رواية موعدنا في زمن آخر الفصل الخامس 5 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf

|5-علميني من أكون؟|
صلوا على الحبيب
دخلت رحمة إلى مكتب حمزة بخطوات ثقيلة، وكأن وزن العالم بأسره يضغط على كتفيها. كانت خائفة من عينيه التي كانت تراقبها بدقة، جلست بهدوء على الكرسي أمامه، بينما كانت نظراته تزداد حدة.
تحدث حمزة باهتمام ملحوظ: “أنتِ تعرفي سمر؟”
أجابت بصوت مبحوح يكاد لا يُسمع: “آه، أعرفها.”
تنفس حمزة بعمق، وكأن الهواء بات ثقيلًا على رئتيه: “تعرفي عنها إيه؟ وعيلة جوزها فين؟ وباقي أهلها؟ احكيلي كل حاجة. تقربيلها إيه؟”
بدأت رحمة تروي له عن سمر بحذر، تحاول ترتيب كلماتها المتعثرة بعناية: “سمر تبقى مرات” خالد”، أخو “صالح”، جوزي. كل اللي أعرفه عنها إنها يتيمة وملهاش أهل. خالد عارض الكل وقتها وصمم إنه يتجوزها وحماتي، اللي هي مامته، كانت معترضة بشدة لأن سمر كانت زي المقطوعة من شجرة. وحمايا برضو مكانش موافق. ولكن رغم كل دا، خالد اتجوزها بعد قصة حب كبيرة. اتجوزوا وعاشوا في شقة بسيطة بعيد عن بيت العيلة، وحماتي مكنتش راضية عن الجوازة ومكنتش عايزة تشوف سمر ولا بتتكلم معاها لما تجيلنا. ومع ذلك، سمر عمرها ما يئست إنها تحاول تصالحها. كانت حرفيًا زي الخدامة عندنا، بتحاول بكل الطرق إنها تراضيها. خالد كان بيقولها ليه بتعملي كده؟ قالتله إنها فقدت حنان الأم وكانت بتتمنى إنها تلاقيه من أم جوزها ومش عايزة تضيع الفرصة دي من إيديها. كان عندها ثقة إن في يوم حماتي هتحبها. بس الموضوع اختلف لما اخو خالد التاني”طارق” بقا عينه منها وبيراقبها وهي بتنضف وكان بيؤذيها وبيقرب منها منغير ما حد يشوفه ولكن سمر كانت خايفة من تصرفاته اللي زادت عن حدها، وقررت إنها تحكي لخالد. و خالد صدقها فورًا لأنه كان عارف أخوه كويس وعارف إن سمر غلبانة ومش لئيمة ولا جواها ذرة مش كويسة بالعكس قلبها كان ابيض اوي. وساعتها راح خالد شقة حماتي ودور الضرب على أخوه طارق وبقت حماتي اللي كانت بتكره سمر حبة صغيرين وابتدى قلبها يلين حبة لما حست بقلبها الابيض ولكن بعد الموقف دا كرهتها كره العمى و قالت لخالد يا أنا يا مراتك. لو دخولك الجنة متوقف على رضايا، فانا مش راضية عليك إلا أما تطلقها.”
كانت رحمة تتحدث بصعوبة، وكأن الكلمات تخنقها، لكنها استمرت: “خالد يوميها رجع البيت وحكى كل دا لسمر وسمر اتصلت بيا لأنها كانت صاحبتي ومقربين لبعض شوية. فضلت تحكيلي اللي حصل وقلت لها إنها تمسك في جوزها وإياها تسيبه. وإن أمه هترضى عليه أكيد لأن قلب الأم بيحن، لكن هي مش هتلاقي زوج يحبها زي خالد. خالد كان مهم في حياتها، وهو اللي عوضها عن الأم والأب. انا ساعتها كنت خايفة إنها تترمي في الشارع، لأنها ملهاش أي حد من عيلتها. مرت أسابيع وخالد مبيجيش عندنا نهائي في بيت العيلة، ودا زود نار ماما أكتر لأن طارق مكانش ساكت، كان عامل زي الوسواس في ودانها وعمال يسخنها عليها أكتر. في يوم، لقيت حماتي بتطلب مني أجهز عشان نروح لسمر. كنت مستغربة، فسألتها هل هي سامحتها؟ قالت لي آه وعايزة ترجع ابنها تاني. هتاخد طارق معاها عشان يطلب منها السماح ويعتذر لها عن اللي عمله. اتبسطت جدًا وبلغت سمر إننا جايين. روحتلها وكان خالد في الشغل. سمر اتشرفت بينا وفرحت بوجودنا. لكن ماما بدأت تهاجمها بالكلام، تقولها ينفع اللي عملتيه بين الإخوات؟ وإن خالد مخاصم أخوه بسببها، ومخاصم أمه كمان. سمر حاولت تكون قوية وسألت ماما هل لو كان عندها بنت وحصل معاها كده، كانت ترضاها ليها، وإنها مش عايزة تفرق بين الإخوات. بس طارق فعلًا عمل معاها كذا كذا وانه كان بيجيلها وهو خالد في الشغل ويطلب انه يدخل الشقة بصفته اخو جوزها بس كانت بترفض… وطارق ساعتها اتفاجئنا بيه اتعصب جامد لما سمع الكلام دا عليه وقام يزعق فيها وضرب سمر بالقلم واتهمها بالكذب.وانه عمره ما بصلها وعينك ما تشوف إلا النور نزل فيها ضرب واللي يقهر ان ماما كانت شايلة غل جواها من زمان تجاه سمر من ساعت ما اتجوزت خالد، وقامت تضربها هي كمان. حاولت أحوشهم عن بعض بصعوبة، لكن مفيش فايدة. اتصلت بخالد اللي كان في الشغل، وجيه بسرعة يلحق سمر. طبعًا هو وطارق ضربوا في بعض جامد، وماما مكملة في سمر ضرب وهي شايفة عيالها الاتنين قايمين الضرب على بعض بسببها. قومت حبست سمر في أوضة عشان ماما تبطل ضرب فيها وحاولت امنعها وخبيت المفتاح عشان خلاص وش سمر بدأ يجيب د م من كتر الضرب.”
كانت رحمة تتنفس بصعوبة وهي تكمل: “وفجأة لقينا حريقة في المطبخ. جريت ناحية الباب وحماتي ورايا وخرجنا برا الشقة قبل ما تولع بينا وبعد شوية، طارق طلع بصعوبة ووشه كله عليه رماد من الحريقة. افتكرت إن سمر جوا الأوضة اللي حبستها فيها، وكنت قافلة عليها و لحسن الحظ إنهم كانوا دور أرضي، والشباك كان مفتوح حاجة بسيطة. اتشعلقت ودخلت الأوضة ولقيت سمر بتعيط على جوزها وهي شايفة الحريقة من فتحة الباب. فضلت أزقها عشان تخرج، ودخل معايا شوية ستات من الشباك عشان يخرجوها. طلعناها وأنا دخلت المفتاح في الباب عشان أفتح الأوضة وأشوف خالد. لقيت الحريقة في كل مكان، والسقف بيقع وكل حاجة بتقع. خرجت بسرعة ومحدش كان عارف يدخل ينقذ خالد نهائي. الحريق أكل كل حاجة في ثواني. كان كل أملنا المطافي. سمر فضلت تصوت على خالد، واللي للأسف لقوه بس كان…”
لفظ حمزة كلماته باختناق: “خلاص، خلاص، متكمليش.”
سكت الاثنان يحاولان التعافي من هذا الحديث المؤلم. كم كانت قصة سمر مؤلمة، مزقت قلب حمزة وأثقلت روحه. كان يشعر وكأنه يغرق، يحاول التنفس في هذا الصمت الثقيل، حتى أنقذته رحمة بصوتها القلق: “ومن بعدها ماما طردتها وهي مكنتش مصدقة إنه مات. بقت ماشية في الشوارع تدور عليه. كنت بحاول كتير إني أخدها بيتي، لكن جوزي رفض وكان حالف بالطلاق عليا لو دخلتها بيتنا لاكون مرمية عند اهلي وانا خوفت لاني عندي تلت أطفال، فبقيت أراقبها من بعيد وأتطمن عليها. فضلت بالشهور في الشارع لحد ما في يوم كنت براقبها من بعيد وكانت بتشحت من الناس عشان تعرف تاكل ولقيت عربية خبطتها جريت ورا عربية الاسعاف بتاكس عشان بس اتطمن عليها لقيتك موجود وعرفت انك صاحب العربية اللي خبطتها وبعديها لقيتك نزلت ومشيت ومرجعتش تاني سمعت من الدكتورة اللي اتكلمت معاها عن حالة سمر وكنت معرفاها اني سمعتك وعايزة اعرف حالتها لاني كنت حاضرة الحادث واتطمن عليها قالتلي على كل حاجة قالتها لحضرتك وعن تفاصيل مرضها الوهمي وكانت صعبانة عليا وساعتها قولت انك دفعت مصاريف اقامتها لحد ما تشفى واتطمنت شوية إن سمر هتبقى في امان وهي في المستشفى،و روحت البيت وبقيت واخدة رقم الدكتورة وقولت الصبح هسألها عليها اتصلت بيها وسألتها تاني يوم الصبح قالتلي إن سمر مشيت وهربت من المستشفى ولسه النهارده من كام ساعة كانت مكلماني ومطمناني عليها إن سمر في بيتك وفي أمان وأنها معتبراك جوزها خالد اللي مات بسبب مرضها.”
زفرت رحمة لتأخذ شهيقًا عميقًا محاولة ان ترتب آخر كلماتها التي جاءت إليه لتطلبها، قالت بتردد وصوت منخفض من كثرة التوتر والخوف: “أنا مش جاية لحضرتك عشان أطلب منك إني أخدها، لأن زي ما قلت لحضرتك مش هينفع أدخلها بيتي….. أنا جاية أطلب منك إنك تتجوزها.”
__________________________
وقفت رهف في المكان المتفق عليه، تتلفت حولها بقلق ممزوج بالأمل. كانت تنتظره في مكان بعيد عن الأنظار، خوفًا من أن يتم القبض عليه، فهي مقتنعة بأنه ليس مجرمًا، بل هو نوح، زوجها القبطان.
بعد دقائق قليلة، لاحت سيارة من بعيد. شعرت بقلبها ينبض بشدة وهي تراقب اقترابها. توقفت السيارة وأطلّ منها نوح، محدقًا بها بنظرات تحمل أشواقًا مخفية. التقت أعينهما، وشعرت رهف بتلك الشرارة القديمة تنبعث من جديد. لاحظ نوح مظهرها الجديد؛ كانت ترتدي فستانًا أحمر اللون، يبرز جمالها بطريقة فاتنة، مع شعرها القصير المتطاير في الهواء، وحذائها الأسود الطويل الذي أضفى لمسة من الأناقة على إطلالتها.
تقدمت نحوه بثبات وأناقة، وحقيبتها تتأرجح مع خطواتها. كانت تضع مستحضرات التجميل بعناية، تظهر بشرتها النضرة والمشرقة. انزلقت نظرات نوح عليها بتفحص، غير مصدق أنها هي نفسها رهف التي رآها في الصباح. نزل من السيارة والتقى بها، ما زالت عيناه تائهتين في تفاصيلها، يبحث عن كيانه الذي غاب عنه منذ رؤيتها.
نظرت إليه رهف بعينيها التي تحملان بريقًا خفيًا من المكر، وتألقت ابتسامتها بنعومة تشوبها معانٍ غير معلنة، قائلةً بصوتٍ ناعم: “هتفضل متنحلي كده كتير؟”
استفاق نوح من شروده العميق، وكأنه خرج للتو من عالمٍ موازٍ، ليتحدث بصوتٍ متقطع وتلعثم واضح. كانت عيناه لا تزالان مأسورتين بجمالها، وجعلته كلماتها الغامضة يتردد في ذهوله، وكأنها قد سحرت عقله : “ها…. لا… انا… ازاي… هو….!! ”
ضحكت رهف بنبرة مليئة بالاستفزاز الخفيف، كما لو كانت قد شهدت هذا النوع من التلعثم مرات عديدة من قبل. وكأنها تدرك تمامًا هشاشة اللحظة التي يمر بها نوح. وبإشراقة انتصار على شفتيها، قالت بلهجة رقيقة لكنها مفعمة بالتحدي: “هو الفستان الأحمر… ايوة هو مفيش غيره… اول ما البسه تتجنن كده مبقاش لاقياك ودماغك تبقى في حتة تانية مش معايا… عشان كده لبسته… اصلي ناوية النهاردة اخليك تنسى روما واللي جابوها. “
ابتسم نوح بابتسامة خفيفة، حاول أن يخفي قهقهاته التي كانت تتدفق من أعماق قلبه، كأنها رغبة في الاحتفاظ بلحظة خفية ومؤثرة. بلمسة خفيفة على قلبه، مدّ يده لتلامس يدها برفق، كمن يريد أن يشعر بنبض كل لحظة. قادها ببطء نحو باب السيارة، وفتحه لها بأدب ورفعة، كأنها ملكة تتطلب احتراماً خاصاً. عندما استقرت رهف داخل السيارة، تسلل هو أيضًا إلى المقعد بجانبها، وكأن كل حركة واهتزاز كانت تعكس بوضوح عمق المشاعر التي تجتاحه.
سألته رهف بفضول:”على فين بقا؟ “
قال نوح، وهو لا يزال مأسورًا بجمالها الذي يغمره، محاولاً جاهدًا ضبط كلمات تتلعثم في فمه:”مكان آمن بحيث ميشوفناش حد…”
وقف نوح بالسيارة في مكانٍ معزول، حيث الهدوء يشبه سكون الليل، وأيقن أن العالم الخارجي قد تلاشى. ظلَّ جالسًا في السيارة، مغمورًا في سكون اللحظة، ثم نظر إليها بعينين مليئتين بالتمحيص. بعد برهة من الصمت العميق، قال بصوتٍ مملوء بلمسة من التأمل: “هنا كويس.”
قالت رهف بحماس وهي تهمّ بالنزول: “حلو دا… يلا ننزل.”
امسك يدها قبل أن تخرج من السيارة ممانعًا إياها بقوله:” لا استني… احنا مش هننزل… هنفضل هنا… عشان لو أي حد من البوليس عرف مكاني الاقي وقت اهرب بيه… وانا مضمنكيش تكوني جايباهم ورانا اصلًا… عشان كده عامل حسابي. “
ثم، في حركة مفاجئة، أخرج نوح مسدسًا من جيبه، ووجهه نحوها بتصميمٍ لايرحم، فصرخت رهف وهي تشهق من الصدمة: “بترفع عليا المسدس يا نوح… أنا!!”
أرجع نوح المسدس إلى جيب بنطاله، ثم نظر إليها بعمق، وقال بصوتٍ هادئ: “مش هأذيكي بيه… بس بعرفك عشان لو جايبة حد من الرجالة بتوع اياهم الصبح معاكِ. “
أردفت بثقة وهي ترفع كتفيها بلا اهتمام : “مش هخطفك يا حبيبي.. مش عافية هي.”
-لا يابت حوش حوش مين كان مكتفني الصبح وقايلي لو هتضطر اني اخطفك هعمل كده. “
قالت بابتسامة تحاول اخفاءها: “مش انا.”
-يا فوفا… عليا الكلام دا برضو
ضحكت رهف بصوت عال ليضحك هو الآخر ثم توقفت رهف لتستوعب ما قال والتفتت اليه بعشم قائلة: “أنتَ قولت ايه؟؟”
لم يفهمها، فتجمد في مكانه للحظة، وسألها باستفهام عميق: “قولت ايه مش فاهم؟!.”
أردفت بحماس ظاهر على وجهها بإشراق: دلعي… قولت ايه قولها تاني…. قولت يا فوفا… انت افتكرت دلع اسمي يا نوح… دا دايمًا كنت بتقوله لي…. نوح أنت افتكرتني! “
ثم بدأت دموع الفرح تملأ عينيها فقالت: “لا مش هعيط عشان الماسكرا…. قولي يا نوح… انت افتكرتني صح؟!! ”
حاول نوح أن يوضح لها بقوله: “لا براحة بس ثواني…. انا معرفش الاسم دا ولا قولته قبل كده! طلع مني بعفوية… مش عارف اشمعن قولته؟؟ بس دا مش معناه اني افتكرتك…. ”
رجعت للخلف قليلًا لتستند ظهرها على الكرسي بأريحية قائلة بفرح: “مش مهم… المهم انك افتكرت حاجة بينا.”
فكر نوح بهدوء يخاطب نفسه: “يعني ايه قولت اسم دلعها؟!! انا حتى اول مرة اسمع اسم رهف في حياتي ومتكررش هناك في روما ابدًا ولا قابلني عشان انطق دلعه بالسهولة دي… وبرضو اللغة المصرية اللي متيقنها بالشكل دا مش طبيعي وانا متقالي اني مولود في روما… انا هتجنن.”
-قولي بقا ايه اللي رجعك؟
التفت اليها وقال بصوت مختنق: “معرفتش.”
التفتت اليه ونظرت بعيونه وهي مبتسمة: “وايه اللي معرفكش يا حبي ما كنت تروح مع الملونة.”
زفر بعيدًا ليقول بتثاقل: “رهف انا جايبك هنا عشان تحكيلي.”
-تحكيلي عني انا مين… مين نوح اللي بتكلميني عنه عاوز اعرفه.
قالت رهف بابتسامة وهي تشعر بنبضات قلبها يزداد: “طب تعالى في الكنبة اللي ورا عشان ترحرح وانت قاعد.”
ثم انتقلوا إلى المقعد الخلفي للسيارة، حيث جلست رهف بأريحية أكبر، مما أعطاها شعورًا بالاسترخاء والأمان. بينما كان نوح بجانبها، شعر بيدها تمتد لتلمس ذراعيه برفق، وتجذبه نحوها فقال بصوتٍ مليء بالاستفهام : “فيه ايه.”
قالت بحزم: “شششش… مش عايز تسمع… يبقى طلباتي أوامر… نام.”
أمال نوح رأسه بضجر، حيث استند برفق إلى فخذيها، ثم استلقى على المقعد ببطء. كان طوله يجعله يلتصق بالكرسي، مما جعل قدميه تتناثر على الجوانب. وهو ينظر إليها من موقعه غير المريح، قال بصوت مفعم بالأسى:
“عاجبك يعني القعدة اللي انا فيها دي؟ ”
امالت رأسها بايجاب قائلة بابتسامة: “تحفة… أينعم شكلك يضحك بس مش مهم… المهم اني العب في شعرك وانت تكون باصصلي… وتقولي الهايلايتر باين ولا لا عشان بقالي كتير مستخدمتوش ولقيته في السكة قومت حطاه منغير ما اعرفله صلاحية.”
رفعت يدها لتضئ الكشاف الثاني للسيارة لتزداد ملامحهم وضوحًا بالداخل نظرت اليه بتساؤل: “باين؟”
ضحك نوح من لطافتها: “باين… احكي”
بدأت رهف تغوص في قوقعة القصص والروايات، حيث راحت تسترجع ذكرياتها وتعيد رواية أحداث الماضي بتفاصيلها الدقيقة. قائلة: “كان يا مكان يا سعد يا اكرام ما يحلى الكلام الا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام… اتولد في يوم ولد صغنون قمور بعيون زرقا اسمه نوح واتولدت بنت زي القمر اسمها رهف… نوح كان بيحب رهف من وهو صغير وفضل وراها عشان بس يتكلم معاها… ولما بقى في الثانوية هي كانت لسه في اولى اعدادي كان نفسه بس انها تديله فرصة انه يتكلم معاها قامت رهف ماسكة الشبشب وقامت مدياه على دماغه بيه. “
-بطلي هزار بقا… انا عايز اسمع الحكاية بجد…
ضحكت رهف وهي تقول:” مش مصدقني؟ طب وربنا دا اللي حصل…. ضربتك بالشبشب على نفوخك لاني كنت لسه صغيرة وشايفة ان اللي بتعمله دا اسمه معاكسة. “
قال نوح بذهول: “يعني انا اتضربت بالجزمة على راسي!! ”
اوضحت له صحة العبارة قائلة بتعديل بسيط: “بالشبشب…. كان لونه احمر ابو ورد بلاستيك من قدام كدا.”
اكملت رهف وهي تتحدث بنبرة طفولية وكأنها تحكي قصة لطفل صغير: “ومن بعدها ونوح اختفى ولا حس ولا خبر وعرفت رهف بعديها انه عزل من المكان…. نوح اتخرج وبقا قبطان قد الدنيا ورهف اتخرجت وباقت مدرسة برضو قد الدنيا… يقوم يحصل ايه… وفجأة… يتقابلوا في رحلة بحرية مع باباها…تخيل؟! ”
-ممكن بس اقاطعك في حاجة بسيطة
-ممكن تتكلمي عادي وبلاش طريقة الاطفال دي… انا عندي اربعة وعشرين سنة. “
نظرت بعينيه باستغراب لتتساءل: “مين دا اللي اربعة وعشرين سنة؟ ”
أجاب ببراءة: “انا.”
أوضحت له بقولها: “حبيبي انت تلاتة وتلاتين سنة مين ضحك عليك وقالك وانت شحط كده إنك أربعة وعشرين.”
صمت نوح قليلًا ليرتب افكاره وخطر بباله ايضًا موقف تاريخ الميلاد وقال: “يعني ايه… برضو لما جيت افتح موبايلك لوجي قالتلي على تاريخ ميلاد مش بتاعي…. أنا مش فاهم حاجة.”
ربتت رهف على رأسه بإطمئنان: “انت داخل على مرحلة انك تكتشف فيها نفسك من جديد فطبيعي الحاجات دي هتكون مش صحيحة…. وكل دا كان تأليف اياهم.”
نظر اليها ليغلق عينيه قليلًا قائلًا بشك واضح: “وليه ميكنش من تأليفك انتِ؟ ”
حاولت رهف ضبط نفسها من فعل أي شيء متهور والحفاظ على هدوءها قليلًا ولكن لم تقدر فصاحت به: “الصور تثبت يا بابا وقسيمة الجواز تثبت قسيمة الجواز اللي عليها صورتك واضحة زي ضوء الشمس اوريهالك… وبصمتك اللي على ورق كتب الكتاب؟؟ايه كل دا من تأليفي برضو؟ ”
-خلاص يا رهف كملي
قالت بتذمر: “لا مش هكمل عشان انا بألّف.”
بدأ صوت نوح يعلو وهو غاضبًا وعينيه تمتلئ بالدموع: “خلاص يا رهف قدّري حالتي… انا واحد اكتشفت ان كان ليه حياة تانيه هو ميعرفش عنها حاجة ولا فاكر منها أي شيء…. انا اللي رجعني انتِ ولوجي… لاني حاسس بحاجة تجاهكم بتربطني بيكم… حاولي تفهمي انا فيا ايه…. انا مبقتش عارف انهي هويتي الحقيقية وشاكك في كل اللي حواليا كل واحد بيقولي كلمة شكل… متخيلة واحد مش عارف هويته شعوره عامل ازاي؟؟! ”
تراجعت رهف أمام دموعه التي اخترقت صموده، وكأنها سيل جارف هبط دون إذن منه، لتذيب كل جدران الحماية التي بناها. مسحت دمعة من عينيه بلطف وحنان، ثم احتضنته بذراعيها بقبضة قوية، كما لو كانت تحاول أن تأخذ عنه كل الألم الذي يسكنه، قائلة بصوت يملؤه الأسف: ‘خلاص، أنا آسفة. حقك عليّ.’
شعر نوح بدفء وراحة عميقة، وكأن عناقهما كان ملاذًا من كل المتاعب. رائحة عطرها الطيب اخترقت حواسه، وغطت عليه بمسكنات من نوع خاص. أغمض عينيه ببطء، محاولاً أن يترك كل أحماله الزائدة خلفه، وأن يذوب في هذا العناق الذي كان مليئًا بالحب والاحتواء، وكأن كل لمسة من يديها كانت تمحو أوجاعه وتعيد إلى روحه توازنها المفقود.
________________________________
دخل المنزل بتثاقل، كان متعبًا للغاية، وكأن ثقل اليوم كله يضغط على كاهله. كان يريد فقط أن يرمى برأسه على أي وسادة ويختبئ من كل ما مر به. لكنه سرعان ما سمع صوتها في أرجاء المنزل، وهي تقترب منه راكضة بحماس لتعانقه بقوة، قائلة: “خلودتي رجعت… حمد لله على سلامتك يا حبيبي.”
ابتسم بتعب وهو يردد: “الله يسلمك.”
ثم ابتعدت قليلًا عنه وفجأة، اختلطت الأصوات المألوفة بصخب موسيقى عالية، فتوجه بنظره نحو الصوت مستفسرًا باستغراب: “ليه صوت الموسيقى عالي كده؟”
أمسكت بيده واقتربت بوجهها منه، محدثة إياه بدفء وحماس: “عشان هنرقص… يلا.”
جذبته برفق نحو الصالة، فحاول التعب أن يتسلل إلى صوته قائلاً: “لا يا سمر، مش قادر… أنا تعبان جدًا النهاردة.”
ردت بعناد: “مفيش داعي للنقاش… الموسيقى اشتغلت يبقى يلا نرقص… وبعدين دي طقوسنا بعد كل رجعة ليك عشان نرجع مشاعرنا تاني ونملأ الفراغ اللي كان فينا طول اليوم واحنا بعاد عن بعض… يلااا.”
بدأت سمر ترقص بحيوية، تتمايل مع إيقاع الأغنية، بينما كانت تردد الكلمات بحماس، وتقفز للأعلى، وشعرها يتراقص معها. نظر إليها وهو يبتسم، شعور بالسحر يتسلل إلى قلبه وهو يشاهدها، لكن إرهاقه كان قويًا. استمرت سمر في الرقص، مفعمة بالنشاط والحيوية، بينما هو يتابعها بشغف.
وسط هذه الأجواء الصاخبة، حدثت لحظة غريبة؛ ساد الهدوء فجأة ليكشف له عن صورة غير متوقعة. رأى أميرة، زوجته الراحلة، تتراقص أمامه. كان المنظر يملؤه الخيال وكأنه يعود إلى الماضي. أميرة كانت تبتسم وتدور في المكان، تملأه بحضورها الحي والملهم. لم يصدق عينيه، وكأنها خيال يتجسد أمامه، بينما سمر تراقصه، ولكن كما لو كانت في ذلك الوقت، وتظهر له وكأنها أميرة!
جذبته سمر برفق لتدعوه بالرقص مجددًا، ولكن هذه المرة لبى دعوتها واخذ يرقص معها على الحان الاغنية بسعادة. بدأ يتحرك على إيقاع الموسيقى بمهارة، وينظر لها بفرحة ويضحك بصوت عالٍ وهو يرى زوجته الراحلة امامه قد بُعثت من بعد موتها لتأتي إليه وتشاركه رقصته مثل ما كانو في الماضي…جعل عقله جانبًا هذه المرة ولم يستخدمه الأمر مريب.. نعم..ولكنه سعيد برؤية زوجته مرة أخرى حتى لو أنها تهيؤات. كانت سمر تعتقد أنها ترقص مع زوجها الراحل، وهو أيضًا يعتقد كذلك وهذا ما أضفى على الرقصة مزيجًا من العواطف الحقيقية بينهم.
يا لها من حالة معقدة، مليئة بالعواطف المتضاربة والذكريات المتداخلة، حيث الرقص كان بمثابة جسر بين الماضي والحاضر، ووسيلة لإحياء الذكريات وإعادة بناء الروابط العاطفية التي انقطعت.
ابتعد نوح عنها قليلًا، ليغمر عينيه في عينيها بطمأنينة، وتحدث بصوت مليء بالدفء: “ليه بحس بشعور غريب وأنا ببصلك مع إن عمري ما اهتميت لأي بنت قربتلي، وعمر ما بنت قدرت تلتفت نظري. أشمعن انتِ… أشمعن انتِ اللي خليتيني أضعف قدامك كده؟؟!”
أجابت رهف، مسترجعةً ذكريات الماضي بلمسة عاطفية: “عشان أنا مراتك يا عبيط… حب عمرك من وانت بشنب إعدادي. المهم أكملك… كنا طالعين في رحلة بحرية وشوفتني، والغريبة إنك معرفتنيش، لأن شكلي كان اتغير، بس أنا عرفتك وكنت بموت من جوا ونفسي إنك تكلمني، عشان بصراحة… كنت مز أوي… يعني بطقية القبطان والبدلة كنتِ عسلة يا غتي.” (أمسكت خديه وداعبتهما بلطافة فابتسم نوح ومازال يستمع إليها بإهتمام) “وبعد كام يوم من السفرية لمحت أهلي وعرفتهم وعرفت إنني موجودة معاهم. قعدت تدور عليا وكنت أنا ساعتها مراقباك أصلاً، ولما لقيتني عملت نفسي بتصور رحت من كتر توتري وأنا شايفاك جاي عليا اتكعبلت في المركب والموبايل وقع مني في المية.”
الذهاب إلى الماضي
تقدم نوح نحوها بارتباك، ملاحظًا تصمّرها في مكانها: “آنسة رهف، انتِ كويسة؟”
صرخت رهف، ومازالت صدمة وقوع هاتفها في الماء تؤثر عليها: “الله يخرب بيتك… الله يخرب بيتك دا لسه جديد! “
حاول نوح أن يهدئها قليلًا، وقال: “أنا آسف والله، بس هو وقع من إيدك أنتِ ولا أنا خبطتك، ولا أنا اللي كنت ماسكه!”
نظرت إليه واتسعت عيناها قائلة بغضب: “أنت كمان بتبجح؟”
أمسكها من ذراعيها، ليقربها إليه بشدة، وتختلط أنفاسهم. قال نوح بصوت صارم، ولكنه محمل بالغضب المزيف: “بقولك إيه، أنا سكتلك على الشبشب زمان عشان كنتِ عيلة، لكن دلوقتي كبرتي اهو، اللهم صل على النبي و بقيتي زي القمر. فكلمة كمان وازقك وراه… اتكلمي عدل.”
نظرت رهف إليه بعينيها، وهي تبلع ريقها، محاولة ضبط كيانها الذي يتراقص تحت تأثير نظراته، حيث تجعلها تفقد كلماتها. تبادلوا نظرات مكثفة، وصوت الطيور وأمواج البحر يخلق لحنًا رومانسيًا خفيفًا. قال نوح، وهو ما زال مشدودًا إلى عينيها: “أنا دورت عليكِ كتير، بس عرفت إنك عزلتي برضو ومعرفتش أوصلك… بس القدر جمعنا تاني. وأنا ما صدقت لقيتك… وحشتيني.”
نظرت إليه بخوف وتردد، بين رغبتها في الابتعاد وعدم الرغبة في الرحيل، تود أن تبقى هكذا للأبد. تلعثمت قائلةً: “هنادي… أخويا وبابا ييجوا يعرفوك تقولي كده إزاي.”
تأمل عينيها بتعمق، ثم قرب وجهه منها قليلاً، وقال بمشاكسة: “أقولك إيه بالضبط؟”
نظرت في عينيه، وتلعثمت وهي تحاول التفكير، تكاد أن تغرق في بحر عينيه: “تقولي… تقولي…”
هز رأسه مبتسمًا من منظرها، وقال: “أيوة… تقولي له إيه بالضبط؟ عشان أنا قلت كلام كتير أوي… هتقوليله إني قلتلك وحشتيني… ولا بحبك؟؟ “
اتسعت عيناها، وأخذت أنفاسها بعنف، قائلةً بشرود: “ها.”
ابتسم نوح من هيأتها المضحكة تلك، وقال بعشق يفيض بداخله بعد حبسه لسنوات طويلة: “بحبك من سنين كتير، من ساعة ما شيلتك في اللفة وأنا عندي خمس سنين. ومبسوط إن جارتنا في العمارة اللي جنبنا ولدت بنوتة زي القمر وسميتها رهف… كبرتي قدام عيني يا رهف، وأنا بكبر معاكِ لحد ما كبرت وبقيت ناضج كفاية إنني أحاول حتى أحكي معاكِ. ولما زهقتي مني ومن مطاردتي ليكِ اللي مكنتش بزهق منها.. قومتي ضرباني فوق نفوخي بالشبشب، طب دا كلام؟ “
ضحكت رهف حين سمعت جملته الأخيرة، وتذكرت الموقف بابتسامة على شفتيها. قال نوح، مكملًا بجدية: “بقولك إيه، تتجوزيني؟”
تفاجأت رهف من كلمته، فأكمل نوح: “مهو انتِ مش هينفع معاكِ جو الشموع والورد وكل دا، وأنزل على ركبتي وارفع الخاتم، مقلق منك تبلعيني الخاتم أو تحرقيني بالشمع، خلاص معدتش متطمنلك، فخليني في الباب الأسهل… وأمشي معاكِ دوغري… تتجوزيني يا رهف؟”
العودة إلى الواقع
تساءل بفضول: “ووافقتي؟”
-لا للأسف، وبعدنا عن بعض، وكل واحد راح لحاله… يابني انت غبي يابني… يابني، هتشلني بردود أفعالك دي… تعبت منك، فرهدتني في أول اليوم كده.
فجأة، انفجرت ضحكة من أعماق نوح، وتبعها قهقهة شديدة من رهف، التي نظرت إليه بسعادة بالغة، تستمتع بضحكته التي افتقدتها منذ سنوات. ولكن فجأة، اقترب شخص من السيارة وطرق على زجاجها، وعندما نظرا إلى الشخص، ذهلا بقوة، واتسعت عينا نوح بدهشة!!
….
جلسا على الأريكة القريبة، يلهثان بشدة، تتردد ضحكاتهما في أرجاء الغرفة، حيث امتلأت الأجواء بفرح لا يُوصف. صعدت سمر إلى الأعلى لتستحم، فقد شعرت بالحرارة بعد رقصهما الطويل، وتبعها حمزة، الذي كانت مشاعره تتدفق نحوها كأنه يرى أميرة، زوجته الراحلة، تجسدت فيها.
تلاعبت به الأفكار، فتذكر حديث رحمة، وبدأ يفكر بجدية في اقتراحها. دارت همسات العقل في رأسه:
“لماذا لا تسعى للسعادة مرة أخرى؟ أليس من حقك أن تجد الفرحة في حياة جديدة؟”
أجابه حمزة بحزن وحنين عميق: “لقد عرفت السعادة من قبل، ولا أعتقد أنني أستحق أن أجدها مرة أخرى مع شخص آخر غيرها.”
رد العقل بإصرار، وكأن الكلمات تتلألأ في الظلام: “كيف لك أن تقارن السعادة القديمة بالفرح الذي قد تجده اليوم؟ ترى كيف ترقص وتغني بعد سنوات من الصمت؟ سمر قد تكون الجسر الذي يعيدك إلى الحياة التي فقدتها.”
لكن القلب قاطع التداعيات الفكرية بصرخة وجع: “وماذا عني؟ تسعون لإعادة الفرح، وأنا هنا، جريح، لا أحد يمكنه تضميد جراحي سوى عزيزتي. لا أعلم متى سأتمكن من نسيانها لأني ببساطة لا أدري ستغادر الروح جسدي.”
غرق الصمت في الأجواء، وساد صمت مهيب حيث تأمل الجميع في صرخات القلب، محاولين تحديد من كان على صواب: العقل أم القلب.
تقطع أفكاره اتصال من صديقه سمير، الذي قال بصوت مليء بالحماسة: “حمزة، حمزة فاكر الراجل الغني اللي كلمتك عنه من كام يوم؟”
أجاب حمزة، مشوبًا بالقلق: “أيوة وبعدين مبعتش ايميل تاني ولا كلمنا.”
رد سمير بتفاؤل مفعم: “بعت النهاردة الصبح وقال انه موافق يدخل معانا شراكة وهيزود البضاعة في شركتنا وارباحنا هتزيد أضعاف من المبلغ اللي هيحطه؟”
نهض حمزة من مكانه باندفاع، وقال بلهجة مليئة بالفرح: “أخيرًا حاجة تعدل مزاجي النهاردة.. كانت فين الأخبار الحلوة دي وحشتني.”
ضحك سمير وقال بلهجة مليئة بالثقة: “هتشوف منها كتير بعد ما الراجل دا يساهم معانا دا حظ واتكتبلنا نبقى منه..هيقابلنا النهاردة الساعة 8 يعني كمان ساعتين كده، هو قال انه عايز يقعد قعدة تعارف بينا ونشوف نظام شغلنا ونحدد اسلوب الشركة هيبقى ماشي ازاي والمساهمة هتبقى بقد ايه.”
سأل حمزة بفضول: “وقولتله هنتقابل فين؟”
أجاب سمير، مبينًا التفاصيل: “آه…عندك في البيت…”
تحدث حمزة بتذمر: “ليه يا سمير… سمر هنا وهتفضل تسألني اسئلة انا في غنى عنها كنا نقابله في اي مكان برا مطعم او كافيه أنتَ عارف ظروف البيت عندي هنا عاملة ازاي.”
حاول سمير إقناعه بجدية: “يا حمزة مينفعش… انا لقيت ان بيتك هو انسب مكان لمقابلته الموضوع محتاج لخصوصية تامة لحد ما نعلن شراكتنا احنا هنقابله النهاردة كتعارف ونشوف ايه نظامنا منغير اي مخلوق ما يعرف… جهز البيت واتصرف في سمر بسرعة الراجل ساعات ويبقى موجود انا قايم البس وهجيلك نتكلم شوية ونظبط الامور قبل ما ييجي عشان كلامنا يبقى واحد ومظبوط.”
كان أشرف جالسًا في مكتبه، محاطًا بجدران الصمت وضجيج أفكاره. ملامحه شاحبة، وعيناه غارقتان في دوائر السهر والخذلان. أعصابه مشدودة كوترٍ على وشك الانقطاع، لا يعرف ما يفعل، ولا إلى أي درب يسير.
كل ما بناه في عمرٍ من السعي تبخّر كأنه هباءٌ منثورٌ في مهبّ عاصفة؛ ضاع في ليلةٍ واحدة، كأن الدنيا قد قررت أن تُصادر حلمه بلا إنذار. أولاده حاولوا الدخول إليه، طرقوا الباب، نادوه بأصواتهم المرتجفة، علّهم يخففون عنه ثقل ما يعيشه، لكنه أبى. حبس نفسه داخل مكتبه، كأن الجدران وحدها باتت تفهم وجعه.
لم يعد يعرف كيف يواجه العالم… كيف يخبرهم بأنه أفلس تمامًا.
وفجأة، شقّ صمت المكان صوتُ هاتفه يرن. نظر إليه بقلق، ثم مدّ يده المرتجفة وتلقّى الاتصال. جاءه صوتٌ غريب، خافت ومبحوح:
-اشرف الشرنوبي معايا؟
-فلوسك كلها اتسرقت، ورق العقارات وممتلكاتك كله اتاخد وحاليا فلست وبقيت علحديدة مش كده؟
قفز اشرف من مقعده وهو يشد بيده على الهاتف: “انت مين؟؟؟ “
-مش مهم انا مين المهم هل انت عايز فلوسك ترجعلك وممتلكاتك ترجع ولا لا؟؟


