Uncategorized

رواية حارة جهنم الفصل الرابع 4 بقلم داليا الكومي – تحميل الرواية pdf


رواية حارة جهنم الفصل الرابع 4 بقلم داليا الكومي

الفصل الرابع____________________حياة جديدة

“قال سيعود وقد فعل ..لكنه لم يعد فقط بل حوَّل جهنم إلى جنة عدن .. ” جريان الماء على أجسادهم غسل الكثير من ترسبات الماضي .. لم يكونوا ليرتدوا ملابسهم الجديدة بدون استحمام يطهرهم من رائحة العذاب .. عندما اجتمعوا مجددًا سعد أيضًا كان قد استبدل ملابسه القديمة بملابس جديدة مثلهم .. ملابسه الجديدة أظهرته مختلفًا كليًّا عن سعد القديم .. من المدهش كيف أن الملابس فقط تستطيع نقل الشخص من مستوى إلى مستوى .. ملابسهم التي جلبها لهم لائمت المكان المحيط بهم وجعلتهم يشعرون أنهم جزء منه .. بمجرد خلع الملابس انسلخوا من جلدهم القديم .. تحولوا من أبناء حارة جهنم إلى أبناء الطبقة الراقية ..
وسعد أشفق عليهم من نظرات التوتر التي تحتل ملامحهم فقال مباشرة فور جلوسهم:
– سأعود للبداية .. لا تقاطعوني حتى انتهى .. حتى العتاب أجَّلوه .. في البداية سافرت إلى السعودية كما تعلمون .. وهناك عملت ليل نهارٍ في كل المهن المعروفة .. عملت كسباك .. كعامل بناء .. كسائق .. أي عمل وكل عمل ولم أترك بابـًا لتحصيل الأموال ولم أطرقه .. حرمت الأكل والشرب على نفسي .. اعتدت أن آكل أبسط الأشياء التي تبقيني على قيد الحياة وأتمكن من المزيد من العمل .. كان لدي هدفٌ أعطاني القوة .. والقسم الذي أقسمته مع نفسي بأن أعود وأنتشلكم من العذاب كان لا بدَّ وأن يتحقق .. هدفي الوحيد كان جمع أكبر قدر من الأموال ومنعت نفسي عن الاتصال بكم طالما لا أستطيع المساعدة .. كان في استطاعتي أن أرسل لكم مبلغًا شهريًّا من المال لكني علمت أنه سيذهب إلى كؤوس (الهباب) التي كان يشربها فرج ولم تكونوا لتجنوا شيئًا من إرسالي المال سوى المزيد من السُكْر والمزيد من الضرب بالتالي .. ماذا ستستفيدون من إرسالي المال لكم وأنتم تحت رحمته؟ وحتى لو وصل لكم كنت ستنفقونه كمصروفات يومية لذلك فكرت بالنيابة عنكم واستثمرت نصيبكم من المال .. كنت أكيدًا من أن سالمًا يستطيع أن يحل محلي، وراهنت على ذلك ..
معاناتكم كانت تشعرني بالعجز .. أقسمت أني لن أتصل بكم أو أعود إلا وأنا قادر على تغيير الوضع وانتشالكم من بئر الضياع وكنت أدعو الله ألا آتي بعد فوات الأوان .. فكرت في الاتصال بكم كثيرًا لكنني كنت أعلم أنني سأعود فورًا مع أول كلمة أسمعها من أيٍ منكم .. مع نهاية السنة الأولى دبرت مبلغًا جيِّدًا جدًّا .. أول مبلغ حقيقي اتحصلُ عليه وفكرت في العودة لأجلكم لكن عندما فكرت جيِّدًا وجدتنى لن أستطيع أن أخرجكم من الجحيم كما كنت أتمنى .. كنتم ستظلون تحت رحمته، فأموالى وقتها كانت ستجاهد لمجرد بدأ مشروع بسيط ..
وقتها بدأت الثورات تشتعل في البلاد وتدمرت الكثير من البلدان العربية وسويت مدن بالأرض .. بالصدفة تعرفت على شخص سوري اسمه نزار شهم ومخلص ويقدر الصداقة لكن قلبه كان ميتًا من هول ما رأى.. موت عائلته بالكامل أمام عينيه نزع قلبه ووضع الصخر مكانه .. أقنعني بأخذ المخاطرة والعمل في تهريب اللاجئين لأوروبا وبالخصوص لإيطاليا عن طريق ليبيا .. سافرنا ليبيا ومنها غامرت واشتركت معه واشترينا قاربًا وقمنا بالتعاقد مع اثنين من البحارة المهرة .. كنا نهرب في المرة الواحدة حوالي خمسين لاجيء .. الحمد لله .. الله الكريم سترنا ولم نفقد أي شخص في البحر .. تكلفة الفرد الواحد كانت تترواح بين ثلاثة آلاف حتى ستة آلاف يورو لكن أقسم لكم أوصلتهم جميعًا بسلام وحتى الشاطيء .. أبدًا لم أتركهم في المياة وأطلب منهم إكمال الباقي سباحة كما يفعل بعض المهربين عديمي الضمير .. وأيضًا لم أشترِ مركبًا متهالكًا معرضًا للغرق بل اشتريت مركبًا حديثًا وكنت أُخضِعه للصيانة الدورية قبل كل رحلة .. ومع ذلك كنت أشعر بتأنيب الضمير فكنت أغامر معهم بنفسي في كل رحلة وكانت مسؤوليتي أن أوصلهم بسلام .. صحيح أنا أردت المكسب السريع لكنني في الوقت نفسه كنت مسؤولًا عن أرواحهم المعذبة .. يكفي الجحيم الذي هربوا منه .. أردت مساعدتهم كي يبدأوا حياة جديدة بعيدًا عن الحرب والدمار .. استمعت إلى حكاويهم عن الحرب لأشهر .. بعضهم فقد كل عائلته وشاهدهم يموتون أمامه إما تحت الأنقاض من أثر القصف بالصواريخ أو من الجوع والعطش بسبب الحصار .. مدن بالكامل تحولت إلى أنقاض ومُلِئت بالأشباح .. في كل رحلة كنت أستمع إلى حكايات مختلفة وأعيش معها بكل حواسي .. كانوا قد تعبوا من دفن الجثث وفقدوا الأمل في التغيير .. فقرروا أن ينفدوا بجلودهم من الموت .. قمت بتهريب رجالٍ ونساءٍ وأطفال .. كل طفل كنت أراه وهو يحمل حملًا يفوق طاقته كنت أتذكركم، فنحن أيضًا عشنا حربنا الخاصة مع فرج .. السنوات الاخيرة معه كانت جحيمًا .. كل لكمة لكمت وجه أمي حُفرت بداخلي .. أي صفعة تلقتها ليلى بدون سبب كانت تعطيني العزيمة وتمحو أي إحساس بالذنب أشعر به فهم يستحقون حياة كريمة .. أنتم أيضًا تستحقون حياة كريمة.
مع استرجاعه للذكريات استرجع أصوات الهاربين المريرة .. كان يستمع إلى آلامهم كل يوم .. “الموت يلاحقنا في كل مكان مثل ظلنا، لأسابيع لم نتحصل على أي طعام فأكلنا أوراق الأشجار وحينما نفدت المياة ماتت الأشجار ففقدنا حتى تلك الأوراق.
الجثث تتعفن في الشوارع ولم يعد هناك مكان لدفن المزيد .. قررنا الهروب فلربما نستطيع إيصال قضيتنا إلى العالم الصامت من حولنا، فحتى أشقاؤنا العرب صامتون وكأن الأمر لا يعنيهم .. صمتهم عارعليهم وسيحاسبهم التاريخ يومًا”.
كلماتهم قضت على أي ندم أو شعور بالذنب باقٍ كان لا يزال يشعر به، فأرواحهم المعذبة كانت تتحرر مع وصولهم لشاطئ بعيد عن الحرب .. طفلة سورية صغيرة أمسكت كفه بكفٍ باردةٍ مرتعدةٍ وترجته بألم: “عمي أرجوك لا تعِدنا إلى هناك”، ربت سعد على رأسها بحنان وطمئنها قائلًا:
– إن شاء الله ستعودون يومًا ما عندما تعود سوريا ..
ظل لأيام لا يستطيع النوم .. تلك الطفلة الصغيرة ذكرته بليلى.. عندما تركها كانت في الرابعة عشرة من عمرها ولم تكن شديدة مثلهم لتتحمل العنف والقسوة.. دموعه كانت تهدد بالسقوط على وجهه لتفضحه لكنه تمالك نفسه وأكمل .. فمن حقهم عليه أن يعرفوا لماذا تخلى عنهم في أحلك أوقاتهم وأشدها قسوة ..
– بالطبع كان عملًا مليئًا بالمخاطر أحيانًا كثيرة اقتربتُ من الموت لكنني لم أستسلم إليه أبدًا وناضلت لأجلكم وانتصرت عليه ونهضت لإكمال ما نويته من قبل ..
كلماته أشعلت النار في عقل سالم .. لكمات فرج وصفعاته شكلت جزءً يوميًّا من حياتهم .. كان يستخدم في الضرب أي شيء تطاله يداه كحزامه الجلدي القديم أو حتى أرجل الكراسي الخشبية المحطمة .. كان يضربهم بانتقام فشلوا في تفسير سببه .. ربما الشراب كان يسبب له الهلاوس فيظنهم أعداءً له .. هكذا أقنعوا أنفسهم كي يتحملوا الضرب لسنوات .. تذكر يوم أن سأله حسن بعدم فهم ..
– لماذا تضربنا الآن يا أبي .. ماذا فعلنا بالتحديد؟ فكان جوابه المزيد من اللكمات الغاشمة ..
كلمات سعد التي كان ينطقها بمرارة رهيبة تترك أثر العلقم في حلوقهم قطعت سيل ذكرياته ..
– عامٌ كاملٌ وأنا أُهرُّب اللاجئين من كل الجنسيات لإيطاليا واليونان من مدينة زواره الليبية .. وكنت أعود مثل الآلة لأحضرغيرهم بدون تضييع أي وقت ..
أموالي مكَّنتنى من أخذ فيزا إيطالية وتحولت إقامتي هناك لرسمية بعدما كنت أدخلها بطرق غير شرعية .. أكملت المليون دولار الأول بعد عناء وأيضًا فكرت وقتها في العودة لكن حافزالنجاح لأجلكم جعلني أصبر لسنة أو اثنتين .. لكني أُدرك الآن لو كنت فقط عدت منذ سنتين فلربما استطعت تغيير الحال أوعلى الأقل كنت رحمتكم من المسؤولية الرهيبة التي تحملتموها في غيابي .. أو ربما كنت استطعت رؤية أمي ولو لمرة قبل وفاتها .. لكن الآن انتهي وقت الندم .. أنا سأعوضكم عن كل يوم قهر مرَّعليكم في حياتكم، ليلى قاطعته بحنان:
– سعد!! لا تُحمِّل نفسك فوق طاقتها .. الموت كان قدرها، وعودتك لم تكن لتنقذها .. صدق الله حين قال: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} في النهاية هي ارتاحت من العذاب.
كلمات ليلى المريحة أزاحت همًّا كبيرًا من على كتفيه فأكمل بارتياح واضح:
– استقررت في إيطاليا منذ سنتين وخبرتي في السباكة جعلتني أعمل في المواسير .. علمت مع شركة إيطالية صغيرة تصنع مواسير سباكة من نوعية ممتازة جدًّا لكن للأسف لم تكن تسوَّق بصورة جيدة بسبب خلل في إدارة التسويق لديهم .. تعاونت معهم وبدأت أصدرها لكل دول العالم وبعد فترة صاحب الشركة قرر التقاعد فاشتريتها منه .. نوعية المواسير الجيدة بالنسبة لسعرها زادت الطلب على الشركة بشكل خرافي بعدما اهتممت بالتسويق بشكل مناسب .. بعدها توسعت الأعمال وبدأنا نتاجر في “السيراميك” .. صدرتُ واستوردتُ السيراميك والمغاسل وكل ما يخص الحمامات .. المليون أصبحوا عشرينًا بل خمسينًا وهنا اتخذت قرار العودة وبدأت في التحضير..
طلبت من مساعديَّ أن يدبروا لي أموري في مصر .. نقلت مقر شركتي لمصر وفرع إيطاليا أصبح فرعًا آخر وشريكي السوري أصبح مسؤولًا عنه، الموظفون افتتحوا الشركة هنا واشتروا هذا المنزل وجددوه بالكامل .. كان منزلًا قديمًا لكني انبهرت بحديقته من صورها التي لمست قلبي فقررت أن أعيد تجديده .. اخترت منزلًا قديمًا فلربما يعتقد الناس أننا لنا أصل وينسون من نكون حقيقةً .. ربما نخدع الناس وينسوا أننا أولاد فرج الخمورجى .. وأيضًا اشتريتُ بيتنا القديم في الحارة كي أنهي آخر جزء من قسمي وأحرقه أمامكم لتنسوا كل الماضي الأليم.
عيناه اغرورقت بالدموع وهو يكمل:
– لكن للأسف حبيبتي الغالية لم تشهد نجاحي وتنعم به .. لم أتوقع مطلقًا أن ننتقل إلى هنا بدونها .. مشهد الحريق رسمته في خيالي لسنين وكنت أتمنى أن أهديه لها قبلكم .. حتى أن أعواد الثقاب كانت لفرج احتفظت بها لسنوات لأشعل النيران بها في كل الماضي ..
صورتكم احتلت قلبي طوال غيبتي لكنني خفت أن أضعف وأعود قبل أن أحقق لكم ما خططت له .. حرمت نفسي من أي متعة بدونكم .. بالطبع من يعملون معي اعتبروني بخيلًا .. فكيف أملك ملايين عديدة ولم أبدل ملابسي أبدًا ولم أنتقل من الغرفة الحقيرة التي كنت أسكنها؟ لكنني لم أهتم أبدًا وصمدت على وعدي لنفسي حتى جهزت كل شيء ونقلت مقر عملي .. وعدت إليكم بنفس الملابس التي غادرتكم بها .. من الآن فصاعدًا سنستمتع سويًّا وسننسى الماضي ..
أغمض عيونه وعاد بذاكرته إلى الغرفة الحقيرة التي سكنها في حي فقير في روما .. على الرغم من مقدرته المالية على تأجير شقة معقولة إلا أنه كان يتذكر بؤس أشقائه فيكمل بعزيمة ما انتوى عمله ..
– والآن يا أخي ألم تقرر ترك هذه الغرفة والانتقال للإقامة معي؟
– لا يا نزار .. أنا أشعر بالراحة هنا ..
نزار ألح:
– كما تريد لكن على الأقل دعني أحضر لك شيئًا يصلح للأكل فأنت زاهد حتى في الطعام..
هز سعد رأسه بقوة:
– لا تحمل همًّا .. أنا أتدبر أمري جيدًا.
حاول مجددًا:
– أنت عنيد أنا لا أطلب منك إنفاق الكثير لكن ما تفعله يفوق الحد.
وعندما لم يجد أي استجابة منه قال بإعجاب ..
– أنت مخلص جدًّا أتعشم أن يقدر أشقاؤك ما تفعله لأجلهم، أجابه بثقة:
– سيقدِّرون.
– كان الله في عونك فأنت تجاهد نفسك وتعيش في التقشف بإرادتك.
ثم كالمعتاد انصرف إلى شقته عندما يئس من إقناعه بترك تقشفه، وبسبب علاقتهما اللصيقة كان يدرك السبب جيِّدًا لتقشفه، أما الآخرون فاعتبروه بُخلًا، نفض رأسه ليتخلص من الذكريات الأليمة وأكمل بسعادة:
– الخدم سيصلون باكرًا .. لقد فضلت أن نتقابل اليوم وحدنا بدون أي تدخل خارجي .. أمامي إلى المطبخ فأنا أموت جوعًا .. لقد افتقدت أكل اللحم.
*****
نعمة رجوع سعد لا يقارنها شيء .. حتى لو كان عاد بدون أمواله الطائلة كانت ستظل نفس النعمة .. أخيرًا اجتمع أبناء عواطف .. سعد المليونير ذو التسعة والعشرين عامًا ضمَّ إخوته تحت رعايته تمامًا.. المنزل الذي وهبهم إياه لم يكن مجرد جدران وغرف بل كان الملاذَ الآمن الذي تطلعوا إليه بشوقٍ كبير .. ولم يكن سيُضيرهم إن كان ذلك الملاذ قصرًا أو حتى كوخًا طالما في النهاية ملاذهم سيكون قلب سعد ..
وفي شركته الفخمة اعتبر كلًّا من سالم وحسن شركاءهُ .. هم شركاؤه في النجاح كما كانوا شركاءه في الألم والعذاب .. العرق الذي بذله لسنوات ومازال يحتفظ برائحته في ثيابهِ القديمة كان لأجلِ رخائهم ومنحهم هويةَ جديدة بعيدًا عن أشباح الحارة .. الآن سيستمتع بأمواله طالما لحمه ودمه يحيطون به ويعلم كيف يعيشيون، ماذا يأكلون وكيف يتدبرون أمورهم .. لم يكن لينعم وهو يعلم أنهم يرفلون في الشقاء وتزينهم اللكمات كشموع عيد الميلاد .. الفرصة الثانية قد تكون مستحيلة لكن سعد تحدى نفسه وحارب ليهبهم تلك الفرصة وكانت دعوته الوحيدة التي جف حلقه من تكرارها هي ألا يعود بعد فوات الأوان.
أن تنام وتستيقظ لتجد نفسك تعيش في القصور ربما يكون سببًا قويًّا لفقدان العقول أو ربما سببًا لفقدان المبادئ لكن أبناء فرج السناري اعتادوا الشدائد، والرخاء كان فقط فرصةً لهم لالتقاط الأنفاس.. اعتادوا عليه لكنه لم يسيطر كليًّا عليهم .. فتدريجيًّا اعتاد سالم وحسن على حياتهما الجديدة وعلى الكثير من الأموال في الجوار .. ولكن الأموال تجلب مسؤولية من نوع مختلف .. المسؤولية ربما تكون حتى أشد فهي تعني ضبط النفس وعدم الاستسلام الكامل لسلطان المال والنفوذ .. والشهوات الزائلة ..” عندما تتصارع اللذات على باب الطاعات”.
ذكاء حسن ولباقته ودماثة خلقه جعلوه الاختيار الأمثل ليكون مديرًا للتسويق، أما سالم القوي والنسخة المصغرة من سعد فأصبح ساعده الأيمن ومدير أعماله والرجل الثاني في الإمبراطورية التي كانت تُبنى بقوة ..
وكان يتولى إدارة الأعمال بكفاءة مطلقة والغريب أن حسن وسالم اعتادا فورًا على جو العمل وطبيعته، بل وبرعا فيه، وأصبح اسم شركة السناري من أكبر أسماء الشركات .. سعد الذي لم يكمل تعليمه .. فقط درس الابتدائية أصبح يمتلك أموالًا لا تُعد ولا تُحصى .. افتتحوا معارض ضخمة للأدوات الصحية والسيراميك واحتكروا استيراد المواسير في البلد من شركة سعد الإيطالية .. لكن في كل ليلة عندما يغلق عليهم الباب كان يعودون أبناء عواطف ويتجردون من سلطة المال عليهم، أما هى فاكتشفت ميلها للديكور والتصميم وقررت الالتحاق بكلية الفنون الجميلة بدلًا من كلية الطب وعندما تأكد سعد من أنها رغبتها الحقيقية أصرَّ على دخولها كليةً من الكليات الخاصة ذات الأربع سنوات واختارت هي قسم الديكور وخصص لها سائقًا ليُقلها يوميًّا في جميع تنقلاتها ..
الحياة الجديدة التي ارتسمت أمامها جعلتها تكتشف الكثير والكثير عن نفسها اكتشفت أنها تستطيع السيطرة على الألم بالرسم وعندما ترسمُ الريشةُ الألم فبالتأكيد يكون الناتج شيئًا يمس شغاف القلوب .. وموهبتها الفريدة كانت تتنامى كل يومٍ بشكلٍ ملحوظ.
أُسدل الستارُ أخيرًاعلى ماضيهم المُشين .. تجاهلوا وجود فرج تمامًا واعتبروه ميتًا مثل عواطف ضحيته المسكينة..
مرت سنتان على دخولها الكلية التي اختارتها بنفسها .. مهارتها في التصميم أقنعت سعدًا بصوابِ اختيارها وكانت هديته لها في عيد ميلادها العشرين شركة متخصصة في الديكور سلمها أمرها بالكامل وكانت تتابع أعمالها يوميًّا بعد عودتها من كليتها ..
على الرغم من سنوات عُمرها العشرين وكونها مازالت طالبة وعدم حصولها على شهادةٍ بعد لكنها تمكنت من جعل اسم ليلى السناري علامة مميزة في عالم الديكور .. يطلبها أبناءُ الطبقةِ المخملية بسبب ذوقها الرفيع وتدرجات ألوانها الخيالية التي تخلقها ببراعة ..
الغموض كان الصفة المميزة لأعمالها الفريدة .. استخدامها المميز للألوان وجراءتُها في خلط ألوان غير معتاد عليها نتج عنه أسلوبٌ خاصٌ بها.. لمسةٌ شرقيةٌ تمزجها بالحداثة في أسلوب عجز الجميع عن تقليده ..
حبها للتصميمات والعمل الشاق صفَّى روحها وشغل معظم وقتها فلم يكن يترك لها المجال للتفكير في الماضي وحين اقترحت على سعد إنشاء معرض للأثاث كي يكون عملهم متكاملًا وافق فورًا وأطلق علامة تجارية خاصة بالأثاث أسماها “ليلى”.
**********
– آنسة ليلى .. آنسة ليلى أنجديني.
رفعت رأسها عن حاسوبها وسألت مساعدتها بدهشة:
– ماذا هناك يا فرح؟ لقد أفزعتِني.
ضحكت فرح بخجل:
– لا تخافي لكن يوجد على الباب (صاروخٌ) يريد مقابلتك؟
تساءلت بدهشة حقيقية:
– صاروخ؟
أومأت برأسها لتجيب بانبهارواضح:
– نعم صاروخ أرض جو لكن نحمد الله على وجود حراسةِ شقيقكِ بالخارج وإلا لكانت العواقبُ كارثية.
– فرح .. من فضلك أنا لا أفهم ما تقولين.
أجابتها بصوتٍ هامس:
– يوجد بالخارج رجلٌ وسيمٌ جدًّا يريد مقابلتك.
عادت لتسألها بقلق:
– وما دخل الحراسة؟ هل من الممكن أن يكون خطيرًا؟
أجابتها ضاحكةً:
– لا، الحراسةُ كي تحميه منَّا.
“ظريفة جدًّا”..ضحكت من قلبها كما لم تضحك من قبل ..
– أدخليهِ لنرى ماذا يريد هذا الخارق الذي قلب كيانك .. وتذكري أنكِ مخطوبة .. سأخبر خاطبكِ عن الصاروخ إذا لم تتحشمي.
ياللنساء!!
خرجت فرح فورًا دون إضافة المزيد من الكلام .. لكنها كانت تعلم أنها تبتسم في هيام ..
هزت رأسها بعدم تصديق فكيف تكون فرح بمثل تلك التفاهة .. الباب عاد ليُفتح بعد قليل لتشاهد فرح تعود بصحبة رجل ضخم مفتول العضلات .. قد يكون في أوائل الثلاثينات من عُمره .. بالفعل كان أوسم رجلٍ رأته في حياتها.. مع أنها كانت أكيدةً أنها لم ترهُ من قبل لكن شيئًا غامضًا جعلها تُدرك أنها تعرفت عليه .. ألم معدتها مع رؤيته أنبأها أنها ربما رأته في أحلامها وربما قابلته في حياة أُخرى .. وسط ذهولها مد الغريب يدهُ للسلام والتقط يدها التي ارتعشت في قبضته .. الآن فقط أعطت العذر لفرح فهي شخصيًا صُدمت من رؤيته .. حتى أنها لا تسمحُ بالسلام باليدِ أبدًا لكن يدها حوصرت بلا رحمةٍ في قبضته دون أن تسمح لها بالرفض أو تعطيها حتى فرصة .. قال بأدبٍ جم وهو مازال يعتصرُ كفها برفق:
– الرائد كريم علم الدين من مصلحة السجون..
قلبها انخلع بعنف ووجهها أصبح بلا لون وجسدها يرتعش كالمحموم ..أما كفها التي في قبضته فأصبحت ببرودة الثلج .. رددت لنفسها بهلع:
” مصلحة السجون .. مصلحة السجون “.. الماضي الأسود عاد للظهور مجددًا .. فرج سوف يدخل حياتهم مجددًا.. .
الوسيم لاحظ اضطرابها .. وسألها بقلق:
– آنستي .. هل أنتِ بخير؟
الكلماتُ تُجاهد للخروجِ من شفتيها .. حاولت أن تتمالك نفسها .. أرادت أن تسأله:
– هو من أرسلك؟ ولكن كلماتها خرجت مهزوزةً غير مفهومة، زادت زائرها حيرةً .. أشفق على وجهها الجميل الذي فقد لونه وارتسم فقط الألم على محياها .. حرر يدها وساعدها على الجلوس .. رائحةُ عطرهِ القوي انطبعت في معدتها قبل ذاكراتها .. وأمام ارتجافتها الواضحة لم يجد سوى أن ينسحب .. بادرها بالقول:
– أنتِ تبدين متعبةً اليوم .. الوقت ليس مناسبًا للحديثِ عن العمل .. سأعود في وقتٍ آخر بشرطِ أن تذهبي فورًا إلى المنزل.
كلمةُ العمل أعادت اللون الأحمر لوجنتيها .. تمالكت أعصابها لحد ما وسألته:
– عمل؟
ليعلق كريم بخفة دم واضحة:
– العمل بالطبع .. مكتوب بالخارج السناري للديكور أليس كذلك؟ هل أخطأتُ ودخلت صالون تجميل نسائي وأنا لا أعلم؟
إنه يسخر منها؟!! لا لا هو فقط لطيف ويخفف من توتر الجو المشحون .. ردت بارتياح:
– نعم بالتأكيد .. أنا بخير .. تفضل بالكلام.
رد بشك:
– هل أنتِ أكيدة؟ أنتِ سببتِ لي صدمة شديدة .. فأنتِ الأولى التي بمجرد رؤيتي تتصرف وكأنها شاهدت عفريتًا، وعلى كل حال أنا أستطيع العودة في وقتٍ آخر .. ضحك بخبثٍ وأكمل:
– فرصة لأشاهد هذا الجمال النادر مرة أخرى.
تنفست بارتياح وزفرتها الملتهبة أخرجت كل توترها .. مجرد التفكير في فرج يسبب لها غثيانًا غير محتمل، فكرة رؤيته من جديد تُرعبها .. هو يرعبها .. من المؤكد أنه سوف ينتقم منها لأنها السبب في سجنه إذا ما أتته الفرصة .. الحمد لله أنها تمالكت نفسها ولم تتقيأ أمام هذا الصاروخ وإلا لكانت ماتت من الإحراج.
الحمد لله “كريم علم الدين” أو أيًّا كان اسمه يريد رؤيتها بشأن أمرٍ ما وهو لا يتعلق بفرج .. اسم مصلحة السجون يسبب لها ألمًا عنيفًا لذلك من الأفضل التخلص من هذا الكريم فورًا بغض النظر عن سبب مقابلته لها .. ولكنها مضطرة للتحمل بضع دقائق، تعطيه الفرصة للكلام ثم تتخلص منه بعدها مراعاة لأصول اللياقة فهي لن ترفض العمل له قبل أن يعرض طلبه.
أشارت له بالجلوس:
– مطلقًا .. نحن في خدمتك .. تفضل بالحديث.
فقال بجدية:
– اسمعينى آنستي، أنا أحب الحديث المباشر وأكره “اللف والدوران” وتنميق الكلام .. “دوغري” كما يقولون .. اسم ليلى السناري في الديكور أصبح علامةً مشهورة، ووالدتى بالطبع تذهب إلى النادي، وهناك الأغلبية من صديقاتها صممتِ أنتِ منازلهم .. واسمك على التصميم أصبح نوعًا من “الفشخرة” التي يتباهين بها أمام بعضهن البعض .. وبالتأكيد “سعاد هانم” لن تكون أقل منهن .. ولذلك أرسلتنى كي أطلب منكِ تصميم الاستقبال الرئيسى فقط في منزلنا .. هي باعت أرضًا كانت تملكها في البلد حتى تتمكن فقط من تصميم الاستقبال برعاية مكتبك .. فمعروف جدًّا كم يكلف تصميمك من أموال .. توقف عن الكلام للحظات ثم ابتسم بخبث وأكمل بمرح:
– ربما تعشمت أنكِ حينما ترينني لن تستطيعي مقاومةَ سحري وستقومين بعمل تخفيض جبار من أجل عيوني لكن للأسف خطتها فشلت .. ماذا ستقول عندما أُخبرها أنني ذكرتك بوحش ما ربما؟
للحظاتٍ قليلة استمعت له بصمت .. كانت تجاهد للسيطرةِ على خوفها ولكن عندما اختفى خوفها بنسبةٍ كبيرة وبدأت في استيعاب كلامه.. تسللت ضحكة إلى شفتيها.
هذا الخارق في لحظات تمكن من جعلها تضحك لأول مرة في حياتها .. فعليًّا أول مرة تضحك في حياتها.
على الرغم من سحره الطاغى إلا أنها حاولت الاعتذار بلطف:
– أعتذر منك .. لدينا الكثير من العمل ولن أستطيع قبول أي عمل جديد الآن.
محاولة منها للاعتذار بدون أن تفضح نفسها .. لا يُمكن أن تتحمل سماع اسم مصلحة السجون مرة أخرى إذا ما وافقت على تصميم منزلهم فمجرد ذكر الاسم يجعل معدتها تجاهد للقفز عبر حلقها المسكين.
تظاهر بالصدمة وهو يقول:
غير معقول .. كيف سأخبرها .. هل ترضين أن تشردي أسره بكاملها؟
ردت بذهول:
– ماذا؟
أجابها:
– بالطبع، فعندما ترفضين طلب أمي ستقوم وقتها بتنغيص الحياة علينا جميعًا .. أنتِ لا تعلمين كيف هو ” بوز” سعاد هانم .. وأبي سيُطلقها حينما يراه ، وأختى ستتشرد ..
قاطعته وهى تشير بيدها علامة على الموافقة :
– هذا يكفي .. سأصمم الاستقبال.
ابتسم لها ابتسامةً شعرت معها بوخز في كل شعرةٍ من شعر جسدها
– شكرًا .. متى ستبدأين العمل؟

غير معقول، تمكن من توريطها بخفة دمه .. مميز جدًّا .. لأول مرة في حياتها تقابل أحدًا مثله ..

قوتهُ واضحة لكنه يخفيها تحت غطاءٍ من خفة الدم والمرح..
أجابته باستسلام:
– غدًا سأعاين المكان على الطبيعة





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى