Uncategorized

رواية حارة جهنم الفصل السادس عشر 16 بقلم داليا الكومي – تحميل الرواية pdf


رواية حارة جهنم الفصل السادس عشر 16 بقلم داليا الكومي

الفصل السادس عشر_________________حبك لعنة
البداية كانت عندما تلقى اتصالًا من سلمى تخبره أن ليلى خرجت بدون سائقها ..
هو كان قد تجاهل اتصالها مرات ومرات وفي المرة العاشرة حينما قرر الرد أخيرًا ليتخلص من إزعاجها بادرته بالقول:
– انتظر لحظات قبل أن تطلب مني إنهاء المكالمة فأنا سأنهيها بنفسي .. ولكنى أردت أن أبلغك أن حرمك المصون تختفي في الخارج لساعات بدون سائقها الخاص .. والله وحده يعلم إلى أين قد تذهب أو مَن تقابل ..
أجابها بغضب شديد:
– احفظي لسانك يا سلمى، وأحذرك من ذكر ليلى بالسوء في أي يوم من أيام حياتك وإلا ستندمين، أنتِ لم تري غضبي بعد.
– هل تهددني؟ كريم هل نسيت حبنا؟ ليلى وعائلتها أغنى منك بكثير وأنت مجرد نزوة لليلى وعندما تمل منك سوف تتركك، لكن أنا أحبك من كل قلبي وأريدك .. أنت كنت مجرد غطاء لليلى كي تداري انحلالها، إنها تستغلك يا كريم..
غيرتها تعميها وتجعلها تسيء إلى ليلى.. صرخ فيها بغضب هادر:
– أنتِ تخطيتِ الحدود يا سلمى، حذرتك من قبل من الإساءة لليلى، أنا إلى الآن أحترم صلة القرابة بيننا ولا أتصرف بطريقه لن تعجبك أبدًا.
ترجَّته بعجز:
– كريم أنا أعلم أنك تحبنى أنا .. لقد حاولت إقناع نفسي أنك تحبها لكني لم أقتنع .. انتظرتك كثيرًا لتعود إليَّ لكنك لم تعد ..
حاول ضبط أعصابه لأقصى درجة:
– سلمى أنا لم أحبك مطلقًا ولم أعدكِ يومًا بشيء.
استعادت خبثها لتقول باستفزاز:
– إذًا ماذا تسمي ما حدث بيننا في غرفتك من قبل.
غضبه الآن عاتٍ ونيرانه ستحرق الأخضر واليابس:
– سلمى أنتِ تعلمين جيِّدًا حقيقة ما حدث يومها لكني مع ذلك سأذكرك .. أنتِ دخلتِ إلى غرفتي وأنا نائم بدون أن أسمح لكِ، بحجة أن خالتك طلبت منك إيقاظي، ثم بدون مقدمات ألقيتِ بنفسك علي وبدأتِ في تقبيلي وأنا مازلت نائمًا في فراشي.
قاطعته بصرخات هستيرية:
– يكفي هذا .. أنت حقير.
أجابها بقسوة:
– لا يا سلمى أنا لست حقيرًا.. فلو كنت حقيرًا كما تقولين لكنت استغللتك يومها وفعلت ما أريد فأنتِ كنتِ تدعينني لاستغلالك أو ربما كنت فضحتك وأفشيت سرك، لكني لآخر لحظة أراعي صلة الدم بيننا .. لمصلحتك يا سلمى ابقي بعيدة عن ليلى.. فأنا لا أريد تدميرك لكنك تستفزينني كي أفعل ذلك.
صرخت بحقد:
– سأثبت لك أنها ليست أفضل مني وستندم على ارتباطك بها ..
“طفح الكيل” أنهى المكالمة بفظاظة:
– اعذرينى يا سلمى لا بدَّ وأن أنهي المكالمة فأنتِ تعطلينني عن العمل ..
أغلق هاتفه بغضب، سلمى سوف تسبب له ولليلى المشاكل .. حقدها يعميه يجب أن يوقفها عند حدها ولكنه مكتوف الأيدي بسبب خالته وزوجها، سؤال اقتحم عقله، كيف علمت سلمى عن خروج ليلى بمفردها؟ سلمى أصبحت خطيرة على نفسها وعلى ليلى.
في طريق عودته للمنزل ابتاع لليلى باقة كبيرة من الزهور الحمراء المشتعلة وقرر إبلاغها عن سلمى، كي يحميها من بث سمها؛ فسلمى بدأت في التصرف كحيَّة سامة، هو غير مسؤول عن تصرفات سلمى في ذلك اليوم في غرفته، وأيضًا كان يثق أن ليلى لن تفضح سلمى، كان سيخبرها فقط لتفهم .. ليحمي علاقتهما من الشكوك، فهو لا يريد أن تصل واقعة غرفة نومه إلى ليلى بطريقة خاطئة، ليته أخبرها بالحقيقة عندما سألته عن سلمى من قبل لكنه لم يرد أن يتحدث بالسوء عن ابنة خالته، خصوصًا في شيء مضى واعتبره غير مهم.
عندما وصل المنزل اتجه للطابق العلوي مباشرة لغرفتهما، لقد افتقدها بشدة، ويرغب فيها لأقصى درجة، مجرد نظرة واحدة إليها تعيد جريان الدم في عروقه، أنه يدرك جيِّدًا أنه تعرف عليها منذ أن وقعت عيناه عليها في مكتبها، فهي من كانت تراوده في أحلامه لسنوات، رؤيته لشعرها الحريري الأسود يعانق الوشاح البرتقالي الذي كانت تربطه بأناقة حول عنقها أعطى تناقضًا صادمًا للون شعرها الحريري الداكن مع لون الوشاح الفاقع وجعله يريد أن يدفن أنفه فيه للأبد، تنشق عبير الورود بهيام، فهو يذكِّره برائحتها، شذى عطرها كأنه مستخرج من آلاف الزهور التي وهبت نفسها بطاعة لغجريته الجميلة، ولكنه ما إن وصل عند غرفة ريم حتى سمع صوت حبيبته قادم من هناك، لم يميز ما كانت تقوله بوضوح، اقترب من غرفة ريم ليصطحب ليلى إلى غرفتهما، إلى عش حبهمها وعالمهما الخاص .. ولكنه صدم عندما سمع ريم تقول: “كريم يحبك وسيسامحك، المهم أن تصلحي الغلطة بنفسك، لكن ما تفكرين فيه سوف يزيد الفجوة بينكما .. ستقضين تمامًا على ثقته الكاملة بكِ عندما يعلم أنك تعمدتِ خداعه، إخفاء ماضي مشين مثل ماضيكِ يا ليلى لن يطهره غير الاعتراف والندم، لا بدَّ وأن يرى الندم في عيونك بنفسه، أجيبيني بصراحة، لماذا أخفيتِ الماضي عن كريم؟”.
باقة الورود سقطت من يده على الأرض تلقائيًّا، ودهسها بقدميه.
الألم الجسدي الذي شعر به عندما سمع كلمات ريم فاق أي ألم معروف، سكين غرز في قلبه، رئتاه توقفتا عن العمل، عقله ربط بين كلام سلمى عن خروج ليلى بدون سائقها وكلام ريم: “تصلحين غلطتك، عندما يعلم أنك تعمدتِ خداعه”.
نعم هو يحبها يعشقها من كل قلبه ولكنه أخبرها سابقًا، “ذنبًا واحدًا فقط لا يمكن غفرانه”.
هل هو فعليًّا قادر على عقابها، عن نبذها من حياته عقابًا لها على جريمتها في حقه، ألم جسده عاوده مجددًا، حبها حوله لضعيفٍ مثيرٍ للشفقة، فبدلًا من أن يطردها من حياته أو حتى يضربها كي يعرف منها التفاصيل كأي زوج “دمه حامي”، وبالأخص هو، فهو كان يموت فعليًّا من الغيرة عليها، بدلًا من كل ذلك أخذها باشتياق مجنون عجز حتى الغضب عن إخماده.
أبعدها عنه بألم ومرارة، وقال بألم عجز عن إخفائه:
– هل تتذكرين عندما أخبرتك سابقًا عن ذنب واحد لا أستطيع غفرانه؟ الآن علمت أنني مخطئ، ليتنا نستطيع الوفاء بالوعود التي نقطعها لأنفسنا وخاصة تلك المتعلقة بالحب.
