رواية حارة جهنم الفصل الثامن عشر 18 بقلم داليا الكومي – تحميل الرواية pdf

رواية حارة جهنم الفصل الثامن عشر 18 بقلم داليا الكومي
“عندما يكون الموت بداية للحياة فاعلم أن قوانين الكون على وشك أن تتبدل”. استيقظت مجددًا بعد الفجر بقليل على اتصال من سعد، الذى أمرها بدون أي مقدمات:
– تعالي فورًا، من لهجته علمت أن ذهابها إليه ليس اختياريًّا، فهو لم يكن يطلب منها بل كان يأمرها.. وعندما يأمر سعد فلا سبيل للرفض:
– حسنًا.
في دقائق معدودة استعدت للخروج، تذكرت أن سيارتها مركونة في مكان ما بالقرب من السجن، ستخرج مجددًا بدون إذن كريم، اتصلت على هاتفه لتخبره لكنه كان مغلقًا، قصدت غرفة ريم لتخبرها لكنها كانت نائمة، لذلك لم يكن أمامها خيار،عادت لغرفتها بيأس، أحضرت ورقةً وقلمًا، وكتبت بدموعها: ” لن أقول إلى حبيبي؛ فوصفك بحبيبي لن يعبر عن مشاعري الحقيقية، فالكلمات تقف عاجزة عن التعبير عن الحب عندما يكون بمثل قوة حبي .. كريم .. خروجي من المنزل اليوم ليس اختياري، وسامحني لوصمك بالعار فأنا كنت الزوجة التي تحني رأس زوجها .. وصمة أبي حملتها أنا لسنوات، ولم يكن لي الحق أبدًا بإخفاء الأمر عنك ووصمك بذلك العار معي، لكن مبرري الوحيد كان أني أحبك .. الحب في السراء والضراء، لكن حبي كان ضررًا فقط .. مهما كان قرارك سأظل أحبك حتى آخر يوم في عمري”.
دموعها الغزيرة اختلطت بحبر كلماتها على الورق .. والدموع محت كلمات رسالتها ومن شدة بكائها لم تنتبه إلى ذلك .. تبقي فقط من كلماتها الحزينة الصادقة التى كانت تحمل كل ندمها “سامحني لوصمك بالعار”.
غادرت الفيلا في سيارة أجرة أخذتها إلى المشفى حيث وجدت سالمًا في انتظارها أمام باب الاستقبال الرئيسي، كم تبدل الحال منذ الأمس، فأروقة المشفى المتهالكة ذات الشقوق الضخمة ورائحة الموت النفاذة تحولت إلى مشفًى فاخرٍ يبعث على الأمل، وعنبر المرضى الجماعي أصبح جناحًا خاصًّا يقف على بابه عسكر في ملابس مدنية وليست عسكرية، يالسخرية القدر، فرج الآن يعامل كأنه ملك وللأسف هو لا يشعر بذلك، فرج سدد دينه بالكامل حتى أنه لم يستمتع للحظة واحدة بنفوذ سعد أو بأمواله.
في الداخل كان هناك فريق من الأطباء يقف بجوار فرج، سعد التفت إليها وأحاط كتفيها بذراعيه، سمعت أحد الأطباء يقول:
– وقت الوفاة السابعة وخمس وأربعون دقيقة صباحًا.
الغثيان ضربها مجددًا، تركت سعدًا وركضت نحو الحمام، مصدر ألمهم توفي أخيرًا بعدما سدد كامل ديونه..
خرجت من الحمام بصعوبة وهي تترنح وتستند إلى الجدران، شاهدتهم يغطون وجهه بشرشف فراش المستشفى الناصع البياض تذكرت عواطف في الحال، لكن عواطف توفيت وحيدة وفي مشفًى حكوميٍّ بدون وجودهم إلى جوارها.
الحسنة الوحيدة التي نالوها جميعًا حتى فرج نفسه كانت مكان الوفاة في شهادة الوفاة، فلم تعد سجن طرة أو مستشفى سجن طرة، بل كانت مستشفى الفتح؛ مستشفى الرؤساء وملوك المال، مكان يليق بوالد سعد السناري الذي تدخل لمنع أي شخص من معرفة أنه سجين، لا أحد علم أنه سجين، الحراسة على الباب في ملابس مدنية، نفوذ سعد تدخل مجددًا وصنع لهم درعًا واقيًا كعادته، كان يستخدم أمواله ببذخ لتغطية ماضيه المشين ليس من أجله فقط بل من أجل إخوته أيضًا.
