Uncategorized

رواية موعدنا في زمن آخر الفصل الثالث عشر 13 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf


|13-طباخة ماهرة حقًا!|

-لا مش هسيب جوزي…. يا صالح بص… جوزي لسه عايش وعايشين في البيت الكبير ده… خالد مماتش يا صالح. “

كان رحيم واقفًا يتنفس بأنفاس متلاحقة، يتأمل غزل بعنادها المستميت، ثم حوّل بصره إلى حمزة فرآه يضحك ويبتسم وهو ينصت إلى كلماتها، فارتاب في أمره وأيقن أنّ هذا الرجل على درايةٍ ما بخطتهم المستورة.

فتقدّم حمزة بخطوات وئيدة وقال: “حضرتك أخو خالد؟”

رمقه رحيم بنظرة ريبة وقال: “أيوة!”

فأجابه حمزة ببرود: “طيب ابقوا سلّمولي على خالد.”

وما إن أتمّ عبارته حتى دوّى صوت سيارة الشرطة من خلفهم، فارتجفت غزل من هول الموقف، فأسرع رحيم إلى يدها قابضاً عليها، وانطلقا هاربين، غير أنّ الشرطة لحقت بهما فقبضت عليهما وأدخلتهما السيارة. كانت غزل واجمة تلتفت إلى حمزة بعين مرتجفة، فإذا به يعرض عنها ويدير ظهره ويمضي إلى داخل البيت، فيما جلس رحيم في السيارة وعيناه متسعتان، يلهث بأنفاس مضطربة كأنّ صدره يوشك أن ينفجر.

شهق رحيم بقوة واستفاق من غمرة الكابوس، يتلفّت حوله ليرى تمارا محدّقة فيه بعين يكسوها القلق، تتابع هيئته المجهدة وأنفاسه المقطّعة. نزع الغطاء عن جسده وجلس على الأريكة التي كان قد رقد عليها طوال الليل، فيما كانت تمارا قد آوت إلى غرفته. وفجأة شعر بكفّيها تربتان على كتفه في رفق، وصوتها يهمس: “اهدأ… كان كابوس.”

حاول رحيم أن يسيطر على أعصابه، إذ لطالما تكرّر عليه ذلك المنام المفزع: أن يقع أسيرًا في قبضة الشرطة. تمتم في نفسه بأنّ عليه أن يتمالك أمره ولا يتهوّر في الذهاب إلى غزل… قد يكون حمزة قد كشف أمرها، وهو لا يدري ما حلّ بها أو ما آلت إليه أحوالها، ولماذا لم تتصل به طوال هذه المدة. وإذا به يفزع على رنين هاتفه، فيهرع إليه ممسكًا إياه بيد مرتجفة: “ألو.”

صرخ رحيم بلهفة: “غزل… بحاول أوصلك كتير مبترديش ليييه!”

كان صوتها واهنًا، تخاطبه من هاتف للأمن كانت قد سرقته ثم توارت خلف المنزل في الحديقة الخلفية، وقالت هامسة: “رحيم أنا كويسة متقلقش… موبايلي وقع مني… ساعت ما كنت بهرب من حمزة.”

اتسعت عيناه واشتدّ خفقان قلبه: “طب إنتِ فين دلوقتي وأنا أجيلك؟؟”

-لا يا بني أنا لسه في بيت حمزة… بيتر يطلع ابن عمته، ورامي طلع صاحبه، فاكر رامي رجل الأعمال اللي خططنا له من ييجي كام سنة كده لعملية؟ أهو طلع شريكه وشافني.”

جلس رحيم على الأريكة مبهوتًا: “أنا مش فاهم حاجة!”

وكانت تمارا قائمة أمامه، تحاول أن تقول شيئًا، فاستأذن غزل: “طب استني يا غزل ثواني… نعم؟”

قالت تمارا: “سليم محتاج يغير… فأنا محتاجة اروح بيتي اجيبله…”

قاطعها قائلا: “آخر درفة في الدولاب هتلاقي شنطة بامبرز خدي منها.”

-موجودين برضو.

مضت تمارا غاضبة، وقد أدركت أنّه لا يُفوّت صغيرة ولا كبيرة إلّا جعل لها حسابًا، وكأنّها عالقة في شباكه لا تستطيع الإفلات.

عاد رحيم إلى الحديث مع غزل، فإذا بها تتساءل باستغراب: “إيه ده؟؟.. بامبرز إيه!”

قال متنهدًا: “يوه يا غزل مش وقته… احكيلي عملتي إيه وبيتر ايه اللي قريب حمزة إيه، أنا مش فاهم! “

كانت غزل جالسة وراء السور، تلتصق بالأرض، تخفض صوتها إلى أدنى حد، وبدأت تروي له كل ما جرى معها.

قال رحيم بلهجة متوجسة: “متأكدة إنه ميعرفش؟؟”

سكتت غزل هنيهة، ثم قالت: “آه… دلوقتي أنا معرفتش أدخل على أي حاجة تخصه غير مكتبه، وهو مكتبه مفهوش حاجة. دورت على ورق، مفيش… حتى أوضة نومه دورت فيها، مفيش حاجة.”

فقال رحيم مفكّرًا: “طب ماحنا مدخلينك بيته عشان عارفين إن حمزة مبيخبيش حاجة في بيته، ومستحيل سرقته من برّه… إحنا عايزين نستولي على حسابات الشركات بتاعته.”

فقالت بتأفف: “برضو دي مش عارفة أعملها… وحتى مبيتكلمش خالص… بجد انطوائي بشكل يرعب! لو مثلاً سهرنا بالليل يتكلم عالفيلم، رجع متضايق مش بيفضفض… أنا اتخنقت… ورامي ده موترني أساسًا، مشوفتوش تاني خالص، اختفى، دخل وترني ومشي.”

غرق رحيم في تفكير عميق، ثم قال: “خلاص… مش هنمشي بخطة رامي، لأن حمزة غير رامي… خليه يديكِ أي موبايل قديم عنده… أكيد غيّر موبايله من فترة، العدة اللي في إيده زرقا وهو كان ماسك سودة من شهرين… زني عليه يديكِ الفون بتاعه القديم وخلّي زياد يدخل على موبايله، يقدر يرجّع كل حاجة كانت عليه، يمكن يوصلنا لأي حساب لشركاته من الايميل بتاعه… طب هو متكلمش معاكِ عن أموره الشخصية؟؟”

فتأفف رحيم وقال: “أومال بتهببي إيه عندك يا غزل… أنا حاسس إنك رايحة تتبسطي مش شغل.”

ساد الصمت بينهما، وغزل غارقة في صراعها… أحقاً ما قاله؟ إنها لم تعد تمكر ولم تعد تخطط، بل تجد نفسها سعيدة بقربه، تقضي الأيام في دعةٍ ومرح، لا تستدرجه بالكلام ولا تحاول استكشاف أسراره، إنما تريد أن تمازحه وتأنس بالسهرة معه. أيُعقل أنّها تنسى مهمتها الأصلية؟! يا غزل… أفيقي، نحن في مهمة لا في لهو!

جاءها صوت رحيم قاطعًا شرودها: “طيب اعملي اللي قولنا عليه، ومتنسيش تكلميني يا غزل، متختفيش كده تاني… قلبي وقع في رجليا وكنت رايحلك النهاردة.”

فاتسعت عيناها وهتفت: “يخربيتك لا…”

-ما الحمد لله حلمت بكابوس خلاني رفضت أروح، بس الحمد لله إنك اتصلتي…

قالت في عجل: “طيب سلام دلوقتي عشان الحارس بتاع البوابة الخارجية للجراج بيلف حوالين البيت، وشكله بيدور على موبايله… يلا سلام.”

أغلقت الخط، ومسحت المكالمة، ثم دخلت إلى سجل التسجيلات فرأت أنّها مسجلة، فسارعت بمسحها كما علّمها سيد بحيلة بارعة، حتى لا تعود للهاتف، ثم ألقت الهاتف في الحديقة وهرعت إلى الداخل توقظ حمزة.

أما رحيم، فمضى إلى المرحاض يغسل وجهه، وأغمض عينيه متذكّراً لمسة تمارا على كتفه، على قدر ما كان يحتاج ذلك التربيت، لكنّه استغرب أن تأتي منها هي بالذات!

مسح وجهه بالمنشفة، فإذا بصوت سليم يصدح بالبكاء، وتمارا تحمله بين ذراعيها وهي تصرخ في وجه رحيم: “خد بقى، امسكه لحد ما أعمل الببرونة… مش خاطفه؟؟”

ناولته الطفل دون أن تمنحه فرصة للاعتراض، فصاح رحيم وهو يتبعها نحو المطبخ: “مش ابنك ولا إيه ما تمسكيه… ده مقتول عياط! عملتيله إيه يخليه يعيط كده؟؟”

ضحكت تمارا بخفة وقالت: “جرحت مشاعره.”

قطّب جبينه وقال: “إنتِ بتستظرفي؟؟”

-ما أعملك إيه! هو إيه اللي زعلته في إيه! ده لسه تلت سنين بيعيط عياط الأطفال… عادي”

فنظر رحيم إلى سليم، ونفخ في وجهه بخفة، فأغمض الصغير عينيه، وأخذ رحيم يهزه في حنو ويربّت على ظهره، حتى هدأ الطفل وسكن بكاؤه. فتمتمت تمارا بدهشة: “طلعت بتفهم، اهو… وسكّته.”

-بشوفهم على النت بيعملوا كده… أنا بحب الأطفال.

ابتسمت تمارا ومدت يدها لتأخذه، فأبى رحيم وابتعد: “لا، سيبيه معايا… هاتي الببرونة، أنا هشربهاله.”

قدمتها له، فأخذها ووضعها في فم الصغير، وسار به في الشقة وهو يدندن له ويهزه برفق. كانت تمارا تراقبه من بعيد في صمت، تتأمله بعينين واجمتين. وإذا بجرس الباب يقرع، فتقدّم رحيم ليفتحه، فإذا بالفريق جميعه قد حضر.

وقف رحيم وعيناه متسعتان من الذهول، وتمارا من خلفه ترمقه باضطراب، وبدت الصدمة على وجوه الجميع من هيئة رحيم وتمارا، غير أنّ دنيا ـ صديقتهم ـ تدخلت لتخفيف وقع المشهد قائلة:

“وسعوا يا جدعان… رحيم… أنا نسيت أقولهم انك جبت البنت… المهم أنا هفضل مع سليم النهاردة، وانتوا شوفوا عاوزين إيه منه وامشوا.”

قال زياد ضاحكا: “طب يا جدعان نجيله في وقت تاني….”

رمق رحيم تمارا، ثم ناولها سليم، والتفت إلى الشباب وهو يفتح لهم الباب قائلاً: “اتفضلوا.”

دخل الجمع، وكانوا أربعة شبان: زياد، وطه، وشاكر، وعبد الرحمن، وفتاتين هما دينا وكرمة. هؤلاء كانوا قد لعبوا أدوارًا من قبل؛ فدينا أدّت دور “رقية” التي قصدت شركة حمزة لتحكي له حكاية سمر، وكرمة كانت الطبيبة “نور”.

جلس طه وقال بلهجة ساخرة: “ده اللي سمعناه صح بقى… البوص دشمل وشك.”

جلس رحيم وهو ينفخ بقوة، فأردف عبد الرحمن بلهجة حادة: “دي فيها موتك يا بني… إزاي تعمل كده! لما عرفت إنك انت اللي أخدت الشنطة مصدقتش!”

قاطعتهم كرمة قائلة: “بقولكوا إيه… مش وقته كلام! البت اللي هتجيب لنا الشنطة اهي، هي وابنها، وخلصنا.”

عادت تمارا إليهم بعد أن وضعت سليم في سريره نائمًا وقالت بحدة: “أنا مش عارفة ليه لحد دلوقتي مصدقين إني هجيب الشنطة!”

ثار شاكر غاضبًا، واندفع نحوها كالسهم: “هتجيبيها يعني هتجيبيها… دي فيها موت رحيم! إنتِ اتجننتي؟!”

فهبّ رحيم ليعترضه ويمسكه محاولاً إرجاعه إلى مكانه: “اهدى يا شاكر…”

غير أن شاكر صاح بغضب مزمجر وهو يحاول ان يفلت من رحيم: “بِت! انتِ… الشنطة تبقى عندنا بكرة، وإلا، أقسم بالله، ما هتشوفي ابنك ده ولا هتلمحيه!”

لكن تمارا لم ترضخ، بل صاحت في وجهه بجرأة: “زعّق على قدّك يلا! وطي صوتك.”

نظر شاكر بدهشة إلى رحيم وقال: “دي بتبجح يا رحيم…دي بتبجح!!! “

أمسكه رحيم أكثر وأجابه برجاء: “معلش، هي لسانها طويل حبتين… امسحها فيا عشان خاطري.”

صرخ شاكر: “أوعى يا رحيم.”

فقالت تمارا وهي تصرخ أيضًا: “سيبه يا رحيم!”

التفت إليها رحيم بوجهه وهو يصيح: “أسيبه إيه يا بنت العبيطة ده لو قعد عليكِ يفطسك.”

فانفجر الجميع بالضحك، فيما رمقته تمارا بنظرة غيظ، ثم قالت في لهجة متعمدة: “أنا مبعرفش أعمل خطط… اعملوا الخطة انتو. أصلا خططنا بتكون قايمة على فريق عصابتكم يوم ما كنا عاوزين نسرق اشرف قررنا نمشي وراكم لانكم بتعملوا خطط احسن مننا و لأن محدش يقدر يعرف باسورد الخزنة، ولا عندنا حد ماهر في البرمجة زي زياد… دول مسميينه في السوق هاكر العصابات العالمي”

هتف زياد وهو يضع يده على صدره بابتسامة امتنان: “الله يكرم أصلك.”

قهقهة كرمة قائلة بسخرية: “رمضان بطيخة بقى مونامور.”

فانتشل زياد الوسادة بجانبه ضاربا كرمة برأسها وجلس شاكر وقد هدأ بعض الشيء، وقال بصوت أجش وهو يرمقها: “احنا عاملين خطة… بس إنتِ اللي عارفة ممرات عصابتكم. يعني تبلغينا بخطواتكم، واحنا نبلغك هتمشي ازاي، وتجيبلنا الشنطة.”

جلسوا جميعًا في حلقة، وأخذوا يتناقشون مليًّا في تفاصيل الخطة، وكانت تمارا تروي لهم عن أفراد عصابتها واحدًا واحدًا، وتشرح تحركاتهم وأماكنهم. ظلوا على ذلك قرابة ثلاث ساعات من التدبير والتخطيط، حتى توصّلوا جميعًا إلى صيغةٍ نهائية للعمل. عندها تبسموا برضا، فالتفت رحيم إلى تمارا وقال: “التحرك هيكون بكرة الصبح…”

لكن تمارا تساءلت بقلق: “مش المفروض بليل وكله نايم؟”

أجابها طه ساخرًا: “كله نايم إيه يا ذكية! ما شغلانتنا بتبقى في فترة الليل كلها. يعني هما الصبح بيبقوا بيشخروا”

فقالت تمارا بخوف ظاهر: “طب لو الإنذار ضرب واتقفشت؟؟”

فأجابها رحيم مطمئنًا: “هنهربك منها متقلقيش… المهم تدخلي انتِ… وتنجزي”

سألت تمارا: “ومين هيقعد مع سليم لو انتو كلكوا هتبدأوا شغلكم؟”

فأجابت دينا وكرمة معًا، وقد بادرت دينا بالقول: “أنا مخلفة قبل كده يا قلبي… متاكليش هم ابنك طول ما هو معايا. والبت كرمة هتفضل معايا عشان لو عوزت حاجة من تحت تنزل هي. وهنبدل المسؤولية سوا.”

رمقتها تمارا باستغراب وسألت: “هو انتِ متجوزة؟”

فتقدمت دينا نحو شاكر وضحكت: “متجوزة الديناصور ده.”

نظر إليها شاكر بوجه متجهم، فربتت على خده برقة قائلة: “بدلعك يا حبيبي.”

قالت تمارا بريبة: “ربنا يعينك.”

التفت رحيم إلى شاكر وهو يبتسم بخبث: “بُصّ الهدوء اللي بقت فيه!! ده نبرة صوتها قلت كتير عن النبرة اللي متعود عليها… أنا مش فاهم إزاي ما صدّرتكش إنت يا شاكر في الاول… دي غلّبتني.”

نظر شاكر إلى تمارا نظرة حادة وهددها قائلا: “احنا عاملين خطة وهتمشي علصراط المستقيم زي ما قايلينلك هتستعبطي وتهربي عشان هنخرجك من هنا انتِ حرة وهتشوفي هعمل فيكِ ايه…لو مشيتي يا تمارا سنتي واحد من دماغك بكرة في العملية متلوميش حد غير نفسك.. فاهمة؟ ولا أفهمك بطريقتي؟ “

ارتجف قلبُ تمارا ارتجافَ الطائر المذعور، إذ لم تكتسب خبرةً في التسلّل، فهي تجهل إن كان الغدُ سيُسفر لها عن نجاحٍ أم لا. غير أنّ خوفها على ابنها يأكلها أكلاً، ويستنزف من روحها ما لا يُستطاع ردّه.

وشاكر هذا الضخم، عريضُ المنكبين، مفتولُ العضلات، يواجهها بجرس صوته الجهوري الغليظ، فتتزلزل أوصالها من شدّة وقعه في أذنها. هيأته، بما انطوت عليه من مهابةٍ وجسامة، تُثير الرعب في النفوس، وحين يقع بصرها في عينيه الغائرتين، يخفق قلبها وجلا… تخشى على فلذة كبدها من بطش هؤلاء، وتجهل في الوقت ذاته سبيلاً للنجاة منهم، وإن أُتيح لها أن تُفلت من قبضتهم، فبأيّ حيلةٍ ستتخلّص من براثن عصابتها؟

ضحك الشباب ساخرين، وقال عبد الرحمن: “خلاص يا شاكر، هي فاهمة، خف شوية… البت هتعمل حمام على نفسها.”

استأذنت تمارا ودخلت الى غرفة سليم، غير أنّ رحيم لاحظ خوفها، فلحق بها لداخل الغرفة، ممسكًا بيدها: “تمارا… استني.”

التفتت إليه والدموع تترقرق في عينيها، فقال بدهشة: “فيه إيه؟؟… كلام شاكر خوّفك للدرجة دي؟ صدقيني هو بيهدد بس… تمارا…”

لكنها انفجرت بالبكاء أكثر، فوقف رحيم عاجزًا، لا يدري كيف يواسيها، فربت على يدها وقال: “والله بيهددك بس… شاكر ده أحن واحد فينا… مش هياخد سليم، صدقيني. وعد والله مش هنبعدك عن ابنك… يا تمارا… بصّيلي.”

ثم أمسك وجهها بكلتا يديه ونظر في عينيها قائلاً: “محدش هيقرب لسليم… ولا هيأذيكِ. احنا كلنا خايفين عليكِ لأن اللي هتعمليه مش سهل. وكلنا هنكون حواليك نحميك وانتِ بتجيبي الشنطة. لو بايعينك فعلاً، كنا قولنالك اتصرّفي انتِ. لكن إحنا قاعدين نخطط إزاي نأمنلك الطريق، وتعرفي تدخلي وتخرجي من غير ما تتشافي، ولا عصابتك تقفشك.”

رفعت تمارا بصرها إليه، تنظر إليه بصمت، والدموع لا تزال على وجنتيها. رأت فيه حنانًا لم تألفه من قبل… يا لرقته.

ابتسم رحيم وهو يقول ممازحًا: “وبعدين أنا أول مرة أعرف إنك عندك دم! حقيقية دموعك دي ولا قطرة؟”

فضحكت تمارا رغم بكائها، فأنزل يديه وهو يضحك معها، ثم خرج من الغرفة، بينما مسحت دموعها تحاول أن تهدأ…. تابعت أثره وراقبته من بعيد وهي مبتسمة… شيء ما يغمر قلبها نحوه… شيء افتقدته طوال عمرها!

خرج رحيم إلى الجمع، موجّهًا كلامه إلى شاكر: “في إيه يا بني؟ اهدا شوية.”

قال شاكر بانفعال: “بس يا رحيم، أنا مغلول صدري لما عرفت بخبر الزعيم، وإن ممكن ببساطة تمشي من وسطنا… سيبني بالله عليك.”

فابتسم رحيم وانقضّ عليه يحاول أن يعانقه قائلاً بمرح: “بتحبيني يا بيضة؟؟ هو أنا طلعت غالي عندك أوي كده؟!”

ضحك الجميع من مزاحه، فيما حاول شاكر أن يبعده عنه، لكن رحيم أصرّ على عناقه حتى استسلم له شاكر وأحاطه بذراعيه بقوة. كم يحب رحيم حقًا ودائمًا ما يخجل من البوح بذلك ولكن تصرفاته توحي بمدى حبه لرحيم الجميع يحب رحيم فهو رقيق القلب ويكسب ود كل من قابله جميل من الداخل بالرغم من قساوة الحياة معه الا انه مازال يحافظ على طهارة قلبه… ليس خبيثًا ولا ماكرًا.. ذكيًا ولكن لا يستعمل ذكاءه ان تدخل الامر بعاطفته… قلبه يبدأ في التفكير قبل عقله في كل امور حياته.

صعدت غزل إلى غرفة حمزة في الطابق العلوي، فإذا به قد استيقظ لتوّه، منهمكًا في تجهيز حقيبة سفره. رمقته بعينين يملؤهما الاستغراب، وقالت بدهشة: “إيه الشنطة دي!!”

فتوقّف حمزة، واستدار نحوها واضعًا كفّه على رأسه: “يا ربي، امبارح اتلهينا سوا في الهبل اللي كنت بنعمله ده، ونسيت أقولك إننا مسافرين طوكيو.”

اتّسعت عينا غزل، وقد غمرها الذهول: “إيه!!”

ابتسم حمزة ابتسامة شاردة وقال: “ليا بنوتة بحبها أوي، صغيرة ونفسها تحتفل بعيد ميلادها في Disney Sea، دي موجودة في طوكيو، فهنروح نتبسط هناك إحنا كمان، وأهو أفك شوية من ضغط الفترة اللي فاتت واللي حصل معانا… حاسس إننا محتاجين السفرية دي أوي يا روحي…”

اقترب منها، وأمسك بيديها وقبّلهما، فنظرته غزل بتيهٍ لا يخلو من الاضطراب. عندها قال: “يلا بقى عشان مستعجلين جدًا… يعني أنا بحضّر شنطتي أهي، وهاخدك معايا دلوقتي أوديكِ مول تشوفي هتحتاجي معاكِ إيه، وجيبي كل اللي محتاجاه في السفر، عشان حقيقي مش بفهم أوي في الحاجات دي…”

ثم تركها وانصرف إلى الخارج، فيما وقفت غزل جامدة في الغرفة، كأنها متحجرة الفكر، مشوشة البال. أجل، لم تكن لتغفل عن احتساب أمر السفر في كل عملية، فهي تدرك يقينًا أنّها ستضطر لمرافقته، غير أنّ أمر الهاتف يظلّ هو العقدة الكبرى… كيف ستنتظر حتى العودة؟ لقد أرادت إنجاز العملية بأسرع وقت، كما أوصاها رحيم، فهي لم تُخلق لتلهو، بل لتعمل وتُتمّ ما جاءت لأجله.

وبينما كان حمزة بالخارج يتحدث مع رجال الأمن، انسلّت سريعًا نحو مكتبه، تبحث بعينين يقظتين حتى عثرت على هاتفه القديم في أحد الأدراج، فانتشلته خفية ووضعته في جيبها، مقرّرة أن يبقى معها إلى أن يحين الوقت المناسب. لم يكن الظرف مواتيًا لتطلب منه أن يمنحها الهاتف طواعية، فلتصبر إذن، علّها تظفر بلحظة يكون فيها في مزاجٍ رائق لا يردّ لها طلبًا.

لم تعلم غزل هل ستكون تلك الرحلة في صالحها أم لا… لكنّ يقينها أنّ بعض الوقت برفقته لا يُملّ، وأنّ قربه مهما كان يبعث في نفسها ارتياحًا غريبًا. ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفية رغماً عنها، ثم تبعته في أرجاء المنزل وهو يجمع أغراضه بعناية ودقة تكاد تخنقها. كان يرتّب ملابسه في الحقيبة بانتظام عجيب، ويخطّ في ورقة كل ما يحتاجه، ثم يضع بجانب كل بند علامة الصح بعد أن يفرغ من إعداده، حتى لا يغفل شيئًا.

أخذها حمزة بعد أن فرغ، وانطلقا معًا إلى مول كبير، حيث بدأت غزل تتسوق ما تحتاجه من ثياب وعطور وغسول للشعر وبعض أدواتها الخاصة. وفي أقل من ثلاث ساعات كان الجميع مجتمعين في المطار، وقد اصطحبوا معهم ضحكات لوجي الطفولية العذبة، لتبدأ رحلة لا يعلم أحد أيّ مصائر تخبّئها لهم الأيام القادمة، ولا أيّ قدرٍ يترصدهم في بلاد الغربة.

تحرّك رحيم مع رفاقه إلى الخارج، تاركين تمارا وطفلها في منزله، وقد أتمّوا جلّ ما أرادوا معرفته حول مقرّ عصابة تمارا، وجهّزوا عُدّتهم لعملية الغد. كانت العملية بالغة الصعوبة، غير أنّ عزيمتهم لم تتزعزع، فهم واثقون أنّهم قادرون على إنجازها. وكانت الساعة قد قاربت الخامسة مساءً حين عاد رحيم إلى داره منهك الجسد، مثقل الأنفاس.

ما إن وطئ العتبة حتى تسلّل إلى سمعه لحن موسيقي خافت ينبعث من غرفة آلاته. تقدّم بخطوات بطيئة، حتى دخل الغرفة ليجد تمارا جالسةً أمام البيانو، تحاول أن تعزف، فتخطئ، ثم تعيد المحاولة بإصرار. ارتسمت على محيّاه ابتسامة خفيّة وهو يراقبها، وحين أبصرته، توقفت ونهضت من مكانها على عجل. قال رحيم بهدوء:

“كويس… لقيتي حاجة تعمليها في غيابي بدل الملل ده.”

رمقته تمارا بعينين ممتعضتين:

“على فكرة عيب أوي لما تحبسني في شقتك وتقفل الباب وانت خارج… أنا كان ممكن أصوت وألمّ عليك الجيران.”

اقترب منها رحيم حتى كاد يلامسها، فتراجعت هي إلى الخلف تحدّق في عينيه المرتابتين، وهمس:

“ومعملتيش كده ليه؟”

أجابت ساخرة وهي تضحك بخفّة:

“البيبان اللي عاملها للشقة عازلة للصوت يا ذكي.”

جلس رحيم إلى البيانو، وأخذ يعزف ألحانًا اعتاد عليها، ثم تنهد قائلاً:

“يا خبر… أخص عليا…”

تأمّلت تمارا عزفه وقد انجذبت إلى ذلك اللحن العذب، والراحة تنساب في وجدانها، وعلى شفتيها ارتسمت ابتسامة خفيفة. قالت بفضول:

“انت بتعرف تعزف على كل الآلات دي؟”

أجاب بنبرة متحدية:

“-تحبي تشوفي؟”

أشرقت ملامحها بحماس:

“لا، علّمني.”

ابتسم ابتسامة ماكرة، ثم قال:

“لا للأسف مبعلّمش بنات… وبعدين مش فاضي، عندي تحضير لحفلة مع فرقتي الشهر الجاي.”

اتّسعت عينا تمارا بدهشة:

“انت عندك فرقة!!”

توقّف عن العزف، وأجابها بثبات:

“فرقتنا مكوّنة من تلت شباب وبنتين.”

تعجّبت تمارا:

“دول من الشباب اللي جم النهاردة؟”

أجاب وهو يميل برأسه بايجاب:

“أنا المغني بتاع الفرقة، وزياد عازف جيتار، غزل بيانو، وكرمة كمنجة، وعبد الرحمن طبول… وهنوصل للعالمية في يوم، أنا متأكد.”

قالت باستغراب:

“غزل وكرمة دول كانوا متعلمين من قبل كده؟”

-كرمة كانت بتعرف تعزف عالكمنجة، لكن غزل لأ… أنا اللي علّمتها.

ضحكت تمارا بخبث:

“طب ما إنت بتعلّم بنات أهو.”

فقال رحيم بجدّية:

“علّمتها عشان هي السبب إني أحقق حلمي، وهي اللي طلبت تشاركني فرحتي وتكون جنبي.”

وضعت تمارا يديها أسفل ذقنها مستندةً عليهما، ثم قالت بفضول:

“إزاي؟”

بدأ رحيم يسترجع الماضي:

“أنا وغزل صحاب… بس صحاب قريبين شويتين تلاتة. دايمًا سوا من ساعة ما اتقابلنا، أكلين شاربين، كل حاجة بنعملها مع بعض. ولما كنا بنسافر برّا مصر، كانت معايا. فكرة الفرقة أصلًا كانت فكرتها؛ لأنها كانت عارفة إن حلمي أبقى مغني مشهور. ابتدت توديني أماكن أتعلم فيها، وكانت واثقة إني هنجح. وفعلاً… اتعلمت عزف كل الآلات. ساعدتني عشان نأجر أوضة فوق سطح عمارة، بقينا نجيب آلة آلة. في الأول جبنا كل الآلات مستعملة، لكن اللي قدامك دول جداد. بقينا نخلص مهماتنا ونروح هناك نعزف، وأنا أعلمها، لحد ما بقت بتعزف على البيانو، وأنا أغني. وباقي الشباب انضمّوا لينا واحد ورا التاني في السر. أنا بعرف أكتب أغاني، بس زي ما تقولي الأغاني اللي بكتبها مش جايبة مع الناس. لينا قناة على يوتيوب، بس مشاهداتها قليلة فبنقدم في حفلات بسية في معاهد او في حفلات تخرج بأجر بسيط جدا لكن هدفنا نتعرف مش نكسب… بس إحنا مكملين وعارفين إننا هنوصل في يوم.”

قالت تمارا وقد تألّقت عيناها:

“وريني كده الأغاني اللي بتكتبها.”

التفت رحيم إلى جانبه، فأبصر أجندة قديمة يدون فيها كلماته، فأعطاها لها. أخذت تقرأ، فوجدت الأغاني مشبعة بالبهجة والأمل، تدعو إلى السعادة والتمسّك بالحياة. ضحكت ساخرة وقالت:

“إيه يابني جو شباب المستقبل وسبيستون ده!!”

انتزع رحيم الأجندة من يديها قائلًا بتهكّم:

“سبيستون؟! اتريقي… ما هو أصلك جاهلة، هقولك إيه.”

قهقهت تمارا وقالت:

“أنا أقصد إيه كمية التفاؤل اللي عندك دي؟! الناس بتحب الأغاني الحزينة… اكتب عن القهر والوجع! هما بيحبوا كده أوي.”

ابتسم رحيم ساخراً:

“ملكيش دعوة… أنا بكتب اللي بحس بيه. وأنا دايمًا بتفاءل بالخير. وليه أكتب للناس أغاني تكبتهم؟! بدل ما يسمعوها يحسّوا بأمل، يسمعوها ويعيطوا؟!”

قالت بضحكة قصيرة:

“يا عبيط، ما هو ده اللي بيحبوه. أنا لما بزعل بشغّل أغاني حزينة عشان أزعل أكتر، مش بروح أشغّل أغاني تفرّحني! أو تشعرني بالأمل في الحياة. “

-ملكيش دعوة برضو.

أطرقت برأسها قليلًا، ثم رفعت عينيها نحوه وابتسمت:

“بس حلمك جميل… وأديك بتسعى له وهتحققه في يوم من الأيام طالما بتحاول… أنا برضو كان ليا حلم.”

سألها باهتمام:

“حلمك إيه؟”

أضاءت ملامحها وهي تحكي:

“أنا كنت بحلم أبقى شيف مشهورة، وأقدم في قناة على التلفزيون زي سي بي سي سفرة كده.”

أشرق في ذهن رحيم خاطر وقال:

“طب ما تطبخيلنا النهاردة؟”

أجابته بمراوغة:

“طب ما تعلّمني أعزف على البيانو؟”

مدّ يده نحوها قائلًا بابتسامة:

“deal.”

ضحكت بحماس ومدّت يدها لتصافحه بقوة:

“deal.”

استيقظ سليم من نومه، فذهبت تمارا إليه لتبدّل له حفاضته. ومضى اليوم هادئًا؛ رحيم يلعب مع الطفل في الصالة باللعب التي جلبتها دينا له، فتعلّق به سليم سريعًا، وملأت ضحكاته البريئة المكان، فتبتسم تمارا في كل مرة تسمع صوته. وبعد ساعات طويلة من انهماكها في المطبخ، وقد بدا كأنها تخوض حربًا ضروسًا مع أدوات الطهو، انتهت أخيرًا من إعداد طعامها، بينما كان رحيم قد أنهى تنويم سليم في سريره. جلس إلى المائدة، ينتظر بحماس ما ستقدّمه له تمارا من صنائع يديها.

جلست تمارا قُبالة رحيم وقالت في نبرة متحدية: “ها دوق.”

فرنا إليها رحيم بعينٍ متجهمة، ثم ألقى ببصره على الطعام الماثل أمامه، فإذا به على هيئة غريبة شاذّة، لا تمتّ بصلة إلى ما يتصور المرء حين تدّعي امرأة أنّها طاهية. تنفّس بعمق وجلس على مضض، ثم سألها في ريبة: “انتِ اللي عاملاه؟”

قهقهت تمارا وجلست مقابلة له وقالت بخفة: “أكيد مجبتش أكل من برا.”

ظلّ وجه رحيم عابسًا، لم يبدُ فيه أثر الرضا، فتمتم بصوت خافت كأنّه يخاطب نفسه: “ده ياريتك جيبتي.”

ابتسم رحيم في عجل يخفي ما تفوّه به، ثم مدّ يده إلى الطبق محاولًا أن يقنع نفسه بأنّ الشكل ليس بالحكم الفصل، وأنّ المذاق هو الفيصل في الأمر. تناول أوّل لقمة ورفعها إلى فمه، وما إن مضغها مرتين حتى لفظها خارجًا وهو يقول:

“يا ستّار يا رب… أكل مساجين ده ولا إيه؟”

غضبت تمارا ونهضت من مقعدها صارخة: “أنا غلطانة إني باخد رأي بهيم زيك.”

فوثب رحيم في وجهها وقال بحدة: “يا بت لمي لسانك، متبقيش بجحة! إنتِ حاطة ملح أصلاً؟؟”

سكتت تمارا برهة تسترجع ذاكرتها، ثم أجابت بصوت مرتفع: “أيوة حطيت.”

فصاح رحيم منفعلاً: “وربنا ده ما فيها ربع معلقة ملح حتى!”

اهتزّت تمارا خجلًا وقد بدا في صوتها التبرّم: “أنا غلطانة إني باخد رأيك في أكلي… إنت أصلاً معندكش ذوق… وعيل…”

فقاطعها رحيم مغيظًا وهو يشير بكوب الماء: “والله لو شتمتي هحدف كوباية الماية دي في وشك يا تمارا…”

فرفعت حاجبها متحدية، وباغتته بلمحة سريعة، ثم اختطفت الكوب من الطاولة ورشقت ماؤه على وجهه. أغمض رحيم عينيه وقد سال الماء عليه، وتمالك نفسه قائلًا: “طيب.”

وقفت تمارا متسمّرة ترقب ردّ فعله، فإذا به يدير خطاه نحو الحمّام. ولم تمضِ دقائق حتى خرج وهو يحمل خرطومًا تتدفّق منه المياه بقوة جارفة، فانفزعت تمارا عند رؤيته وأطلقت ساقيها للريح وهي تصرخ، فيما رحيم يضحك بصوت عالٍ وهو يوجّه الخرطوم يمنة ويسرة، والماء البارد يلسع جسدها لسعًا.

-يا رحيم كفاية… كنت بهزر!

فضحك رحيم بأعلى صوته: “طب مانا كمان بهزر.”

-يا رحيم الماية ساقعة، احنا في شتا… انت بني آدم براس كلبة يلا؟!!!

زاد رحيم ضحكًا وقال: “برضو مبتحرمش… برضو مبتحرمش…”

حاولت تمارا أن تحجب وجهها بكفّيها لتتفادى اندفاع الماء، ثم تقدّمت تريد أن تنتزع الخرطوم من يده، غير أنّها انزلقت على الأرض وسقطت بعنف، فاصطدمت قدمها بقدمه فسقط هو الآخر، وانفلت الخرطوم من قبضته، فراح يندفع في أرجاء الصالة بغير هدى. ارتطم طرف الخرطوم بوجه رحيم حين مدّ يده ليمسكه، فانفجرت تمارا بالضحك وهي ممددة بجواره، فيما حاول هو أن ينهض غير أنّه تزحلق ثانية ووقع بقربها، فزاد ضحكها حتى كادت تختنق.

قال لها رحيم وهو يرمقها بضيق ممزوج بابتسامة مغتصبة: “اضحكي… اضحكي جامد.”

فصاحت تمارا معاندة وهي تضحك بصوت مرتفع أكثر، فاندفع رحيم يركض خلف الخرطوم يحاول السيطرة عليه، ومظهره يثير الضحك وثيابه غارقة بالماء.

ردد وهو يلهث: “ما تقعد يا عم فرهدتني… انت ملبوس ولا إيه.”

وإذ بالماء ينقطع فجأة، فهدأ الخرطوم واستقر، فأسرع رحيم ممسكًا به وضحك كأنّه نال غنيمة، ثم رفعه أمام وجهه يخاطبه ساخرًا: “مسكتك أخيراً! إيه شغل العيال اللي عملته ده؟ عاجبك منظري قدامها دلوقتي؟”

فإذا بالماء يندفع بغتة من فم الخرطوم إلى وجهه، فدخل في عينيه بقوة، فصرخ متألمًا وهو يضع يديه الاثنتين على عينيه بعد أن ترك الخرطوم يسقط.

خرجت تمارا من الحمّام وابتسامة واسعة تملأ وجهها وقالت بخفة: “بس إيه يلا يا رحيم ده! الماتور عندك هايل بسم الله ما شاء الله!! المايه بتضرب من الخرطوم تشق نفق.”

أبعد رحيم يديه عن عينيه محاولًا فتحهما وهو يرميها بنظرات غضب، فاتّسعت حدقتا تمارا وهربت راكضة إلى غرفة سليم وهي تصرخ: “يا مامااااااا.”

أغلقت الباب من الداخل، وراح رحيم يطرق الباب صارخًا: “اطلعي يا جبانة.”

فأجابته من الداخل: “مش طالعة.”

ابتسم رحيم ساخرًا وقال: “يا بت ده إنت شكلك كان عامل زي الفار المبلول بالظبط.”

فصرخت من الداخل: “وأنت كان شكلك… عامل زي شبشب الحمام.”

-شبشب الحمام الكروكس ولا أبو صباع؟

سكتت تمارا مذهولة من سؤاله وقد أدركت ما هو قادم، فإذا بالباب يُفتح إذ كان رحيم يحمل المفتاح. فاندفعت راكضة أمامه إلى الداخل، وهو يلاحقها.

-يا رحيم والله ما أقصد…

-بتمثلي الأدب أول ما تقعي في المصيدة، صح؟؟

فضحكت تمارا وهي تركض في الغرفة بعشوائية: “ما الفار بيعمل كده.”

-يعني معترفة إنك فار؟

فزاد ضحكها وهي تقول: “أيوة بعد ما اعترفت إنك شبشب.”

ضحك رحيم رغم ما به من غضب، وطاردها حتى خرجت من الغرفة مسرعة، فإذا بها تتوقف فجأة وقد تجمّدت في مكانها مبهوتة من منظر الصالة…

اتسعت حدقتا رحيم وهو يتوقف خلفها مذهولًا لم يتصوّر ما رآه؛ إذ كان المشهد فوضى غامرة، فالأثاث كلّه غمره البلل، والماء قد جرى في كل موضع، والجدران أضحت تلمع رطبة كأنها جلود مبتلّة.

تقدّم رحيم إلى الصالة واضعًا يده على رأسه وهو يقول بحرقة: “ده لسه عفش جديد…”

-دي كانت لسه سخنة..

-ده عليهم قسط بسدد فيه لسه…

-ده انا بقالي تلت ساعات واقفة على رجلي بعمل فيها..

فأكمل رحيم كلامه متألّمًا: “ده انا….” ثم صمت فجأة وقد تعجّب من شكواها، إذ كان يظنّها حزينة على الأثاث مثله، غير أنّها كانت واقفة أمام السفرة حزينة، وعيناها تلمعان بالدموع، وحديثها يقصد طبختها!

غلب الغيظ على رحيم، فأمسك بالوسادة المبتلة التي بجانبه ورماها نحوها، فاصطدمت برأسها وصاح غاضبًا: “بت انتِ معندكيش دم للدرجادي!!”

جلست تمارا بجوار الطبخة التي صارت كالشوربة، وقد ابتلّت الصلصة وسالت على طاولة السفرة وانتشرت عليها فوضى حمراء مائية، وقالت بأسى:

-بس يا رحيم بقى والله تعبت فيها.

نهض رحيم وجلس إلى جانبها يسألها باستنكار: “طب ازاي نفسك تبقي طباخة وطبخك بالمنظر ده!! “

أجابته بمرارة وقد أثقلها الحزن: “انا محدش علمني يا رحيم… انا اتجوزت وانا عندي 16 وكانت امي طبخها حلو اوي وقولتلها كذا مرة تعلمني لكن هي كانت شايفة اني اهتم بتعليمي دلوقتي وبعديها ابقى اتعلم الطبخ لما اتجوز… مكانتش تعرف انها هتموت وهيجوزوني بعد موتها باسبوع وانا لسه عيلة مكملتش16 سنة.”

سكت رحيم وهو يتأمّلها، ثم رأى الدموع في عينيها، فابتسم ابتسامة هادئة ووضع يده على يده برفق وقال بحنو:

“في قنوات طبخ عليوتيوب يوم ممكن تتعلمي منها… وانا هسيبلك النت طول اليوم وانا برا افتحي اليوتيوب ليل نهار… فيه شيفات كتير شاطرة وهتعلمك كل حاجة من الصفر.”

نظرت تمارا إلى يده الموضوعة على يدها، ثم رمقته بعينين مرتبكتين وقد شعرت بنبضة قوية تهزّ قلبها، فابتسمت له وقالت برجاء طفولي: “بجد هتسيبني اتعلم الطبخ؟”

-اه بس استحمليني عشان مبعرفش اجامل حد… يعني وانتِ بتتعلمي ميحصلش زي اللي حصل النهاردة ده…!

ضحكت تمارا بخجل، وتكلّمت على غير عادتها بأدب: “حاضر.”

فرفع رحيم يده عن يدها ونهض من مكانه وقال: “وعلى فكرة انا مذواق جدا وبعرف الاكل ده بيكون ناقصه ايه…. واكل النهاردة مكانش فيه ملح وكان فيه طعم غريب اول مرة ادوقه.”

فقامت تمارا معه، وضمت ذراعيها نحو صدرها وقالت بسخرية: “وانا بقولك اني حطيت ملح وانت مبتفهمش حاجة ولا مذواق ولا نيلة.”

فأسرع رحيم إلى المطبخ، فلحقت به، وأخذ يفتّش عن برطمان الملح حتى وجده، ففتحه وغمس إصبعه فيه وأراه لها قائلًا: “تمارا انتِ متأكدة انك حطيتي ملح؟؟… ده شكل الملح اهو… وبصي…”

ثم تناول برطمانًا آخر، فإذا هو برطمان السكر، فأخذ منه حبيبات وأراه لها وقال: “وده سكر…”

فابتسمت تمارا بسماجة وقالت بخفة: “يا سكر… يا خفيف الدم…باللي هموت ضحك منك… اكيد عارفة الفرق بين السكر والملح وانا حطيت ملح بس مش من البرطمان ده.”

تقطبت ملامح رحيم وتساءل: “اومال جيبتي ملح منين؟”

فتحت تمارا الدرفة التي أمامه وأخرجت برطمانًا آخر، وفتحت غطاه وأرته إياه من الداخل: “ده… جبت الملح من البرطمان ده..”

اتسعت عيناه فجأة وصرخ: “دي بيكربونات الصوديوم!!!”

فأجابته ببرود وعدم اكتراث: “يعني ايه؟؟”

فصاح رحيم بصوت مرتفع: “يعني مستشفى يعني ضغط الدم ممكن يعلى يعني حاجات كتير الله خربيتك… ده كويس اني مكلتش غير لقمة.”

فردّت عليه بوقاحة: “خسارة فيك اصلا…وبعدين ما كلهم لونهم ابيض بقى متقرفنيش في عيشتي.”

تنهد رحيم وقد أثقله الإعياء وقال: “روحي اوضتك يا تمارا وانا هطلب اكل من برا وهوديهولك لحد عندك…. بس امشي من وشي”

فتقدّمت بكبرياء أمامه وهي لا ترى نفسها مخطئة، فقال رحيم ساخرًا: “لو قلقانة اني معايا نسخة من الباب ففي ترباس من جوا بس فوق شوية هاتي كرسي عشان تطوليه واقفلي على نفسك وقت النوم.”

فقالت مهددة: “وانت تقدر تقربلي اصلا انا كنت كسرت رقبتك.”

-وانا هقربلك ليه فيكِ ايه مغري يخليني اقربلك مثلا؟!

-شايف نفسك حليوة وانا هموت عليك يعني مانت وشك شبه قفاك ومقولتش حاجة.

فابتسم رحيم باستفزاز وقال: “انا مقولتش اني حليوة بس لو انتِ شايفة كده فشكرا ده من ذوقك.”

فازداد غضب تمارا، واتجهت نحو غرفتها تضرب الأرض بقدمها لتصدر جلبة وصوتًا عاليًا، فيما التفت رحيم ليعيد برطمان بيكربونات الصوديوم إلى مكانه، فانفجر ضاحكًا من جديد.

وبينما كانت رهف على متن الطائرة، غارقةً في صمت الليل، وقد استسلم الجميع للنوم إلا هي، ظلّت عيناها ساهرتين، وفكرها يطوف حول نوح، ينهشها الحنين إليه افتراسًا. مدّت يدها إلى هاتفها علّها تجد في صورها معه ما يسكّن لظى الاشتياق ويطفئ جذوته. لم تفتح الهاتف منذ الصباح الباكر، فإذا بها تفاجأ بفيضٍ من الرسائل وصلتها في وقتٍ سابق ولم تطّلع عليها.

تردّدت أناملها لحظة، ثم انزلقت لتفتح الرسائل، باحثةً عمّا يملأ خواء قلبها، فإذا بالصاعقة تهوي على روحها؛ صور متلاحقة أرسلها إليها مجهول، والصور تحمل خيانةً لا يطيق قلبها تصديقها: زوجها نوح في أحضان امرأة أخرى، يتبادلان القبل في مشهد فاضح يخدش طهر قلبها.

تجمّد الدم في عروقها، وتوقف نفسها للحظة، كأنما اختنقت الأرض بما رحبت. ارتعشت يدها وهي تمسك بالهاتف، وعيناها ترفضان الإقرار بما تريان، غير أنّ الحقيقة كانت جليةً حدّ الألم… خيانةٌ تُذبح بها الروح على مرأى من القلب.

_______





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى