Uncategorized

رواية جمعية حب الفصل السادس 6 بقلم شمس محمد – تحميل الرواية pdf


|| الفصل السادس ||

|| رواية جمعية حُب ||

بسم الله الرحمن الرحيم،

والصلاة والسلام على الرسول الكريم..

سبحان الله وبحمدهِ، سبحان الله العظيم..

|| صلوا على الرسول الحبيبﷺ ||

_الرجاء الدعاء لـ “نسمة” ولكل أموات المسلمين بالرحمة

والمغفرة.

____________________________________

مُر حُبًا فيَّ يا صديقي كي أقول لكَ مرحبًا..

أتعلم؟ لازال هناك مكانٌ في قلبي ينتظر عودتك، لازال يخفق ضارعًا بأملٍ يطلب رجعتك، هذا الأمل الذي لم ينطفيء هو الذي يُحيي القلب، يحيه ويخبره أن الصديق الذي عهد سوف يعود، ويقف أمام الورىٰ مُعرفًا العالم بك بكل فخرٍ؛

أن هذا هو صديقي، أعرفه من خمسين شدة، وتسعين ضائقة، شريك خيباتي، وأول من أفضيت إليه بما في نفسي، وأول من رأى في وجهي الشر قبل الخير، ولم يزل يُحبني،

عُد يا صديقي فقلبي يشتاق، وأنتَ مُصرٌ على الفراق،

قُل لي بربك ألم يكن الضوء بين دربينا بالبرَّاق؟..

بعض الطُرق لا تُهدى لنا من باب الصدفةِ، ولا حتىٰ نختارها بالإجبار كما نظنُ، لكنها طُرق كتبها الله لنا كي يُيسر علينا بها الدرب المُعتم، حيث نحن ها هُنا مُستَوحَشيِّن في طريقٍ فردي مُظلمٍ كأن العمى قد أصابنا، لذا إذا وجدت نفسك على مقدمة طريقٍ تكاد تكون كرهت سيرك به، فاسلُكهُ لعل مُراد في نهايته..

_وحشتيني أوي، أخبارك إيه يا “رحمة”.

نطقت بها “عُـلا” تخص رفيقتها. والرفيقة هنا هي رحمة القلب لها، رفيقتها التي تركتها وتركت الاسكندرية وغادرتهم جميعًا تعود لها كي تتحدث من جديد وترتكن كلتاهما على الأخرى، وها قد عاد موضع الرفيق القديم للقلب والذكرىٰ، شعرت “رحمة” كأن الغيث أصاب مركزه في قلبها القاحل؛ فقالت بلهفةٍ:

_وحشتني أوي يا “عُـلا” طمنيني أخبارك إيه، وأخبار اسكندرية وبحرها وهواها إيه، وحشتني أوي، حتى ريحتها وحشتني.

ابتسمت “عُـلا” بشجنٍ وقالت بنبرةٍ غلفها الحزن:

_وحشتيها أنتِ كمان أوي، كل حاجة وحشة من ساعة ما سبتيها، مش ناوية ترجعي تاني؟ على الأقل مرة واحدة علشاني أنا، أنا تايهة هنا ومش لاقياكِ، تعبت.

لاحظت “رحمة” القهر في كلماتها ونبرتها وكأن قلبها تواصل مع قلب الرفيقة، حيث بدا العتاب تلك المرةِ مُوجِعًا، فسألت بحدسٍ لا يُكذَّب كأنها تقطع الشك بالضرسِ القاطع:

_أنتِ مش كويسة ليه؟ العالم الجرابيع اللي عندك دول مضايقينك تاني؟ والله قولتلك أفضحهملك وأخليهم يتكسفوا يرفعوا عينهم قدام الناس تاني، عملوا فيكِ إيه يا “عُـلا”.

تنهدت الأخرى قبل أن يظهر البكاء في صَوتها فيُردِعُ كلماتِها قبل أن تظر عند طرفِ فَمِها، لذا أخبرتها بما حدث وببيع البيت وبرحيل العائلةِ كاملةً وتركها وحدها تُعاني القسوة والفقد والخوف، كانت تتحدث وقلبها يُبرهن في كلماتها أنها مازالت تستنكر الفعل وعقلها يُرابط على إدانة الفاعل، وكأنها في حربٍ قلب حياتها وأمست رُكامًا فوق بعضها، بينما الصديقة ذات الخصال الحُرة هدرت بضيق حالها ذِرعًا:

_ولاد ***** دول عيلة زبالة وقولتلك مليون مرة تعالي معايا وسيبك منهم، أنا مشيت وسيبت كل حاجة ورا ضهري، كان لازم تعملي كدا من الأول، أهم خدوا حقك وحق أبوكِ وطفشوا، حتى “ياقوت” ماتعرفيش حاجة عنها، طولتي منهم إيه يا “عُـلا” نفسي أفهم سبب واحد يخليكِ تفضلي وسطهم.

شعرت الأخرى كأن هناك نصلٌ حاد ينغزر في قلبها، لم تشعر بنفسها إلا حين سقطت دفاعاتها الواهنة فقالت بصوتٍ باكٍ كأنها تنهار من فوق جبلِ الثبات:

_كنت محمية فيهم وقولت هما أرحملي من الشارع والناس، مسكت فيهم علشان حضن “ياقوت” اللي كان باقيلي منهم، بس خلاص، أنا همشي وأسيب اسكندرية، بس يا رب تكمل على خير ويكون فاكرني أو فاكر أي حاجة.

تعجبت “رحمة” من الحديث فسألتها بذهولٍ عن مقصدها فإذ بالأخرى تتنهد بقوةٍ وتقول بقلة حيلة حقيقية تخبرها بها عن الحقيقة التي لم تختبيء خلف غمام الباطل طويلًا، أفضت لها بكل الحديث وأخبرتها بكافة التطورات، فتحمست الأخرى لهذه الأخبار وقالت تحثها بقولها:

_طب ودي محتاجة تفكير؟ لو منك أجري على القاهرة من الصبح، أنتِ لسه هتفكري يا “عُـلا” في الموضوع؟ بإذن الله ربنا يعوضك ويكرمك عن العِرر اللي كنتِ عايشة معاهم دول، وتشوفي أهلك اللي بجد، وأكيد يعني مافيش ناس أحقر من عيلة أبوكِ، دا حتى أمهم المريضة العاجزة مارحموهاش.

تنهدت “عُـلا” بقوةٍ تعبر عن ضيق حالها ذِرعًا وفشل إيجاد حلًا يصيب الهدف، بينما “رحـمة” فرغم ترددها لكنها استعادت رابطة جأشها وتسلحت بكذبٍ وهي تقول:

_طمنيني حد منهم لسه بيدور عليا؟.

انتبهت “عُـلا” للسؤال فتبدلت في الحال وهي تقول بلهفةٍ:

_مبطالوش لف عليكِ، أخوك لسه بيدور وأبوكِ مش ساكت، وللأسف هو كمان مش مبطل يدور، “رمزي” مش مبطل لف وكلام، وزي ما أنتِ عرفتي قال للكل إنك سيبتي الفرح وهربتي مع حد تاني، بس أنا قولتلهم على اللي حصل وإنك مشيتي لما شوفتي بعينك، بس أنا خايفة عليكِ، عايشة لوحدك إزاي كدا؟.

ازدردت لُعابها بصعوبةٍ ما إن تذكرت وسُرعان ما تسلحت بذات الشجاعة الزائفة وهي تقول نافيةً التهمة عن كاهلها:

_أنا ماهربتش علشان حد، أنا مشيت علشان أحرق قلبهم زي ما كلهم حرقوا قلبي، كلهم مدوا إيدهم علشان يقتلوني يا “عُـلا” وماحدش فيهم خد صفي، لو كنت سمعت كلامهم كان زماني في السجن دلوقتي، أنا مشيت علشان كلهم ماهمهمش قلبي، وأنا مش عاوزاهم خلاص، مش اختاروه، خلوه ينفعهم، يولعوا ببعض.

لاحظت “عُـلا” ارتجاف صوتها واهتزاز الوتيرة بغير ثباتٍ، فقررت لملمة شتات الموقف بقولها حين قالت:

_سيبك منهم يا “رحمة” ونزليهم من راسك، مش خلاص ارتاحتي وشوفتي حياتك ونفسك؟ ركزي في شغلك وسيبك منهم، وأنا هحاول أوصل ليهم وأشوف “آدم” دا يا رب يكون عارفني، وهكلمك، بس علشان خاطري خلي بالك من نفسك وربنا يراضيكِ، ولو جيت القاهرة هاعرفك.

_ماشي يا “عُـلا” هاسمع كلامك، مع إن أنتِ عارفة إن دا صعب يتنسي، بس أنا هاكون أنانية المرة دي في حق نفسي، ومستنية تيجي تقعدي معايا، سيبك بقى من الهم اللي عندك دا، يا بت أنا عارفاكِ من ثانوي ومن يومها وأنتِ شايلة الهم، كفاية بقى يا “عُـلا” على كدا، فكري في نفسك شوية، حتى لو طلعوا مش عارفينك، تعالي ليا وأنا مرحبة بيكِ وبيتي مفتوحلك.

دار الحوار بينهما هكذا، ومن ثم تم إنهاء الحوار بعد أن طمأنت كلًا منهما الأخرىٰ _رغم ثبوت اليقين بكذبتهما_ لكنه حديثٌ لا مفر من قوله، وقد أمسكت “عُـلا” ورقة الرقم تقرأه بعينين دامعتين بنسيجٍ ما بين خيوط الأمل وبَين خيبة الرجاءِ، كان قلبها ضارعًا ومبتهلًا بكل رجاءٍ وتوسلٍ أن تكون الذكرى قد تركت سبيلًا للوصول لها، وها هيَّ تَعيشُ علىٰ رُكامِ الأملِّ..

بينما “رحـمة” فأغلقت الهاتف وولجت الشُرفةَ العالية المُطلة على المدينةِ المُظلمة، لياليها ظلماءُ كما عتمة القلب الحزين، راقبت أضواء المدينة لكن عقلها صنع لها مُقارنة بين المدينتين، بين مدينة كانت حياتها، وبين مدينة أخرى صنعت لنفسها بها الحياة، جلست فوق الأرجوحة المُستديرة والدمعُ عرف الطريق على الفور لعينيها، لذا رمت رأسها للخلف وتذكرت الماضي الصعب، تذكرت وليتها ما فعلتها، حيث عادت لليلة القاسية..

وقتها كانت عروسًا تقوم بتحضير ليلة زفافها، قامت بنقل أثاث الزوجية لشقتها وقامت بتوضيبها، وظلت في انتظار اليوم الموعود، يوم الاقتران بحبيبٍ كان فارس أيامها، “رمزي” الذي كان لها أكثر من كونه حبيبًا، وقتها كانت في غرفتها تجلس فيها رفيقاتها ونساء العائلة بعد أن أعادوا ترتيب البيت من جديد، كانت وقتها كما الأميرة المتوجة بينهن، جميعهن يضحكن لأجلها، ينشرن الأغنيات لأجلها، يصفقن فقط لأجل فرحها، وقد ولجت أمها في تلك اللحظة تقول بضيقٍ:

_الحقي يا “رحـمة” نسيوا شُنط الهدوم بتاعتك، مين هينقلهم؟ عاوزين نوديهم علشان بكرة نروح نكمل الفرش، فاضل بس المسح والسجاد، الشقة كدا هتبوظ تاني.

تدخلت زوجة العم تقول ببساطةٍ وسلاسةٍ للأمور:

_ياختي مكبرة الموضوع كدا ليه؟ ريحي أنتِ وهاخد “رحمة” نفرشهم ونرصهم ونرجع، وبكرة نروح أنا وأنتِ نفرش السجاد ونعلق الستاير، الفرح مفاضلش عليه كتير، قومي يا “رحـمة” معايا يلَّا، خلينا نلحق وهي تروح تتمم علىٰ شقتها، بكرة لسه كتب كتاب وحنة وموال أسود.

الجميع أيدوا تلك الفكرة الأخيرة، حيث وافقت “رحـمة” على حديث زوجة عمها وقررت أن تذهب معها، بينما أمها فكانت تعمل على ترتيب البيت والتحضير لليلة الغدِ، تقومُ بتحضيرِ كل شيءٍ بعد أن تم اجهادهم لأجل هذا الزفاف كي يتم، وما إن تحركت “رحـمة” ووصلت للشقة القريبة من بيت والدها ووقفت بالأسفلِ شعرت كأن هناك ثقلًا فوق صدرها، ربما توترت بسبب فكرة أن هذا سيكون بيت الزوجية، لا تعلم لما هذا الاضطراب صاحبها، لكنها قررت أن تصعد وتسبق زوجة عمها..

تحركت للأعلى تحمل الحقيبة وفتحت باب الشقة، لاحظت الأضواء المُضاءة والأصوات الصاخبة، تحركت للداخل فلمحت مرمدة السجائر ممتلئة ببقايا التبغ المطفي ودليلٌ على وجود أثر الحشيش، ارتابت لوهلةٍ وعادت للخلف بخوفٍ، ثم لمحت ظلًا في الداخل فتحركت نحوه، وقتها لمحت “رمزي” فتى الأحلام في غرفة الزوجية الخاصة بها برفقة فتاة تتراقص له، وهذه الفتاة لم تكن إلا ابنة عمتها !!.

كان المشهد مُقززًا للغاية، هو يرقص برفقتها كما الشاب الأرعن، في يده استقرت لُفافة تبغ الحشيش، هي ترتدي ثياب خليعة كما فتاةٍ ساقطة من فتيات الليل، لا تعلم لمَّ اختار هذا السكين القاسي كي يطعنها في قلبها، لمَّ انتقى من بين كل الأسلحةِ هذا السلاح الذي لا يرحم؟ لمَّ اختار لها الموت غير الرحيم بهذا الحد؟ وإن كان هو غريبًا عنها فماذا عن ابنة العمَّة التي فعلتها وغدرت بأختٍ لها؟.

ولجت زوجة عمها بدهشةٍ ولمحت الوضع فصرخت ولطمت فوق صدرها بكفيها وهي تولولُ بذهولٍ وصدمةٍ وكأنها قرأت الرواية من مجرد العنوان وغلاف الكتاب:

_يا مصيبتي !! يا ولاد **** يا وقعة أبوكم سودا؟ يخربيتكم.

هجمت على الفتاة تمسكها من شعرها فصرخت الأخرى وهي تدفع زوجة خالها عن يدها، بينما “رحـمة” فما إن أعادها الصوت لواقعها فصرخت بملء صوتها، صرخت بقهرٍ ثم اندفعت عليه تضربه في صدره بقبضتيها وهي تصرخ بقولها:

_لـيه !! عملت فيك إيه؟ يا أخي حرام عليك، رد عليا !! ليه، دا إحنا لسه ماتقفلش علينا باب واحد، ويوم ما تروح تجيب واحدة، تجيب اللي من دمي ؟! تجيب أختي وتعمل كدا؟ يا أخي كنت سيبني أهون من القرف دا، بس هقولك إيه؟ العيب على الرخيصة اللي سهلت نفسها ليك.

بصقت في وجهه ودفعته بذراعيها، ثم التفتت تصفع ابنة عمها وقالت بقهرٍ منها ومن أفعالها في حقها:

_لو بأيدي هرميكِ في الشارع بلبس الرقص دا علشان الناس كلها تعرف مقامك، آخرك ليلة مش أكتر وهو دا تمامك.

خرجت “رحـمة” من شرودها على صوت الهاتف الذي ذكرها بقيام الليل، تنهدت وتركت موضعها تُقيم الليل لعل جراح قلبها تهدأ من النزفِ، كانت تبكي قبل أن تتحرك، وبمجرد أن رفعت كفيها تقيم الليل وتبدأ في الصلاة تبدل خوفها أمنًا، تحول انكسارها لقوةٍ، تحول ضعفها لثباتٍ،

والقلب يلتحد بالله، ولن يجد من غير طريق الله أمنًا.

____________________________________

<“الحياة لم تكن حُلوة لولا لم تضع سُكرها أنتَ بنفسك”>

في فلسفة الحياة تعلم أن كل المذاقات غير سائغةٍ..

فلم يكن سهلًا على الفردِ أن يأكل ما لم يُحبه هو، يصعب عليه أن يتقبل نكهة مذاقٍ مجبورٌ عليها، لذا كل شخصٍ يضع بنفسه النكهة التي توصله للمذاقِ الذي يُحبُ، لذا هو يضع السكر إذا أرادها حُلوة، ويعلم متى يُضيف لها الملح..

كان ساهرًا في مطعمه بعد أن أنهى العمل داخل المطبخ تحرك داخل مكتبه يتابع كاميرات المُراقبة، يتحرك بالمقعدِ يمينًا ويسارًا وعيناه لم تبرحا مكان الشاشة، وقد ولج له في هذه اللحظة “غسان” الذي قرر أن يفاجئه بزيارته له، انتبه له “آدم” فاعتدل واقفًا له بينما الآخر قال بثباتٍ:

_جيت علشان خاطر أنتَ صاحبي قبل أي حاجة، ومش عاوز ترد عليا، عامةً دا حقك يعني، بس أنا ماليش ذنب اتاخد بذنب جدي، دا أنا بحبك ياض.

ابتسم “آدم” وضمه لعناقهِ يُربت فوق ظهره بقوةٍ وقال بنبرةٍ ودودة:

_أنتَ حبيبي، مانكرش بس أنا ماكنتش عاوز أظهر تاني قدامك علشان بيني وبينك مش حابب كل شوية حد يحرق دمي، بس طالما جيتلي هنا ماقدرش أردك كدا، أقعد علشان نحتفل يا أخينا.

جلس الآخر ضاحكًا وبعد مرور دقائق قام “آدم” بالتحرك نحو المطبخ وتحرك معه “غسان” نحو المطبخِ فعرض عليه الآخر أن يختار وينتقي ما يُريد من طعامٍ، فقال “غسان” يستغل العرض:

_بص عاوز منك طاجن بامية بورقة لحمة وشوية رز أبيض وسلطة من بتاعتك دي، وعاوزك تشوحلي حتتين لحمة ببصل.

رفع “آدم” حاجبيه ثم عاد من جديد يُعيد الحديث داخل رأسه، ومن سهولة حظه ونصيبه أن المكونات كانت في طور التحضير، لذا خلال فترة قصيرة بدأ يُعد الطعام لصاحبهِ الذي بدأ يتحدث معه في تفاصيلٍ متنوعة ولم يقطع وصلة الحديث إلا صوت هاتف “آدم” حين صدح عاليًا، فتحرك هو يُناظر الهاتف ليجد آخر من توقع أن يرى رقمها هُنا، سحب الهاتف يجيب فوجد “لمار” تقول بثقةٍ:

_قولت أكلمك دلوقتي تكون خلصت شغل، كنت عاوزة أكلمك ضروري في حاجة مهمة.

مسح يده وهمهم موافقًا كأنه لم يجد ما يكفيه من الوقت كي يتحدث معها، بينما هي فبدلت نبرتها كُليًا وقالت:

_كنت عاوزة أحجز الدور التاني كله علشان احتفل بعيد جوازي، وبصراحة “حلمي” عرض عليا اختار المكان اللي نفسي احتفل فيه، قولت بصراحة مكانك حاليًا أفضل وأظن يعني أنتَ أكيد هتعمل معايا واجب وتقدر القرابة اللي بينا صح ولا إيه؟.

ابتسم بسخريةٍ وسُرعان ما انتهج الوقاحةِ بقولهِ:

_لأ والشهادة لله يعني أنتِ طول عمرك مراعية القرابة دي كويس، عمومًا أنا فاهم دماغك كويس، من ساعة البت البلوجر دي ما جت هنا هي وجوزها وأنتِ طبعًا نفسك تيجي، وعلشان تيجي لازم يكون فيه مناسبة، تيجي تنوري بس الصالة حجزها بس٣٠٠٠ جنيه من الساعة ٧ لحد الساعة ١٢ بليل.

كررت خلفه باستهجانٍ واضحٍ كأنها لم تتخيل أن يرفع السعر لهذا الحد عليها:

_مش شايف إن دا كتير، بقولك جايالك علشان أنتَ ابن عمي وأولى من الغريب، يعني كدا الليلة كلها ممكن تكلف ٥٠٠٠ جنيه كمان؟.

_والله مش ذنبي، بعدين مش “حلمي” بيه المفروض إنه مش بيبخل بحاجة برضه؟ دلوقتي السعر بقى عالي؟ عمومًا براحتك، بس لو أكيد أديني التمام علشان أعمل حسابي، لسه هتفكري خلاص للأسف مفيش وقت كفاية عندي علشان أحدد حاجة.

تنهدت بثقلٍ وقالت مرغومة على الردِ بقلة حيلة:

_خلاص ماشي، أكد الحجز وهبعتلك كل التفاصيل اللي محتاجاها في اليوم، ومش هوصيك تخلي بالك من التفاصيل، عاوزاه يكون يوم مميز وأفرح فيه، اعتبرني واحدة من البلوجرز اللي بييجوا كل يوم عندك وبياخدوا أحسن واجب.

_لما تبقي تيجي ربك يحلها، عن إذنك.

أغلق الهاتف دون أن ينتظر بقية حديثها، وقد عاد لما يفعل فيما راقبه “غسان” الذي قال مستنكرًا هوية المتحدثة كأنه لم يتخيل حدوث هذا الشيء ذات يومٍ:

_هي دي “لمار” صح؟ مش غريبة أنها تكلمك بعد اللي حصل؟.

_لا مش غريبة، ربنا يكفيك شر الإنسان اللي مالهوش رأي ولا قيمة، وهي تابع، تشوف إيه المنتشر وتختاره، تشوف مين بيتكلم عن الحاجة الحلوة وتعملها، تشوف بيذموا في مين وتذم هي كمان، يمكن الحاجة الوحيدة اللي كانت من دماغها بجد هي اختيارها لـ “أدهـم” وحتى دي فشلت فيها.

أنهى الحديث ثم غيرهُ بالكليةِ وعاد للعمل دون أن يتطرق لسيرة “داغـر” وما يخصهُ من كلماتٍ، بينما في الطرفِ الآخر تحمست “لـمار” للغدِ فتحركت سريعًا نحو “حلمي” الذي كان يتصفح هاتفه ويبحث بعينين شغوفتين داخل الشاشة حتى قطعت هي إندماجه بقولها:

_أنا خلاص حجزت عند “آدم” زي ما قولتلك، متحمسة لبكرة أوي يا “حلمي” ونفسي ييجي بسرعة علشانك وعلشاني، هتبقى ذكرى جديدة لينا حلوة مع بعض، بس أنتَ مالك شكلك مش مبسوط ليه كدا؟.

انتبه لها بعينين زائغتين وقال بضيقٍ واضحٍ على ملامحهِ:

_الراجل اللي كلمته علشان يدور على أمي رد عليا وقالي مش لاقيها، كنت حاطط أمل عليه إنه يجيبلي أي خبر ويقولي هي فين، دول أربع سنين تعبت فيهم علشان ألاقيها ومش لاقي أثر، طب حتى لو هي بعد الشر يعني ماتت أعرف وأرتاح، لكن التايه في ملكوت الله دا حاله صعب أوي، وحال حبايبه أصعب.

استشعرت حجم جُرح قلبه فمدت يدها تُربت بها فوق يده وقالت بصوتٍ امتلأ بالحزن وكأنها تُعلن تعاطفها معه:

_أنا عارفة إن الوضع صعب وعارفة إنك كل يوم تحس بالأمل أكتر، بس سلم أمرك لربنا، ربنا يلطف بيها، وطالما مالقيتش اسمها في مستشفيات أو أي مشرحة بعد الشر يعني يبقى طمن نفسك، ربنا يطمنك وتلاقيها يا “حلمي”.

أومأ لها موافقًا بتيهٍ بينما هي وضعت رأسها فوق صدرهِ ورفعت ذارعيها تتعلق بهما في ذراعيهِ ثم ظلت تُربتُ فوقهما، وفي الحقيقة هي تعلم أنها تُحبه، دون أي مزايدات أو كذبات أخرى هي تُحبه، يبدو أنه الرجل الذي تحول تلقائيًا في حياتها لأميرٍ لم يُخيل لها أن تقع في حبه بعد أن كانت تستغل قربها منه لمصالح شخصية، لكن يكفيها أنه الذي لم يبخل عليها حتى ولو بماء عينيه..

أحبته دون أن تعلموكأن القلوب لها طُرقات خاصة..

فمهما رفض أن يسلكها لا ينتهي المطاف بها إلا حين يدخلها ويأخذ الدرب بأكمله في سبيلٍ لم يكن يعرفه،

ويوم أن يعرف الطريق يظل يهرب منه خوفًا من مواجهة الحقيقة.

____________________________________

<“لا شك أن الطريق الذي تقطعه لأجل ذاتك هو الأكثر متعةً”>

الطريق الذي يقطعه الإنسان لأجل مستقبله هو الذي يستحق بذل الجهد عن ذاك الذي يقطعه لأجل نسيان ماضيه، ولأن الحياة فلسفيًا تشبه اللوحة فلا تدع الماضي يرسم كل اللوحات بها، بل دِع ألوانك في يد حاضرك واتركها ترسم القادم..

في صباحٍ تالٍ كانت “نـوف” في شقتها تستقبل الحياة، بعد أن ذهبت لمقابلة الطبيبة النفسية الخاصة بها منذ أن كانت في جامعتها وهي تشعر أن هناك في الحياة ما يستحق العيش، كانت تحتاج لتلك الزيارة بكل طاقتها لأنها كانت في أمسِ الحاجةِ الشديدة لجلسةٍ كهذه، واليوم تقوم بحماسٍ شديدٍ حتى تُدير الحياة من بعد رحيل والدها، هي دومًا بوصلة الطريق لنفسها قبل الآخرين، لم ترضخ يومًا للتيهِ، ولم تقبل بالضعفِ..

خرجت لأمها وقالت بحماسٍ بدا جليًا في صوتها:

_ماما أنا قررت إني هكمل الحاجة اللي بابا كان بيديرها.

انتبهت لها الأم ورفعت عينيها المُبتسمتين وهي تسأل بإنكارٍ:

_دا بجد؟ خلاص خدتي الخطوة دي يا “نـوف”.

أومأت مبتسمة وقالت بتفسيرٍ توضح الأمر:

_بجد مش بهزر، الله يرحمه في مكان أحسن دلوقتي، وأكيد مش هيرضالي أكون ضعيفة وتايهة كدا، دا غير الجمعية اللي واقفة وحالها واقف، دي ناس مالهاش ذنب، هرجع تاني وهخلي شغلي هناك صدقة جارية عنه وعن حياته، بس يمكن الوضع يكون صعب عليا شوية، بس محتاجة منك بس تساعديني في الأول.

ربتت أمها فوق كتفها وقالت بصوتٍ هاديء:

_أنا معاكِ في اللي تحتاجيه، ووقوفك تاني على رجلك بالدنيا ومافيها، وصدقيني هو عمره ما كان بيكره غير إنه يشوف الحزن في عيون حد مننا، ارجعي تاني علشان تكملي دوره، الله يرحمه كان فاتح بيوت كتيرة وربنا جعله سبب لرزق ناس أكتر، وعمك “طاهر” معاكِ لو احتاجتي حاجة عمره ما هيتأخر عنك.

ابتسمت لها ثم سحبت نفسًا عميقًا وجلست تراجع أفكارها وتقوم بترتيبها لأجل العودة من جديد، تعلم أن الطريق في غاية الصعوبة عليها لكنها تحاول ولا مفر من المحاولة، لذا قررت أن تبدأ العمل في الجمعية أولًا، حيث شغف والدها وشغفها منذ أن بدأت تنضج وتُدرك الحياة، وحينئذٍ صدح صوت جرس الباب عاليًا فتحركت تفتحه لترى أمامها عمتها وابنها.

ازدردت لُعابها ورحبت بهما داخل الشقة وهي تعلم أن الحديث القادم سوف يُثقل روحها، فبدلًا من شعورها كأنها فراشة، سوف تجد نفسها كما الصخرة من بقايا حربٍ، أتت أمها وجلست ترحب بالزائريْن وقالت بعتابٍ طفيفٍ:

_كدا برضه يا “سميرة” محدش يشوفك من يوم ما “ناجي” توفى وربنا رحمه؟ طب بلاش تسألي عني، اسألي عن بناته، دا روحه كانت فيكِ أنتِ، عمومًا نورتي بيتك يا حبيبتي.

والأخرى قالت باندفاعٍ ولهفةٍ تنفي عن كاهلها تُهمةً:

_والله من يوم اللي حصل وأنا راقدة والجيران اللي شايليني، اسألي ابني أهو قدامك والله يا بنتي من القهوة قلبي كل يوم يقف، يلا الحمدلله على كل حال، أنا بس كنت عاوزة الورق بتاع أخويا علشان إعلام الوراثة نلحق نخلصه بدري بدري.

توسعت عينا “زهيرة” زوجة المتوفي بينما “نـوف” ابتسمت بسخريةٍ وكأنها كانت على يقينٍ بما سيقال، وقد ردت أمها بصدمةٍ مما سمعت ووصل لها:

_هو أنتِ جاية لحد هنا علشان إعلام الوراثة !! مش جاية علشان تطمني على بنات أخوكِ وتشوفي حالهم بعدما أبوهم راح؟ أنتِ إزاي جالك قلب تنطقي بيها كدا؟ إزاي مش مكسوفة وهو لسه يادوب ميت بقاله أسبوع وأنتِ جاية تسألي عن ميراثك فيه؟ عملتيها إزاي دي؟.

تحدثت شقيقته بتبجحٍ تُدافع عن نفسها بقولها:

_مالهم ياختي العيال ما هما كبروا وشالوا نفسهم، أومال لو حالهم زي حال ابني أبوه ميت وهو يادوب ابن ١٠ سنين وشال نفسه بنفسه؟ بلاش دلع فاضي، بعدين ماهو دا حقي في أخويا، ولا أنا كلامي غلط؟.

كادت زوجته أن ترد عليها لكن “نـوف” قاطعتها حين قالت بثباتٍ كاذبٍ:

_حقك، وكلامك مش غلط، بس توقيتك غلط، مافيش حد عنده أصول هييجي يدور على ورث وفلوس أخوه الميت من أسبوع غير لو كان بيتمنى موته مثلًا، بس حاضر، يومين وهخلص الورق واطلع إعلام وراثة وحقك هييجي لحد عندك، بشرع ربنا يا عمتي، نورتينا أنتِ و ابنك.

كان ابنها يلتزم الصمت، يرى أمه تُخطيء في القول والحديث ولم يملك حُجة قوية للردِ عليها، هو من الأساس لم يرد أن يكون طرفًا في هذه الحرب لذا التزم الصمت وقرر أن يكون طرف الصمت هُنا، فلم ينطق سوىٰ بجملةٍ واحدة:

_والله يا “نـوف” أنا ماليش دعوة بأي حاجة، أنا اللي ليا هنا بنات خالي وبس، غير كدا أنا ماليش علاقة بأي حاجة، وعلى عيني كلامك وكلام أمي، وأنتوا قرايب في بعض، وكوني جاي النهاردة فأنا مش جاي معاها علشان ورث وفلوس، أنا هنا بصفتي أخ ليكِ ولأختك.

تنهدت “نـوف” بثقلٍ وقالت تُرحب بحديثه كأنها تصفو له وهي تعلم أن قلبه يحمل الحقيقة فقط، بينما عمتها فنظرت له شزرًا بملامح متجهمة، بينما هو فوقف أمام ابنة خاله وقال بذات الثبات:

_أي وقت تحسي إنك محتاجاني فيه هتلاقيني موجود علشانكم، وبعد إذنك بلاش تطلبي حاجة من أي حد غريب، أخوكِ موجود وخرجيني من الليلة دي كلها بتاعة الورث والفلوس، الحمدلله إحنا مش محتاجين أي حاجة من حد، وأنا عندي اللي يكفيني وزيادة.

ها هو يتمرد الجندي على قائده؛

فيترك جبهة الحرب وينحاز للطرفِ الآخر آخذًا مقره للدفاع والهجومِ أيضًا، كان حديثه ضربةً وجهها لأمهِ أمام زوجة خاله وابنته لكنه لم يرضخ لأفعالِ أمه، لم يقبل أن يكون بهذا التدني من المستوىٰ، وعليه قرر أن يثور ويرفض كل ما يُشكل شخصهِ بغير إرادته.

____________________________________

<“كيف حالك في الغُربة يا من اشتهيت الرحيل؟”>

يقولون أن الغُربة مُرةٌ ولو كان الحلو فيها نهرًا..

والعيش في ربوعِ الوطنِ عذبًا ولو كان نهره جارفًا،

فكيف حال من اشتهى مذاق الغُربةِ وقصد السبيل للرحيل؟

تاركًا خلفه الوطن والحبيبة والأم، ولم يجد يومًا البديل؟.

في بيتٍ هاديءٍ تستقر هُنا، حياة آدمية تليق بها، معاملة خاصة من ذويها أجمع، أبوها يضحك ويقوم بتحضير الفطور لأجلها كون ورد الحديقة أزهر في ركنٍ ببيتهِ، أمها تضحك وتُدلل فيها كونها هنا في بيتها، “أدهـم” ابن الخال الحنون والأخ الأكبر لها يطمئن عليها بنظرة صباحية وبمكالمة هاتفٍ كل حينٍ وآخر، أما الأخ غير الشقيق فهذا ترك العمل صباحًا لأجلها هي وحدها، الجميع هَّا هُنا يقدمون لها الراحةِ على طبقٍ من ذهبٍ، وهي من تقبل بفتاتٍ يُقدمُ لها ولم تستغِ مذاقه ذات يومٍ..

كانت “ورد” تجلس في الشرفة المُطلة على الحديقة تختلي بنفسها في لحظات هدوءٍ فوصلها صوت ركض الصغيرين نحوها، التفَّت لهما مبتسمة فجلست “سدره” بقربها وهي تقول بوجهٍ باسمٍ:

_جايين نرخم عليكِ شوية.

ابتسمت لها وأفسحت مجالًا بقربها مباشرةً وهي تقول:

_رخمي براحتك، واقعدي زي ما تحبي.

أنهت الحديث وطلَّت في وجه الصغير ولاحظت وجوم ملامحه وضيقه، فضيقت حاجبيها وهي تسأله عن سبب ضياعه وشروده:

_مالك يا “سليم” فيه حاجة هنا مزعلاك؟.

انتبه لها وقال بنفس التيه والضياع:

_مفيش أخبار عن بابا؟ عمو “سليمان” لسه ماردش على حد وأنا خايف بابا يكون تعبان، وعمو “أدهـم” لسه ماجاش من إمبارح بليل، هو بابا جراله حاجة طيب؟.

لاحظت هي حالته وتفهمت سبب تيههُ وضياعه فقربته منها تمسح فوق مرفقيه بكفيها الداعمين ثم قالت بصوتٍ هاديءٍ:

_متقلقش بابا بخير، لو فيه حاجة مكناش هنقعد كدا هنا، بعدين المفروض إنك قوي كفاية وعارف إن باباك قوي زيك، ادعيله وأطلب من ربنا يردهولك بألف سلامة، قولي صح صليت الضهر؟.

حرك رأسه نفيًا فابتسمت له وحثته على الحركة كي يذهب ويتوضأ ويُقيم فرضه، بينما “سِدره” فهي كانت في عالمٍ آخر يشبه براءة قلبها، عالمٌ يليق بها هي، وقد انتبهت لها “ورد” فرفعتها تُجلسها فوق ساقيها ومسحت فوق خصلاتها وسألتها باهتمامٍ:

_طمنيني عليكِ أنتِ إيه أخبارك بقى؟ أحسن شوية؟.

حركت رأسها موافقةً وقالت بخجلٍ منها:

_عاوزة أقعد مع “رحيق” وتلعب معايا زي امبارح ينفع؟.

دارت “ورد” بعينيها وتنهدت وهي تقول بقلة حيلة:

_هخلي “أدهم” يجيبهالك زي إمبارح وتقعد معانا، بس المهم أنتِ تكوني كويسة وبخير، مش بحب أشوفك زعلانة، علشان بابا لما يخرج بألف سلامة يلاقيكِ جدعة وقوية ونقوله إن بنتك شطورة كانت واثقة إن باباها قوي وهيرجع.

كانت ماهرة منذ صغرها في التعامل مع الصغار، وخاصةً حين درست آداب قسم علم نفس وتخصصت في هذا المجال، وعملت لمدة عامٍ بالتقريب داخل روضة خاصة بالحالات المُتعسرة، لذا تعلم كيف تتعامل مع أي طفلٍ كانت حالته، وهي ترى في ضعف الصغيرين احتياجًا كبيرًا لها، وهي تحاول سد تلك الفجوات بحنانها.

بينما “آدم” فأخيرًا استيقظ من النوم ونزل من شقته يجلس بجوار “عـرفه” الذي كان يتابع أخبار المنطقة العربية بملامح حزينة شادرة، ضيق “آدم” عينيه ثم سحب جهاز التحكم وقال بضيقٍ:

_أقسم بالله تعبنا خلاص، أعصابي باظت يا “عرفه” نفسي مرة ألاقيك بتتفرج على “شاكيرا” وحشتنا الفرحة في البيت دا يا راجل.

ضربه “عـرفه” في منكبه وضاق به الحال ذِرعًا ثم قال بملامح مقتضبة وحزينة كأنه يحمل آلام الأمة بأكملها في قلبه:

_والناس اللي بتموت كل يوم دول؟ واللي بيوتهم اتهدت وحياتهم اتدمرت؟ الناس اللي نزحوا بعيالهم وسابوا كل حاجة ومشيوا وقاعدين في خيم في عز البرد يعملوا إيه؟ يا بني سيبك من الكلام بتاع الحدود وبلدي وبلدك وأرضي وأرضك دا، ربنا سبحانه وتعالى خلقنا مسلمين، ووجعنا واحد، كلنا أخوات في الإسلام، أمة واحدة زي ما ربنا جل جلاله قال في كتابة العزيز:

_{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ۝ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ۝ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}.

استشهدَّ بالآيةِ الكريمة وأضافَ مُكملًا حديثهُ بقولهِ:

_يا حبيبي ماتصدقش كلام حد، لو بحق ربنا وحق الدين علينا إحنا كلنا واحد، وإلا مكانش سيدنا محمد ﷺ وصى المسلم على أخوه المسلم اللي زيه يابني، دا من جمال ديننا وصف البسمة في وجه أخوك صدقة، فما بالك باللي ينصر أخوه في حرب ويكون في ضهره؟ والله يا بني من يوم ما فصلوا الشعوب عن بعضها واتطهضوا الدين والمسلمين والدنيا راحت في داهية، ربنا يعافينا ويعز الإسلام والمسلمين في كل البلاد.

التزم “آدم” الصمت وأحس أن الكلمات لم تعد تكفي كي توضح أو تفسر أي شيءٍ آخرٍ، وقد لمح أخته في الحديقة فتحرك يجلس بقربها وهو يقول بصوتٍ بشوشٍ كأنما الحياة عادت تُشرق في وجهه بمجرد أن وجد “ورد” في البيت:

_البيت بينور بيكِ لما تيجي، آه لو تعرفي حبك في قلبنا.

ابتسمت له وقالت تشاكسه بثقةٍ في محلها:

_كل القلوب بتحبني ريح نفسك يا شيف.

رفع حاجبيه هو مستنكرًا وردد خلفها مستجهنًا:

_فعلًا !! ومنهم بقى “خيرية” و ابنها الحيلة؟.

توترت بمجرد أن ذكرهما أمامها بينما هو تبدلت ملامحه في طرفة عينٍ لأخرى تخشاها هي قبل الآخرين خاصةً حين مَّال عليها وقال بصوتٍ خفيضٍ عكسَ الوعيد في كلماته:

_عارف إنهم حتى لو مضايقينك مش هتقولي حاجة، بس وربي وما أعبد يا “ورد” اليوم اللي هعرف فيه إن حد فيهم داسلك على طرف أنا هدوسلك على رقبتهم كلهم مش هعمل حساب لحد، بس أنا ساكت لما أشوف أخرتها معاكِ.

توترت أمامه وكأنها تجلس أمام جهاز كشف الكذب، لم تكن يومًا بهذا الضعف أمام أحدهم إلا هو بصفته النصف الثاني لها وزوجها بصفته شريك روحها، هربت بعينيها وكادت أن تنطق بتلعثمٍ فوجدت الهاتف يصدح برقم زوجها “منتصر” وحينها تحركت بخفةٍ تجاوب على الهاتف بعدما هربت من حصارهِ عليها، فقالت بلهفةٍ:

_إيه يا “منتصر” طمني عليك.

_كويس بس أنتِ مالك بتنهجي كدا ليه؟.

جاء رده مباغتًا لها وحاولت أن تتهرب منه لكنها قالت بثباتٍ واهٍ:

_آه، كنت بلعب مع “سدره” و “سليم” في الجنينة والتليفون رن، المهم روحت شغلك ولا لسه؟ معلش راحت عليا نومة وماعرفتش أصحيك، بس قولت أكيد هتصحى يعني، أوعى تكون بتتلكك علشان تنام، عارفاك تحب النوم زي عينيك.

ضحك وقال يمازحها بقوله الذي تحول لرجاءٍ خفي:

_بحبك أنتِ أكتر من الاتنين والله، بس ماشي يا عم من لقى أحبابه نسي أصحابه، أوعي بس يسخنوكِ عليا ويشحنوكِ ضدي، والله أنا غلبان وماليش غيرك في الدنيا دي حد ينصفني.

استشعرت الصدق في النبرةِ والكلمات فقالت بضعفٍ وقلة حيلة:

_أنا معاك يا “منتصر” وموجودة علشانك، ربنا يردك ليا بألف سلامة ويجمعنا مع بعض قريب من تاني، خلي بالك من نفسك ومن شغلك علشان تعرف تيجي بسرعة، ومتقلقش أنا معاك قدام الدنيا كلها علشانك أنتَ بس.

ابتسم بسعادةٍ وودعها وعاد للعمل كما الريح يسير خُفافًا، ينطلقُ كما قطرات الغيث من مجرد مكالمة فقط منها، يعود بكل طاقته راضيًا بغربتهِ ومتقبلًا وحدته فقط لأجل العودة إليها فيما هو قريبٌ، ياليته يستطع ويفعلها لكن ثمة بعض القيود المفروضة عليه وهو يعمل لكسر الحصار حتى يذهب لمدينته التي فصلته عنها الحدود وتدخلت بينهما البُلدان..

____________________________________

<“لأني على يقينٍ بقسوة الطباعِ لن تجدني لينًا بيسرٍ”>

في علم الكيمياء يقولون أن الشيء الوحيد الثابت هو التغير.

فالتغير هو الشيء الوحيد الذي يحدث باستمرارٍ بدون توقف، خاصةً لتلك الأشياء البسيطة التي تشبه قلب أحدهم، ربما غصنٌ رقيقٌ كان يحمل عُش طيورٍ فوقه، وقد تكون شرفة قديمة تُعيد الزمان للوراءِ، كلها أشياء لن يتركها التغير وحدها دون مصادقتها…

الحياة لن تترك فردًا دون أن تمحو منه ما كان عليه..

بل بالأحرىٰ هي سوف تُبدله بآخرٍ لم يكن يظنه بنفسه قط، سوف تسلب منه أعظم خصاله، سوف تُجرده من رحمته، سيكون قاسيًا لأبعد حدٍ، كأنه شجرة أتى خريفُها قبل الربيع فلم يعهد في الزهور لأيامه غير السقوط فقط، ومن ثم يجلس ويراقب الحقل المُحترق كأنه وُجِدَ فقط للنعي والعزاء، لكن ماهو عزاء “سليمان” وهو يكاد يفقد روحه؟.

جلس “سُليمان” في رواق المشفى بجوار غرفة شقيقه بعينين باهتتين، انطفأ فيهما الوهج، يجلس ها هُنا على قائمة الانتظار يخشى النطق بخبرٍ يودي بحياته، يخشى مفارقة رفيق الروح من العمر، وقد أتى “أدهـم” الذي أنهى بعض الأعمال وجلس بقربه وهو يعاتبه بجمودٍ:

_وأخرتها طيب يا “سليمان” في حالك دا؟ قعدتك قدام الباب هنا هتعمل إيه يعني؟ يا سيدي لو مش علشانك يبقى علشان والدتك حتى، محدش هيقدر ييجي جنبه وهو هنا، أخوك في أمان مع الدكاترة، والحمدلله النفس شغال وقالوا الوضع أفضل من المرة اللي فاتت، صحيح دي معجزة بس دي إرادة ربنا.

حرك “سُليمان” عينيه نحو رفيقه وقال بصوتٍ مبحوحٍ:

_مراته أم عياله اللي كانت بتنام معاه في نفس الأوضة وقافل عليهم باب واحد عملت فيه اللي عملته وخليته يرقد رقدته دي، عاوزني آمن الغُرب عليه إزاي؟ رد عليا وقولي أعملها إزاي وأقوم؟ أومال لو مش على يدك وشايف اللي هو عمله علشاني من بعد أبويا، ضهري هيتقطم من بعده يا “أدهـم”.

ربت “أدهـم” فوق كتفه واتكأ فوق حروف كلماته بقوله:

_تقوم علشان عياله اللي هو سابهم وهو عارف إن عمهم معاهم زي أبوهم بالظبط، صدقني مش مطلوب منك زيادة عن اللي عملته، بس روح طمن عياله عليه وخدهم في حضنك، وروح بيتك غير هدومك وخفف دقنك دي شوية، دا أنتَ قد جدي.

ضحك “سُليمان” رغمًا عنه لمعرفته بكرهه لجده، فيما انتبه “أدهـم” لتوهِ لغياب الطرف الأهم في تلك الأحداث، ورغم حرجه لكنه تمالك نفسه وسأل بثباتٍ يُحسد عليه:

_أنا عارف إني ماليش اسأل في حاجة زي دي، بس هي “مـها” فين من كل دا؟ اختفت فجأة والمفروض تكون معاك، على الأقل علشان والدتك وحالتها محتاجة ست تكون في إيدها.

تنهد الآخر ما إن تذكر الجرح الجديد وقال موجزًا الحال:

_رميت عليها يمين الطلاق.

توسعت عينا “أدهـم” وقد فرغ فاهه لكن الآخر ما إن شعر بالاختناق منها وضاق الحال عليه بمجرد أن ذكره قلبه بحبه الأول قال بجمودٍ وقسوةٍ كي لا يتطرق لسيرتها:

_قفل بقى على السيرة دي مش ناقصة هم، راحت لحال سبيلها.

لم يرد “أدهـم” أن يُزيد على حال صديقه ثُقلًا فالتزم الصمت وراعي مشاعره وظلَّ بقربه وجواره حتى خرجت طبيبة من غرفة شقيقه بوجهٍ مبتسمٍ وقالت:

_الحمدلله، الحالة مستقرة عن الأول بكتير ودا غالبًا بسبب انتظام نبضات القلب وانتظام نسبة الأكسجين في الجسم، متقلقش كلها ساعات ونحدد الإفاقة ونقول لحضرتك كل التفاصيل، الحمدلله المرة دي عدت على خير، عن إذنكم.

تنهد “سُليمان” بقوةٍ ونظر في وجه رفيقه الذي ربت فوق ظهره عدة تربيتات خفيفة كأنه يخبره بصمتٍ أن رحمة الخالق طالت قلبه المُعذب والمسكين في هذه الحياة، لذا مال الصديق بحملهِ يأوي بنفسه لعناق رفيقه ويضع الرأس فوق الكتفِ والآخر يُرحب بكونه خير الملاذ لرفيقٍ ضاقت عليه السُبل وضاع به الدربُ..

كان البحر رفيقه لكن الرفيق قد غدر..

فكان هو يرى فيه موطنه لكنه تركه وهجر،

واختار الهرب منه لكنه لم يهرب مما كتِب له في لوح القدر، فبات ليله وحيدًا كأنه كما السماء الحالكة بدون القمر..

عاد من العمل يأخذ استراحة برفقة ابنته، يطمئن عليها ويُطعمها ويعطيها الدواء الخاص بها ثم يعطيها جرعة أمانٍ قبل أن يعود لعملهِ، كان يجلس فوق طرف الفراش وهي تجلس على الأرض كي يقوم بتمشيط خصلاتها لها، وهي تضم الدُمية الصغيرة تتشبث بها ولازال أثر فرحتها بجلوسها مع عائلة “الشيمي” باديًا فوق ملامحها، لاحظها هو في المرآة فمال عليها يسألها بعجبٍ:

_أنتِ بتضحكي؟ أنتِ مبسوطة؟.

حركت رأسها موافقةً بحماسٍ تعجب هو منه ثم نزل وجلس مقابلًا لها بملامح انبسطت عن السابق بمجرد رؤية بريق عينيها وقد سألها بلهفةٍ:

_أنتِ مبسوطة علشان قعدتي معاهم صح؟.

حركت رأسها تؤكد صدق حديثه فابتسم بحزنٍ ثم مال يُلثم قمة رأسها كأنه يعتذر عن شيءٍ لم يُفصح لها عنه، بينما هي فقفزت تحمل دُمية أخرى تشبه تلك التي في يدها ووضعتهما بجوار بعضهما وظلت تشاور له كي يفهم عليها، حاول “يحيى” أن يدرك مقصدها لكنه لم ينجح، هي تشاور وتشرح له فسألها هو بتخمينٍ:

_العروستين جنب بعض؟ مالهم؟.

ضربت رأسها بيأسٍ ثم وضعتهما بجوار بعضهما أكثر وأشارت لعناقها كأنها تشرح له ما تحتاجه هي، ولأن الوضع في غاية الصعوبة أن تعامل شخصًا يسمع ولا يستطع أن يتحدث كان يشعر بألمٍ بلغ عليه أشده فوق قلبه، بينما هي فجلست باحباطٍ لأنه لم يفهم مقصدها، لم تستطع أن تشرح له ما تريد ولم تستطع أن تكتب له نظرًا لتأخر تعليمها بسبب الظروف الحياتية.

اقترب وضمها لعناقه حين استشعر الذنب وقال بأسفٍ:

_حقك عليا يا حبيبة بابا، بس أنا نفسي اسمع صوتك، فاكرة لما كنتي بتجري عليا وتصرخي باسمي علشان أشيلك؟ طب فاكرة لما كنا بنجري ورا بعض ونلعب للصبح؟ كل دا مش وحشك؟ ساعديني طيب، ساعديني علشان أقدر أساعدك.

تنهدت بتعبٍ والتزمت الصمت لحين صدح صوت الباب فركضت بلهفةٍ من عناقه وقد لحق بها هو وفتح الباب فوجد “آدم” تلك المرة يسأله بمزاحٍ:

ضحكت له بحماسٍ فحملها فوق ظهره بخفةٍ وقال لوالدها:

_معلش بقى هتلعب معانا شوية قبل ما أروح الشغل، عن إذنك ومتقلقش عليها، تقدر تعدي تاخدها من عمتي، أو خليها تلعب مع “سدره” و “سليم” شوية بدل ما تقعد لوحدها، على الأقل كدا أضمن ليها، صح يا “رحيق”.

أومأت بلهفةٍ وهي تبتسم بحماسٍ فتركها له ووافق على مضضٍ لكن قلبه كان يشعر بالسعادة لأجلها، منذ عامين وهو لم يلمح بسمة واحدة في عينيها، إلا في أضيق الحدود وأقل التفاصيل، لكن ها هي تهديه الرحيق في النهاية بعد أن دمر الخريف حقله، وقف يراقبها وهي تتحرك برفقة جاره وقد صدح صوت الهاتف برقم “تقوى” فرفر بقوةٍ وجاوب دون ردٍ فوجدها تقول بلهفةٍ لم تُخفيها:

_إزي حضرتك يا أستاذ “يحيى” معلش بابا كان محتاجك ضروري علشان في سيراميك وصل المخزن ولازم حضرتك تيجي، لو مش هينفع ممكن تجيب “رحيق” تقعد معايا أنا وماما علشان تكون متطمن عليها.

لم يتعجب من معرفتها كافة تفاصيله، ولم يندهش من مطلبها فهي لم تكن مرتها الأولى في محاولة الوصول إليه واختراق دفاعاته، لكنه لم يقبل بهذا الوضع وأن يستغل مشاعر أنثى بهذا الشكل الوضيع، فقال بجمودٍ:

_متشكر لحضرتك بس هي بخير، هاجي حالًا أهو.

قبل أن تجاوب كان قد أغلق الهاتف، بينما هي فتنهدت بثقلٍ وهي تحاول الوصول لهذا الذي يُغلق قلبه بسلاسل حديدية، هذا الذي ربط مداخل قلبه بأغلالٍ من حديدٍ كيف له أن يكون قاسيًا لهذا الحد أمام لمعة عينيها؟ ألم يرى نفسه نجمًا في سماها ذات يومٍ؟ لما القلب اختار أقسى الناس ويطالب به كي يكون له رفيقًا للدرب؟ ياليته يعلم كم هي ترغبه وتتمنى قربه، وياليته يرى نفسه بعينيها حتى يُصدق قلبها..

____________________________________

<“من شاطيء الاسكندرية لعينيكِ كلفني الطريق عُمرًا”>

الحياة لم تعد بهذا اليسر الذي توقعه القلب الساذج..

فكل شيءٍ أصبح ثقيلًا، قاسيًا، باهتًا، الحياة لم تعد ترحم كما كانت، وإنما كل شيءٍ أمسى مسببًا للتيهِ، وكأن الحياة هي متاهة والنجاة فيها شبه مُستحيلة.

عند حلول الليل في نفس اليوم..

كان “آدم” قد ذهب للمطعم الخاص به، يجلس في عمله بعد أنهى دوره في المطبخ، يراقب المكان وبوجهٍ خاص الطابق الثاني المفتوح بشكلٍ حديثٍ ومنظم جعل المكان يكسب سُمعة حسنة في هذا المجال، راقب وجود “حلمي” برفقة “لـمار” وابتسم حين وجدها ترقص معه وهي تستند على كتفهِ برأسها..

مشهد رومانسي من الطراز الأول، كأنه يتابع حفلة رومانسية لعاشقين خلد التاريخ قصتهما، ابتسم بعينيه وجلس فوق مقعد المكتب ولم يمنع نفسه من التبسم بنعومةٍ ثم تنهد بقوةٍ وتواصل مع الشاب المسئول عن تنظيم الطابق الثاني وقال بهدوءٍ:

_خلصنا بقى من فيلم حبيبي نائمًا دا، شغل الأغنية اللي بعتهالك وقول إن دي مفاجأة من الأستاذ “حـلمي” للمدام بمناسبة عيد جوازهم، خلينا نخلص دول ملزقين فيها للصبح مياصة ودلع.

ضحك الشاب وأعطاه الموافقة، بينما في الأعلى كانت هي تبتسم بسعادةٍ وهي معه، خاصةً حين تلاقت الأعين ببعضها فمال يُلثم وجنتها ويهمس لها بكلماتِ حُبٍ تعشقها هي منه، ولم يقطع صفو لحظتهما إلا صوت الشاب الذي تحدث يلفت النظر بقوله:

_الأغنية الجاية دي هدية من الأستاذ “حلمي” لحضرتك بمناسبة عيد جوازكم وعلشان تكون ذكرى مميزة بينكم، كل سنة وحضراتكم بخير يا فندم.

شهقت هي بحماسٍ بينما “حلمي” فضمه له يأخذ وضع الرقص معها وقد بدأ اللحن الناعم وهي تبتسم بعينيها له ثم مالت عليه من جديد تضع رأسها فوق كتفه وتلتحد بأمنه، تحت نظرات “آدم” الذي تحرك على مقربةٍ منهما يراقبهما حتى تحول اللحن لآخرٍ شعبي وصدحت الكلمات الغريبة عاليًا:

_قوليلي يا خاينة..

ليه الشيطان وزك، وبكدبه كل عقلك،

قوليلي يا خاينة، ليه الشيطان وزك وبكدبه كل عقلك.

تحولت بسمة “آدم” لضحكة مستمتعة حين وجدها تبتعد عنه وتدفعه في منكبيه ورأى ملامح “حلمي” تتحول للصدمة الشديدة والذهول، وقد وقف هو يحرك رأسه مستمتعًا بالثأرِ هذا ولو كان بسيطًا عليه، كان يضحك حتى شعر أنه في أشد الاحتياج للاحتفال داخل المطبخ، فولج وبدأ ينتقي لنفسه حُلوانًا يليق بانتصاره البسيط..

بينما في الخارج لدى سكرتيرة المطعم صدح صوت الهاتف الثاني له، فردت عليه الفتاة ترحب بالمتصل بعمليةٍ لتجد صوتًا متلجلجًا من فتاةٍ تقول:

_لو سـ سمحتِ ممكن أكلم أستاذ “آدم”.

_للأسف يا فندم هو حاليًا في وقت البريك بتاعه.

_معلش من فضلك حاولي توصليني ليه، قوليله موضوع حياة أو موت ضروري جدًا، حاولي الله يباركلك دي آخر محاولة والله.

شعرت الفتاة بحجم حاجتها فتحركت تدخل المطبخ له رغم علمها بصرامته مع شدة هذا الأمر؛ لكنها حاولت وبمجرد أن ولجت كان مندمجًا يضع السماعات اللاسلكية في أذنه وبمجرد أن رفع رأسه ولمحها قال بجمودٍ:

_هو أنا مش قولت يا “جيهان” ماحدش يدخل عليا المطبخ في وقت زي دا؟ خير؟ الدنيا بتولع برة خلاص يعني؟.

مدت يدها بالهاتف وهي تقول بتوترٍ:

_دي واحدة مصممة تكلمك وبتقول موضوع حياة أو موت والله.

سخر بملامحه على حديثها ثم أغلق الهاتف الذي بجواره وقال بسخريةٍ ردًا عليها:

_اطلعي برة مخصوملك خمس دقايق من المُرتب.

التفتت الفتاة تُغمغم بغير رضا فرفع صوته بقوله:

_برطمي كويس، بقوا خمس دقايق و٣ ثواني.

كان يمزح لكن بطريقته الخاصة، وقد وضع الهاتف على أذنه في انتظار الرد لكنه طال، وما إن طال وصله صوت ارتجاف الأنفاس، حينها تأهبت حواسه وقال بتوترٍ انتقل له بالتبعيةِ:

_أيوة مين معايا؟.

لم يصله الرد وكاد أن يُغلق الهاتف وعلى آخر لحظةٍ وصله صوتها باكيةً وهي تقول بلهفةٍ كأنها تستجديه:

_أنا يا “آدم”..أنا “عُـلا”.

توسعت عيناه وفرغ فاهه وفي ثوانٍ تحولت ملامحه وهيئته وكأنه لم يصدق أن ماضيه قد عاد، ولم يصدق أن العودة تلك المرة تخص الحبيبة الأولى لأيام عمرهِ..





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى