رواية عاشق قهر النساء الفصل السابع 7 بقلم صباح عبدالله فتحي – تحميل الرواية pdf

مرّت لحظات، أو ربما ساعات، لا تدري كم من الوقت انقضى… فقط استيقظت على وجعٍ خفيفٍ في رأسها. تململت بتعب وهي تفتح عينيها بحذر، ويدها تتحسّس جبينها من شدّة الألم.
ملامحها كانت شاحبة، وعيناها ذابلتان، تشهدان على ما مرّت به من متاعب وأوجاعٍ لم يكن وجعها خارجيًّا فحسب، بل كان داخليًّا يثقل صدرها بما يفوق طاقتها واحتمالها.
رفعت جسدها بتثاقل، وما إن نزعت الغطاء حتى عقدت حاجبيها بدهشةٍ وهي تتأمّل القماش الفاخر والسرير الفخم الذي ترقد فوقه. التفتت ببطء تتفحّص الغرفة بعينيها المتعبتين… كلُّ شيءٍ فيها يوحي بالثراء والحياة الكريمة — الأثاث، الألوان، رائحة العطور الفاخرة التي تعبق في الأجواء.تمتمت بصوتٍ خافتٍ بالكاد يُسمَع:
أنا فين؟ وإيه اللي حصل؟ أنا مش…
توقفت فجأة، وذاكرتها بدأت تستعيد ببطء ما حدث — صورة تلك المرأة الغامضة التي رأتها قبل أن تفقد وعيها، صوتها الهادئ المليء بالغموض وهي تذكر اسم نيلي.
شعرت شوق بأنفاسها تتسارع، وقلبها يخفق بقوة، وكأن أملًا صغيرًا اشتعل داخلها من جديد… أختها! هل يمكن أن تكون تلك المرأة تعرف مكانها فعلًا؟
لكن قبل أن تسمح لنفسها بمزيدٍ من التفكير، انفتح الباب بهدوء، ودخلت كوثر تتبعها خادمة تدفع عربة صغيرة تحمل وجبة إفطار فاخرة. كانت كوثر تمشي بخطوات واثقة، تعلو وجهها ابتسامة باهتة فيها شيء من الغرور، وعيناها الخضراوان تتفحصان شوق من رأسها حتى قدميها. قالت بسخرية ناعمة وهي تتأمل ملامحها بشيء من الغموض:
اللي يشوفك كده يقول ما نمتيش من شهر.
رفعت شوق نظرها إليها، تحدّق فيها بعيون متعبة لكنها حذرة، قبل أن ترد بصوت خافت لكنه يحمل شيئًا من القلق:
إنتي مين؟ وعاوزة إيه مني؟
اقتربت كوثر وجلست على طرف السرير، مدت يدها تلامس شعر شوق برفقٍ متعمد وهي تقول بنبرة غامضة، عيناها لا تفارقان وجهها:
أنا مين… هتعرفي قريب جدًا. أما أنا عايزة إيه… فده اللي جايه أقولك عليه.
تجمّدت ملامح شوق لوهلة، وانقبض قلبها وهي تتابع نظرات كوثر التي لم تكن عادية… كانت نظراتها توحي بشيءٍ غامض، وبلا شك، شوق هي الفريسة القادمة أو الضحية المنتظرة. لكن ما لم تكن تعلمه شوق… أن اللعبة بدأت بالفعل، وأنها على وشك الدخول في جحيم مكتوب علي بابه (عشق)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
بينما كان عشق في مكتبه منتظر ذلك الأحمق زين، الذي لم يعد طول الليل، ولو كان بيده حيلة لكان قتله وتخلص من أحمقٍ مثله. لكن رغم غبائه الظاهر، إلا أنه حادّ الذكاء، وخاض معه الكثير من المعارك التي بفضله خرج منها منتصرًا.
لكن الشيء الذي لا يفهمه عشق، أنه في هذه المعركة يخوض صراعًا بينه وبين قلبه الذي سيستيقظ من سباته على اسم (شوق)، التي ما زال مصيره المرتبط بها مجهولًا.
كان جالسًا على مقعده، مرفق ذراعيه مسندًا على حافة الكرسي، أنامله متشابكة معًا يحركهم بين الحين والأخر بحركة موترة توحي بالملل. عيناه معلقتان بشرود على الباب أمامه، تبعث نظراته الحادة غموضًا قاتمًا. استفاق من شروده على صوت طرقات خفيفة على باب المكتب، بهدوءٍ وحذرٍ شديد. هتف ببرود قائلًا:
– ادخل.
انفتح الباب، ودلف زين الذي حمحم قبل أن يقول بنبرةٍ متوترة:
– أحم أحم… صباح الخير يا فندم.
لم يكلف عشق نفسه عناء الرد على التحية، واختصر الوقت قائلًا بنبرة لا تحتمل النقاش:
– وصلت للي طلبته منك؟
ارتبك زين من هدوئه المقلق أكثر من غضبه، وتقدّم بخطوات ثابتة وهو يُخرج من جيبه بعض الأوراق والصور، قائلًا بنبرة هادئة وجدية وثبات:
– نعم يا فندم… وشكّك كان في محلّه، فعلًا “كوثر هانم” ليها يد في اختفاء “شوق” المفاجئ، وده العنوان، وصور الرجالة اللي كانوا ورا اللي حصل.
صمت عشق يراقب ملامحه التي ظلت كما هي، لم يُظهر أيّ ردّة فعل، كأنه كان يعرف ما حدث قبل حدوثه. وحتى إنه لم ينظر إلى الصور التي أمامه. فقط كان ينظر إلى باب الغرفة، كأنه ينتظر قدوم شخصٍ آخر. بينما تابع زين بحذرٍ أكبر من قبل:
– بس… اللي أنا مش قادر أفهمه، إيه علاقة المدام كوثر بـ شوق؟
أجابه ببرودٍ قاتل، وهو يبتسم بسخرية:
– مفكّرة إنها كده بتلوّي إيدي… بس اللي مش عارفة، إنها بتحفر قبرها بإيديها.
صمت زين يتأمّله للحظة وهو يفكّر في كلماته، قبل أن يقول:
– ممكن تكون بتعمل كل ده علشان تعرف مكانه… مش اكتر؟
أجاب عشق بهدوء:
– بالظبط كده. المهم، عايزك عينك ما تتشلش من علي “شوق” وتستنى… نشوف الهانم ناوية على إيه.
نظر له زين باستغراب، وحاول أن يفكّ شفرته، لكن كالعَادة لم ينجح في ذلك. تنهد بهدوء وظل صامتًا منتظرًا، ليعرف ما سيحدث قريبًا… لكن ما لا يعرفانه أن القادم سيقلب موازين كل ما كان خططًا له.
وكما كان متوقع عشق، انفتح الباب للمرة الثانية، ظل جالسًا كما هو يراقب خطواتها الثابتة بنظرات حادة مبتسمًا بسخرية. التفت زين متعجبًا، لكن عندما رآها تنحى جانبًا وخفض رأسه باحترام شديد، بينما عشق قال باستهزاءٍ واضح في صوته:
كالعادة ما خيبتيش ظني يا عمّتي العزيزة.
نظرت له كوثر بحدة لكنها ابتسمت تبادله الاستهزاء قائلة بنفس نبرته:
وكالعادة يا روحي دايمًا سابقني بخطوة.
صمتت للحظة تتأمل ملامحه، ملامح تكرهها أكثر مما تكره نفسها. كيف لا؟ وهو السبب في موت زوجها، وحرمانها من ابنها الوحيد. ورغم أنها عمته الوحيدة، إلا أن العداوة بينهما لا نهاية لها… معركة شرسة مفتوحة الأبواب، لا يُتوقّع أن تُغلق إلا بدماء ضحية جديدة…
ضحية قد تكون شوق. قالت كوثر بنبرةٍ حادة مملوءة بالمكر:
اللي بدوّر عليه معايا.. واللي أنا عاوزه معاك. خلينا متفقين تسلّم وتستلم يا روح عمتك.
تبسّم ساخرًا منها، بينما زين كان يقف تائهًا بين أكثر اثنين يرتعب من سماع أسمائهما، هتف عشق ببرود قائلاً:
وانتي مفكرة مش قادر أوصل للي معاكي؟ بس أحب أطمنك، شوق في الحفظ والصون، ما تشيليش همها.
التفت له زين مندهشًا لا يفهم ما يجري، بينما هي عقدت حاجبيها مستغربة هي الأخرى، قطع الصمت صوت رنين هاتف عشق، رفعه من على سطح المكتب وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وفتح مكبر الصوت لتستمع كوثر إلى صوت نيل عبر الهاتف قائلًا:
كله تمام يا عشق، شوق معايا دلوقتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت شوق جالسة على الأريكة، تميل برأسها على صدر نيلي التي كانت تجلس بجانبها، تضمّها بكل حب وحنان ولهفةٍ لا تشبه إلا حنين الأم لطفلها بعد غيابٍ طويل.
كانت دموع نيلي تنهمر بهدوء على خديها، تتساقط كأنها تفرغ وجع السنين في صمتٍ موجع، بينما شوق شاردة، نظراتها زائغة في الفراغ، كأنها تسبح في عالمٍ آخر مظلم، تبحث في أعماقها عن جزءٍ ضائع منها تاه وسط ظلامٍ كثيف يحاصرها. في ذهنها، كانت تتردد كلمات كوثر، تعيدها لحوارٍ غيّر مجرى كل شيء.
(ذكريات شوق / قبل ساعة)
كانت شوق تنظر إلى كوثر بدهشةٍ يملؤها الفضول، تتساءل بعينيها قبل لسانها: ماذا تريد منها تلك المرأة الغامضة؟ لكن ما إن بدأت كوثر بالكلام، حتى تسللت الدهشة إلى ملامح شوق أكثر فأكثر، بينما صوت كوثر خرج هادئًا لكنه يحمل سمًّا خفيًا في كلماته:
“بس أول حاجة عاوزِك تفهميها… إن لين لسه عايشة، ولحد ما تعملي اللي بقولك عليه، هتفضل معايا.”
تسارعت أنفاس شوق، وتبدلت ملامحها من الذهول إلى فرحةٍ غامرة اجتاحت قلبها، لم تصدق أذنيها… لين! قرة عينيها ما زالت على قيد الحياة؟ لم تمت كما أخبروها؟!
لكن الفرحة لم تدم طويلًا… إذ تابعت كوثر ببرودٍ جعل الدم يتجمد في عروقها:
“وتاني حاجة يا روحي، لازم تعرفي… مافيش علاقة بتربطك بـ نيلي ولين غير إنكم اتربيتوا مع بعض في بيت واحد… مش أكتر.”
انعقد حاجبها باستفهامٍ متوتر وهي تهمس بصوتٍ بالكاد يُسمع:
“إيه الكلام اللي حضرتك بتقوليه؟ إزاي مافيش علاقة بيني وبينهم؟ دول أخواتي!”
ابتسمت كوثر بخبثٍ، ونطقت بهدوءٍ مريب:
“لأ يا روحي… هم مش إخواتِك، ولا إنتِ أختهم. هاحكيلك الحكاية من البداية علشان تفهمي.”
جلست شوق صامتة، ملامحها شاحبه في حاله من الذهول، وعقلها يرفض تصديق ما تسمعه. تابعت كوثر بنبرةٍ أكثر هدوء مفعمه بالخبث الذي لم تستوعبه شوق:
“اليوم اللي اتولدتي فيه، كان نفس اليوم اللي نور — الله يرحمها — ولدت فيه. بس حصل حادث مرعب في المستشفى اليوم ده، بسبب انفجار غاز قتل نص اللي كان في المستشفي اليوم ده. ومن حُسن حظك، إنك كنتِ الطفلة الوحيدة اللي طلعت عايشة. نور ما صدقتش إن مولودها مات، وتمسكت فيكي. وبما إنك كنتِ مجهولة الهوية، الحكومة لما شافوا إصرارها إنك بنتها… كتبوكي علي أسمها هي وجوزها.”
تجمّدت ملامح شوق، وانهالت دموعها بصمتٍ وهي تهتف بنبرةٍ متوترة يختلط فيها الحزن بالذهول:
“طيب… أنا بنت مين؟ فين أهلي؟ ليه محدش دور عليا؟”
صمتت كوثر لوهلة، تتأملها بعينيها الخضراوين المليئتين بالخبث، قبل أن تقول ببطءٍ محسوب:
“أهلك الحقيقيين اتقتلوا بنفس الطريقة اللي اتقتلت بيها نور وسامح اللي ربّوكي بكل حب. وأنا متأكدة إنك بتحبيهم ومش هتسامحي للي حرمِك منهم. حتى نيلي ولين حياتهم في خطر… لأن اللي قتل أهلك لسه بيدوّر عليهم علشان يخلّص عليهم.”
اتسعت عينا شوق بذهولٍ حاد، اقتربت منها كوثر بخطواتٍ بطيئة، وهمست قرب أذنها بنبرةٍ منخفضة:
“عارفة مين اللي قتل أهلك الحقيقيين؟
أبو المجرم اللي قتل أهلك المزيفين… عشق.”
(العودة إلى الحاضر)
استفاقت شوق من شرودها على وقع خطواتٍ ثابتةٍ تقترب منها، خطوات تحمل في طياتها صدى القوة والسيطرة. رفعت عينيها ببطء نحو مصدر الصوت، تجمّدت ملامحها وهي تراه يتقدّم بهيبته المهيبة، تلك التي تبعث الخوف في النفوس حتى من دون أن ينطق حرفًا. كان يسير بخطواتٍ واثقة، يديه في جيبي بنطاله الأسود، قميصه الأبيض الأنيق يلتصق بعضلاته المشدودة، يزيد من حضوره الغامض وكأن كل تفصيلة فيه صنعت لتفرض قوته.
كانت ملامحه هادئة… خامدة، لكنها ليست سكينةً حقيقية، بل هدوء قاتل يسبق عاصفة مدمرة، كبركانٍ خافت يخبّئ في أعماقه نيرانًا تنتظر لحظة الانفجار الكبرى. عينيه، بلون الليل حين يشتد ظلامه، كانت تثبتان عليها بنظراتٍ تحمل بين طياتها كل ما بين الغضب والرغبة والشكّ والوجع، نظرات رجلٍ لا يُظهر ما في قلبه لكنه على وشك أن يدمّر كل من يقف في طريقه.
يتبع
ياترى اللي سلوى حكته حقيقه ولا لسه صفحة من الماضي مقطوعه…وشوق هتقع في الفخ ولا هتلحق نفسها؟

