رواية حارة جهنم الفصل الثاني 2 بقلم داليا الكومي – تحميل الرواية pdf

رواية حارة جهنم الفصل الثاني 2 بقلم داليا الكومي
((الظلم ظلمات يوم القيامة))، وسيُرد الظالم والمظلوم لرب العالمين .. والحكم يومئذ لله .. وأخيرًا انتهى ذلك اليوم الكئيب .. بعد أن روت ما حدث بالتفصيل في محضرٍ رسميٍّ .. صدر أمر ضبط وإحضار لوالدها وأُلقِيَ القبض عليه وإحضاره من المنزل.
وهو حتى لم يحاول الهروب .. جبروته أقنعه أن جريمته ستمر بدون عقاب مثل كل مرة .. فلم يكلف نفسه حتى ويحاول الاختباء ..
بعد أن اطمئن سالم وتأكد من ضبطه بحلول ظهر اليوم الثاني عادوا إلى المنزل الكئيب الفارغ وأخيرًا تمكنوا من النوم ..
الدفنة ثم العزاء مرُّوا بكآبةٍ لا توصف .. سرادق العزاء المُقام أمام المنزل كان مليئًا بالنساء المقهورات أمثال عواطف .. كل واحدةٍ فيهنَّ بكت حالها ولم تكن تبكي القتيلة بل جلست تنتظر دورها عندما توارى التراب على يد زوجها، كأنه قانون حارة جهنم؛ تلك الحارة قطعة من جهنم فعلًا، وتهب قاطنيها الجحيم مغلفًا بنكهة المرارة، حتى حرارتها كانت لا تطاق, لهيب الجحيم كان يحوطهم ويخنقهم ويمنعهم من التنفس, وبانتهاء العزاء أغلقوا عليهم باب منزلهم الذي ذكرتهم جدرانه بهول ما حدث، تأكدوا أنه من اليوم ستتغير حياتهم إلى الأبد .. فمنزلهم الآن بدون عواطف وبدون فرج .. بدون ذويهم علي اختلاف مصير كل منهما ودرجة افتقادهم لهما ..
وكان حسن على وشك الانهيار ليقول وسط دموعه:
– رحمك الله يا أمي .. كيف سنتمكن من العيش بدونها؟ ليلى بالأخص كيف ستتدبر أمرها؟
نظر إليه سالم بحنان وقال ..
– تحلَّ بالقوة، فليلى لم يعد لديها سوانا .. ستكمل تعليمها كما أرادت أمي وستلتحق بالجامعة أيضًا.. والدتنا الحبيبة ضحَّت بحياتها لأجل ذلك وأنا سأنفذ رغبتها حتى آخر نفس في صدري..
عاد ليقول بضعف:
– سنحاول يا سالم .. سنحاول.
– لا .. في قاموسي لا توجد مثل تلك الكلمة .. سنعمل ليل نهار حتى تستطيع ليلى إنهاء دراستها .. سنحفظها بداخل عيوننا وسنحميها لآخر نفس في صدورنا سنحيا بقوة الحب.
انتبه فجأة إلى أمر ما فسأله بتردد:
– كيف سنخبر سعدًا؟ لا بدّ وأن نخبره بتلك المصيبة، آخر أخبار سمعتها عنه أنه قد رحل إلى إيطاليا .. ومنذ ذلك الحين لم أسمع عنه شيئًا ..
“سعد الغائب الحاضر .. قطعة قلبها المهاجرة ..” تدخلت في الحوار أخيرًا وقالت بألم يعتصر قلبها ..
– إنني أدعو الله أن يحفظه .. القلق يأكل قلبي .. كم أتمنى عودته ..
إيمان سالم القوي بسعد دفعه للقول بدون تفكير:
– لا تخشي شيئًا يا ليلى فسعد قوي .. وسيعود .. هو قال أنه سيعود إذًا سيفعل كما وعد .. ثقتي فيه لا حدود لها .. من الآن لا يوجد لدينا وقتٌ للدموع .. طالما نعيش في حارة جهنم لا بدَّ وأن نحارب من أجل العيش.
بانتقال حسن وسالم مجددًا للمنزل وغياب الدهم تحملت غياب والدتهم المدمر .. دعت الله من قلبها أن يعيد إليها سعد سالمًا، وأن يحفظ حسنًا وسالمًا وأن يتمكنوا من العيش بسلام بعد الكارثة التي حلت بهم .. اللجوء إلى الله يريح القلب ويهون مرار العيش.
في جلسة علنية تم الحكم عليه بالسجن لخمسةٍ وعشرين عامًا أشغال شاقة مؤبدة ..
والحكم كان سريعًا في تلك القضية مقارنة بمثيلاتها من القضايا ..
لكن المحكمة قررت الحكم بسرعةٍ وبحكمٍ رادعٍ كي يكون عبرة لأمثاله من البشر الحيوانات .. جملة قالها القاضي لن تنساها أبدًا في حياتها ..
القاضى وجه كلامه لفرج قبل الحكم بلحظات وقال:
– “نحن فقط نحقق عدالة الأرض لكن يا ويلك من عدالة السماء”.
القاضي نظر في عينيه وأخبره أنه يستحق الإعدام لكنه مكبل بالقانون الذي لا يتيح له الحكم بالإعدام لعدم توفر نية الإصرار والترصد .. فحكم عليه بأقصى عقوبة ممكنة عله يطهِّر الكون من خسيس مثله.
نظرات والدهم لها ولأشقائها في قاعة المحكمة لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتها للأبد، كانت تحمل الكثير والكثير لكنها لم تتوقف للتفكير .. القصاص العادل.. الحمد لله ..
وحتى البشاعة التى حدثت في منزلهم قد تُنسىَ إذا ما حلَّ محلها الحب .. مرت سنتان .. واصل فيهما حسن وسالم حمايتها بضراوة .. تناوبا فترات العمل كي لا يتركاها أبدًا وحيدة .. تعلَّما الدرس جيِّدًا .. لا يوجد في عالمهم مكان للضعفاء .. وليلى ضعيفة كما كانت عواطف .. كل ركن من أركان البيت يذكرهم بالمأساة، ولكن إلى أين غير ذلك الجحيم يذهبون؟؟
خلال العامين المنصرمين استقرت أحوالهم كثيرًا .. آمنوا أن وفاة الدتهم كانت رحمة لها وأن سجن الجانى مهما أن كانت صلته بهم هو العقاب الذي يستحقه بل يستحق إعدامه وليس سجنه فقط .. لم يحاول أي منهم زيارته في محبسه أبدًا قرروا نسيانه تمامًا وإقصاءه من حياتهم .. كابوس انتهى إلى الأبد ولديهم خمسة وعشرون عامًا كاملة ليعيشوها بدونه..
****
– صباح الخير يا حبيبتي .. ألم تنامي حتى الآن؟
– لا يا حسن لم أستطع النوم .. أنا خائفة للغاية .. القلق سيقتلني .. أشعر بالرعب من النتيجة، إنها الثانوية العامة ..
– ستنجحين وستكونين في المركز الأول .. ثقي بكلامي .. أنا سأنتظر النتيجة أمام المدرسة وسأعود لأبشرك .. هدئي من روعك واصبري حتى أعود بالبشارة .. لقد تركت سالم نائمًا وسيبقي بقربك ليطمئنك فهو قد عاد من عمله منذ قليل.
“من بعد الألم سيولد الأمل ومن قلب القهر تنمو البراعم وتتجدد الأحلام ومن يصبر يَنَل الفرج .. صدق من قال: الصبر مفتاح الفرج”. انتظرت بلهفة عودة حسن بالنتيجة .. اللحظة الفارقة في حياتها ستتشكل الآن كل ما عملت من أجله على وشك أن يتحقق أو يتحطم .. أي نجاح ستشهده سينسب إليهما وحدهما .. وجودهما كان نعمة؛ فالرزق ليس بالضرورة سعة في الرزق، فقد يكون على هيئة شقيقين تفانيا في خدمتها وتدليلها ..
من بعد الحادث المشؤوم تكاتفا سويًا .. شكَّلا درعًا لحمايتها .. انهمكا في العمل ليل نهار .. تناوبا على حمايتها .. خدمتها .. على العمل بجدية من أجلها .. أجَّلا كل أحلامهم كي يحققا حلم والدتهم وحلمها .. أصرَّا على إعطائها الدروس الخصوصية المكلفة جدًّا ..
كان سالم متخصصًا في توصيلها، وتفرغ حسن لخدمتها ومرافقتها في المنزل لأنه لم يجد عملًا دائمًا، فقد كان يعمل سائقًا على سيارة نقل ركاب في بعض الأحيان فقط عندما يتغيب صاحب السيارة لأي سبب.. كانت تعلم أنها جميلة وجمالها المبهر لفت انتباه الجميع إليها، وتعرضت لمضايقات من الحثالة أشباه والدها الذين كانت الحارة تمتلئ بهم ..
لكن درع حمايتها المكون من حسن وسالم لم يترك فرصة لأي حقير بالتطاول ..
باستثنائها .. سعد، حسن وسالم لم يكملوا تعليمهم .. تركوا المدرسة منذ المرحلة الابتدائية … كم هي محظوظة بأشقائها وخصوصًا سعد فغيبته لا تجعلها تنساه.
“يا رب الستر من عندك .. يا رب”.
بدأت في الدعاء .. في البكاء .. افتقدت والدتها .. افتقدت سعدًا .. أكثر من أربع سنواتٍ مرت منذ اختفاء سعد من حياتها ولكنها لم تفقد الأمل في عودته أبدًا.
صوت خطوات حسن البطيئة أنبأتها أنه قد عاد من المدرسة وسببت لها توقفًا في النفس.
صدمتها كانت شديدة حينما رأت سالم مع حسن والدموع تغرق وجهيهما فسالم كان مستيقظًا وذهب مع حسن على الرغم من عمله طوال الليل ..
دموعهما دفعتها للصراخ .. صرخت في صدمة:
– هل رسبت؟
هزَّ حسن رأسه بالنفي بقوة والدموع تتطاير مع كل هزة:
– مطلقًا حبيبتي مبروك .. إنها دموع الفرح .. أنتِ الأولى على المدرسة في الترتيب بمجموع 98%.
فجأة كانت في أحضان حسن وسالم معًا .. اختلطت دموعهم .. تمنوا سويًّا الأمنية نفسها .. تمنوا وجود سعد .. أين أنت يا سعد؟ ليتك معنا اليوم .. ما كان ينقصهم بشدةٍ هو حضن سعد يضمهم جميعًا .. فقد طالت غيبته .. بحنان بالغ مسح سالم دموعهما بأصابعه وأمرهما:
– لا مزيد من الدموع .. اليوم سنحتفل فقط .. سنفرح وسيدخل الفرح إلى منزلنا فنحن لم نفرح من قبل أبدًا .. اختاري أي كلية تريدين وستلتحقين بها فقط أشيري بإصبعك والباقي مسؤوليتي أنا ..
يا الله سالم القوي الرائع تحمل المسؤولية بشجاعة تحمل ما يفوق طاقته من أجل أشقائه .. لحمه ودمه الأضعف منه .. على الرغم من أن حسن كان أكبرعمرًا من سالم إلا أنه كان دائمًا الأضعف والأكثر رقة مقارنة بسعد وسالم .. لكن برغم ضعفه الواضح .. تفانى في حمايتها من بلطجية حارة جهنم .. حماها بحياته، كانت تعلم كم هو حنون ومراعى .. فله قلبٌ لن يتكرر مطلقًا وأرادت الصراخ من شدة التأثر حينما ابتسم حسن بفخر وهو يقول:
– لقد ابتعت أجمل كعكة في محل الحلويات في طريق عودتنا .. أعِدِّي الشاي وأحضريه لنحتفل .. لا بدَّ وأن نحتفل .. سنفرح اليوم لأول مرة في حياتنا ..
دموع السعادة امتزجت مع دموع الامتنان .. ما لديها الآن يكفيها ويفيض.. الحمد لله .. الله الكريم عوَّضها بأفضل أشقاء في الدنيا .. حنينها للغائب كان على أشدِّه .. افتقدت سعدًا بشدة .. ليته يشاركهم فرحتهم ..
انتهت من إعداد الشاي وكفَّاها يهتزان من الفرحة .. لقد ذاقت الأمرَّين في سبيل تلك اللحظة والجميع دفع الثمن .. أحضرت صينيةً كبيرةً ووضعت عليها الصحون وأكواب الشاي وحملتها لحيث كان ينتظرها شقيقاها في مجلس عربي بسيط .. عندما اقتربت سمعت حديثهما على الرغم من أنه كان أشبه بالهمس ..
وعلى الرغم من تعمدهما الحديث بصوت منخفض كي لا تسمعهما .. إلا أنها سمعت بصعوبة ما كانا يقولان:
– سأرحل يا سالم ولن تستطيع منعي .. إنهم بحاجة إلى سائقين في العراق للعمل لأجل شركة بترول والراتب ضخم وسأذهب .. مصاريف كلية الطب كثيرة ولن تستطيع تدبر الأمور بمفردك.
“يرحل هو الآخر..؟ أنا لم أتعافَ بعد من خسارة سعد” أجابه سالم بعنف:
– لن أسمح لك أبدًا بالسفر .. يكفي سعد .. لا يمكن أن أُضيِّع أحدًا منكم مجددًا سأحميكم حتى آخر نفس في صدري .. لا تحمل هم المصروفات فأنا قادر على تدبر أمري .. ولن أسمح لك بالحديث عن السفر مجددًا .. لن تسافر وإن فعلتها بدون علمي سألحق بك إلى هناك وسأعيدك .. لو فعلتها من وراء ظهري سوف تندم .. إياك حتى والتفكير في ذلك.
الحقيقة ضربتها بقسوة:
– “يا الله .. كم أنا أنانية .. كيف سأقبل بإكمال تعليمي على حسابهما .. لقد حرما نفسيهما من كل شيء لأجلي .. نسيا مستقبلهما .. ضحَّيا بوقتهما وصحتهما لأجل تعليمي وراحتي .. لقد آن أوان أن ينصرفا إلى الاهتمام بمستقبلهما” .
بكل تصميمٍ وعزمٍ قررت رفض تضحية شقيقيها أكثرمن ذلك .. يكفيها شهادة الثانوية ولن تكمل أنانيتها أكثر من ذلك .. من يجب عليها أن تفقد بعد حتى تحصل على شهادة لن تعوضها إظفرًا واحدًا من شقيقيها؟
دخلت إلى المجلس وهي تحمل الصينية التي نهض حسن فورًا وتناولها منها ووضعها بجوارهما على الارض ..
فورًا ركعت على ركبتيها وأخذت يد حسن ويد سالم واحتضنتهما في كفيها وقالت بألم ..
– أنتما ضحيتما لأجلي كثيرًا .. سأظل عمري شاكرة لما فعلتماه لكنني قررت أن أكتفي بالثانوية وسأبحث عن عمل .. لن ألتحق بالجامعة ..
حسن وسالم تسابقا للرد .. لرفض كلامها بقوة .. لإثنائها عن قرارها لإبلاغها رفضهما القاطع والتام لقرارها .. لإبلاغها أن الموضوع غير قابل للنقاش أو الجدال ..
ولكن لدهشتهم البالغة .. الرد أتى فجأة من خلفهم .. الرد أتى من باب المجلس المفتوح .. رد سبق رد حسن ورد سالم ..
الصوت أجابها بصوتٍ حاسمٍ لا يقبل النقاش أوالجدل ..
– توقفي عن التفوه بالترهات .. ستكملين تعليمك .. لا يوجد لدينا بنات تعمل كي تعيل نفسها ..
أنظارهم توجهت لصاحب الصوت معًا .. وأيضًا صاحوا بعدم تصديق معًا – سعد!!!!!!


