة والدتها كي لا تغادر، وكأنها تخشى أن تفلت يدها من هذا العالم الذي تعرفه، نظرات الاستغراب علت وجوههم، لكن لم يسألها أحد، فقط تبادلوا القلق الصامت، وحاولوا أن يجعلوها مطمئنة فحسب.
+
بعدما غادرت رفد وزيدان، ظل القلق ممتزجًا في قلب رفد، يتسلل إليها ببطء كلما تذكرت نظرة شقيقتها الأخيرة، شيء ما كان خاطئًا، لكنها لم تستطع تحديده بعد.
+
في تلك اللحظة، اقتربت دارين من والدها، قبّلت وجنتيه بحب، وقالت بابتسامة هادئة:
أنا رايحة الجلسة يا بابا، باي باي.
+
ألقى عليها نظرة طويلة قبل أن يربت على يدها، ثم ودّعتهم سريعًا وغادرت إلى مقر القسم، يرافقها كالعادة الرجلان اللذان أصبحا ظلها، لا يفارقانها لحظة.
+
بقيت رزان وحدها مع والدها، دون تفكير، اقتربت منه، وارتمت في أحضانه، كأنها تحتمي بدفئه من شيء لا تستطيع تفسيره، احتضنها بقوة، يحيطها بذراعيه بحنان، دون أن يسألها عن سبب بكائها، لم يكن هناك داعٍ للكلمات… ففي النهاية الشعور بالأمان هو من ينتصر.
•••••••••••••••••••••
داخل قاعة المحكمة، كان الهدوء يخيّم على الجميع، لحظات ثقيلة تمر ببطء وكأن الزمن توقف، القاضي يجلس في منصته العالية، يطالع الأوراق أمامه بعناية، بينما تقف دارين في الصفوف الأمامية، تراقب المشهد بترقب.
+
كان علي وكرم يقفان في قفص الاتهام، ملامحهما تحمل خليطًا من القلق والتوتر، أما كرم فكان يحاول إخفاء توتره بابتسامة خافتة، لكنه لم ينجح هذة المرة، ولأول مرة يظهر عليه مشاعر الإنسان الطبيعية.
+
القاضي بدأ في قراءة حيثيات الحكم، صوته كان ثابتًا، لا يحمل أي انفعال:
بعد الاطلاع على الأدلة المقدمة، والاستماع إلى شهادة الشهود، وبعد تطابق بصمات القاتل مع البصمات الموجودة في مسرح الجريمة، فإن المحكمة قد تأكدت من براءة المتهمين كرم علي السيد، وعلي محمود حسن، من التهم المنسوبة إليهم.
+
ساد الصمت للحظات، كأن الجميع يستوعب ما سمعه للتو، ثم ارتفعت بعض الهمسات في القاعة، لكن قبل أن يتحدث أحد، أكمل القاضي:
وبناءً عليه، تقرر المحكمة الإفراج عنهما فورًا، وانتهاء أي إجراءات قانونية ضدهما وغلق القضية تمامًا لإختفاء الأدلة الرئيسية للدوافع التي أدت القاتل لقتل الضحية وعدم معرفة نسبة الحقيقي.
+
في لحظة، وكأن الهواء عاد ليمر في رئتيهما، نظر علي وكرم إلى بعضهما بدهشة، كأنهما لا يصدقان ما سمعاه، دارين لم تستطع منع نفسها من الابتسام براحة.
لكن جزء ما داخلها يبحث عن الحقيقة، لكن كيف تجدها وهي غارقة وسط دوامة من الغموض؟ القاتل، الضحية، حتى الشرطة أغلقت القضية، ولكن داخلها لم تغلق تتذكر حديث القاتل قبل موته يؤلمها من الداخل يجعلها تريد معرفة الحقيقة كاملة لتريح فضولها.
+
عادت بذاكرتها إلى ذلك اليوم الذي ظهر فيه القاتل، حين أخبرتهم شمس بعد موته، بصوت مرتعش لكنه صادق:
أنا معرفش مين ده، ولا أي علاقته بضحى، كل اللي أعرفه إنهم كانوا صحاب، لكن معرفش عنه حاجة ولا هيا كانت بتحكي، لما كنت معاه، كان دايمًا بيتكلم في التليفون، وكان عارف دارين وجايب رقمها، معرفش ليه، لما شافني بكلمها، ضربني. بس مش قادرة أقول إنه ظالم لأن جواه مكان برئ، لما أخدني معاه كان بيعيط بحرقة، كان خايف، لكنه برضو كان عرف يهددني أنا وكرم… ورغم ده كله، حسيت إنه مش قاتل، حسيت إنه جبان.
+
أغلقت عينيها للحظة، مستغرقة في أفكارها، تحاول تحليل كلماته، لكنها عندما عادت بصرها إلى المكان، بدأت تبحث عنه بين الحشد ولكنها لم تجدة، أثار اختفاؤه استغرابها، وشيء ما بداخلها ألحّ عليها أن تتصل به… ولكن ليس الآن.
+
•••••••••••••••
+
بعد ساعات قليلة، وقفت شمس أمام دارين، تبتسم بخجل، وقالت بصوت هادئ:
شكرًا ليكي يا أستاذة دارين، انتي أنقذتي حياتي وحياة كرم وكمان… علي.
+
ابتسمت دارين بتواضع، وهزّت رأسها نافية:
لا شكر على واجب، ده شغلي، بعد كده خلي بالك على نفسك، ومتنسيش ضحى صاحبتك، ولو عرفتي أي حاجة جديدة يعني كلميني.
+
وعلى الجانب الآخر، وقف كرم وعلي وجهًا لوجه، لم يكن بينهما حديث، بل كانت عيونهم تتكلم وحدها، نظرات عتاب، حزن، غضب، وضيق، جميع المشاعر، الصمت كان ثقيلًا على قلوبهم، حتى قطعه صوت كرم المتهدج، المحمل بخيبة الأمل:
مكنتش أعرف إن الدرس هييجي منك أنت… أخدت أكبر درس وحش على إيدك يا عشرة عمري، الثقة الزيادة مبتنفعش دي بتضر، شكرًا يا صاحب عمري.
+
قالها كرم بصوت منكسر قبل أن يدير ظهره ويبتعد، تاركًا خلفه صديقًا كان يومًا أقرب الناس إليه، كان يشعر أن حياته التي كان يظنها مستقرة، قد انقلبت رأسًا على عقب، لم يكن يتخيل يومًا أن يقف في مواجهة صديقه، يسأله عن السيف الذي غرسه في ظهره، وكما يقولون: “الشخص الذي كنتُ أخشى عليه ألم شوكة، سمعتُ صليل سيفه يتدفق إلى فؤادي.” وهذا ما حدث بالضبط معهم.
+
••••••••••••
+
خرجت دارين من المكان، وأفكارها تتصارع في رأسها، كان عقلها كتلة من الأصوات المتضاربة، كل جزء منه يقول شيئًا مختلفًا، لكنها لم تعرف أيها تصدق، وسط هذا الضجيج العقلي، اخترق وعيها صوت مألوف، نداء باسم، لكن بطريقة مميزة، بإسم لم ينطقه أحد إلا شخص واحد:
سُـهاد.
+
استدارت تلقائيًا، وعلى وجهها ابتسامة واسعة، فرأته يتحرك نحوها بخطوات واثقة، وعلى شفتيه ابتسامة مماثلة لخاصتها، وقف أمامها، نظر إليها نظرة لم تفهمها تمامًا، وقال بنبرة مازحة، لكن بها شيء خفي:
مكنتش عارف إنك شاطرة أوي كده، وبدل ما هتطلعي واحد براءة طلعتي تلاتة.
+
رفعت حاجبيها بغرور متصنع، ووضعت يديها على خصرها:
أنت لسة متعرفنيش.
ابتسم لها بهدوء، نظراته تعمقت في عينيها، ثم قال بصوت ثابت، لكنه يحمل معنى أعمق مما يبدو:
كانت فترة جميلة عشان قضيتها معاكِ.
+
شعرت بشيء غريب في نبرته، لكنها لم ترد، فقط ابتسمت له بشكر صامت، وقبل أن تستوعب، رأته يخرج من خلف ظهره وردة جورية وردية اللون، قربها إليها بابتسامة جذابة، ثم قال وهو يمدها لها:
لقيت حاجة شبهك، جبتهالك.
+
ضحكت بخفة، لكنها شعرت بحرارة الخجل تتصاعد إلى وجنتيها، لم ترفع عينيها نحوه مرة أخرى، فقط مدّت يدها وأخذت الوردة، وهي لا تزال تبتسم، نظرت إليها بين يديها، ولم تستطع منع ابتسامتها من الاتساع أكثر، لم يجلب لها أحد يومًا ورد غير أبيها لعلمه بحبها للورود الجورية، يبدوا أن دخل شخص جديد وسيفعل لها ما يفعله أباها، دخل شخص جديد دائرة بطلتنا.
+
تمتمت بصوت خافت، بالكاد يُسمع، لكنه خرج محملًا بمشاعر لم تستطع تفسيرها:
شكرًا.
سألها بصوت خافت تسبقه القهقهات:
بتحمري ها؟
لم تجيب ولم ترفع عيناها له حتى، الإرتباك والتوتر سيطر عليها، وأصبح وجهها كطماطم شديدة الحمار، أردف بصوت رخيم، وابتسامته ما زالت مرسومة على وجهه:
سلام يا سُهاد.
+
ردّت عليه وهي تراقبه يبتعد ببريق لامع ينبع من مقلتيها، بريق غريب عليها لم تعتاد عليه يومًا:
سلام يا معتز.
+
•••••••••••••••••••••
منتصف الليل كان يخيم على الجميع، كل واحد منهم في عالمه الخاص، رغم أنهم جميعًا تحت سماء واحدة.
+
جلست رفد على الأريكة، التاب بين يديها، تنقل المعلومات بكل اهتمام، تغوص في تفاصيل الورق، تحاول فهم أي شيء قد يفيدها، كانت معتادة على هذا النوع من البحث، عقلها يعمل بلا توقف، تحلل، تربط، وتستنتج. في الغرفة الأخرى، جلس زيدان مع مصطفى، يتبادلان الحديث، كلما مر الوقت، ازداد استغراب مصطفى من هذا الشاب، من كم الذكاء الذي يحمله عقله، ومن الأسئلة التي يطرحها، لم تكن مجرد أحاديث عابرة، بل كانت تشاورات تحمل في طياتها أشياء كثيرة، أشياء لن تُفهم الآن، لكنها ستُفيدهم جميعًا لاحقًا.
+
أما دارين، فجلست في غرفتها، تمسك هاتفها، تتصفح الصفحة الرسمية لذلك “المعتز” على تطبيق “الفيسبوك” كان ثقيلاً في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، لا ينشر أشياء بلا قيمة، فقط بعض الصور له التي لا تتناسب مع منطقته العشوائية، حدقت في إحداها طويلًا، ابتسمت لا إراديًا عندما رأت الوردة في الخلفية، شعور غريب تسلل إلى قلبها، إحساس جديد عليها، لم تجربه من قبل مع شاب ما.
+
وعلى الجانب الآخر، كانت رزان تحاول التركيز في دراستها، امتحانها غدًا ولا مجال للخطأ، لكنها لم تستطع، عقلها كان في مكان آخر، يفكر في ذلك الذي ظهر اليوم في زفاف شقيقتها، في تلك الابتسامة التي ألقاها نحوها، وكأنها كانت رسالة مشفرة لا تفهم معناها بعد، حاولت طرد الأفكار، أغلقت دفاترها، والتقطت إحدى الروايات، غاصت بين صفحاتها كما اعتادت، كأنها تهرب لعالم أكثر وضوحًا من واقعها.
+
لكن في مكان آخر، في طائرة تحلق في السماء، كان يجلس وحده، غارقًا في الشرود، لم يكن ينظر إلى شيء معين، فقط الذكريات التي عادت إليه دون إذن،
قبل ست سنوات تقريبًا،
يقف شاب بجوار والده، وأمه التي تحمل في بطنها شقيقته الصغرى، في حفل زفاف أحد أصدقاء والده، دخلت فتاة بين شقيقتيها الإثنان وأبيها، خطفت أنظاره من اللحظة الأولى، ترتدي فستانًا أحمر اللون، عاري الكتفين، يصل إلى ركبتيها، يحيط بها شال من الفرو أسود اللون،، شعرها مرفوع بإتقان، وعيناها مرسومتان بالكحل بدقة، في تلك اللحظة، شعر بشيء لم يفهمه، كأن قلبه قد أفلت من بين ضلوعه وانجذب نحوها، لم يكن يعرف من تكون، لكنه عرف أنها مختلفة.
+
قطع شروده صوت صاخب، عاد للحاضر ليجد نفسه محاطًا بعدة رجال ملثمين، أسلحتهم موجهة نحوه، كيف دخلوا والطائرة تحلق في السماء؟
لم يكن هناك وقت للسؤال، أحدهم اندفع نحوه ليضربه، لكنه تصدى له بسهولة، جسده القوي منحه ميزة جيدة، رفع آخر سلاحه مباشرة في وجهه، فرفع رأسه قليلًا، كإشارة استسلام، بينما عينه تراقب من حوله، يحاول إيجاد مخرج من هذا المأزق.
+
وفي طائرة أخرى، في مكان آخر، كانت فتاة تقف في المنتصف، يداها مرفوعتان للأعلى، محاطة بعدة رجال يوجهون أسلحتهم نحوها، لم تبدُ خائفة، بل كانت تحدق بهم بحيرة ممزوجة بخبث خفيف، وكأنها تخطط لشيء لا يتوقعه أحد.
•••••••••••••••
ظلام دامس… وصمت ثقيل يخيم على الغرفة.
+
كانت دارين نائمة بعمق، جسدها مسترخي فوق الفراش، لا تشعر بأي شيء حولها، حتى بدأت غريزتها تستشعر خطرًا غير مرئي، لم تكن واعية تمامًا، لكن إحساسًا مزعجًا زحف إلى عقلها… إحساس غريب، وكأن هناك من يراقبها.
+
حاولت أن تتحرك، لكن شيئًا ما كان مختلفًا، أنفاسها أصبحت بطيئة، جفونها أثقل من المعتاد، لم تفتح عينيها بعد، لكن الشعور بالوخز في ذراعها جعل جسدها ينتفض بضعف.
+
شيء حاد اخترق جلدها… كان وخز إبرة.
+
في لحظة، فتحت عينيها بفزع، لكن وعيها كان ضبابيًا، نظرت إلى ذراعها بصعوبة، فرأت يدًا غريبة تمسك بها، وحقنة تفرغ داخل جلدها ببطء… يد قوية، لا تعرفها، لا ترى ملامح صاحبها، فقط ظلال شخص منحني فوقها.
+
حاولت الصراخ، لكن صوتها لم يخرج… وكأن أحبالها الصوتية توقفت عن العمل، شعرت بعقلها يسبح في فراغ، جفناها ثقيلان، الهواء أصبح أبطأ في رئتيها.
+
حاولت المقاومة، لكن جسدها خذلها، كان عقلها يصرخ، لكن شفتيها لم تتحركا، يدها التي رفعتها لتمسك بمعصمه سقطت بلا حول ولا قوة، وأصبحت الدنيا أمامها كلوحة ممحية، الألوان تتداخل، والرؤية تتلاشى شيئًا فشيئًا.
+
آخر ما شعرت به قبل أن يغيب وعيها، هو أنفاس باردة قريبة من وجهها، وذراعيه القويتين تلتفان حول جسدها، يرفعها بخفة.
ثم فجأة، شعور بالحركة… كان يخرج بها.
+
لم تسمع أي صوت، لا خطوات، لا ارتطام، لا صرير باب… فقط نسيم الليل البارد الذي داعب وجهها للحظة قبل أن يختفي كل شيء.
+
الظلام ابتلعها تمامًا.
••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
الفصل الحادي العاشر يا حبايب قلبي، متنسوش رأيكم والڤوت.
يا ترى مين إللي خطف دارين؟
وأي إللي بيحصل مع معتز، ومين البنت إللي حصل معاها نفس الموضوع؟
إيش تخيلاتكم أحبابي؟♡♡.
الفصل الثاني عشر يوم الخميس الجاي♡.
+