الدماء تجمدت في عروقها وسُحقت روحها ، إذًا كريم لن يغفر لها ذنبَ إخفائها حقيقة والدها عنه، وفي الحقيقة هو ذنب لا يُغتفر، من دون البشر جميعًا تزوجت ضابطًا، وليس أي ضابط عادي بل ضابط يعمل في مصلحة السجون ودون علمه، أي زوج في مكانه كان ليتقبل الأمر؟
هو معه حق تمامًا، إن كان ظن في يوم من الأيام أن حبها كافي ليغفر لها أي شيء عدا خيانته كزوج وحبيب، فها هو الآن يصحح من وضعها، هو لن يغفر لها كذبها وتعمدها إخفاء حقيقتها الوضيعة.
شعرت به ينسحب من جانبها ويرتدي ملابسه ويغادر الغرفة بدون إضافة أي كلمة.
عجزت عن النهوض، إلى أين ستذهب؟ لا بدَّ أن ينتهي هذا العذاب
أخيرًا استطاعت النهوض بعد وقت غير معلوم، رفعت نفسها بصعوبة إلى فراشها ودفنت رأسها بين الوسائد وبدأت في البكاء.

**********
شعرت به وهو يعود للفراش بعد الفجر، تظاهرت بالنوم، أين كان طوال تلك الساعات؟ هي لم تجرؤ للنزول للبحث أو حتى للسؤال عنه، استغرقت أخيرًا في النوم من شدة إرهاقها، لكنها استيقظت على فرج وهو يقتحم غرفتها غاضبًا، صوت ارتطام باب غرفتها بالحائط خلفه خلع قلبها من الرعب، فرج كان كعهدها به دائمًا، كان ضخمًا وغاضبًا وعيناه تنذر بالشر ورائحة الشراب تفوح من فمه.
دخوله بتلك الطريقة أنبأها أنها سوف تتلقى عقابًا ما على شيء لا تدري ما هو، قفزت من الفراش بخوف وحاولت الاختباء في الحمام لكنه جذبها من شعرها بعنف وبدء في كيل اللكمات الغاضبة على وجهها حتى شعرت أنها سوف تفقد الوعي من الألم، كان يصرخ ويقول:
– أنتِ السبب في سجني أيتها الفاجرة سأقتلك، تغاضت عن اللكمات وتحملت الألم في سبيل أن ينهي عقابه ويرحل قبل عودة كريم، لا يجب أن يراه هنا فهو سوف يعرف كل شيء وينكشف سرها الذي أخفته عنه، أحاط رقبتها بقبضته وبدء في خنقها بقوة، روحها بدأت تغادر جسدها .. وهتفت بضعف:
– ارحل، لا يجب أن يراك كريم هنا، لا يجب أن يعلم عن سري القذر أبدًا، كانت قد استسلمت للموت، فربما بموتها يسامحها كريم لكنها، فجأة سمعت صوته يناديها مع شعورها بيديه تهزها بقوة، فتحت عينيها لتدرك أن فرج كان مجرد كابوسٍ مرعبٍ، وأنه لولا إيقاظه لها لكانت ماتت بالفعل، لكن نظرات الغضب الواضحة على وجهه لم تطمئنها إطلاقًا، سألها مباشرة بدون أن يترك لها فرصة لاسترداد كامل وعيها:
– ليلى هل تخفين عني أي شيء؟!
لا تدري لماذا كذبت وضيعت فرصتها الأخيرة في الاعتراف بالحقيقة، لكنها وجدت نفسها تقول بارتباك:
– لا.
النيران المستعرة في عينيه أخبرتها أنها أخطأت في الإجابة، لكن فات أوانُ التراجع، اقترب منها حتى كاد يلمسها وسألها بعنف بذل قصارى جهده للسيطرة عليه:
– سمعتكِ وأنا أوقظك تقولين لا يجب أن يعرف كريم، ما هو الأمر الذي يجب ألا أعرفه؟
“كيف ستنطقها؟” أخفت وجهها في الوسائد وبدأت في البكاء، فنظر إليها باحتقارٍ وغادر الغرفة فورًا وهي أجبرت نفسها على النوم هربًا من الحقيقة، “أصبح يحتقرها”، يحتقر كذبها هو أعطاها الفرصة للاعتراف وهي ضيعتها بغبائها، سؤال لم تجد له إجابة لماذا كذبت؟ فهو سيعلم، أو بات يعلم بالفعل، لماذا لم تتشجع وتخبره بنفسها، ربما لو استمع إلى الأمور من وجهة نظهرها فلربما كان يعطيها عذرًا.
****
رنين هاتفها أيقظها، فتحت عينيها بصعوبة، نظرت لساعتها، إنها العاشرة تقريبًا، كريم كان قد اختفى من جوارها، لا بدَّ أنه ذهب إلى عمله، كعادته من أيام يغادر إلى العمل في صمتٍ ويتجنب الحديث معها منذ ذلك اليوم الذي تشك أنه استمع فيه إلى حديثها مع ريم، كان يتجنبها وكأنها وباءٌ معدٍ واعتزلها تمامًا، حتى الوجبات كان يأكلها في الخارج، وفي غرفتهما كان يعطيها ظهره وينام فور دخوله إلى الفراش، وهي اعتكفت في المنزل فلم يعد لديها أي طاقةٍ لفعل أي شيء.
عادت إلى هاتفها، المتصل كان سعدًا، شعرت بقلق بالغ من اتصاله، فمنذ يوم زواجها لم يتصل بها، أجابت على اتصاله بخوف، صوتها بالكاد غادر حلقها الجاف:
– مرحبًا سعد، صباح الخير.
صوته الجاد أكد شكوكها حول حدوث خطب ما.
– قابليني فورًا.
قاطعته بقلق:
– سعد، ماذا هناك، لقد جعلتني أشعر بالقلق؟
– أنا وحسن وسالم عند مستشفى السجن، ولا بدَّ من حضورك أنتِ أيضًا.
لسانها انعقد من الصدمة:
– مستشفى السجن؟
– نعم يا ليلى، أبي في المشفى وحالته خطيرة جدًّا ويريد رؤيتنا.
لأول مرة منذ الكارثة سعد يطلق عليه لقب أبي، كان دائمًا يقول هو أو فرج.
رددت كالببغاء المذعور:
– أبي أبي، أنت تطلق عليه لقب أبي يا سعد؟
– إنها الحقيقة مهما فعلنا لإخفائها أو لتناسيها، لكنه والدنا شئنا أم أبينا، وأنتِ أيضًا ستأتين، هل تعلمين أين يوجد المشفى؟
ليلى هزت رأسها بالنفي:
– لا.
– إنها بداخل السجن يا ليلى، السجن حيث كريم وأنتِ ستأتين، سننتظرك ولن نراه إلا سويًّا، هل ستخبرين كريم؟
سعد يجبرها على المواجهة، مواجهة فرج، مواجهة كريم، مواجهة مشاعرها، اليوم ستكتب كلمة النهاية على أكثر أمورحياتها إيلامًا وأيضًا أكثرها فرحًا، كريم سيواجهها بذنبها ولن تستطيع التبرير.
– أظن أنه أصبح يعلم.
قال بارتياح واضح:
– من الجيد أنه علم صدقيني يا حبيبتي الحقيقة ستكون راحةً للجميع.
أنا أعلمُ أن الوقت غير مناسب ولكني أطلب منك أن تسامحيني يا ليلى، أنا السبب في الفوضى التي تعيشينها الآن، فلو لم أشجعكِ على إخفاء الحقيقة عن كريم ما كنا سنصل إلى كل ذلك الالم.
– أسامحك على ماذا؟ على إهدائي أيامًا من النعيم، بل سأشكرك لأنك وازنت سواد حياتي ببهجة أيام زواجي، والآن أنا سأبدأ من جديد.
– جميعنا سنبدأ من جديد، وإن كان كريم قد اكتشف الأمر لكني لا أظنه يرغب في إعلانه في السجن، لذلك حرصت على سرية زيارتنا له.
أغلقت الخط بآلية، تحركت كأنها تمثال خشبي وليست من لحم ودم، لا تعلم ماذا ارتدت أو كيف ارتدته، في النهاية غادرت غرفتها في خطوات ثقيلة مترددة، ولم تسمع ريم وهي تنادي عليها.
لا يمكن أن تسمح لسائق سعد أن يعرف وجهتها، قد يستغل أي معلومة لإيذائه في سوق الأعمال، لا بدَّ وأن تحمي سعدًا كما حماها دائمًا، إن كانت حياتها ستدمر إذن فيكفي تدميرها فقط، أشقاؤها بحاجة لها الآن.
صرفت السائق مجددًا وأدارت السيارة واستعانت بنظام الملاحة الدولي “الجي بي إس” للاستدلال على وجهتها، (سجن طرة) مكان تواجد
حبيبها كريم وأيضًا ماضيها القذر فرج.
طوال الطريق كانت تتساءل عن احتمالية لقائها بكريم، تخيلت وجهه إذا ما رآها صدفة، هي لا تدري كم سمع من حديثها مع ريم ذلك اليوم، لكنه بات يعلم أن وراءها سرًّا مشينًا يلوثها حتى النخاع، اليوم ستتأكد من معرفته وهو سيفهم ويجمع الأحجية ليخرج بالحل، الجي بي اس يشير إلى اقتراب السجن، قلبها بدأ يخفق بعنف، مواجهتان مؤلمتان في انتظارها، انتفضت بعنفٍ عندما رن هاتفها :
– أين مكانك الآن؟
كان المتحدث سالمًا، نظرت حولها للاستدلال عن مكان تواجدها ثم أخبرته عن المكان الذي وصلت إليه.
– حسنًا، انتظريني حيث أنتِ، سآتي لأصطحبكِ، لا تقتربي بمفردك أكثر من هذا الحد.
سالم شقيقها قوي كسعد يعتمد عليه ولكنه حاليًا مهزوز، وكأنه يرتعش مثلها، الموقف الحالي يشيب أعتى الرجال وأشدهم ضراوة .
تولي عنها ركن سيارتها واصطحبها المسافة المتبقية في سيارته،
ما إن ركبت إلى جواره حتى بدأ في الكلام بحزن:
– بالأمس علم سعد أنه في المشفى وحالته خطيرة جدًّا ويتمنى رؤيتنا، وبعلاقاته القوية تمكن من الحصول على إذن فوري بالزيارة لنا جميعًا، هل تدرين؟ أنا أخجل من رؤيته فأنا السبب المباشر في سجنه بإلحاحي عليكِ يومها، لذلك سأخبره أنني السبب وأنني أجبرتكِ على الشهادة ضده، ليلى بكت بقهر.
– لماذا حدث كل هذا يا سالم؟ لماذا وجب علينا الاختيار بين سجنه أو التفريط في حق أمي المسكينة؟؟ لو كان سعد معنا يومها كيف كان سيتصرف؟
– هوني عليك يا ليلى، أنتِ كنتِ طفلة في السادسة عشرة ويكفيكِ همًّا أنك الوحيدة التي شاهدت ما حدث وعاشته وتعاني من كوابيسه إلى اليوم .. جميعنا ظلمناكِ يا ليلى، أنتِ ظُلمتِ منه ومني ومن سعد وحتى من حسن، عندما تخلينا عنكِ وتركناكِ له كنا نقتلك جسديًّا ومعنويًّا، وحينما أجبرتكِ على الشهادة كنت أنتقم منه من خلالك، وحينما اعتمدنا السلبية ولم نخبر كريم عن ماضينا تركناكِ مجددًا في وجه المدفع، أنت حملتِ كل خطايانا بمفردك.
كريم!! هل كان سيمرر الأمر بطريقةٍ عادية عندما تخبره: “بالطبع كريم أوافق على الزواج منك، لكن والدي المحترم نزيل طرة، لأنه قتل والدتي أمام عيوني وأنا سجنته بنفسي وأنت ستتقبل الأمر أليس كذلك؟”، أجبرت نفسها على سؤاله بتوتر:
– سالم، هل رأيتم كريم هناك؟
– لا يا ليلى، سعد كان حريصًا جدًّا وزيارتنا سرية تمامًا.
أنتِ تعرفين نفوذ سعد وهو أراد أن يضمن سرية زيارتنا بالكامل، أيضًا كريم يعمل في السجن فما الذي سوف يحضره إلى المستشفى اليوم؟؟ لا يمكن للصدف أن تكون بتلك البشاعة، تشجعي لقد وصلنا.
عند البوابة اجتازا الإجراءات الأمنية بسهولة بواسطة تصريح سعد الخاص المميز، حاولت إخفاء ملامحها على قدر الإمكان، ارتدت نظارات شمسية ضخمة ابتلعت معظم وجهها ولفت حجابها بطريقة أخفت بها الباقي من ملامح وجهها الجميل، فهم في النهاية كما قال سعد لا يريدون إحراج كريم في مكان عمله إذا ما عرفت هويتهم وكشف سبب زيارتهم.
إن كان قد عرف بالفعل كل شيء عن حياتها فذلك ليس مبررًا لها لفضحه في العلن، تمسكت بسالم بقوة، ارتعاش ساقيها وصل لدرجة غير محتملة، غثيان ودوار شعرت بهما لدرجة أنها شعرت بمعدتها سوف تقفز بقوة من فمها المغلق، طرقات المشفى المُتهالكة ورائحتها السيئة سببت لها الذعر، رائحة الموت كانت في كل مكان، حتى العاملون كانوا كآلات بلا شعور.
أحد الحراس أوصلهما إلى غرفة مميزة كان ينتظر فيها سعد وحسن بوصولهما تكلم طبيب برتبة نقيب كان برفقة سعد.
– سأكرر مجددًا ما أخبرت سعد بك به منذ قليل، السجين حالته خطيرة جدًّا وأيامه أصبحت معدودة، الخمور التي كان يشربها وخصوصًا المغشوشة والنوعية الردئية منها سببت له سرطانًا في الكبد في مراحله المتأخرة، حاليًّا هو تقريبًا في غيبوبة لكن أحيانًا يفيق ويسأل عنكم، التفت الطبيب إلى سعد:
– سأقودكم إليه والزيارة ستكون في سرية تامة وهويتك لم يعلم بها أحد غيري كما أمرنا سيادة الوزير ..
سعد طمأنهم جميعًا بنظرة صامتة، أيديهم تشابكت معًا، ساروا خلف الطبيب إلى عنبرٍ كبير، في أحد أركانه يوجد سرير معزول عليه كتلة من العظام الهشة، هيكل عظمي مكوم في منتصف السرير، شهقة جماعية مفاجأة أليمة هزتهم، أين ذلك الهيكل من فرج القوي المخيف المرعب؟
بدون اتفاق تبادلوا نظرات تأنيب الضمير، مهما كان قد فعل في حياته فهو مازال والدهم، وأيضًا يكفيهم أنه أخذ عقابه من حريته ومن صحته. أربع سنوات أبدلته من فتوة إلى كائن هزيل مرتعش، لماذا لم يطلبهم قبل ذلك عسى طلبه لهم كان ليحنن قلوبهم عليه.
كانت الأولى، والبادئة في البكاء، همسات غير مسموعة حاولت أن تغادر فمها:
-أبي، أبي.
تلاها حسن في البكاء، أما سالم وسعد فقاوما البكاء لآخر لحظة .
والطبيب هو من أيقظ فرج بلطف قبل أن يغادرهم فلم يتجرأ أحدهم على أخذ تلك الخطوة بنفسه:
– فرج، فرج هل تسمعني، لقد حضر أبناؤك لزيارتك كما طلبت.
العينان المغلقتان فُتحتا فجأة، وكأنه استعاد قوته، حاول الجلوس بصعوبة، ليلى وحسن أخيرًا تجرءا وحاولا المساعدة ولكنهما لم يستطيعا إجبار ساقيهما على الحركة، سعد وسالم كانا كالمعتاد القادرين على التحرك والتنفيذ أجلساه بلطفٍ ووضعا بعض الوسائد خلف ظهره.
لحظاته معهم معدودة ..حاول أن يحتوي أربعتهم بنظرة واحدة وكأنه يملأ ذاكراته بصورتهم الجديدة، أربع سنوات من المؤكد أنها غيرت الكثير فيهم وست سنوات منذ آخر مرة رأى فيها سعدًا، محاولاته كانت مجهدة نظرًا لحالته الصحية المتردية، سعد وسالم كانا الأقرب إليه فقد استقرا بجانب رأسه ولم يتحركا بعد أن عدلا وضعه، ليلى وحسن كانا الأبعد عنه فقدميهما ما زالت ملتصقةً بالأرضية، مد يداه في اتجاه ليلى وحسن، دعوته إليهما بالاقتراب كان لها صدى ملحوظ لديهما، بدون تردد استجابا على الفور وتمسكا بيديه المرتعشتين، ملمس يديه بعد سنوات أشعل الحنين بداخلهما.
أغلق عينيه الدامعتين مجددًا وسمح لدموعه بالنزول على وجهه المتعب، أخيرًا تمكن من النطق، قال بألم:
– الحمد لله الآن أستطيع الموت وأنا سعيد، كيف بغبائي حرمت نفسي من أبناء مثلكم؟
كلماته دفعتهم جميعًا للبكاء حتى سعد وسالم أخيرًا أطلقا العنان لمشاعرهما نوبة البكاء استمرت لدقائق عديدة، قطعها بقوله:
– غادورا الآن، لا يجب أن يعلم أحد أنني والدكم، أكملوا حياتكم في النور أنا سأموت قريبًا والنقطة السوداء في حياتكم ستمحى إلى الأبد.
كلامه زادهم في البكاء، فرج الحالي مختلف تمامًا عن فرج السابق، الذنب وتأنيب الضمير قتلوهم، شهقاتهم لم تغطِ على صوته وهو يقول بندم واضح:
– لسنواتٍ وأنا أروض حنيني إليكم من أجل مصلحتكم، أصبر على عدم رؤيتكم كي لا ألوثكم مجددًا والآن بضعفي دمرت مجهود سنوات، سامحوني، ليتني لم أضعف وأطلبكم، لكني أردت أن ألمسكم مرة أخيرة قبل أن أموت، روحي كانت معلقةً برؤيتكم، خشيت أن أموت قبل أن أطلب منكم أن تغفروا لي.
بدون اتفاق مسبق أجاب أربعتهم في نفس واحد:
– نحن نسامحك يا أبي.
سعد الوحيد الذي استطاع ترتيب الكلام:
– أنت من يجب عليه مسامحتنا لإهمالنا لك طيلة السنوات السابقة.
في حركة حنونة مفاجئة, أمسك بكفه وقبلها، وغطاها بدموعه:
– أنت بالخصوص يا سعد أتمنى أن تسامحني، ليت يدي كانت قطعت قبل أن أطعنك، وأنتِ يا ليلى سامحيني حبيبتي، سامحيني لأنني جعلتك تشاهدين أبشع منظر في حياتك.
سامحوني جميعًا فأنا لم أكن يومًا أبًا لأي منكم ولا أستحق تلك الدموع التي أراها في عيونكم الآن.
بحركة ضعيفة مد يد سعد في اتجاه إخوته وقال بندم:
– هذا والدكم الحقيقي.
خارت قواها وانهارت في البكاء:
– أبي؟ وألقت بنفسها عليه.
ضمها بضعف ومسح دموعها:
– أريد أن أموت لأجلك خصيصًا يا ليلى.
ردت بعدم فهم:
– تموت لأجلي، لماذا تقول ذلك؟
– نعم يا ليلى لأجلك، حتى لا يشعر حضرة الضابط كريم بالعار لأن حماه سجين لديه، أربعتهم نطقوا الجملة نفسها في الوقت نفسه:
– هل تعلم عن كريم؟
أمسك برأسه وكأنه يقاوم الغيبوبة مجددًا:
– أنا أعلم كل شيء عنكم.
نظرات التساؤل في عيونهم دفعته للإجابة:
– أستطيع إخباركم لكن الأفضل أن ترحلوا، ارحلوا الآن، لا يجب أن يراكم كريم هنا، أنا أعلم أنه لا يعلم عني أي شيء، لقد طلبتكم لأني أعلم أنه يكون مشغولًا حتى العصر في العنابر الداخلية ولا يأتي إلى المشفى أبدًا، كريم ضابط جيد ونظيف يا ليلى، يهتم فعلًا بالمساجين ويحاول حمايتهم من أي معاملة غير آدمية قد يواجهونها هنا، استطاع فعل أشياء لم يستطع غيرهُ فعلها إنه قوي وشهم على الرغم من أيام عمله المعدودة هنا إلا أنه أثبت أنه نظيف اليد، كبير القلب, هل تعلمين أنه كان يأتي لزيارتي هنا؟
لأول مرة في حياتهم يستمعون إليه وهو يتحدث بكلام يفهم، على الرغم من غيبوبته ومرضه إلا أن حديثه الآن موزون، بخلاف الماضي عندما كان يكون دائمًا ثملًا أو عصبيًا، عندما لم يتحرك أحدهم اضطر للحديث:
– سأخبركم باختصار لكن بشرط أن تعدوني بالمغادرة فور انتهائي ولا تعودوا إلى هنا أبدًا.
لا أحد منهم يستطيعُ إعطاء ذلك الوعد، سعد الوحيد الذي تكلم:
– أخبرنا إذًا ونعدك ألا نعود إلى هنا مطلقًا. 





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى