رواية الوكر الفصل الثالث عشر 13 بقلم مريم محمد – تحميل الرواية pdf

الفصل الثالث عشر ( سـقوطٌ فـي الظـلام )
مساء الخير ♡︎.
+
لو قال الإنسان كل يوم: (أستودعُ الله الذي لا تضيع ودائعه .. نفسي وأمانتي وخواتيم أعمالي وبيتي وأهلي وأحبتي ومالي وجميع ما أنعمَ الله بهِ علي) لحفظ الله لهُ كلّ ذلك.
الحمد لله الذي أذِنَ لنا بيومٍ جديد لنعبده ونشكره ونتوب إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفصل الثالث عشر بعنوان “سقوطٌ في الظلام”
+
أيا ليلُ مهلاً، فقد ضاع صبري،
وغاب الضياءُ عن العين فجري…
أُحاربُ ظلي، وأُطفئُ صوتي،
فلا الريحُ تدري، ولا الصمتُ يدري…
+
قضيتُ سنينًا أخوضُ الظلامَ،
أحطمُ قلبي، وأدفنُ أمري…
أقولُ انتصرتُ، وأحني الجبينَ،
ولكنني غارقٌ في الأسِرِّ…
+
إذا كنتُ وحدي، فمن ذا يُنادي؟
ومن ذا يُعيدُ انكساري لجسري؟
أنا السيفُ أمسكتُ قبضتَه يومًا،
ولكنه اليومَ غاصَ بصدري…
+
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+
صباح اليوم، وباتت الخطوات واهنة فوق الأرض الباردة، كأنها تخشى أن تزعج صمت المكان.
توقفت عند عتبة الغرفة، تتأرجح بين التردد واليقين، كيف لها أن تهجرهم؟ أن تترك عائلتها خلفها وتلقي بنفسها في المجهول؟ هم أغلى ما تملك، أعزّ ما تملك، لكنها لا تستطيع مقاومة ذلك الصوت الذي يتردد في أعماقها، ذاك النداء الخفي الذي يدفعها للمضيّ قدمًا نحو المجهول، حياتها باتت رتيبة، مملة، لا جديد فيها، والخطر، مهما كان جاثمًا في الأفق، لا يكفي لثنيها عن سعيها خلف التغيير.
+
تقدّمت إلى الداخل، عيناها معلقتان بجسد أختها الغارق في سباته العميق، يكسوه السكون كأنها في عالم آخر، اقتربت أكثر، ثم جثت على ركبتيها، تتأمل وجهها بنظرة طفلة تخشى أن تتركها والدتها لأول مرة، مدّت أناملها المرتجفة، أبعدت تلك الخصلات الذهبية التي انسدلت فوق جبينها، ثم اقتربت حتى لامس أنفها وجنتها الهانئة، وهمست بصوت بالكاد يسمع:
هتوحشيني أوي، أنتِ ورفد… وبابا.
+
تقلّصت ملامح تسنيم تحت وطأة ثقل غامض، قبل أن تفتح عينيها بصعوبة، شعرت بفراغ مهول يجتاح عقلها، كأن ذاكرتها قد أُفرغت بالكامل، أرادت أن تتحرك، أن تستقيم جالسة، لكن جسدها بدا أثقل من أن يطاوعها، فتمتمت بصوت خافت، متهدّج:
رزان… مالك؟
+
رفعت رزان رأسها على الفور، كابحةً رعشة صوتها، وأجابت بنبرة حاولت أن تبدو مطمئنة:
مفيش حسيتك تعبانة قولت أشوفك.
أبتسمت تسنيم رغم الإرهاق الذي ينهشها، لكنها سرعان ما أطبقت جفنيها مجددًا، تمتمت بصوت واهن:
راسي وجعاني أوي حاسة أن مفيش أي حاجة في دماغي.
انعكس القلق في ملامح أختها الصغرى، قبضت على كفها المرتجف، وعيناها تبحثان عن إجابة:
لية كدة اي إللي حصل؟
+
حاولت تسنيم تحريك رأسها، لكن ثقلًا غريبًا قيّدها، فتمتمت بتهكم ضعيف:
عشان مصحياني بدري، روحي نامي يلا وانا هكمل نوم.
اجتمعت الدموع في عينيها، لكنها استطاعت أن تحبسها بمعجزة، ثم انحنت لتطبع قبلة دافئة على جبين أختها، وقلبها يصرخ بصمت خفي:
نامي يا حبيبتي سلام.
شعرت تسنيم باختلاف غريب في نبرتها، لكن النعاس كان أقوى من شكوكها، فاستسلمت سريعًا للنوم، وكأنها لم تكن واعية لما يحدث.
+
أستوت رزان واقفة، تكتم غصّة تتصاعد داخلها، وضعت يدها على فمها حتى لا ينفلت أي صوت، ثم خرجت من الغرفة، تقودها قدماها عبر الممرات حتى بلغت الغرفة الكبرى… غرفة أبيها.
+
هناك، حيث يرقد في سكون تام، راقبته طويلًا، تتأمل ملامحه التي طالما منحتها شعورًا بالأمان، تقدّمت خطوة أخرى، عيناها تائهتان فوق ملامحه النائمة، ثم اتجهت بأنظارها نحو الطاولة القريبة، حيث برواز خشبي يحتضن صورة قديمة.
+
رجل في منتصف عمره يحتضن امرأة تقترب منه سنًا، وحولهما ثلاث فتيات، الإبتسامة ترتسم على وجوههم جميعًا، مدت يدها، أمسكت بالصورة بين أنامل مرتجفة، مررتها فوق ملامح والدتها التي غابت منذ أعوام، ثم أطبقت جفنيها وكأنها تحاول اختزان المشهد في ذاكرتها.
+
أعادت فتح عينيها ببطء، ضمّت الصورة إلى صدرها، واستدارت نحو الباب.
غادرت الغرفة، بل غادرت القصر بأكمله.
+
لم تفكر إن كان ما تفعله صوابًا أو خطأ، لم تضع في حسبانها العواقب، لم تشغل عقلها بما سيأتي بعد ذلك، كل ما فعلته هو أن استجابت لقلبها، وتركت العنان لرغبتها في الهروب، في التغيير، في البحث عن شيء جديد… ولو كان ذلك يعني أن ترتمي في أحضان المجهول كمن يسير في قلب العاصفة بلا مظلة.
••••••••••••••••••••••••
+
لا وقت، لا زمن، لا بشر، فقط مشاعر متدفقة تحيط بهما، تحاصر وجودهما في تلك الجلسة العفوية، أمامه تجلس، يراها كما لم يرها من قبل، كأنها انعكاس حلمٍ كان يراوده منذ الأزل، الإبتسامة التي تعلو ثغرها تسرق فؤاده دون استئذان، وحديثها، مهما بلغت أهميته، لا يصله منه سوى نغمات صوتها، أما الكلمات فلا يدركها، فكل ما يشغل تفكيره الآن… هل خطر له يومًا أنه سيحيا هذا الشعور؟ أن يجلس أمامها هكذا، وهي حلاله، زوجته التي كُتبت له؟
+
أردف بصوت دافئ، نبرة تحمل في طياتها دهشة غير معلنة:
طول عمري أتخيل اللحظة دي، بس عمري ما فكرت أني هعيشها.
+
ابتسمت بخفوت، يدها تسلّلت بلا وعي لتُحيط بكفّيه، دفء أناملها يتخلل برودة أصابعه، يبعث في قلبه طمأنينة لم يختبرها من قبل، همست:
ولا أنا كنت أتخيل ده خالص.
+
نظر إليها طويلًا، كأنه يحاول استيعاب الحقيقة، ثم تمتم:
مش قادر أستوعب إنك خلاص بقيتي حرم المقدم زيدان أبراهيم.
ضحكت برقة، أجابت بثقة وحنان:
أستوعب يا حبيبي، حلمنا اتحقق خلاص.
+
أغمض عينيه للحظة، وكأنما يستعيد كل ما مرّ به ليصل إلى هذا اليوم، ثم فتحهما مجددًا وقال بامتنان:
كل ما بشوفك بشكر ربنا على النعمة اللي أدهاني، في وسط كل اللي بيحصلي كنتِ أنتِ النجمة الوحيدة اللي بتنور حياتي.
+
راقبته بصمت قبل أن تسأله بصوت منخفض وعينان ينبع منها التردد:
أنت هتعمل إيه؟
حاجباه انعقدا قليلًا، تساءل بإستغراب:
في إيه؟
ترددت لوهلة قبل أن تتابع:
في اللي عرفتُه.
+
نظر بعيدًا، عينيه شردتا في الفراغ، كأنه يبحث عن إجابة لم يجدها بعد، ثم نطق بصوت خافت ممتزج بالحيرة والغضب:
أنا بقالي ٣ سنين بدور على أي خيط صغير يوصلني لأي حد، بس مش عارف… عارفة شعور إنك تكتشفي إنك يتيمة على كِبر؟ ليه ممكن طفل صغير يلاقوه في الزبالة؟ طالما اللي جابته مش عايزاه، ليه فضلت شيلاه جواها تسع شهور؟ كانت تنزّله وخلاص.
+
هزّت رأسها نفيًا بإشفاق، همست برفق:
قتل النفس حرام برضو، أنت مش عارف إيه اللي حصل، ما يمكن كان غصب عنها، يمكن مش هما اللي عملوا كده، ممكن يكون فيه الف قصة وحكاية أنت متعرفش عنها حاجة.
+
نظر إليها مباشرة، عيناه تشتعلان بمزيج من الحزن والخذلان والغضب:
إزاي يا رفد؟ إزاي فيه أم مش هتهتم بطفل عنده ٣ شهور؟ لما لاقوني في الزبالة، كان عندي ٣ شهور! طب أنا عِشت مع مين التلات شهور دول؟ طب هما ليه عملوا كده؟ لية مدوروش عليا لو غصب عنهم؟ طب هما عايشين؟ هما منين؟ شكلهم عامل إزاي؟ التفكير بيقتلني بالبطيء، مش قادر أبطل أفكر فيهم…
+
مدّت يدها لتُمسك بكفّه مجددًا، ضغطت عليه برفق كأنها تحاول أن تنقل إليه طاقة صبرها، ثم قالت بثبات:
أنا معاك، مهما حصل، هكون جنبك في كل حاجة.
+
نظر إليها طويلًا، كأن كلمتها تلك كانت الحبل الوحيد الذي يتشبث به وسط بحرٍ من الضياع، ثم تمتم بصوت خفيض:
ده اللي مطمن قلبي… إن لسه فيه حد حقيقي جنبي، الإنسانة الوحيدة اللي كانت حقيقية وجنبي دايمًا هيا أمي، عارفة لو قابلت إللي ولدتني حقيقي، أنا عمري ما هقدر أتعامل معاها طبيعي.
+
نظرة إستغراب حاوطت عيناها، أكمل مفسرًا:
عمري ما هعرف أقولها يا أمي، لأن أنا معنديش غير أم واحدة، كانت جنبي وأنا تعبان وأنا زعلان، كانت معايا في كل حالاتي، عمري ما فكرت أن دي ممكن متكونش أمي، كنت بعيط في حضنها، كانت مخلياني أحسن واحد، هيا أه عيشتني في كدبة عمري كُله، بس أنا مسامحها والله لأنها كانت أحلى كدبة أن الإنسانة دي تكون أمي، ماتت ومن بعدها حياتي أدمرت مش عارف أنا مين، ولا أنا بعمل أي، مش لاقي حد أروح ليه بعد ما أتعب، هيا إللي خلتني أنسان حقيقي، طب الحقيقيين فين؟ لية مدوروش عليا؟ هيعرفوني لو شافوني، طب هما عملوا كدة لية؟
100 سؤال جوايا مش لاقي ليه أجابة تريح قلبي إللي محروق.
+
لم تقل شيئًا، فقط اقتربت أكثر، أخذت رأسه بين ذراعيها، ضمّته إليها في عناقٍ طويلٍ احتوى كل ألمه، كل أسئلته التي لم يجد لها إجابة، كل الذكريات التي لم يعشها… لم ترغب في الضغط عليه أو إثقاله بمزيد من الأسئلة، فقط منحته ذلك الصمت الذي لم يكن في يومٍ من الأيام فارغًا، بل كان مليئًا بحبها ووجودها إلى جانبه.
•••••••••••••••••••••
+
كانوا يسيرون جنبًا إلى جنب، الرمال تمتد بلا نهاية تحت أقدامهم، والسماء تعكس لون الغروب الباهت، الصمت خيم على خطواتهم، وحده صوت الرياح كان يرافقهم، رزان كانت غارقة في أفكارها، عقلها مسجون في دوامة من القلق والتردد، بينما إليان كان يغمره الحماس، عيناه تلمعان بشوق العودة إلى عالمه الحقيقي، إلى عائلته ومملكته، كانت مشاعرهما على طرفي نقيض، هي تمزقها الشكوك، وهو تتملكه السعادة.
+
عند وصولهم إلى المنزل المتواضع، دق إليان الباب ثلاث مرات، وانتظر، لم يكن هناك استجابة في البداية، ثم فُتح الباب نصف فتحة، وظهرت منه امرأة عجوز، قصيرة القامة، ممتلئة الجسد، ذات ملامح هادئة رغم التجاعيد التي خطّت وجهها، كانت خصلاتها السوداء قد تخللتها شعيرات بيضاء، وعيناها القاتمتان تنظران إليهما بحذر، سألتهما بصوت رخيم:
أنتو مين؟
+
لم يتردد إليان، خرج صوته بثبات:
أنا من سأخذ كتاب مفاتيح الزمان، سيدتي.
+
تغيرت ملامح المرأة فجأة، بدا السرور في نظراتها، وفتحت الباب على مصراعيه، مرحبة بهما دون أي تردد، شعرت رزان بالغرابة، لكن خطت خلف إليان الذي دخل بثقة، المكان كان بسيطًا، لا يحتوي إلا على فراش قديم، وثلاجة صغيرة، وطاولة خشبية، ومكتبة تكتظ بالكتب العتيقة، جلست العجوز على مقعد مهترئ، بينما جلسا أمامها يراقبان المكان بترقب.
+
اختفت المرأة لوهلة داخل إحدى الغرف، ثم عادت تحمل بين يديها طبقًا مليئًا بالفاكهة الطازجة قائلة:
خدي يا حبيبتي كُلي.
نظرت إلى الطبق بشيء من التردد المعتاد لديها، لم تمد يدها، أكتفت بابتسامة باهتة وهي ترد بلطف:
شكرًا يا طنط.
+
لم تصرّ المرأة عليها، واكتفت بنظرة بسيطة، بينما إليان بدوره لم يلمس الطعام، فقد اعتاد ألّا يأكل في بيت غريب ثم قال بصوت ثابت:
أريد الكتاب، لأنني سأغادر الآن.
+
أبتسمت المرأة، وقفت دون أي اعتراض، ثم اختفت مجددًا داخل الغرفة، وبعد لحظات عادت وهي تحمل بين يديها كتابًا قديمًا، غلافه الجلدي يحمل آثار الزمن، بني اللون وعليه رسومات غريبة لا يستطيع أحد فهمها، وضعته أمامه قائلة:
كنت مستنياك من مدة طويلة أوي.
+
نظر إليان إلى الكتاب، تملكه شعور لا يوصف، وكأن القطعة الأخيرة من اللغز سقطت أخيرًا في مكانها الصحيح، التقطه بيديه، والإبتسامة شقت وجهه، بجانبه، رزان كانت لا تزال تجهل تمامًا ما يجري، لكنها شعرت بثقل اللحظة.
+
غادرا المنزل، وأثناء ابتعادهما، وقفت المرأة على عتبة بابها، تراقبهما بنظرة دامعة، تتمتم بصوت بالكاد يُسمع:
أتمنى يشوفها…
•••••••••••••••
وقفوا أمام البحر الكبير، عند الصخور ذاتها، حيث تلتف الأمواج حولها بوحشية، تروي أسرارًا لا يدركها أحد، كانت صخرة تقف شامخة كغيرها، ولكن خلفها عالم آخر، عالم لا يُرى ولا يُعرف، إلا لمن يملك المفتاح، لا أحد يراهم الآن، لا أحد يدرك ما سيحدث.
+
بدت الأستعدادات واضحة على ملامحهم، عيناها المتوهجتان بالحماس تراقبه، وقلبها ينبض بقوة لا تعرف لها سببًا، التفت إليها، نظر في عينيها بجدية، ثم سأل بصوت ثابت، يحمل في طياته ألف معنى:
جاهزة؟
+
أومأت برأسها، نظرتها تشع يقينًا، والإبتسامة الخافتة على شفتيها تزيدها ثباتًا، عيناها الزرقاوان تلألأتا تحت ضوء الشمس، كأنهما تعكسان سماءً أخرى، راقبته وهو يمد يده نحو الصخرة، يغلق عينيه بتركيز، بينما أنفاسها تتابع المشهد بصمت، يتمتم بحديث لا يسمع.
+
وبينما هي غارقة في ترقبها، تناست كل شيء، الماضي بكل ما يحمله من آلام وأحلام، لم يعد يعنيها سوى هذه اللحظة، سوى المستقبل الذي ينتظرها خلف تلك الصخرة، المجهول الي تذهب له بكل أريحية.
+
وفجأة، انبعث ضوء مبهر، كأنه نور انشق من قلب الأرض، الهواء من حولهم بات ثقيلًا، يضغط على أنفاسها، يتخلل أوردتها، يتشكل أمامهم ليكشف عن بوابة هائلة، تلمع كأنها بوابة قدر لم يُفتح منذ قرون.
+
نظر إليها، مد يده نحوها، مترقبًا، باحثًا في ملامحها عن أي تردد، لكنها لم تمنح عقلها فرصة للتفكير، تحركت، وضعت كفها في كفه، فتشابكت أصابعهما كأنهما عُقدتا على مصير واحد.
+
وفي ثانية، لم تعد الأرض تحت قدميها، شعرت بجاذبية غامضة تسحبها، شعرها يتطاير من حولها، الرياح تلفح وجهها، جسدها يقترب منه أكثر، لم تستطع منع نفسها من الشعور بيده التي أحاطت خصرها بحزم، بتلك العيون التي ثبتت على عينيها دون أن ترمش.
+
لحظة واحدة…
ثم اختفى كل شيء.
+
حلّ الظلام، الدوار ضرب رأسها بقوة، الجاذبية نفسها اختلت، شعرت بجسدها ينهار، بأنفاسها تضيع، حتى لم تعد ترى سوى العتمة التامة… وفقدت الوعي.
+
…
+
صحراء شاسعة، خالية من البشر، أرض من الرمال تمتد إلى اللانهاية، وسماء بلون لم يراه أحد من قبل.
+
يحملها بين ذراعيه، عيناه تتفحصان وجهها المرهق والفاقد للوعي، بينما على شفتيه ابتسامة واسعة، ابتسامة المنتصر، ثم تمتم بصوت عميق، صوته بدا مختلفًا هنا:
أهلًا بكِ في عالمنا.
••••••••••••••••••
+
الضوضاء تملأ المكان، صرخات الأوامر تتردد بين الجدران، خطوات ثقيلة تهدر على الأرض، والحراس يبحثون في كل زاوية، كل إنش في الفيلا، يبحثون بجنون، الأعين القلقة تراقب الشاشات، الأصوات تتداخل، الهواء نفسه مشبع بالتوتر، كأن الرعب لم يزرهم من قبل إلا هذه الليلة.
+
وفي نهاية الممر، وقفت هي… وجهها شاحب، الإرهاق جاثم على ملامحها، خصلاتها مبعثرة، وثوب النوم الفضفاض يزيدها ضعفًا، كأنها فقدت إحساسها بجسدها، بالكاد تقف، لكن قدميها تأبيان السقوط، يجب أن تبقى واعية… على الأقل حتى تطمئن على شقيقتها.
+
وفجأة، اخترق الصخب صوت أبيها كالرعد، غضبٌ لا يعرف له حدودًا:
دوروا عليها في كل مكان! اسمعوا تسجيلات الكاميرات، كل ثانية، كل لقطة، مفيش حاجة تعدي!
+
وقف أمامه أحد رجاله، طويل القامة، قوي البنية، لكنه الآن أشبه بشخصٍ ينتظر العقاب، عيناه مثبتتان على الأرض، وصوته ثابت لكنه يحمل اضطرابًا خفيًا:
مش لاقين ليها أي أثر يا باشا، الكاميرات وضحت إنها خرجت من أوضتها الساعة 6، دخلت أوضة الهانم دارين، وبعدها أوضة حضرتك، وفي الآخر رجعت أوضتها ومن بعدها مخرجتش تاني.
+
المعلومة سقطت كالصاعقة.
+
كمال لم يفكر، لم يتردد، أمسك الرجل من تلابيبه بعنف، عيناه المشتعلتان تهددان بحرق كل شيء، صوته يزلزل الجدران:
يعني إيه؟! الأوضة بلعتها؟! دوروا في كل مكان، متسبوش حجر على حجر!
+
الرجل لم يرفع نظره، لم يتزحزح، فقط أومأ برأسه باحترام، صوته مطيع لكنه يحمل قلقًا حقيقيًا:
الرجالة لسة بتدور في كل حتة، بيسألوا أي حد يعرفها، وكل مكان بتروحوا، هنلاقيها يا باشا، بإذن الله.
+
ابتلع كمال ريقه بصعوبة، جسده متصلب، أفكاره تتلاطم بعنف، من؟ من قد يفعل هذا؟ هل هذا اختطاف؟ هل يحاول أحد إذلاله؟ تهديده؟ الضغط عليه؟
ضغط يده على هاتفه، أنامله ترتجف، قلبه يشتعل، ثم كتب رسالة واحدة، قصيرة، لكنها أشبه بإنذار حرب:
بنتي لو مرجعتش خلال 24 ساعة، أنا هقلب عليكم كلكم، خافوا من قلبتي… لأن كلكم هتضيعوا.
+
ضغط على الإرسال، ورفع عينيه إلى الفراغ، في داخله إحساس واحد فقط…
الدمار قادم.
+
رفع عينيه إلى فتاته الأخرى، لكنها كانت ملقاة على الأرض، فاقدة الوعي، للحظة أخرى، سقط قلبه بين ضلوعه، هرول نحوها، احتواها بين ذراعيه المرتعشتين، رفعها على ركبتيه ووجهه يقترب منها بقلق يخنق أنفاسه:
دارين… حبيبتي… أنتِ كويسة؟ متعمليهاش معايا أنتِ كمان…
+
لكن لا إجابة، لا حركة، لا حتى إشارة بأنها تسمعه، كانت خفيفة بين يديه، واهنة كأن الحياة تتسلل منها ببطء، شهق وهو يصرخ بصوت مرتجف، يائس:
صلاح، هاتلي دكتور بسرعة.
+
لم ينتظر، احتضنها بقوة وحملها بين ذراعيه، صعد بها الدرج بخطوات ثقيلة، قلبه يهدد صدره بالانفجار، وعيناه تقاومان الدموع التي تتجمع على حوافهما، أقسم ألا تسقط، أقسم أن يبقى صامدًا، لكنه يقترب من خسارة أحبّته، فكيف يصمد حتى النهاية؟
+
بعد قليل، كان الطبيب جالسًا على طرف الفراش، يعاين دارين، بينما كمال واقف عند نهاية الغرفة، جسده متخشب، ينتظر أي كلمة تطمئنه، لكن الكلمات لم تفعل، الكلمات ضربت صدره بوحشية، حين نطق الطبيب بجملته القاتلة:
في جسم بنتك حقنة مسمومة، لازم تعمل تحاليل عشان نحدد نوعها.
+
نظر إليه كمال بجمود، كأنه لا يستوعب، كأنه ينتظر تفسيرًا آخر، تفسيرًا لا يجعله يشعر أن الأرض تنسحب من تحت قدميه:
يعني إيه؟! حقنة مسمومة إزاي؟
+
استقام الطبيب، اقترب خطوة منه، وسأل بهدوء يثير الغضب:
هي… مدمنة؟
تجمدت ملامحه، ثم انفجر بصوت اهتز له جدران الغرفة، وكأن السؤال كان صفعة على وجهه:
أنت بتقول إيه؟! بنتي مش كده! عمرها ما تكون كده!
لم يهتز الطبيب لصوته، لم يتراجع أمام غضبه، بل استمر بنفس النبرة الثابتة، الثقيلة:
اهدأ… متتعصبش، في سم في جسم بنتك، يا إما ناتج عن بداية إدمان، أو تعمق في الإدمان وده خيار مستبعد، يا إما نتيجة حقنة خادتها لهدف معين، هنشوف دلوقتي.
+
تصلب كمال لم يجرؤ على النطق أو حتّى تحريك عيناه، يداه ترتعش بلا وعي، راقبه وهو يعود إلى الفراش، بدأ الطبيب في تجهيز حقنة، اقترب من يد دارين، همّ بأن يغرس الإبرة، لكنه توقف فجأة، حدّق في يدها ببطء، تأملها بعناية، ثم التفت إلى كمال، صوته يحمل شيئًا من الدهشة:
بس بنتك لسه واخدة حقنة، من ساعات، ومش ممكن يكون فات يوم حتى، مكان الإبرة لسه واضح…
+
خطا كمال خطوة للأمام، انحنى ينظر إلى يدها، وبالفعل… آثار وخزة إبرة ما زالت واضحة، حتى الدم المتجمد لم يجف تمامًا، نظر إلى الطبيب، لكن هذا الأخير لم يقل شيئًا، فقط بدأ بتنظيف يدها بحذر، ثم سحب عينة دم، استعدادًا لمعرفة الحقيقة.
+
عندما انتهى، استقام، التقط حقيبته، ثم نظر إلى كمال قبل أن يغادر، وصوته هذه المرة كان أكثر هدوءًا:
أول ما التحليل يخلص، هكلمك، هي هتفوق دلوقتي، متقلقش عليها.
+
لكن كيف لا يقلق؟ كيف لا يشعر أن الدنيا تدور من حوله وهو لا يعرف بعد… من الذي فعل هذا بابنته؟
سقط بجسده القوي على الأريكة، ثقل الدنيا كله فوق صدره، وعيناه شاخصتان إلى سقف الغرفة، تائهتان كأنهما تبحثان عن إجابة في الفراغ، ماذا يحدث؟ أين ابنته؟ ماذا يجري للأخرى؟ هل صار عاجزًا عن حمايتهما الآن؟ هل سيتسربنّ من بين يديه كما تسربت والدتهما؟
+
تجمّدت الدموع في عينيه، خشي أن يسمح لها بالسقوط، خشي أن يعترف حتى بينه وبين نفسه أنه بات ضعيفًا، لا يستطع حمايتهم، لكن عقله لم يتوقف، أفكاره تدور في رأسه كإعصار لا يهدأ، مدّ يده إلى هاتفه، اتصل بابنته الكبرى، عليه أن يعيدها، عليه أن يجمعهنّ من جديد، لكنه لم يسمع سوى صوت معتاد يخبره أن الهاتف مغلق…
+
القضايا؟ العمل؟ لا شيء من هذا يهم الآن كل ما يريده هو أن يراهنّ حوله، أن يعيدهنّ إلى حيث ينتمين… بجانبه.
+
على الناحية الأخرى، جلست في مكانها، تحاول التركيز، لكن شعورًا غريبًا كان ينهش صدرها، إحساس ثقيل بأن شيئًا سيئًا على وشك الحدوث، هزّت رأسها، دفعت الفكرة بعيدًا، لا وقت للقلق الآن، أعادت نظرها إلى الورقة التي أمامها، عبارات مشفّرة، كلمات مبهمة لم تستطع فهمها بالكامل، لكنها احتفظت بها داخل عقلها، كما تعلمت من عملها وحياتها.
+
مدّت يدها إلى حقيبتها، قلبت بين الملابس حتى أخرجت هاتفًا كان مفصولًا عن الشحن، فتحته بسرعة، كتبت الرسالة بخفّة، كأنها لم تحتج إلى التفكير، كأن عقلها مبرمج على هذه الشفرة، أرسلتها إلى الرقم الذي تعرفه عن ظهر قلب، ثم أغلقت الهاتف بنفس السرعة، دون أن تتفقد أي شيء آخر، لا رسائل، لا أخبار، لا مواقع تواصل،… الخبر الأول كان واضحًا:
“اختفاء ابنة اللواء كمال البرغولي، الفتاة الصغرى، ولا أحد يجد لها أثر.”
+
أغلقت الهاتف، أعادته إلى مكانه، ثم استقامت بقوة وخرجت من الغرفة، كأن شيئًا لم يكن.
في المقابل، استقبل الرسالة وهو جالس في مكتبه، لم يحتج إلى قراءتها مرتين، الشفرات تحتاج إلى تحليل، لكنها لم تكن المشكلة… الجملة الأخيرة كانت واضحة:
فيه حاجة هتتسلم بعد يومين الساعة 3 العصر، أول ما أعرف فين هبعتلك.
•••••••••••••••
رفع عينيه عن الهاتف، ثبّت نظراته على زيدان الجالس أمامه، ملامحه جامدة، لا شيء فيها يكشف عمّا يدور في رأسه، مصطفى لم يتركه ينتظر، صوته كان هادئًا، ثابتًا، لكنه يحمل من القوة ما يكفي لجعل أي شخص ينتبه لكل كلمة تخرج منه:
كمان يومين، فيه شحنة هتخرج من حدود ليبيا يا سيف، وأنت وإبراهيم هتكونوا معايا في كل خطوة من دلوقتي.
+
لم يتردد زيدان لحظة، أومأ برأسه بتأكيد، صوته خرج بنفس الجمود المعتاد:
أكيد يا معلم.
ابتسم مصطفى بخبث، تلك الابتسامة التي تحمل وراءها ألف معنى:
جدع يا سيف، بحب الناس المطيعة، خلال الأيام الجاية، فيه شحنات كتير هتخرج، وأنا محتاج ناس في ذكائك أنت وأخوك، فهتكونوا معايا.
+
لم يعلّق زيدان، فقط أشار بالموافقة ثم غادر، خطواته واثقة، لا تردد فيها، كأن كل شيء يسير كما هو مخطط له.
أما مصطفى، فلم يضيّع الوقت، رفع هاتفه، اتصل برقم معين، وعندما أُجيب على الطرف الآخر، تحدّث بلغة لا يفهمها كثيرون:
معي لك اثنان، أظن أنهما سينفعاننا من كل النواحي، رجالي الأوائل، سيكونون معي بعد يومين، فرانكو، حسنًا؟
+
ابتسم ابتسامة خفيفة بعد أن أنهى المكالمة.
••••••••••••
حلّ هدوء غريب على المكان، جمود ثقيل يخنق أنفاس الجالسين، ستة أشخاص التفّوا حول الطاولة، من بينهم الأب، معتز، وأيرلي، لا أحد يتحدث، لا أحد يحرك ساكنًا، فقط أعين تراقب، وأفكار تدور في عقول الجميع، حتى قطع الأب الصمت بصوته الخالي من المشاعر:
ينقصنا شخص، لكنه سيأتي. المهم الآن أن وجودي ووجودكم هنا سيُغيّر مجرى الأمور، لن تبقى المنظومة كما كانت، بل ستُصبح أقوى وأعمق تأثيرًا من الآن، سيكون هناك اجتماع أسبوعي يجمع الجميع، والأهم من ذلك… خطتنا وصلت إلى مرحلة لا رجعة فيها بين أيدينا نصف الوطن العربي تقريبًا، تبقى سبع دول فقط قبل أن نُحكم قبضتنا بالكامل وبعدها؟ سنعيد رسم الخريطة، نضع من نشاء في السلطة، ونُسقط من يعترض طريقنا إفريقيا ستكون امتدادًا طبيعيًا، والهدف واضح… السيطرة الكاملة، والسيطرة الحقيقية لا تُؤخذ بالقوة وحدها، بل بالتخطيط الصبور، والتسلل إلى كل ركن دون أن يشعر أحد.
+
نظرات تبادلت بين الحاضرين، عيون تترقب، تفكر، تزن الكلام بميزان المصالح والمخاوف، لكن كان هناك شخص واحد لم ينظر لأحد، لم يلتفت، لم يبادل أحدًا نظرة واحدة… معتز.
+
هو فقط يراقبهم بصمت، بلا تعبير، بلا رد فعل، لكن في داخله… شيء ما يتمزق هذا ما كان يريده؟ هذا ما سعى إليه منذ زمن؟ عقله يردد أن هذه لحظة الانتصار، أن هذا هو الحلم الذي كبر معه، لكن في مكانٍ ما داخله، شيء صغير… شيء هش يصرخ طلبًا للنجدة، يصرخ أن هذا ليس هو، أن هذا الظلام يبتلعه أكثر فأكثر.
+
لكنه لم يكن ليسمح لهذا الصوت بأن يرتفع، دفنه، سحقه، أغرقه في أعماقه حتى اختفى لا أحد سينقذه، لا شيء سيعيده كما كان، لا توجد معجزات في هذا العالم، سيظل غارقًا في الظلام، يصرخ بصوت مبحوح… لكن لا أحد سيسمعه، لا أحد… فقد سقط بالفعل ولا يوجد يد للنجدة.
__________________________________________________
أنتهى الفصل الثالث عشر يا حبايبي متنسوش الڤوت ورأيكم..
يا ترى ايه اللي هيحصل فالمنظومة المرعبة دي؟
وهل معتز هيكمل فيها ولا الشعور الوطني جواه هيفوق ؟
وكمال هيعرف أي اللي حصل لبنته اللي أختفت والتانية إللي بيقولوا إنها مدمنة ولا مش هيعرف حاجة!
والأهم بطلتنا رفد هتعرف بإختفاء أختها ولا هتفضل متعرفش حاجة!
مستنية توقعاتكم ورأيكم ♡♡.
+
الرابع عشر من هنا
