Uncategorized

رواية موعدنا في زمن آخر الفصل الثامن 8 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf


|8-لكل محتال حكاية مؤلمة|

وما إن غادر غرفتها، حتى استفاقت غزل من نومها، وقفزت من السرير تنتظر أن يدخل غرفته. وما إن سمعت صوت الباب يُغلق خلفه، حتى تسلّلت بهدوء خارج غرفتها، وقد أخذت هاتفها معها. عندها اتّخذت قرارها: ستهرب. نعم، ستفرّ بجلدها… فاليوم أو غدًا، سينكشف أمرها لا محالة. المهمة قد فشلت، ولا جدوى من الانتظار. فلتنجُ بنفسها الآن قبل فوات الأوان.

نزلت غزل درجات السُّلم في هدوءٍ بالغ، وفتحت باب المنزل على مهل، ثم خرجت منه وأغلقته خلفها دون أن تُحدِث جلبة. وما إن أوصدت الباب، حتى انفتح باب غرفة حمزة على عَجَل، واندفع منها مُهرولًا نحو غرفتها. وحين لم يجد لها أثرًا، هبط الدَّرج بخطًى مسرعة، يطوي السُّلم طيًّا، حتى أبصرها تحاول فتح الباب الحديدي الخارجي.

فانطلق نحوها كالريح العاصفة.

وكانت قد تجاوزت العتبة حين التقت عيناهما. فارتجفت، واتسعت عيناها ذعرًا، ثم ولّت هاربة تعدو، وهو في إثرها لا يلين.

ركضت مسافة طويلة، تتعثر بأنفاسها، ثم التفتت خلفها فرأته لا يزال يطاردها، فتمتمت في سرّها بصوت مرتجف:

ظلّت تعدو كمن يفرّ من قدرٍ محتوم، فيما كان هو يُلاحقها حتى تقطّعت أنفاسه، وتثاقل جسده من الإعياء. فكّر، في لحظة يأس، أن يستقلّ وسيلة مواصلات تُقرّبه منها، لكنّه سرعان ما اصطدم بواقع الوقت… كانت الساعة الرابعة فجرًا، والطرقات خاوية إلا من سكونٍ ثقيلٍ وريحٍ باردة تعبث بالغبار.

وبينما هو حائرٌ لا يدري ما يفعل، أبصر فتىً يركن درّاجته الهوائية أمام بيته، فاندفع نحوه كالسهم، وانتزع الدراجة من بين يديه بعنف، وركبها على عجل.

فصاح الفتى، وكان في نحو الثامنة عشرة من عمره، مستشيطًا:

“انت يلاا… رايح فين بعجلتي.. سيب العجلة…. خد هنا يا****. ”

صاح حمزة بعد أن اعتلى الدراجة مسرعًا:

“هرجعهالك، أُقسم لك!… أنا آسف، أنا آسف!”

ثم انطلق بها في إثر غزل، يطوي الطريق طيًّا كمن يركض فوق اللهب. رأى طيفها عند نهاية الشارع، فزاد في سرعة التبديل حتى كاد لا يشعر بقدميه؛ قد خدرهما من فرط الجهد، وتسلّل إليهما تنميلٌ حاد، غير أنّ عزيمته لم تهن، ولا رغبته في اللحاق بها خبت.

دنا منها شيئًا فشيئًا، حتى صارت قاب قوسين أو أدنى. التفتت غزل خلفها، وما إن أبصرت وجهه يقترب، حتى اتّسعت عيناها وصرخت ملء رئتيها:

“والله ما أخدت حاجة… والله ما أخدت حاجة…. يالهواااي…”

وفجأة، أحسّت غزل بيدٍ تشتبك بخصلات شعرها وتشدّها بعنف إلى الوراء، فصرخت صرخةً مدوّية مزّقت سكون الفجر. في تلك اللحظة، اختلّ توازن حمزة على الدراجة، فانقلب عنها إلى الخلف، وارتفعت الدراجة في الهواء قبل أن تهوي بقوة وتصطدم مقدمة الدراجة برأس غزل.

صرخت مجددًا من شدة الألم، إذ انشجّت جبهتها، واندفعت الدماء على جبينها، فيما لا يزال حمزة ممسكًا بشعرها، عينيه مغمضتان، وقد وضع ذراعه على وجهه اتّقاءً لضربة العجلة.

استقرّت الدراجة أخيرًا على الأرض، وفتحت غزل عينيها وهي تبكي بانهيار، بين ألم الجرح وصدمة المطاردة. أنزل حمزة ذراعه عن وجهه، وفتح عينيه ببطء، لينظر إليها، ثم قال بصوتٍ مرتجف:

وما إن لمح حمزة الدماء تنساب على جبهة غزل، واتّضح له موضع الجرح، حتى اتسعت عيناه ذهولًا، وصاح بفزع:

“دي اتفتحت… يلا بينا علبيت يا سمر لازملها خياطة.”

وفجأة، فتحت غزل عينيها وقد اشتعل فيهما الغضب، وبدأت تدفعه عن صدرها بذراعها وتضربه بكوعها في هيجانٍ لا تُخطئه العين، وهي تصرخ بمرارة:

“يعني أنا بجري كل ده ونفسي اتقطع وفي الآخر تقول سمر؟! عيني كانت هتروح مني وفي الآخر تقولي سمر!… سمررر!!… مش قادر تنادي على ميتيني من الأول…. الله يهدّك يا شيخ. “

أمسك حمزة بذراعيها بكلتي يديه وثبّتهما بقوة، وهتف بانفعال:

“انتِ اللي صحيتي وجريتي زي الهبلة الساعة اربعة الفجر… ايه اللي خرجك من البيت.”

وفجأة، باغتته غزل بضربة برأسها على رأسه، فاضطرّ إلى إفلات يديها وهو يتأوّه متوجعًا، قابضًا على موضع الضربة.

نهضت غزل متثاقلة، تضع يدها على جبهتها التي أخذت تنزف بغزارة، فيما هو يحدّق بها بعينين تقدحان شررًا، ثم قال بحدة:

“ده أنتِ طلعتي غبية بقى….”

فصرخت غزل، وقد علا صوتها بالغضب والدموع:

“أنت مين أصلا؟؟؟ وازاي تكلمني كده… أنا عاوزة أرجع لجوزي وأنت واقف في طريقي… سيبني بقى أمشي…”

ثم استدارت محاولة الانصراف، لكنه أمسَكَ بطرف ثيابها وشدّها إليه قائلًا بنبرة قاطعة:

“لا… هترجعي معايا يا سمر… إذا كنتِ شايفاني خالد أو لا هترجعي معايا.. فاهمة؟؟ ”

رفعت غزل قدمها إلى أعلى محاولةً أن تركله في وجهه، لكنه تراجع في اللحظة المناسبة، ثم أمسك بقدمها وثناها بقوة، فانقلب جسدها وسقطت أرضًا، مستديرةً حتى صار ظهرها إليه. انحنى حمزة فوقها، واقترب من أذنها وهمس بصوت خافتٍ يقطر تمسكًا:

“أنا خالد جوزك يا حبيبتي…. يلا عشان نروح.”

لكن غزل انفجرت في بكاءٍ أشد، وكانت تبكي بحقّ، لا افتعالًا ولا حيلة، تريد حقا أن تنجُ منه ولا تريد العودة معه.. ثم قالت من بين شهقاتها:

“لا أنا مش عايزة أروح معاك… سيبني أروح لجوزي…”

توقف حمزة للحظة، وقد خفّ غضبه، وداخله التردّد، وتساءل في نفسه: ما العمل؟ كيف يتصرّف مع هذا الانهيار؟ وبينما هو غارق في صراعاته، كانت غزل قد رفعت ذراعيها وأحاطت وجهه، ثم ضغطت بأصابعها على عينيه بقوةٍ مباغتة، فتأوه حمزة وتأرجح جسده.

وما إن أفلتت منه، حتى نهضت مسرعة تفرّ، لكنّ طرف فستانها كان قد تعلّق بجنزير الدراجة. صارت خطواتها ثقيلة، فعادت أدراجها تحاول أن تحرر الفستان، وهي تلمح حمزة وهو لا يزال يحاول فتح عينيه.

وحين فتحهما أخيرًا، نهض كالثور الجريح، وهتف بصوتٍ زلزل المكان:

“حاضر… ماشي… هوريكِ الغباء بيبقى إزاي.”

ابتلعت غزل ريقها بخوف، وهي تراه ينهض واقفًا في لحظةٍ واحدة، كمن ينهض من غفوة ليدخل معركة. قام بجسده القوي، وهي تحاول التراجع خطوة إلى الوراء، تبحث في ملامحه عن ذرة رحمة، وهمست تستعطفه بصوت متهدّج:

“رجعني لجوزي خالد.”

ابتسم وقال: “من عيوني.”

ثم اقترب منها، وبكل عنفٍ غير متوقّع، نطحها بجبهته، ضاربًا رأسها برأسه. ارتدّت غزل إلى الوراء من شدّة الضربة، تتمايل، وهي تهمس في ذهولٍ بين الألم والذهول:

“والله لاوريك يا حم….”

لكن الكلمات انقطعت، إذ انهارت فجأة بين ذراعيه، فاقدةً الوعي، وسقطت في حضنه دون حراك.

أمسكها من خصرها كي لا تسقط أرضًا، وأسند جسدها إليه. أغمض عينيه بإنهاكٍ شديد، ورفع رأسه إلى السماء وكأنه يستجدي شيئًا لا يُقال. ثم نظر إليها، إلى وجهها المرهق، وإلى الجرح النازف في جبهتها، فعاد الألم يخترق صدره.

نظر إلى فستانها، وتردّد، تألّم قلبه حين فكّر في تمزيقه ليربط جرحها، ثم ما لبث أن جثا أرضًا وهي ما تزال في حضنه، ومزّق قطعة من قميصه – قطعة متوسطة العرض من عند الياقة – ولفّها برفق حول رأسها، محاولًا إيقاف النزف.

ثم حملها فوق كتفه ليضعها على الدراجة، لكنه ما إن حاول ركوبها حتى أدرك أنه لن يستطيع السيطرة عليها دون أن يسقط بها. فعدَل عن الفكرة، وسار بها على قدميه، يشقّ عتمة الفجر نحو المنزل.

كانت المسافة طويلةً جدًا ليقطعها سيرًا على قدميه، فكان يسير حاملًا إياها حينًا، ثم يتوقف قليلًا ليريح ساقيه المنهكتين، ثم يعاود المشي مجددًا، يجرّ خلفه دراجة الفتى التي أصرّ على إعادتها إليه.

وحين بلغ عتبة منزله، كان الفتى في انتظاره، يستقبله بوابلٍ من الشتائم والسباب، غير أنّ حمزة لم ينبس ببنت شفة، فقد أنهكه التعب وأثقل عليه الصمت، وكل ما قاله بصوت مبحوح:

ثم دفع إليه بالدراجة، ومضى دون أن يلتفت، محاولًا أن يواصل الطريق.

لكنّه شعر فجأة بقطرات ماء تتساقط على رأسه، فأغمض عينيه ببطء، كمن يعلم ما هو آتٍ دون حاجةٍ للرؤية… وما هي إلا لحظات، حتى انهمرت السماء عليه مطرًا شديدًا.

أسرع بارتباك، ونزع سترته على عجل، ليضعها فوق وجه غزل ويحجب عنها الماء. ثم ضمّها إلى صدره مجددًا، وحملها بذراعيه، فاستند رأسها إلى صدره، ولامست أنفاسها عنقه، فتسارعت دقّات قلبه، وخفق صدره بعنف.

شدّ سترته على وجهها يحميها، في حين أبقى عينيه نصف مفتوحتين، يكافح المطر المنهمر الذي أعمى رؤيته، وبالكاد يرى الطريق أمامه. وكان قلبه مثقلًا بأسئلةٍ تتقافز في ذهنه بلا رحمة:

“لِمَ أفعل هذا؟ لِمَ لم أتركها؟ لمَ أجرّ نفسي إلى هذا العناء؟ ما الذي يربطني بها؟”

المطر كان كالصقيع، يتسلل إلى عظامه، وقميصه الخفيف ذو الأكمام القصيرة التصق بجسده حتى صار كالثوب المبلّل، والبرد ينهش أطرافه.

وتابع تفكيره بصوتٍ داخلي متعب:

“لو كانت زوجتي، لضحّيت من أجلها بما هو أعظم… لكنها ليست كذلك، ليست تعني لي أي شيء… مجرد فتاة لا أعرفها.”

وكان أكثر ما يؤلمه أنه لا يجد أجوبة لهذه الأسئلة، بل لم يجد حتى مَن يسأله عنها… وهذا ما أثقل صدره طوال الطريق، وما جعله يتألم بصمتٍ لا صوت فيه سوى خفق قلبه، وصوت المطر.

وصل أخيرًا إلى المنزل، وأغلق الباب خلفه بإحكام، ثم تنفّس الصعداء حين شعر بدفء المكان ينساب إلى جسده المتجمد. أزاح سترته عن وجهها ونظر إليها، كانت وجنتاها متوردتين، وشفَتاها محمرّتين كالأرنب الصغير وهي نائمة، لا حراك بها. بدت في تلك اللحظة كأنها وديعة، بريئة، لا ذنب لها في شيء.

ابتسم، رغم إرهاقه، حين تذكّر كيف ضربته من قبل، وهمس وهو ينظر إلى ملامحها:

“شكله بسكوتاية بس هو ممكن يعورك.”

ثم صعد بها إلى الطابق العلوي، يعتصره التعب. وأثناء صعوده السلّم بدأت غزل تستعيد وعيها ببطء، فتنهد، إذ لم يكن يطيق نقاشًا أو سؤالًا. ومن شدّة إرهاقه، ضرب جبهتها برأسه مجددًا، ضربة خفيفة لكن كافية لإعادتها إلى الإغماء، فأسند رأسها إلى صدره وتابع الصعود.

وصل إلى غرفتها، ووضعها على الفراش، ثم انحنى ليتفحّص جرحها. لاحظ أن الجرح ما يزال نازفًا ويستلزم خياطة. غادر الغرفة على عجل، ولكن قبل أن يخرج، تردّد، ثم أغلق الباب خلفه بالمفتاح خشية أن تهرب مرة أخرى.

دخل غرفته يلهث من التعب، وبدأ يبدّل ملابسه المبتلّة، وسط نوباتٍ متلاحقة من السعال والعطاس. لم يفكّر في نفسه، بل كلّ ما دار في ذهنه: أن يُعالجها أولًا. أخذ منشفة فوضعها حول رقبته، ثم فتح الثلاجة وأخرج منها ما يلزم من أدوات التبريد والتطهير، وتناول حقيبة الإسعافات الأولية، وتوجّه نحو غرفتها مجددًا.

فتح الباب بحذر، فوجدها ما تزال تغط في نومٍ عميق. تنهد بارتياح، واقترب من السرير، وجلس على الكرسي المجاور، ثم بدأ في خياطة الجرح بعناية الطبيب الخبير.

ولم أذكر من قبل، لكنّ حمزة طبيب تخرّج بتفوق، واختار لاحقًا أن يختصّ في الطبّ النفسي، وأنشأ عيادته الخاصة. ومع ذلك، فقد شغلته شركات والده التي ورثها بعد وفاته؛ شركات ضخمة في مجال الأدوية والمستلزمات الطبية. اجتهد فيها، ونجح في تصديرها خارج البلاد، حتى أصبح اسمه هو و رامي من بين الأسماء الأكثر نفوذًا في السوق. وفي الآونة الأخيرة، قررا أن يُنشئا سويًا شركة جديدة تخصّهما معًا، لتكون باكورة طموحهما كفريق متكامل.

وحين أتمّ معالجة الجرح وخياطته بإتقان، همّ بمغادرة الغرفة، لكنه توقّف حين رأى أن ثيابها ما تزال مبلّلة. نظر إليها، ثم رفع رأسه نحو السقف بأنفاسٍ متعبة وقال:

“طب دي حلها ايه بقى.؟… خلاص بقى أعلّي دفايات الأوضة وتنام كده… مهو مفيش حل تاني… بس كده هتصحى عيانة…. تستاهل… أيوة تستاهل تصحى عيانة… هسيبها كده.”

تحرّك نحو الباب وهمّ بالخروج، ولكن شيء بداخله أوقفه، وفي طرف عينه لمح مجفف الشعر موضوعًا على التسريحة. لم يتردّد. وبعد دقائق كان جالسًا بجوار السرير، يُجفف فستانها على الوضع البارد، ثم شعرها بخفة وعناية.

دقّت الساعة السابعة صباحًا، وكان قد انتهى أخيرًا من تجفيف كل شيء. أطفأ الجهاز، وأسند رأسه إلى طرف السرير، وجلس على الأرض، مطبقًا ذراعيه حول جسده.

وما هي إلا لحظات… حتى غلبه النوم.

لم يكن نومًا معتادًا، بل إغماءة كاملة… إذ كانت حرارته قد ارتفعت من شدة البرد، والإرهاق، والبلل، والقلق… ففقد وعيه بجانبها.

__________________________

لنرجع بالزمن سبع سنوات إلى الوراء، حين كانت غزل في السادسة عشرة من عمرها، وكان رحيم في الثامنة عشرة….

قالتها وهي تندفع نحوه، عيونها مشتعلة بذعر وقلق لم يستطع إخفاءه تظاهرها بالشجاعة. التفت الشاب ليكتشف مصدر الصوت، ولم يكد يستوعب الموقف حتى وجدها في أحضانه، تعانقه بقوة وكأنها تمسك بالحياة نفسها. بين زوايا العناق المتوتر، اقتربت من أذنه وهمست بصوت يرتجف: “أرجوك… أرجوك، قول إنك تعرفني… الرجالة دول مش سايبني في حالي وعايزني أجي معاهم… أنا ماليش حد هنا… أرجووك، قول إنك تعرفني.”

كان كلامها يحمل رجاءً يائسًا، وكأن حياتها بأكملها كانت تعتمد على كلمته التالية.

بلع الشاب ريقه بصعوبة، وعيناه تتنقلان بين الفتاة والرجال الذين يقتربون بسرعة. شعر بأنفاسه تتسارع، ولكنه لم يتردد؛ أمسك برأسها بحزم، ليغرق وجهها في كتفه أكثر، كأنما يحميها من العالم بأسره. نظر إلى الرجال بعينين مشتعلتين بالتصميم والخوف معًا، ثم تحدث بصوت يحمل في طياته ارتجافًا خفيًا، لكنه لم يخذلها: “اتأخرتي ليه؟… مستنيكِ بقالك كتير.”

كانت كلماته تتدفق من قلبه كدرع يحميها من الخطر، وكأنهما يتشاركان في تلك اللحظة هويةً لم تكن لهما، ولكنهما تمسكا بها كآخر خيط نجاة.

توقف الرجال أمامهما، وتبادلت نظراتهم الحائرة بين بعضهم البعض، كمن يبحث عن إجابة غير واضحة. عيونهم كانت تتفحص الشاب والفتاة، كأنهم يشكون في حقيقة ما يرونه. استشعر الشاب ارتباكهم، فزاد من ضغطه على رأس الفتاة، محاولاً إبقاءها قريبة منه، ثم نظر إليهم ببراءة مصطنعة، وعيناه مليئتان بالشك والاستفهام: “في حاجة حضرتك؟”

تقدم أحد الرجال بخطوات واثقة وجرأة مشوبة بالتحايل، ثم خاطب الشاب بنبرة لم تخلُ من التهكم: “لمؤاخذة يا هندسة، بس الحتة دي تلزمنا… ممكن تخمسها معانا، مفيش مشكلة، كل واحد هياخد دوره.”

كانت كلماته تحمل وقاحة مدروسة، تعكس طمعًا في ما لا ينبغي أن يُطلب، وكأنهم يرون في تلك الفتاة غنيمة لا تستحق الحماية. عيناه كانت تلمعان ببرود، وكأن كلماته صفعة يُراد بها إخضاع الشاب للرضوخ، وتقبّل تلك القسمة المذلة.

حمحم الشاب ليكسب لحظات من التفكير، ثم قال بنبرة تمزج بين التهكم والغضب المكبوت: “لا، ثواني كده…”

أبعد غزل عنه برفق، ووضعها خلفه كمن يضع درعًا ليحمي ما هو أغلى من نفسه. نظر إلى الرجال بصرامة متزايدة، وعيناه تشتعلان بتحدٍّ لا يقبل المساومة، ثم أضاف بصوت قوي: “حتة مين يا عسل؟… انت شارب حاجة ولا شكلك مجنون؟”

اقتربت غزل من خلفه لتهمس بأذنه بقلق يخنق صوتها: “انت بتعمل إيه؟ دول ستة… أوعى تتخانق معاهم، ليفرموك…”

نظر إليها بنظرة حادة، اخترقت قلبها كالسهم، جعلتها تبتلع ريقها بصعوبة، وتتراجع بخطوات خافتة إلى الخلف لتقف وراءه من جديد.

تقدم أحد الرجال نحوه، ووجهه يعكس وقاحة صارخة، وكأنما يرى في الشاب مجرد عقبة يمكن تجاوزها. نظر إليه بتحدٍ صريح، ثم قال بصوت يحمل نبرة استخفاف: “بقولك إيه، أنت لا تعرفها ولا بتاع انا وانت وكلنا عارفين البت دي موجودة هنا ليه المكان دا مشبوه ومعروف وجود اي ست هنا بيبقى عشان ايه فمتاخدش الوجبة لوحدك وتبقى طماع واحنا بنعرض عليك طلب لا يعلى عليه بنقولك تعالى معانا وكلنا هننبسط… قولت إيه؟”

هتف الشاب بشتيمة بذيئة، صادمة في قسوتها، وعيناه تشتعلان بثقة لا تتزعزع. وقفت غزل في صدمة، مغطية فمها بيدها، محاولاً كبح ضحكة من فرط دهشتها، بينما تصاعد غضب الرجال بشكل متفجر. ولكن، قبل أن يستطيعوا الاقتراب، رفع الشاب مسدسًا بيد ثابتة نحوهم، وصوته يعلو ليملأ المكان: “أنا ضابط يا ولاد ال***، رنة موبايل صغيرة وييجي البوكس يشيل أشكالكم… قولتوا إيه؟؟؟”

كانت كلماته كالصاعقة، تتردد في الأرجاء كفحيح الثعابين، تحمل في طياتها تهديدًا صارمًا.

تلجلج البعض بصوتهم، وهموا بالفرار من أمامهم، وكأن الأرض ارتجت تحت أقدامهم. ابتسمت غزل بارتياح، وصفقت له بإعجاب، ثم نظرت إليه عندما التفت إليها، قائلة بنبرة مليئة بالإعجاب والإمتنان: “فعلاً، الشرطة في خدمة الشعب… شكرًا يا باشا… معكش بقى أي فلوس أركب بيها حاجة من هنا توديني أي مكان، عشان المنطقة زي ما انت شايف كده مش تمام.”

ضحك الفتى بقوة، ورفع رأسه نحو السماء، كما لو كان يحتفل بنجاح خدعته. نظر إلى غزل ثم قال، مستعرضًا زيفه بكلمات متوترة لكن مفعمة بالسخرية: “انت صدقتي ولا إيه؟ دا مسدس لعبه، اللي يركز فيه هيعرف إنه مجرد خدعة رخيصة، بس محدش انتبه من هول الموقف…”

تعجبت غزل حينما دققت النظر في المسدس، واكتشفت أنه فعلاً لعبة وليس حقيقيًا. أطلقت ضحكة مكتومة، ووجهها يتألق بالدهشة والسخرية، ثم قالت، وهي تهز رأسها باندهاش: “يابنل إيه يا واد يا…”

ثم نظرت إليه بابتسامة مشرقة، وتمد يدها نحو يده لتصافحه، ثم قالت: “أنا غزل… وأنتَ؟”

نظر الفتى إلى يديها، ثم رفع عينيه ليقابل نظرتها، بينما تعلو وجهه ابتسامة دافئة قائلاً بصوت هادئ: “رحيم.”

ابتسمت غزل له، وأخذت تسحب يدها بلطف، ثم نظرت إليه بتساؤل قائلة: “رحيم، بتعمل إيه هنا بقى؟”

توتر رحيم قليلاً، وكأنما حاول السيطرة على مشاعره المربكة. نظر إليها بتمعن، ثم قال بصوت يعكس تساؤلاً صريحًا وقليل من التحفظ: “انتِ ملكيش أهل… شكلك مش من نوع الستات أياهم، فايه اللي جابك هنا؟”

-لا معلش انا اللي سألتك الاول

زفر رحيم بعمق، وصمت للحظة، وفجأة سمع صوت شهقة طويلة تنبع منها حيث كانت تنظر إليع، وعيناها تبرقان بومض من الإدراك، ثم قالت، وقد تكشفت لها الحقيقة التي جعلت وجوده في هذا المكان يبدو واضحًا: “انت… انت جاي هنا في المكان دا عشان تاخد واحدة وت…”

صُدم رحيم من تلميحاتها التي حملت اتهامًا خطيرًا، فتقدم نحوها بسرعة، وقاطعها بقوة، وكأنما يحاول بشدة إيقاف تلك الأفكار التي بدأت تتكون في ذهنها: “لا، لا… مش زي ما انتِ فاكرة! يا لهوي، انتِ دماغك راحت بعيد أوي كده ليه؟”

ابتعدت غزل عنه قليلاً، جسدها يرتعش بخوف وقلق بدأ يتسلل إلى ملامحها. عيناها اتسعتا بذعر مكتوم، وهي تقول بصوت يرتجف، مشيرة إلى نفسها بنبرة مليئة باللوم والتشكك: ” بعيد ايه دي اقرب حاجة في الموقف اللي احنا فيه ده… يبقى أنا اللي طلعت غبية… لما جيت أستخبى في المنطقة دي، استخبيت ورا راجل… إيه الغباء ده؟! وتلاقيك مشيتهم عشان تاخدني أنا لوحدك… بقولك إيه… أنا كنت بلعب كاراتيه وأنا صغيرة، فلو قربت مني ه…”

تفاجأت غزل بحركة رحيم السريعة، إذ تقدم نحوها ليضع يده على فمها بخفة، قاطعًا سيل كلماتها. أمسك بذراعها بشدة وسحبها وراء سيارة متوقفة ليختبئا معًا. كانت عيناها مليئتين بالخوف والارتباك، ولكن قبل أن تنطق بكلمة، سمعت صوته الخافت يهمس لها بحذر: “ششش… اسكتي… في شباب جايين علينا وشكلهم سكرانين على أول الشارع… ليكون معاهم سلا ح أبيض، ومش هعرف أحميكِ منهم… اسكتي.”

كانت كلماته مليئة بالإلحاح والخوف، وكأنهما يجدان نفسيهما فجأة في قلب خطر داهم. قبضته على ذراعها لم تكن عنفًا بقدر ما كانت حماية، وكانت عيناه تنظران في الظلام بحذر، باحثًا عن أي حركة قد تفضح مكانهما. في تلك اللحظة، تجمدت غزل، تدرك أن الموقف بات أكثر خطورة مما تخيلت، وأن كل ثانية صمت قد تكون الفارق بين الأمان والخطر.

رفع رحيم يده ببطء من على فمها، مراقبًا الشباب بعناية حتى يمروا. جلست غزل بجواره، وقد شعرت بنوع من الاطمئنان. أدركت أنه لا يود إيذاءها، بل يحاول حمايتها. ربعت ساقيها وجلست تراقب الشباب معه، عيناها تتابعانهم بحذر حتى ابتعدوا تمامًا.

بمجرد أن اختفى الشباب عن الأنظار، نظر رحيم إليها ورفع يده ليضربها بخفة على رأسها، بنبرة تجمع بين السخرية واللوم، قال: “انتِ وقعتي قبل كده على دماغك؟ إيه اللي جابك هنا؟ أنا مش عارف أتخلص منك إزاي دلوقتي في مكان زي ده، ومش هعرف أسيبك… يا ربي.”

كانت كلماته تحمل مزيجًا من الضيق والحيرة، وكأنما وجد نفسه فجأة مسؤولاً عنها في موقف لم يكن يتوقعه. نظراته إليها كانت تنم عن قلق حقيقي، بينما كان يحاول التفكير في حل لما وضعته فيه من مأزق. كان واضحًا أنه يشعر بثقل المسؤولية، لكنها كانت مسؤولية فرضت عليه رغمًا عنه.

نظرت غزل إليه بعينيها الواسعتين، وقد اختلط فيها الاستفهام بفضول قاتل. كان في تعبيرها شيء من الإصرار على معرفة الحقيقة، كأنها لا تستطيع تجاهل ما يثير فضولها. ثم قالت بنبرة حادة لكنها خافتة، تعكس مدى اهتمامها بالأمر: “الأول قولي… جاي هنا بتعمل إيه؟”

زفر رحيم بعمق، وكأن كلماته تخنقه قبل أن تخرج. قال بنبرة تملؤها المرارة والاعتراف القسري: “جاي أسرق يا غزل… خلاص ارتحتي؟… أهو أهون من اللي في بالك شوية.”

ابتسمت غزل له بخفة، وظهر في عينيها بريق من المزاح الطفولي، وكأنها تحاول تخفيف حدة الموقف. قالت بنبرة مليئة بالسخرية اللطيفة: “جاي تسرق… آه؟…(ثم تساءلت) بتسرق إزاي يعني من منطقة زي دي؟”

قال رحيم بصوت يحمل في طياته شيئًا من الحسرة، وكأنما يروي قصة حزينة عن نفسه: “كل اللي بيجوا هنا يا ستات بتاخد فلوس يا العكس… ف…بتشعلق في أي بلكونة لأي شقة، وباخد أي محافظ أو حلقان بلاقيها على الأرض.”

-طب وهما مش بيقفشوك؟؟! يعني هما الاتنين بيبقوا صاحيين ازاي مش بيشوفوك وازاي بتخرج وبتطلع منغير ما يحسوا بيك؟

حمحم رحيم بخجل واضح: “لا… ما هما بيبقوا مشغولين بحاجات تانية ومش بياخدوا بالهم.”

نظر رحيم بعيدًا وقال بحرج:”لا، مأنا مش هوضح أكتر من كده… يا غزل، المنطقة دي مشبوهة. عارفة يعني إيه مشبوهة؟ يعني دعا رة، يا غزل.”

ابتسمت غزل ابتسامة خفيفة، لكنها حملت في طياتها مكرًا خفيًا،قائلة: “وجمعت كام بقى؟”

نظر رحيم إلى حقيبته، وعلامات الفخر والسعادة تنير وجهه، ثم قال: “عشرين محفظة وست حلقان واربع غوايش.”

اعجبت غزل بما قاله فقالت باعجاب: “وااو… شكلها شغلانة حلوة وبتكسب؟”

-اكيد يا غزل… كل حاجة حرام بتبقى حلوة…. ولكن المشكلة فينا احنا… ربنا محلي الحاجة عشان يختبر العبد ويشوفه هيقدر يجاهد نفسه وميقربش منها ولا لا.

شعرت بحزنه وندمه عما يفعله فقالت: “وانت حاسس بإيه؟ ”

-قرفان…. رغم اني مبقتش محتاج اني اتذل علأكل وبقى ليا مأوى وحياتي اتيسرت ولكن في غصة في قلبي من اللي بعمله…

ربتت غزل برفق على كتفه، كأنما تستفز فيه دفءًا يخفف من عبء ما يحمله. نظرت إليه بنظرة مفعمة بالحنان، وقالت بصوت هادئ ومليء بالاهتمام: “انت أصلًا قصتك إيه؟”

اعتدل رحيم في جلسته، مستندًا بظهره إلى السيارة، ثم أخذ شهيقًا عميقًا وكأنما يستعد لبوح بأسرار مخفية. قال بصوت مشوب بالحسرة: “أنا هربان من أهلي.”

قالت غزل بحزن عميق، وكأنما تنطق باسم كل من يشعر بالوحدة: “ليه كده؟ دنا يتيمة ونفسي يبقى عندي أهل، وانت تقوم هربان… غريبة الدنيا، محدش راضي بحاله أبدًا.”

-لا يا غزل…. انا كنت هنت حر…. ولكن خوفت…. خوفت من ربنا… قتل النفس حاجة صعبة ولا يغفر لها…. بس انا مكنتش قادر اعيش مع اهلي. “

-وهو كل اللي مش قادر يعيش مع اهله بيمشي ويسيبهم؟!!

-آه…. أنا…. يمكن كنت شجاع شوية في النقطة دي بس لو كنت فضلت معاهم كان ممكن اعمل حاجة في نفسي مكنتش قادر استحمل وانتهى بيا الحال لحرامي زي مانتِ شايفة.

مال رحيم برأسه جهة اليمين قليلًا، محاولًا إخفاء عينيه عن غزل، عندما شعر بدفء الدموع التي كادت أن تنهمر. نظرت غزل إليه بشفقة، لكن عينيها سرعان ما لفتت انتباهها إلى علامة زرقاء بارزة على رقبته، بدا وكأنها كدمة كبيرة.

صدمها المشهد، وتقدمت بسرعة لتلمس مكان الكدمة، قائلة بلهجة مليئة بالقلق: “يالهوي… دي من إيه دي؟ هو الشغلانة دي اتبهدلت فيها قبل كده؟”

ارتجف رحيم عندما لمست غزل الكدمة التي على رقبته، وكأن لمسة الألم هذه أعادت له صدى معاناته. ابتعد قليلاً، مزيلاً دموعه بيد مرتعشة، ثم نظر إليها بنظرة تحمل خليطًا من الحزن والغضب، وقال بصوت متقطع: “ملكيش دعوة.”

-قولي بس احنا خلاص بقينا صحاب يا رحيم…. مين ضربك كده؟؟ قول بقى..

لفظها رحيم من أعماق قلبه، وقد كان ينغمس في تنهُّج عميق، وكأنما يتصارع مع ذكريات مؤلمة.

تجمدت غزل في مكانها، ووضعت يدها على فمها بدهشة عميقة، ثم همست بذهول: “أبوك كان بيضربك!!”

صرخ رحيم بألم عميق، وكأنما كل كلمة تخرج من قلبه الممزق: “آه… مكنتش عاجبه… كان نفسه متولدش… كان نفسه أبقى زي أخويا رامز التوأم اللي بقى دكتور ورفع راسه، وأنا الفاشل اللي جبت أقل منه بكتير… مقارنة… مقارنة… لحد ما كرهني في أخويا… طول حياتي كان يقارن بيني وبينه، كل إنجاز بعمله كان رامز يكون حققه قبلي… أي إنجاز بوصله، رامز كان سبقه وفرحوا بيه هو ونسيوني… ولو زعلت رامز او اتخانقت معاه يروح يشتكي لابويا وابويا مهما كان الموقف هو غلطان مش غلطان بينصفه هو ويمسكني يضربني انا… نما جوايا حقد وغل على أخويا اللي المفروض حتة مني… كنت دايمًا أذاكر عشان بس أسبقه… مكنتش بفكر في النجاح لذاتي بقدر ما كان تفكيري في إزاي أسبقه وأبقى أنا الأحسن ولو لمرة… بس، لأن تفكيري ما كانش النجاح لذاتي، عمري ما وصلت للي عايزه.”

كان صوته يرتعش، وكل عبارة تحمل في طياتها ثقل سنوات من الألم والتجريح. نظراته كانت مليئة بالمرارة والحسرة، وكأنما يحاول أن يفرغ من قلبه همومًا تراكمت على مر السنين. في تلك اللحظة، تجسد شعوره بالضياع، وقسوة المقارنات التي جعلت منه ضحية صراع داخلي طويل، يكشف عن خيبة أمله ومرارة استمراره في سباق لا ينتهي، وهو يكافح لاستعادة ذاته وسط ظل من الانتقادات والتجريح.

بدأت عينا رحيم تزرف الدموع، وواصل حديثه بوجع عميق: “وأمي ما فرقتش حاجة عنه… دايمًا تقول ‘أنا أم رامز… أم رامز.’ طب ورحيم؟ عارفة؟ كنت بحفظ قرآن وصوتي في التلاوة أحلى من رامز، وكنت باخد مراكز في الجامع، ورامز مكانش بيروح الجامع ولا بيحفظ ولا حتى بيركعها، ولما أجي أقول له: ‘يلا يا رامز نصلي’، يقولي: ‘ورايا مذاكرة، هقوم بعد شوية.’ وأنا اللي كنت أجري على الجامع وأصلي مع الشيخ، وكنت بفرح جدًا لما يخليني أقول الإقامة، وبرجع يوميها أقول لماما: ‘سمعتيني يا ماما؟’ تبصلي وما تردش وتكمل طبخ. شيخ الجامع سألني عن أبويا، وطلب إنه يشوفه، وقال له إنه عاوز يدخلني مسابقة للقرآن لأني كنت حافظ ساعتها 15 جزء. ضحك أبويا وقال له: ‘دا فاشل يا شيخنا، هيعرك في المسابقة، صدقني متتعبش نفسك.’ وأخذني ومروح البيت… أنا مش عارف ليه معظم الأهالي بيربطوا التعليم بحبهم لعيالهم… ليه ما حبونيش عشان أنا ابنهم مثلًا؟! يعني لازم أكون ابنهم الدكتور، ابنهم المهندس، لازم أكون ابنهم و حاجة عشان يحبوني؟… عارفة يا غزل… يا بختك… كان نفسي أكون يتيم… كان نفسي ما أتعاملش معاهم، ويموتوا، واتربى بعيد عنهم في ملجأ. أقولك على حاجة؟ في مرة، أنا ورامز كنا بنتخانق وإحنا صغيرين، فماما لحقتني قبل ما اعوره وبعدتنا عن بعض، وعشان تسكتني قالتلي: ‘لو اتخانقت مع رامز تاني أو ضربته، هتوديني الملجأ.’ ساعتها سألتها يعني إيه ملجأ وعرفت ان دا مكان للاطفال اللي ملهمش أهل، و إنهم هيتبروا مني لو اتخانقت مع رامز تاني . ساعتها خوفت أوي، قعدت أسبوع كامل مبنامش من فكرة إنهم ممكن يتخلوا عني ويودوني الملجأ، ومن ساعتها وأنا بقيت خدام لرامز، وأي حاجة يقولي عليها كنت بنفذها، وهو كان عيل كياد، مستغل حب أبويا وأمي الزيادة ليه، وكان دايمًا يغيظني.”

أكمل رحيم بسرد حكايته بصوت مبحوح، يحمل في طياته كل ما عاناه من آلام وحسرة. تنفس بقوة، محاولاً السيطرة على مشاعره المتلاطمة، ثم تابع:

وبعد نتيجتي في الثانوية شوفت معاملة ما يعلم بيها إلا ربنا… من ضرب وإهانه…. أبويا آه كان بيضربني ساعات بس اليوم دا كان بيعذ بني مش بيضربني … اي حاجة جمبه كان بيضربني بيها لحد ما فتحلي دماغي بدرفة الدولاب ولما روحت المستشفى اخدت سبعة وعشرين غرزة وعشان ميتعرضش لاجوبة الشرطة قالهم اني اتخانقت مع شوية شباب واني بلطجي وبتاع مشاكل دايمًا….. كنت ساعتها واخد قرار اني هسيبهم بس كنت مستني اتعافى وكانوا شهرين ما يعلم بيهم إلا ربنا وكنت مستحملهم بالعافية من كتر المعايرات ومش امي وابويا بس دا العيلة كلها و بيتنافسوا مين يكسرني الاول مين يعايرني أكتر… سمعتهم بيحتفلوا برا برامز اللي شرفهم وجاب مجموع طب ومرضيوش يخرجوني قالولي خسارة فيك حتة الجاتوه يا فاشل.”

أصدر قهقهة خفيفة وهو يقول بمزاح يخفي آلام ما عاشه: “طب انا كان نفسي اكل جاتوه انا كمان دخلت المطبخ ولقيت حتة جاتوه فاضلة متلم عليها النمل كنت بشيل النمل بايدي واكلها ومش مهم بقا لو نملة اكلتها اهو بروتين وخلاص… كنت فرحان بنفسي وبحاول اعوضها واقولها متزعليش انتي اجتهدي برضو بس هما بالنسبالهم الاجتهاد حاجة تانية انك توصل لحاجة معينة لو موصلتلهاش تبقى فاشل جالي كلية كويسة ادبية بس بابا قال انه مش هيصرف عليا جنيه تاني وكفايا عليا تعليم لحد كده وانزل اتعلم اي صنعة واشتغل صبي لاي محل حلاقة بقا او ميكانيكي بس لازم اشتغل لانه مش هيستحمل يشوفني قاعد في البيت كدا باكل وبشرب على حسابه وانه بيصرف كذا كذا كذا… طب بتخلفونا ليه مادام هتعايرونا انكم بتصرفوا علينا.. ها؟.. خلفتونا ليه؟… هما متوقعين ان صرفهم علينا دا فضل مش واجب! وبعد شهرين اخدتلي كام غيار ومشيت ركبت قطر اسكندرية وجيت على هنا وكنت ماشي مش عارف اروح فين بس كنت مرتاح اني مش هشوفهم تاني وكنت ماشي في شارع مش عارف انا رايح على فين و لقيت واحد باصص لفوق ومش عارف يطول الشنطة اللى اتزنقت منه بين مواسير الماية في الحقيقة مكنتش فاهم ايه اللي جابها تتحشر بين مواسير الماية ومكانش عارف يجيبها وكانت الساعة اتنين ونص بليل عرضت عليه المساعدة فبصلي باستغراب ولقاني بشب وبتشعلق بحرفانية وجبتله الشنطة اللي حسيت بتقلها فبصلي الواد باعجاب وقالي اي الشطارة دي واتصاحبنا انا وهو وعرف اني غريب هنا ومش لاقي شغل ولا اي حاجة عرض عليا اشتغل معاه ولما عرفت انه حرامي رفضت بقوة وفضلت يومين باكل من الشارع من الفلوس اللي كانت معايا ومحوشها وحاولت اشتغل اي حاجة وفعلا اشتغلت في محل حلاقة.. بكنس وبمسح المكان واجي بليل اشوف اي حته اتدارى فيها لحد ما صاحب المحل خلاني ابات في المحل وبقا شفقان على حالتي وبعد شهر حصل مناوشة مش ظريفة بيني وبين واحد بيشتغل في المحل كاشير وبقا مستنيني اغلط… حطني في دماغه واتهمني اني سرقت ولما جم يفتشوني لقوا فعلا الفلوس في جيبي انا معرفش هي جات منين ومهما احلف محدش مصدقني و طبعًا اترميت برا واتعرفت اني حرامي في المنطقة دي واني مشتغلش عند حد عشان بسرق و محدش رضي انه يشغلني تاني بعد الفضيحة اللي حصلتلي في المحل والكل بقا عارف اني حرامي وايدي طويلة على رزق المحل استفزني الموقف اوي وحسيت اني لما منعت اني اسرق في الحقيقة لانها حرام مسكت فيا دلوقتي زور! بقا دمي بيغلي وكل ما اروح مكان ميرضوش يشغلوني وبقيت ببات في الشارع لحد ما اتثبت في الشارع وخدوا مني كل حاجة حتى هدومي اتاخدت اتثبت بمعنى اتثبت يعني بقيت ماشي حافي ولبسوني جلبيه مقطعة ريحتها كانت تقرف وكانت كل هدومي اخدوها حقيقي كانت اسوأ لحظاتي وانا بالوضعية دي استخبيت اليوم دا في حتة متدارية وقعدت طول النهار محتطش حاجة في بوقي واليوم دا شوفت نفس الراجل بيتشعلق لعمارة وبيسرق صراحة محسيتش بنفسي غير وانا بجري عنده وبساعده ينزل من علمواسير وبصتله وهو عرفني وقولتله اني عايز اشتغل معاه وعرفني بنفسه ان اسمه عماد واخدني معاه لمكان العصابة وهناك لقيت رجالة وستات انضميت ليهم وبقيت واحد منهم وكنت اكتر واحد فيهم كفاءة وخفة فكانوا دايما يدوني مهام النزول والسرقة وهما هناك اللي بيدوروا على العمليات بشتغل انا وعماد في النزول والبنات هناك بتشتغل في النصب يعني بتلف على اي واحد بتغريه بطريقتها وبتساعدنا نسرقه منغير ما يحس وبس يا ستي… اهي دي قصتي وبقيت حرامي بجد مش شبهة لا حرامي على حق.”

كانت كلماته ثقيلة ومليئة بالحزن والأسى، تعكس أعماق الجروح التي حملها لسنوات، جروح لم تلتئم، بل نمت وتعمقت مع كل تجربة مريرة مر بها.

مسحت غزل دموعها التي انهمرت بلا إرادة منها بينما كانت تستمع لقصته، وقد شعرت بثقل الألم في نبرة صوته. كانت كلماته تحمل وجعًا استقر في قلبها وأثار عاصفة من المشاعر داخلها. حاولت أن تخفي ارتجاف صوتها حين قالت بحزن عميق: “دا انت قصتك تقهر يا جدع… ومليانة دنا قصتي متجيش حاجة جمبك.”

قهقه رحيم بخفة، كأنما يحاول إخفاء ثقل الألم الذي باح به قبل لحظات، ثم نظر إليها نظرة مشوبة بالفضول والاهتمام، وقال بصوت هادئ يختفي خلفه العديد من الأسئلة: “وانتِ… ايه اللي جابك هنا؟”

استندت غزل برأسها إلى الخلف على السيارة، وأغمضت عينيها للحظة، كأنها تبحث عن القوة في طيات ذكرياتها، ثم تنهدت ببطء وكأنها تفرغ شيئًا من الألم العالق في صدرها، وبدأت في سرد حكايتها المؤلمة بصوت يحمل في طياته حزنًا دفينًا، وكأن الكلمات تخرج منها بجرح جديد في كل مرة، بينما كان رحيم يترقب كلماتها بصمت، يشعر بثقل الحكاية قبل أن تبدأ، كأنه يعرف أن ما ستبوح به يحمل من الوجع ما يكفي لكسر أي جدار قديم بينهما أخذت شهيقًا قويًا ثم بدأت بالحديث: “أبويا وأمي ماتو في حادثة واهل الاتنين استقروا على انهم يودوني ملجأ لان اصلًا بابا وماما اتجوزوا مع معارضة الأهل لبعض والعيلتين مكانوش موافقين بسبب مشاكل بينهم زمان فكانوا مش حبني لا اهل ابويا ولا أهل امي قرروا ساعتها انهم يودوني دار ملجأ وعشت هناك طول عمري ولما كبرت بقيت بتخنق من معاملتهم وحسيت اني خدامة بجد وانا كنت عندية ودايمًا كنت بتعاقب وكنت بجادل مع المدرسين فمفيش يوم عدل قضيته هناك وكنت بستحمل لحد ما طهقت وجيه في بالي فكرة اني امشي وكانت كل مرة بتزيد في دماغي الفكرة دي وقررت اني همشي من الدار خلاص وحكيت للبنات صحابي في الدار عن فكرتني وازاي ههرب وكده ولكن اعترضوا بشدة و قالولي انها خطر وخاصة لاننا بنات ومعندناش بيت وممكن نتإذي لو احنا لوحدنا حاولت اقنعهم اننا لو كتير محدش هيقدر يجي جمبنا رفضوا بس انا مقدرتش اكمل فقررت اشق طريقي بايدي وابدأ بالخطوة والصبح كنت مشيت وهربت من الملجأ قبل ما الكل يصحى اول ما شوفت النهار طلع هربت… اول يوم عدى عليا زي الكابوس وفضلت ادور على اي ست واطلب مساعدات كتيرة لاني مكنتش عايزة ابات في الشارع وكنت خايفة ابات لحد ما قابلت واحدة كانت كبيرة في السن وكلمتها اني عايزة مأوى وهي كانت كبيرة مش عجوزة بس كبير مثلا في الاربعينات كده بصتلي وبصت لجسمي وشكلي وقالتلي اه طبعا واخدتني هنا في المنطقة دي فضلت تلت ايام بايته عندها ولقيت انها مساعدة كذا بنت ومخلياها عندها وحسيت انها طيبة وبتقدم مساعدات وكنت بدعيلها بس كنت بلاقي البنات دي بتطلع بليل بلبس استغفر الله وترجع الصبح بس محطتش في بالي اوي وفي اليوم الرابع لقيت الست دي جاتلي وقالتلي بصي يا حبيبتي انتي بقالك هنا تلت ايام واكلة شاربة نايمة المفروض تشتغلي بلقمتك فابتسمت وقولتلها انا مستعدة اشتغل اي حاجة انا بحب التطريز هاتي اي مكنة انا شاطرة جدًا في الخياطة اتعلمتها في الملجأ وعلموني الكروشيه بس انا كان نفسي اصلا لما اكبر ابقى ممثلة بس يلا الحمد لله.

صاح رحيم بسعادة وهو يقول بحماس ينبع من صوته: “وانا كمان… كان نفسي اخش معهد فنون مسرحية… او تمثيل.”