أموال سعد الخرافية التي دفعها للمستشفى اشترت صمت جميع الأفواه، أخفت أي خبر عن دخول فرج للمستشفى الذي مات في صمت شديد، أخيرًا سمحت للدوران يتملك منها كليًّا، في لحظة واحدة هوت على الأرض أمام باب الحمام.
****
– مبارك عليكما، المدام حامل .
استيقظت على كلمات الطبيبة وهي تهنئ سعدًا بحملها.
عيناه اغروقت بالدموع:
– مبارك عليكما حبيبتي، هل أخبرتِ كريم؟
هزت رأسها بضعف:
– لا .. فأنا فقط علمت الآن.
الطبيبة النسائية تسألت بدهشة:
– أنت لست زوجها؟
– لا .. أنا شقيقها .
الطبيبة هزت رأسها بتفهم قالت وهي في طريقها للخروج من غرفة الكشف:
– حسنًا أطمنئكما أن الجنين بخير، والأم أيضًا لكنها تحتاج إلى الاهتمام بتغذيتها فوزنها قليل جدًّا، سأنتظرك في مكتبي لأعطيكِ وصفة بالفيتامينات الضرورية لحالتك.
بكت على كتفه بمرارة:
– لقد توفي يا سعد .. توفي.
أمسك يدها بحماية:
– نعم توفي ولكنه لم يتوفَّ في السجن، بل في مشفىً خاص وبعد توبته وندمه الصادق، الله لطيف بعباده وسيغفر له خطاياه، الآن حفيده لن يوصم بجده أو بمكان وفاته، يستطيع أن يخبرهم أن جده توفى في مستشفى الفتح، قد تظنين أنني قاسي بكلامي هذا، ولكن الوضع الآن أفضل بكثير للجميع حتى له.
على الرغم من قسوة كلامه إلا أنه كان يحمل الحقيقة، موته أفضل للجميع، الآن لم يعد نزيلًا لدى كريم والوثيقة الوحيدة المتبقية منه هي شهادة وفاته، الله اللطيف لطف بهم جميعًا.
هي الآن تحمل طفله في أحشائها، سوف تعود لمواجهته لتلقي غضبه بصدر رحب، ربما قد يغفر لها عندما يعلم بموته، ربما يبقيها لأنها تحمل طفله على الرغم من الموت اليوم، إلا أنه أعطاها أملًا ضعيفًا في الحياة، دنيا غريبة ولا يمكن التنبؤ بتدابير القدر، فالموت يعطي الحياة والأمل.
– الكابوس انتهى الآن إلى الأبد، عودي لمنزلك واستمتعي بحياتك واحتفلي بحملك مع زوجك، الجزء الأسوأ قد مر، والباقي الزمن كفيل بمعالجته، هل تشعرين الآن بالتحسن؟ هل تستطيعين النهوض؟
نهضت بضعف:
– نعم أستطيع .
– حسنًا سأطلب من سالم أن يقلك إلى المنزل، حبيبتي أنا لا أرغب بتركك وأنتِ ضعيفة هكذا ولكنني أريد دفنه سريعًا، حتى أرتاح، ونغلق باب الماضي إلى الأبد، عند سيارة سالم وجَّه حديثه إليهما: – سيدفن سرًّا، وبالطبع لن يكون هناك عزاء، فلا أحد يعلم أن والدي كان لا يزال حيًّا.
وعند عودتها للفيلا شاهدت سيارة كريم، عاد ليجدها خالفت أوامره وحان وقت المواجهة الأخيرة، صعدت لغرفتهما مباشره، تسلحت بآخر خيوط الأمل، فتحت الباب ودخلت لتجده يمسك بملاحظتها القصيرة التي كتبتها له.
التفت إليها، لم يكن المتألق الذي تعرفه، كان محطمًا، ممزقًا، كان يبكي، نعم كان يبكي بالدموع:
– أخرجي من حياتي يا ليلى، لا أريد أن أراكِ مجددًا، أنتِ دمرتِني بما فيه الكفاية، يده امتدت إلى جراب مسدسه، اخرجي قبل أن أقتلك وأقتل نفسي.
كان يهددها بالقتل لكنها لم تشعر بالخوف على نفسها لكنها شعرت بالخوف عليه:
– كريم أرجوك اسمعني.
أجابها بمرارة ويده تستل مسدسه ويخرجه من غمده:
– الكلام انتهى يا ليلى، العار الذي أشعر به لم يكن له حل سوى قتلك، لكني أضعف من أن أفعل ذلك، لكني أستطيع قتل نفسي، ارحلي يا ليلى، ارحلي بعيدًا عني، فربما أستطيع أن أنساكِ يومًا ما.
دموعها حفرت قنوات على وجهها البائس، رؤيتها له يهدد بالانتحار قتلتها ومزقتها لأشلاء، لحسرتها لقد اتخذ قراره ونبذها من حياته، ويجب عليها الرحيل الآن، لأجل مصلحته يجب أن ترحل.
غادرت الغرفة فورًا، الحقيقة دائمًا تكون مؤلمة ولكنها أفضل على أي حال.
عندما رحلت عن فيلا علم الدين حملت معها ألمها الخاص، ولكنها كانت تحمل أيضًا جزءًا من كريم سيظل معها للأبد، الجنين النامي في أحشائها أعطاها الأمل، أعطاها سببًا لحياتها، دعت الله أن يكون الطفل ذكرًا ويحمل ملامح والده الوسيمة، وضعت يدها على بطنها تحمي كنزها الثمين، هي مازالت محظوظة، لقد عاشت الحب المحموم ولو لأيام، وتذوقت حلاوته وألمه.
هو يستحق من هي أفضل منها، دعت مجددًا أن ينساها بسهولة ويكمل حياته، لا يمكن أن تلومه وهي المخطئة منذ البداية، أكثر ما ألمها هو تحمله لنصيب من العذاب، ياليتها لم تقابله أبدًا، لقد سببت له الأذى عن عمد
عادت أخيرًا لفيلا سعد، أشقاؤها مازالوا في الخارج، يدفنون ماضيهم المشين لمرة أخيرة، القدر اختارهم لتحمل عذاب يفوق احتمال البشر، وهم كعادتهم صامدون يقاومون ولكنه في النهاية أراد مكافأتهم على صبرهم، فاختفى فرج من حياتهم إلى الأبد وبصورة لائقة، لم يكونوا يحلمون أن تتحقق يومًا ..
صعدت إلى غرفتها القديمة، مازالت كما هي، حتى ملابسها التي لم تأخذها معها مازالت في مكانها، الغرفة كانت نظيفة، وكأن سعدًا تركها مستعدة لاستقبالها على الدوام.
في النهاية لم يتبقَّ لها سوى أشقائها، هم بالنسبة إليها أهم من أي شيء آخر، أيضًا مازالت محظوظة بوجودهم ووجود طفلها.
****
طرقات على باب غرفتها نبهتها:
– ادخل.
دخل بهدوء وسألها بقلق:
– لماذا عدتِ يا ليلى، ما الأمر؟ ثم أكمل بتوتر:
– بالطبع هذا منزلك وأنتِ تعلمين هذا أنا فقط أريد أن أطمئن ..
أجابته بحب لا تريد إخفاءه:
– أنا لن أُسيء فهمك مطلقًا يا سعد، وأكون جاحدة ناكرة للجميل لو فعلت هذا، كريم طلب مني الرحيل، هو فعليًّا لم يطلب الطلاق، لكني أعلم أنها النهاية الواقعية الوحيدة لقصتنا، النهايات السعيدة لم تكن من حظي يومًا وأنا فعلًا لست حزينة، وجودي بقربه يدمره، لو تعلم كم تبدل كريم منذ زواجنا لطلبت مني بنفسك أن أتركه، أريده أن يستعيد حياته ومرحه ولطفه ..
أشار إلى بطنها:
– هل أخبرتِه؟
هزت رأسها بالنفي:
– لا، ولأجلي لا تخبره، لا أريده أن يعلم حتى أضع على الأقل، لا أريده أن يعتقد أني أورطه مجددًا أو هو يعود إليَّ مضطرًا بدافع الواجب ..
هز رأسه بتفهم:
– سأفعل لأجلك يا ليلى، لكني سأخبره بعد الولادة، هذا حقه، لن نحرمه من ابنه.
ألا يعلم أن معرفته هي أقصى أمنياتها ؟.. وافقت فورًا ثم أكملت بشغف حزين مزق قلبه:
– ابنه؟! تسلحت بالشجاعة وقالت:
– أريد أن أطلب منك شيئًا آخر، سأنتقل إلى الشقة التي توجد فوق الشركة حتى أستطيع العمل بحرية، فالعمل سيلهيني ويصبرني.
عيناه اشتعلت بالغضب مع كلامها اللامنطقي:
– ليلى هل جننتِ؟ تريدين السكن بمفردك ونحن نعيش على وجه الأرض.
ترجته بضعف:
– أرجوك يا سعد، أريد مكانًا لا يذكرني بأي شيء، أريد أن أعمل وأربي ابنى، سعد افهمنى أرجوك، الشقة فخمة و كبيرة ومعدة جيدًا، أنت تعلم أنها أول شقه صممتها بنفسي وهي جاهزة للسكن تمامًا، أنت لا تتخلى عني مطلقًا، إنه اختياري أنا، والشقة قريبة من هنا، وفوق شركتي وستوفر عليَّ الكثير من النقل، فمع الحمل ستصبح حركتي صعبة.
ركز نظراته على عينيها وهو يتألم:
– ليلى أنتِ تعلمين جيِّدًا أنني أعطيتك الشقة والشركة وأصررت على تعليمك كي تكوني قوية ومستقلة ولا تحتاجين إلى أي أحد أبدًا، المال يمنح القوة وأنا أردتك ألا تخضعي لسلطة رجل أبدًا، وأن تشعري أنك حرة في الذهاب إذا ما كان زواجك يضغط عليك، لم أكن أريد تكرار مأساة أمي التي تحملت الويل كي تربينا وتحمينا، لكني لم أكن اتوقع أن تعتبرينى أنا أيضًا رجل تهربين من سلطته، مالت على كفه تقبلها بحنان:
– أنا لا أهرب من سلطتك بل بالعكس أنا أحتمي فيها، وفي الحقيقة كريم لم يتسلط عليَّ مطلقًا، وإن كنت أهرب الآن فأنا فقط أهرب من ألم الحب إلى مكان جديد، بداية جديدة ربما تمنحني القوة لأواصل، أمام إلحاحها وافق مرغمًا:
– حسنًا، أوافق ولكن بشروط، سميرة ستقيم معكِ باستمرار، وكل اسبوع سيتناوب أحدنا على البقاء معكِ هناك، لن تعيشي بمفردك أبدًا يا ليلى طالما في صدورنا نفس يتردد.
– اهتمامك وحبك يسعدني بالطبع يا سعد ولكني لا أريد أن أربك حياتكم أنا أريد تقليل الفوضى لا افتعالها.
أمرها بنفاذ صبر:
– ليلى الأمر نهائي ولا مجال للنقاش، لو أصررتِ على النقل فبالشروط التي أخبرتك إياها.
أمام إصراره الشديد استسلمت:
– حسنًا أوافق.
ألم يعلم سعد أنها اتخذت هذا القرار لمنحه حريته في منزله ليتزوج ريم؟ لم تكن تريد التسبب في الحرج لسعد وريم إذا ما تمكنا من الزواج يومًا ما فكيف ستتحمل رؤية كريم يزور شقيقته وهي مجرد غريبة عنه لا تملك حتى حق النظر إليه، وربما تراه مع زوجة وأطفال، وتراه يحتضن غيرها وتتخيله يخبرها كلام الحب الذي جعلها أسيرة لهواه، ستعلم أن أخرى احتلت حضنه وأصبح لها الحق في قبلاته واهتمامه، لا هذا سيكون قاسيًا جدًّا ولن تتحمله ..
وبعد ليلة طويلة كئيبة قضتها في التفكير، اقتنعت أكثر بصواب قرارها وانتقلت لشقتها الجديدة مع سميرة، وحسن كان البادئ بالإقامة معها ..
كريم لم يحاول الاتصال بها منذ أن طردها خارج حياته وهي لم تتوقع أن يفعل، فهو يلملم شتات نفسه وينهض مجددًا من حسرته ويتخلص من أي أثر سيء تركته عليه، أما الاتصال الوحيد الذي تلقته فكان من ريم التي حاولت أن تفهم منها سبب مغادرتها للمنزل:
– ليلى، كريم حالته سيئة للغاية ويرفض الكلام، لا أستطيع معالجة الأمر بمفردي وأبي وأمي لم يعودا بعد.
شعرت بألم يمزق قلبها:
– اهتمي به جيِّدًا يا ريم، وكوني بالقرب منه هو طردني من حياته ولم يستطع مسامحتي، بالأمس توفي والدي، واضطررت للخروج مع أن كريم كان يمنعني لكني لم أستطع منع نفسي من الذهاب، وهو تأكد أنه لا يريدني في حياته، لا تتركيه يعذب نفسه يا ريم فهو غير مذنب على الإطلاق، ولو سألك عني فأخبريه أنى راضية تمامًا.
سألتها بانزعاج:
– توفي؟ كيف حال سعد الآن؟
أجابتها برضا وقناعة:
– أفضل يا ريم صدقيني، جميعنا بحال أفضل الآن، وأتمنى أن يكون كريم أيضًا بحال أفضل في أسرع وقت.
– هو ليس بخير أبدًا.. لقداستقال من عمله اليوم وسيسافر إلى الخارج، يقول أنه سيذهب في عمل خاص بشركته، لكني أشعر بالرعب.
ليتها لم تقابله .. شهقت بذعر:
– استقال؟ لقد كان يعشق عمله، أرأيتِ يا ريم، أنا السبب لم يستطع مواجهة زملائه بعدما علم عن أبي.
– لم أعد أفهم أي شيء، أنا منهارة تمامًا وأعجز عن التفكير، فكل من أحبهم في أزمة.
– نحن بخير المهم أنتما.
ترجتها بألم:
– إنه في طريقه إلى المطار الحقي به، لا تستسلمي الآن.
– لا يا ريم فات الأوان، هل علمتِ أنه هدد بالانتحار إذا ما اقتربت منه مجددًا؟ الشهقة التي أصدرتها ريم علمت منها أنها أخيرًا فهمت.
أغلقت الخط، وذنبها وصل للسماء، كريم استقال بسببها وترك لها الدنيا بما فيها.
كيف للضابط العظيم أن يقترن بابنة محكوم بالمؤبد، آه يا غبية لقد دمرتِه تمامًا، تضرعت إلى الله في صمت، دعت أن يسامحها كريم فهي كان دافعها الوحيد الحب، “سامحني يا كريم، أنا فقط كنت أريد أن أحبك ولم أكن أتخيل حجم الدمار الذي سأسببه”.
مرت أربعة أشهر من الكآبة، كل شهر استنزفها تمامًا، قوتها الوحيدة استمدتها من الحياة التي تنمو بداخلها، مازال أشقاؤها يتناوبون على حمايتها كشأنهم دائمًا، حاولت أن تدفن نفسها في العمل، حتى وهي بعيدة عنه التزمت بتعليماته، الآن هي فقط تصمم وتختارالعميلات الإناث دون الذكور، وتركت أمر متابعة العمال لحسن ومهندسة اختارتها للإشراف على العمل في الموقع، على الرغم من حالتها النفسية السيئة إلا أنها أبدعت في تصاميمها خصوصًا مع لمحة من الحزن عجزت عن السيطرة عليها فكانت التصميمات جريئة فقد تحررت من كل القيود التي كانت تكبلها وأيضًا حزينة في الوقت نفسه، فأصبحت صادمة لكن مدهشة.
**************
ساعته البيولوجية أيقظته لصلاة الفجر كالمعتاد، لكن ما هذا الشعور الغريب، كان يشعر أنه خفيف كأنه يطير ولا يشعر بوزن جسده على الإطلاق، هل التفكير يسبب هذا الشعور؟ بعد أن أنهى صلاته تفرغ للذكر اليومي حتى الشروق، تعهد أن يزيد من أموال الصدقات هذا العام، منذ أن سمح لنفسه بالتمتع بأمواله وهو حريص على دفع مئات الألوف غير الزكاة المستحقة عليه كصدقات وتبرعات ودعم للشباب ومساهمات في الزواج عسى تلك الصدقات أن تطهر أمواله من أي شبهة حرام، فتأنيب الضمير أحيانًا يقتله لكنه كلما تذكر بؤس الهاربين يتأكد أنه لم يكن مخطئًا تمامًا، {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة التوبة].
خطاياه كثيرة وتقصيره كان كبيرًا، لكن قلبه النظيف تواصل مع خالقه وطلب المغفرة .. أنه يفكر كثيرًا في الماضي منذ رحيل ليلى لشقتها وشعوره بالوحدة يقتله خصوصًا تلك الأيام، فهو منذ أيام وهو يعيش وحيدًا بدون أحدٍ، فسالم في بورسعيد لتخليص شحنة من الميناء، وهذا أسبوع حسن في المبيت عند ليلى، حتى الخادمة لطيفة وزوجها ذهبا لزيارة أقاربهم في قريتهم، ولم يتبقَّ سواه، ما حدث منذ شهور كان الأفضل لهم بالتأكيد، فقد طويت صفحة الماضي إلى الأبد، ربما ليلى مجددًا تتحمل نصيب الأسد من الألم لكنها كانت تعلم المخاطر منذ البداية ولجأت إليه وهو خذلها، نعم خذلها حينما جبن وتركها تخوض تجربة كان يعلم جيِّدًا أنها ستكون فاشلة، فهو شخصيًّا جنب نفسه الكثير من الألم وتركها تتعذب ربما كان يجرب فيها، لا لا أبدًا هو أبدًا لم يتعمد ذلك، بل دائمًا كان يحميها بحياته لكنه اكتشف أنه جبان، وكريم أيضًا جبان وحقير، كم يتمنى تحطيم أنفه المتعجرف ذلك، النساء أثبتوا أنهم يستطيعون أن يكونوا أكثر جراءةً وإخلاصًا منهما، فليلى وريم حاربتا بضراوة، وريم وحدها أثبتت أنها أكثر رجولة وشرفًا من أخيها الحقير، لكنها في النهايه استسلمت هي الأخرى، لشهور منذ انفصال ليلى وكريم وهي لم تحاول الاتصال بأي منهما، أنه لم يتوقف عن التفكير فيها للحظة فهل من المحتمل أن تكون قد نسته؟ الألم نهش قلبه لكنه أنب نفسه سريعًا، فهو لم يعدها سوى بالألم إذًا لماذا يشعر بالحزن عندما يفكر أنها تجاوزته، لو كان مسموح له الدموع لكان ملأ منها أنهارًا لكن الرجال على شاكلته يبكون بدون دموع ..
هبط إلى الطابق السفلي في خطوات متثاقلة واتجه إلى الباب الخارجى للفيلا وفتحه، إنه أبدًا لم يعتد أن يخدمه أحد ولا يحتاج إلى خدم في منزله فهو قادر على الاعتناء بنفسه ولم يشعر يومًا أنه أعلى قدرًا من أي أحد ،لكن هذا كان شرط ليلى للسماح له بالبقاء في الفيلا وحيدا، في الماضي أحضر الخدم لأجلهم، من أجل راحتهم ودلالهم فهو لن ينسى أبدًا أنه تخلى عنهم في أحلك أوقات حياتهم وكانت حجته جمع الأموال لينعموا بها، إذًا فليتمتعوا بالأموال كيفما يريدون، واليوم ليلى أصرت وطلبت منه السماح لحسان الحارس بالتنظيف البسيط حتى تعود لطيفه وزوجها، لذلك ترك الباب مفتوحًا واتجه إلى المطبخ لإعداد ما يشبه الفطور، مازالت حالة انعدام الوزن تنتابه وتجعله يشك في حقيقة استيقاظه لكنه واصل إعداد القهوة وحمل بعض الشطائر واتجه إلى مكتبه، أغلق الباب خلفه وراقب الجو من نافذته، لمحة البرودة في الجو ترسل قشعريرة في جسده والصباح الجميل يعطيه شعور بالأمل، حالته النفسية المبهمة بحاجة إلى الموسيقى، أدار أسطوانة “كيف أحبك”.
(How I love you) لـــ Engelbert Humperdinck
وجلس يتذوق الموسيقى والقهوة باستمتاع افتقده منذ سنوات، ربما حالة الخدر التي يشعر بها شجعته، لكن ما إن جلس خلف مكتبه وبدأ في تناول
قهوته حتى فتح باب مكتبه ودخلت منه ريم، فرك عينيه جيِّدًا ليتأكد أن ما يراه حقيقي، بالفعل هو يرى ريم وهي ترتدي فستانًا خرافيًّا اشبه بفستان عروس في منزله في ساعات الصباح الأولى، تأكد الآن أنه يحلم، وسيعاود لمسها في الحلم كما يفعل يوميًا .. نهض من خلف مكتبه وقرر الاستمتاع بحلمه لأقصى درجة، مد يده إليها وقال:
– هل تسمحين لي بهذه الرقصة جميلتي؟
***********
في الشهرالسادس من الحمل بطنها بدأت في الظهور وبدأت تشعر بحركة جنينها ..
سعادة لا يعادلها سعادة تشعر بها مع كل ركلة أو لكمة من أطرافه الصغيرة، كانت تقضي وقتها بالتحدث إليه، تذكرت حنان والدتها، عاطفة الأمومة لا تقارن، لدرجة أن عواطف تحملت سنين من العذاب من أجل أبنائها الأربعة، وعلمت الآن لماذا تحملت بصبر، رغمًا عنها عادت بذاكرتها ليوم الحادث المشؤوم، وكأن عواطف يوم موتها كان لها دعوة مستجابة، تذكرت يوم الحادث عندما أخبرتها أنها تراها مهندسة مشهورة وتمنت لها أن تتزوج ضابطًا ويقوم بالقبض على فرج، ها وقد تحققت أمنياتها، ضحكت بمرارة وحدثت نفسها: “لماذا يا أمي لم تتمني أيضًا أن يحبني هذا الضابط ولا يتركني أبدًا” أمنيات عواطف تحققت ولكن ..
انتهي الترم الأول من سنتها الدراسية الأخيرة بنجاح، الزمت نفسها بالدراسة والعمل من أجل أن تضمن حياة كريمة لجنينها المنتظر، فهي ستعوضه بالمال عن غياب الأب ولكن هل سيكفيه ذلك؟ لا حظ لديها أبدًا مع الآباء ..
تأملت نفسها أمام المرأة كم أصبحت مختلفة مع الحمل، ليت كريم معها يشاركها لحظات سعادتها، يشعر بضربات صغيرها مثلها يراقب سعادتها بنمو بطنها المنتفخ أو تلجأ إلى حضنه عندما يشتد عليها الوحم، مسحت دموعًا هددت بالنزول وأكملت ارتداء ملابسها باهتمام شديد فقدته منذ أشهر، حب كريم وسمها إلى الأبد بوسم من نار في قلبها، قد تعيش بدونه لكن المصطلح الأقرب سيكون تبقى على قيد الحياة لا تعيش.
أجابت على اتصال هاتفي من سعد ليذكرها بموعدها معه، سألها بقلق:
– هل نسيتِ موعودنا؟
– بالطبع لا، أنا أجهز نفسي بالفعل، هل وصلت؟
– لا لكني أردت أن أذكرك وأؤكد عليكِ أن ترتدي ملابس للسهرة، إنه حفل هام جدًّا بالنسبة إليَّ وأريد حضورك معي، ارتدي أجمل فستان لديكِ، وخدى وقتك تمامًا في الدلع .. هل لديك فستان سهرات يناسب وضعك الجديد؟؟
– نعم .. وأنا أوافقك جدًّا، ستدهش عندما تعلم أنني أردت أن أرتدي ثيابًا فاخرة وأحتفل اليوم أريد ذلك بشدة ولحظي الجيد وجدت فستانًا ناسب وضعي تمامًا.
أضاف بسعادة أدهشتها:
– تأنقي وافرحي وأعدك لن تندمي ..
ابتسمت مع نفسها بسعادة، سعد حالته أفضل، منذ شهر لاحظت أنه أصبح أسعد كثيرًا ويبتسم طوال الوقت، وأصبح يختفي كثيرًا حتى أنه لم يعد يقيم معها في شقتها ووزع أيام مبيته معها علي حسن وسالم ..هل من الممكن أن يكون وقع في الحب مجددًا؟
نفضت الفكرة عن رأسها، أنه ما زال يحب ريم حب لمرة واحدة في العمر فقط مثلها، ولكنها للأسف مثلها مثل أخيها تخلت عنهما، وصمة السناري كانت أقوى من احتمالهما، منذ شهور طويلة وريم لم تحاول الاتصال بليلى، بالأحري منذ أن أخبرتها بخبر سفر كريم، حب أولاد علم الدين لا يمكن التخلص منها أبدًا، حب العمر كله، ربما معها حق فهي أخبرتها عن تهديده بقتل نفسه إذا ما اقتربت منه مجددًا..
مازالت لم تسمع من كريم أي خبر، على الأقل هو لم يطلقها حتى الآن، يا الله كم افتقدته، هل عاد لسلمى؟
على الرغم من أن مجرد فكرة ارتباطه بأي أنثى غيرها تقتلها، إلا أنها تمنت له السعادة الحقيقية في حياته، عساها بذلك تكفر عن ذنبها في حقه.
صلتها الوحيدة به كانت جزءه النامي في أحشائها وسلسلته الماسية التي ارتدتها دائمًا لتلمسها وتتذكر لمسته على جسدها، لم تخلع أبدًا خاتمه من إصبعها؛ فهي ستظل زوجته حتى آخر يوم في عمرها حتى وإن طلقها هو صور شهر عسلهما على هاتفها النقال تثير فيها حنينًا يؤلمها، ربما كانت تعلم يوم التقاطها أنها يومًا ما ستكون هي كل ما سيتبقى لها منه فحرصت على توثيق كل لحظة ..
اتصال آخر من سعد علمت منه أنه قد وصل لاصطحابها، بسبب إلحاحه الشديد عليها ارتدت ملابس مناسبة لسهرة فخمة، هي تعلم كم أن سعد شخصية مشهورة لا يمكن أن تحرجه في الأماكن العامة بارتدائها بإهمال كما كانت تفعل طوال تلك الشهور الماضية..
فستانها الأخضر أظهر بطنها المكورة بطريقة جميلة، أضافت القليل من البودرة والأحمر لإعادة اللون إلى وجنتيها الشاحبتين، لمعت شفتاها بملمع وردى بحبيبات ماسية وحددت عينيها بكحل خفيف ولمسة من الماسكرا، لفة حجابها أنيقة بسيطة ولكنها أظهرت وجهها الجميل.
الآن هي جاهزة للرحيل مع سعد، بأقل مجهود عادت لجمالها السابق منذ أشهر لم تتطلع لنفسها في أي مرآة، لمن ستتزين وزوجها غائب عنها، لو فقط يعود، ستعيش خادمة تحت قدميه ..
هبطت الدرج المؤدي إلى شركتها حيث وجدت سعدًا في كامل أناقته في انتظارها، حلته السوداء أنيقة بشكل مدهش وبالأخص وهو يضع وردة بيضاء بجوار قلبه، سعادته وبريق عينيه لم ترهما في حياتها من قبل فسعد لم يحمل سوى الحزن منذ يوم مولده ..
– سعد أنت اليوم مدهش وكأنك عريس.
ربت على كفها بخفة وأجابها بغموض:
– شكرًا لأنكِ لم تخذليني وارتديتِ ملابس السهرة كما طلبت منكِ، أنتِ أيضًا وكأنك عروس،
ابتسمت بسخرية:
– عروس بطنها تمتد أمامها لمترين وبدون عريسها
– لقد ازدادتِ جمالًا مع الحمل، أنتِ اليوم مذهلة، أجيبيني بصراحة، هل افتقدتِ كريم؟
أجابته بحزن وهي تضع كفها على بطنها:
– كيف أفتقده وهو لم يفارقني للحظة.
– إذًا أنتِ ما زلتِ تحبينه؟ حزنها تحول إلى استنكار:
– بالطبع، وسأحبه حتى آخر يوم في عمري، الغريب أنك أنت بالذات من يسألني عن الحب، هل أنت استطعت نسيان ريم أو ستنساها يومًا؟
ابتسامة الغموض اتسعت لتشمل كل وجهه واوقف سيارته أمام نفس الفندق الفخم الذي أقامت فيه زفافها، ذكريات حزينة عادت إليها، وانتقلت إليه ليشعر بحزنها وبذكرياتها التي داهمتها أبدًا لم يكن ينوي إيلامها لكن ..
تمالك نفسه ونظر إليها نظرة حنان كأنه يواسيها ويطمئنها في الوقت نفسه
يوعدها بنظرته بالأمل لكن كيف؟ لا تدري لماذا، لكنها استكانت، فيكفيها أن تراه ممتلئًا بالحيوية ويقفز من السعادة التي لم يعرفها يومًا، إنه اليوم غامض جدًّا لكنها سعيدة حتى بغموضه طالما بريق عينيه يشع بالحياة ..
مع دخولهما الاستقبال الرئيسي في الفندق هب موظفي الاستقبال لتحيته بترحاب يليق باسم سعد السناري ومكانته..
– مرحبا يا عريس، شرفت فندقنا باختيارك لنا لإقامة عرسك، نتمنى أن نكون عند حسن ظنك وتعجب بالحفل