ضحك الاثنان بصوتٍ عالٍ، ضحكة تخللتها مرارة الواقع، ضحكة لم تكن إلا محاولة يائسة لتخفيف الألم الذي يسكن قلوبهم. ثم سكتوا فجأة، وكأن تلك الضحكة كانت آخر ما تبقى لديهم من قدرة على الفرح. نظروا إلى بعضهم بصمت، ولكن ذلك الصمت كان يحمل ثقل الأحلام التي تحطمت، أحلامٍ ظلت تتناثر كرمادٍ تذروه الرياح، لتصبح في نهاية المطاف لا شيء سوى ذكرى مؤلمة. ابتسمت غزل بحسرة، تلك الابتسامة التي لم تكن إلا قناعًا يخفي وراءه وجعًا لا ينطفئ، وتذكرت جملةً من فلمٍ مشهور توثّق تلك اللحظة، وكأنها تبحث عن الكلمات لتصف ما يعجز قلبها عن البوح به:

“مانت عارف يا سعيد مفيش حد في مصر بيطلع الحاجة اللي هو عايزها.”

عضَّ رحيم على شفتيه بحسرة، وكأن الألم الذي يعتصر قلبه قد تسرب إلى كل خلية في جسده. ثم قال بصوتٍ خافت، يكاد يكون همسًا: “عندك حق.”

كانت كلماته قليلة، لكنها حملت في طياتها بحرًا من الندم والخيبة، وكأنها اعترافٌ بأن الواقع أكثر قسوةً مما كان يظن، وأن تلك الأحلام التي كان يعلق عليها آماله لم تكن سوى سرابٍ يخفي وراءه الحقيقة المُرَّة.

ثم تابعت غزل حديثها عن حكايتها: “المهم لقيت بقا الست دي قالتلي انها عايزاني اطلع مع البنات واشوف رزقتي انا مكنتش فهماها بس لما حكيتلي على اللي هعمله واني اطلع مع رجالة وهاخد منهم فلوس واني البس الحاجات اللي بيلبسوها دي وانا نازلة تحت العباية(بدأت عيناها تستقبل اول دمعة تتكون من تأثير الذكرى عليها) صرخت فيهم وقولتلهم اني صغيرة على كلام زي دا واني لسه بنت ومش هعمل كده لانه حرام وساعتها قولتلها اني همشي وقررت اني مقعدش ثانية في المكان اللي كله مال حرام دا بس مسكوني من شعري وجروني وحبسوني في الاوضة ولقيت اربع بنات نازلين فيا ضرب في جسمي وكنت بصوت ومحدش بيلحقني لحد ما خلصوا وبعدوا عني ودخلت عليا الست الكبيرة وقالتلي فكرتي ولا لسه على قرارك كنت خايفة اوي وجسمي بيرتعش وقولتلها حاضر وعلى بليل لبسوني وحطولي مكياج واتفقوا معايا اني هقابل راجل خليجي وانه هييجي بعربيته وهياخدني واني لو حاولت اعمل اي حاجة او اهرب رجالة الست موجودة وممكن يموتوني انا كنت عايزة اخرج من البيت بأي طريقة وكنت مقررة اني ههرب يعني ههرب ركبت مع الخليجي دا الي بقى بيلمسني بطريقة مقززة وكنت عايزة ارجع ودموعي نزلت وانا مراقبة عربياتهم ورانا لحد ما عربية الخليجي بعدت عنهم ساعتها مسكت سكينة كنت سارقاها قبل ما نزل وخبيتها تحت الهدوم وهددته انه لو منزلنيش هكون مسيحة دمه وهو كان راجل فرفور اول ما شاف السكينة وقف العربية ونزلني ومشيت اجري في الشارع مش عارفة انا رايحة على فين بس كنت خايفة يكونوا لسه بيراقبوني فكنت ببعد عن المكان لكن اصطدمت بست شباب باين عليهم مش تمام اول ما شافوني بهيئتي دي انا كنت لابسه عباية بس كنت بشعري ومكياج فلقيتهم بيقربوا مني فمسكت السكينة وهددتهم بس لقيت واحد شدني عليه واخد السكينة مني وبصعوبة لما قدرت افلت منهم وفضلت اجري وانا خايفة لحد ما لقيتك في وشي محسيتش بنفسي غير وانا بستنجد بيك وكإن ربنا بعتك ليا عشان تتطلعني من اللي انا فيه دا.

ابتسم رحيم بحسرة وهو ينظر لها ويقول: “لا حول ولا قوة الا بالله انتِ عندك كام سنة يا غزل؟”

فزع رحيم عندما سمع الرقم، إذ لم يكن يتوقع أن غزل أصغر سناً مما تبدو عليه. بدا شكلها وهيئتها يوحيان بسن أكبر من عمرها الحقيقي، وقال بصوت يشوبه اللوم: “انتِ ازاي تهربي وانتِ في السن دا ومعرضة لاي خطر كان مخك فين لما قررتي تهربي من الملجأ ها؟

ضحكت غزل وهو تلومه بنفس طريقته وتقول:”وانت كان مخك فين وانت بتهرب من اهلك وبتشتغل حرامي؟ “

نفخ رحيم بضيق مردفًا بصرامة: “انا موقفي غير يا غزل انتِ ينفع ترجعي الملجأ انا مينفعش ارجع البيت لاي سبب كان… قوليلي الملجأ دا فين وانا هرجعك ليه مينفعش تفضلي في الشارع كدا تاني.”

هزت غزل رأسها بعنف، كأنها ترفض ليس فقط كلماته، بل كل ما تحمله من معانٍ مؤلمة. التمعت عيناها بوميض من العناد والحزن المتداخلين، وقالت بحدة تخفي خلفها عمق الجروح التي عانتها:”لا طبعا مش هرجع الملجأ تاني…. دا لو رجعت بعد هروبي دا هيمسكوني طحن عشان معملش كده تاني واحتمال اصلًا ميدخلونيش عندًا فيا لاني كنت عاملة مشاكل معاهم كلهم من اول صاحبة الملجأ لحد اخرهم.

فتساءل رحيم، وقد علت وجهه علامات الحيرة والتوجس، ناظراً إليها بعينين تحملان تساؤلات لا حصر لها:” ايوة يعني هتعملي ايه… ربنا سترها معاكِ اربع ايام عشان ترجعي عن قرارك وانتِ مُصِّرة برضو…. غزل انتُ مينفعش تفضلي في الشارع ولا مستنية يحصلك حاجة تاني؟؟! “

-ومين قالك اني هفضل في الشارع؟

-يعني ايه؟ هتروحي فين وانتِ ملكيش حد هنا هترجعي لاهلك؟ قوليلي هما فين طيب وانا احاول ارجعك ليهم على الاقل تكوني في أمان وسطهم.

ضحكت غزل بمرارة وهي ترفض قائلة: “لا طبعا انا معرفهمش… دول مش اهلي واستحالة احس بأمان وسطهم وهما اصلا اتخلوا عني وانا صغيرة هيرضوا يتقبلوني وانا كبيرة؟ ما تشغل مخك.

-انتِ تعبتيني يا غزل هتروحي فين يعني؟

ابتسمت بلطافة وهي تنظر له:” هاجي معاك. “

-تيجي معايا فين؟؟

-مطرح ما تكون بقا هنضم ليك وللعصابة واشتغل معاكم…. مش بتقول في بنات بتشتغل معاكم… هنضم ليكم..سهلة اهي.

نظر إليها رحيم لدقائق في صمت، محاولًا استيعاب ما قالته، ثم عاد للحديث بغضب مكتوم، محاولًا السيطرة على مشاعره المتأججة: “أنتِ بتتكلمي بجد يا غزل؟ حرامية؟! إزاي تفكري في حاجة زي دي؟! هو أنا ناقص أزيد أعباء على ضميري اللي مش مرتاح أصلاً؟! أنا اللي كنت فاكر إني بحاول أحميكي من الوحل اللي غرقان فيه، مش عايزك تدخلي معايا في طريق مالوش رجعة، الطريق ده نهايته ضياع، وأنا مش مستعد أشوفك تتدمري زيه… دنا بتمنى اليوم اللي أتخلى عنها وانضف وانتِ عايزة تنضمي بنفسك…. لا مستحيل.”

أجابته غزل بحزم، وهي تحدق في عينيه: “يا عم، مالكش دعوة، خدني وخليني أشتغل معاكم، مالكش شأن بيّا، أنا حرة في اختياراتي. ولا عاجبك المرمطة اللي أنا فيها دي؟! لو كان فيه طريق تاني، كنت أكيد لقيته. لكن، إذا كنت فعلاً عايز تساعدني، خليك صادق وخليني أقرر مصيري بنفسي، بدل ما تقف في طريقي.”

-غزل في مليون حل.

-قولهم… قول المليون حل.. لو كان فيه حل كنت انت الراجل لقيته…. فتخيل انا بنت بقا ومطمع ولو اتسابت في الشارع لوحدي هتإذي ربنا نجدني المرة دي بس المرة الجاية الله اعلم…. رحيم خدني معاك.

فجأة، ارتفعت أصوات مزمار سيارة من بعيد، فرفع رحيم رأسه ليتفحص مصدر الصوت. كانت سيارة تابعة لرجال العصابة، حيث لمح سلوى، إحدى أفراد العصابة، وهي تناديه من داخل السيارة. رمقها رحيم بنظرة إشارة، مبديًا استعداده للتوجه نحوها. وقفت غزل بجانبه، وتساءلت: “دول تبعك؟”

أجاب رحيم: “آه وه….غزل!”

صرخ رحيم بصدمة وهو يشاهد غزل تجري نحو السيارة، فركض خلفها بسرعة. عندما فتحت غزل باب السيارة وركبت، نظر رحيم عبر النافذة بقلق عميق، قائلاً بصوت صارم: “غزل… مش هتنضمي لينا.. يا بنتي، اللي هتعمليه دا مش صح… يمكن أنا بعمل الغلط، بس مش عايزك تقعي زيي… ارجعي للملجأ يا غزل.”

فتح رحيم باب السيارة بسرعة وجلس بجانب غزل، بينما سلوى وعماد تبادلا النظرات المتفاجئة من حديث رحيم مع غزل. نظر رحيم إلى غزل بوجه عابس، وقال بإصرار: “ملجأك فين؟ أنا هوصلك ليه. لازم ترجعي.”

تجاهلت غزل نظرات رحيم الجادة، ووجهت حديثها إلى عماد وسلوى اللذين جلسا في المقاعد الأمامية. قالت بجرأة: “عاملين إيه؟ أنا حابة أنضم ليكم. لو حابين تقيموا كفاءتي، أنا جاهزة. كنت بسرق زمان الأكل من مطبخ الملجأ لما كانت بتضيع عليا وجبة الفطار ومبصحاش ومحدش كان بيحس بيا.”

صرخ رحيم بقلق وهو يواجه غزل بوضوح: “لا يا غزل.. عماد، سلوى، فككوا منها، دي بتخرف. هنوصلها للملجأ، الشباب في المنطقة هنا مش تمام، وأخاف تفضل لوحدها تاني. هي هربت من الملجأ وهترجعله تاني بعد ما عرفت غلطتها، صح يا غزل؟”

اعترضت غزل بقوة: “لا مش صح(نظرت لعماد وسلوى وتوسلت إليهم) ارجوكم خدوني معاكم… انا عايزة اشتغل معاكم… مش عايزة اتهان تاني…. ارجوووكم. “

نظر عماد إلى غزل بابتسامة ماكرة، ثم التفت إلى رحيم قائلاً: “حلوة دي… جبتها منين؟”

قال رحيم له بإعتراض: “لا يا عماد… مش هنشغلها معانا يا عماد دي ابرأ من كده…. بلاش يا عماد”

ضحكت سلوى وهي تنظر لغزل وسألتها: “إسمك ايه؟ ”

نطقت غزل بسعادة: “اسمي غزل… عندي 16سنة.”

ضحك عماد وهو يقول: “لا حلوة وكتكوتة وهتعجب البوص الكبير هو بيحب الصغيرين عشان بيبلفوا الرجالة بسرعة كمان شكل غزل مش بيوحي خالص انها صغيرة باين هتنفعنا.”

مدت سلوى يدها بترحاب لتصافحها قائلة بإبتسامة: “انا سلوى… ودا عماد اهلا بيكِ وسطنا.”

قالت غزل بفرحة وهي لا تصدق ما قالته: “يعني انضميت ليكم خلاص.”

ابتسم عماد بهدوء وقال لها بتأكيد: “آه خلاص هنعدي نوديكي بيت البنات وهنطلع احنا على مكاننا.. وهكلم البوص ان فيه بنت جديدة انضمت.”

نظر رحيم إلى عماد بحزن عميق، وملامح وجهه تعكس الألم، ثم قال: “بلاش يا عماد.”

شغّل عماد محرك السيارة وبدأ في السير متجاهلًا كلام رحيم فالتفتت سلوى الى الوراء لتنظر لرحيم قائلة: “يا رحيم مش أحسن ما تلف عليها ولية وتخليها فتاة ليل وتشتغل في اللامؤاخذة…”

صاح رحيم بغضب وصوته مكبح بالألم: “ما كله حرام يا سلوى.. هو دا أحسن يعني.”

قال عماد بملل وقد بدا عليه الضجر من صياح رحيم الذي لم يعد له نفع، ثم أضاف بلهجة صارمة:”ولا ولا انتَ بقالك كام شهر هتقرفنا ولا ايه مش انت اللي تقرر مين ينضم ومين لا.”

سكت رحيم، مستسلمًا لقلة حيلته، ثم وجه نظراته نحو غزل وقال بمرارة: “أنا برئ منك، متظنيش اني ممكن ادافع عنك او اتحمل مسؤوليتك انتِ اللي صممتي على الطريق دا بعد كده متلوميش حد غير نفسك ماشي؟”

-ماشي ياخويا اركن انتَ بس.

وتلك كانت، ببساطة، بداية دخول غزل إلى عالم العصابة، كان رحيم يشعر تجاه غزل بما يشبه الحماية الأخوية، يعتني بها كأخته الصغيرة، ويحمل في قلبه ذنب دخولها هذا المجال بسببه. كان قلبه مذبذبًا بين الحلال والحرام، ولكن من كثرة الانغماس في الحرام، غاب عن ذهنه الحلال، ونسى حتى ربه، وأصبح الشيطان يسيطر على أفكاره، لدرجة أنه توقف عن وسوسته، فقد اجتهد معه لسبع سنوات، حتى نسى عباداته وقرآنه، وغرق في مستنقع الحرام، فظن أن الله قد يتركه ويترك له الحياة التي يعتبرها الآن رائعة، وكأن الحرام قد أصبح مميزًا بالنسبة له، وسعادتهم تتفوق على أي شيء آخر.

أحقًا يمكن للإنسان أن يرتاح في الذنب؟ أليس من المفترض أن يشعر بالندم؟ كيف يمكن لحياة مليئة بالحرام أن تكون مريحة وسعيدة؟!

تأملوا جيدًا في مصير رحيم وغزل، وكيف أن كثرة الحرام جعلت حياتهم تبدو وكأنها مليئة بالراحة، وسعادتهم تفوق كل شيء آخر. هل يمكن أن تكون هذه الحياة الخالية من الندم دليلًا على رضى الله؟

تذكروا جيدًا أن الرخاء المادي ليس دائمًا شهادة على رضى الله، بل قد يكون مجرد استدراج وابتلاء.

بسم الله الرحمن الرحيم

“فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَآ أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَٰفِرُونَ”

تلك الآية تُذكِّر بأن الأموال والنعيم قد يكونان مجرد استدراج، وليس دليلاً على النعمة الدائمة. يمكن أن يكون الرخاء الظاهري وسيلة لتعذيب النفس في الدنيا، لينتهي بها المطاف إلى الزوال والعذاب في الآخرة، إذا لم يصحبه شكر واستقامة.

لكن غمامة سوداء قد حلت على قلوب غزل ورحيم، أغشتهم عن رؤية الحلال بسبب كثرة الحرام في حياتهم. في البداية، كانا يشعران بالندم من حين لآخر، كأنما هو رذاذ من ندم عابر لا يلبث أن ينقشع. لكن مع مرور السنوات، وبالتحديد بعد سبع سنوات من التورط في عالم الحرام، بدأ الندم يذوي ويصبح شيئًا نادرًا، وكأنهم أدمنوا على فعل الحرام حتى اعتقدوا أنهم يؤدون عملاً شريفًا.

أصبح الحرام جزءًا لا يتجزأ من حياتهم، وغاب عنهم الإحساس بالذنب، وكأنهم فقدوا القدرة على التمييز بين الحق والباطل. ارتبطت نفوسهم بملذات الدنيا الزائلة حتى تناست قيم الحق والاستقامة، وعاشوا في وهم السعادة التي يتوهمون أنها تعوضهم عن الفقد والندم.

والآن فلنعد الى واقعنا الآن

ارسل رحيم رسالة صوتية لشخص ما عبر تطبيق الواتس قائلا بها:

“Hello Tom.. I know you’re in Egypt now and I need you”

“مرحبًا توم… أعلم أنك في مصر الآن وأنا بحاجة إليك. “





Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى