رواية موعدنا في زمن آخر الفصل السابع 7 بقلم مريم الشهاوي – تحميل الرواية pdf

|7-أشرف لم يَعُد|
قُطع عناقهم ومشاعرهم بصراخ مدوي، حيث ارتفعت أصوات جين ورهف، وكأنهما في صراع محتدم. صاحت رهف بصوت مليء بالتحدي:
“يلا يا ماما خدي صحابك وامشوا نوح هيفضل معانا… Go to hell.”
فلتذهبوا الى الجحيم
صاحت جين بغضب:
What are you saying?! Go away, you idiot, I want to get inside Peter to stop this farce.”
“ماذا تقولين؟! ابتعدي أيتها الحمقاء، أريد الدخول إلى بيتر لإيقاف هذه المهزلة.”
اندفع كريم نحو جين، ممسكًا بذراعيها بحزم ليبعدها، وقال بصوت حازم:
What’s your problem?”
“ما مشكلتكِ أنتِ؟”
صرخت جين بكريم وهي تنظر بعينيه:
Go away, you idiot.
“ابتعد أيها الأحمق.”
-“You have no right to make trouble… We’ve been through so much to get Noah back together with his family. What’s wrong with you?”
“ليس لكِ الحق في إثارة المشاكل… لقد عانينا كثيرًا ليجتمع نوح مع أهله مجددًا. ما خطبكِ؟”
بدأت دموع جين بالهطول قائلة:
“Peter will come back with us… He must come back, he must not stay here. We will not abandon Peter.”
“سيعود بيتر معنا… يجب أن يعود، لا يجب أن يبقى هنا. لن نتخلى عن بيتر”.
فأردف كريم بجدية وهو ينظر بعينيها بتحدي:
And we will never abandon a member of our family.”
“ونحن لن نتخلى عن فرد من عائلتنا.”
خرج نوح لينظر إلى جين، التي عندما رأته، أبعدت ذراعها عن قبضة كريم وهرولت نحوه لتعانقه بقوة. تجمد نوح في مكانه، يستمع إليها وهي تبكي قائلة:
“Will you come back with us, Peter? Right… You’re not going to leave us, are you, Peter?”
هل ستعود معنا يا بيتر؟ صحيح… أنت لن تتركنا، أليس كذلك يا بيتر؟
رفع نوح يديه ليربت على شعرها برفق ليهدئها قائلا:
“Calm down, Jane, why are you crying?”
“اهدئي يا جين، لماذا البكاء؟”
وفجأة، التقت عيناه بعيني رهف، اللتين كانتا تفيضان بالدموع، فغمر قلبه وجعٌ عميق حينما رأى تعابيرها المكلومة. تلاشى كل شيء من حوله، فأبعد جين عنه بهدوء، ثم نظر إلى جين قائلًا:
Don’t worry, we will definitely find a solution. Don’t cry, okay?
لا تقلقي، سنجد حلاً بالتأكيد. لا تبكي، حسنًا؟
مسحت جين عبراتها بيد مرتجفة، ثم نظرت إلى عينيه بعزم ووجع، قائلة بصوت متحشرج:
Okay
“حسنًا.”
نظرت هبة، والدة نوح، إلى جين باستغراب، ثم توجهت إلى رهف، التي كانت تحاول إخفاء دموعها، إلا أن عينيها قد خانتاها. سألت هبة بلهجة ملؤها الفضول:
“مين البنت اللي حضنت نوح دي؟”
قالت رهف بمرارة وقد تملّكها الأسى: “دي جين… صاحبته هي والاتنين اللي هناك دول كانوا جايين يهربوه من السجن وياخدوه معاهم روما…. اصل نوح بقا بيتاجر في الآثار يا طنط وشغال مع عصابة كبيرة والعياذ بالله وكان راجع مصر عشان يسرق معلومات أثرية وجاسوس علبلد…ده مش نوح ابدًا..دا بيتر.”
-دي الشخصية الجديدة بتاعت نوح اللي دخل فيها اربع سنين والله أعلم هيخرج منها ولا لا؟
-طب ما تكلمي حسن…. حسن ليه معارف هناك وهيعرف يتصرف.
ضحكت رهف بمرارة: “حسن!… ده حسن اللي قبض عليه… ورماه في السجن… ده لو عرف انه معانا مش بعيد يحط الكلبشات في ايديه ويجره… ناسي نوح ده عمل عشانه ايه… وتيجي تكلميه يقولك القانون… حسن… حسن بيمشي بقانون تخيلي!!”
-قانون!… وعدالة وكده!!… حسن!… طب دي تيجي ازاي؟؟
ضحكت رهف: “اهو بقى افتكر القانون دلوقتي انما لو حاجة لصالحه تمشي زي الحلاوة… وهو قادر يطلع نوح منها…انا متأكدة.
-طب وهنعمل ايه!… نوح كده هيتقبض عليه في اي لحظة هو وشوية العيال دول.
ابتسمت رهف بثقة:” لا باينهم مش سهلين… ونوح حبيبي برضو مش سهل… مش هيجرالهم حاجة متخافيش. “
تقدمت رهف نحو نوح، وقالت له بابتسامة خفِيَ وراءها شعور عميق من الغيرة:
فزفر نوح بإرهاق شديد قائلًا وهو ينظر إليها بتعب: “رهف.. أنا دماغي جواها ميت حاجة فمتبقيش انتِ المية والواحد.”
رفعت رهف حاجبها وقالت بنبرة مستفزة: “والله؟؟ يعني انا مش في دماغك اصلًا؟؟؟! ومين بقى من المية… جين؟”
عضّ نوح على شفته السفلية بغيظ، هو يعلم أن رهف تشعر بالغيرة تجاه جين ويقدّر هذا لانه قد تيقن من حبها العميق له، ولكن تلك الغيرة ليست بمحلها الآن فرأسه لا يحتمل شيئًا آخر.
تقدمت هبة نحوه بخطى هادئة، أمسكته بيده بلطف، وابتسامتها تنبض بالحنان والاطمئنان. قالت بصوت دافئ: “يلا عشان هتروح معايا… هعملك الأكل اللي بتحبه…”
ابتسم نوح في تأثر، حيث تغمره مشاعر الحنين التي أذابها حنان الأم، وقد اشتاق إلى هذا الشعور الدافئ الذي يخفف من تعب السنين. فجأة، اقترب توم منه، ومدَّ له الهاتف قائلاً بصوت هادئ:
“The Boss Steven.”
“الزعيم ستيفن.”
وضعت غزل صينية المشروبات على الطاولة التي التفّ حولها الرجال، دون أن تُلقي نظرة واحدة في اتجاه “رامي”. كانت تتجنّب عينيه كمن يتفادى شرارة نار موقدة، لكن عينيه كانت مسلّطتين عليها بشراسة الصيّاد الذي لا يغفل عن فريسته لحظة واحدة.
كانت نظراته كالجمر، تحدّق فيها بلا رحمة، تتبع تفاصيلها في صمتٍ وقح…
هذا المشهد لم يمرّ مرور الكرام على “حمزة”، بل زرع في صدره شعورًا بالضيق لا يعرف له اسمًا.
لمَ ينظر إليها هكذا؟ ولمَ كل هذا التحديق؟ وما الذي يربطه بها أصلًا؟!
اقترب منها، ومال نحو أذنها هامسًا، ونبرته تشي بصرامةٍ لا تحتمل الجدل:
“اطلعي أوضتك… ومتنزليش تاني.”
رفعت “غزل” عينيها نحوه، والتقت نظراتها بعينيه، فوجدت فيهما نارًا مكتومة.
أومأت برأسها في هدوءٍ متصنّع، ثم تحرّكت بخطى بطيئة نحو الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي حيث غرفتها.
لكنّها لم تكد تضع قدمها على أول درجة، حتى جاءها صوت “رامي”، صافيًا، مستفزًا، كأنه يسكب الزيت على النار:
“بس أنا حاسس إني شوفت سمر قبل كده!”
تجمّدت في مكانها، كأن الزمن توقّف للحظة.
بلعت ريقها ببطء، حاولت استجماع شتات أعصابها، رسمت على شفتيها ابتسامة هشة كأنها قشرة خفيفة تغطي زلزالًا داخليًّا، ثم التفتت تنظر إليه.
كان وجهها هادئًا… لكن عينيها كانتا صاخبتين بالخوف، وكأنهما تصرخان: هل يكشفني الآن؟ هل انتهت هذه اللعبة؟ بهذه السرعة؟!
كان صوت “حمزة” هو من قطع الصمت، وهو ينظر إلى “رامي” نظرة شكّ ثقيلة.
أعاد “رامي” ظهره إلى الوراء، واستند على الكرسي، وأخذ رشفة من العصير بهدوء متعمّد، ثم نظر إلى “حمزة” وهو يبتسم تلك الابتسامة التي لا تُفسَّر بسهولة:
“لا بس وشها مألوف ليا… مش فاكر الصراحة…”
حسنًا علمت غزل بأنه يلعب بأعصابها ليس أكثر…
وفجأة، أنقذها صوت جرس الباب.
هرعت “غزل” إلى الباب، وقلبها يخفق كمن يهرب من حافة جرف.
فتحته، فوجد البوّاب يحمل أكياس العشاء التي طُلبت. أخذت الأكياس، شكرت الرجل بصوت خافت، وأغلقت الباب بسرعة.
دخلت إلى المطبخ، وراحت تفرغ الأطعمة وتضعها في الأطباق بيدين مرتجفتين تحاول إخفاء ارتجافهما… تحاول أن تصنع الهدوء بيديها، بعدما عجز قلبها عن صناعته.
أمسك نوح بالهاتف ، وسار خطوات نحو الأمام، مبتعداً عن الجمع المحيط به. دلف إلى منطقة أكثر هدوءًا، حيث يمكنه أن يتحدث بحرية. رفع سماعة الهاتف إلى أذنه، وبدأ حديثه بنبرة مليئة بالاحترام:
Hello Papa Steven… How are you?
“مرحبًا بابا ستيفن… كيف حالك؟”
-“I’m fine, son. Is what I heard true? Did you find your family in Egypt? Also, do you have a wife and a daughter?”
“أنا بخير، يا بني. هل ما سمعته صحيح؟ هل عثرت على عائلتك في مصر؟ وأيضًا، هل لديك زوجة وابنة؟”
زفر نوح بعمق ثم قال:
Yes, I feel as if my life has been turned upside down. I have seen many pictures of me with my family, and today, I saw my mother. I did not remember her, but I felt a burning longing for her coming from the depths of my heart. There are feelings that were lurking in “Inside me, I did not realize it existed, and in these two days, my feelings changed in a sudden and touching way.”
“نعم، إنني أشعر وكأن حياتي قد انقلبت رأسًا على عقب. لقد رأيت صورًا عديدة لي مع عائلتي، واليوم، رأيت والدتي. لم أكن أتذكرها، لكنني شعرت بشوق جارح إليها ينبع من أعماق قلبي. هناك مشاعر كانت كامنة في داخلي لم أدرك وجودها، وفي هذين اليومين، تباينت مشاعري بشكل مفاجئ ومؤثر.”
ابتسم ستيڤن ليقول بصوت غليظ:”
“We’re not taking you away from your family, Peter. We’re very happy for you, and my wife Annabella is very happy for you too. But I have a question: Will you stay with them there?”
“لن نبعدك عن عائلتك يا بيتر. نحن سعداء للغاية من أجلك، وزوجتي كارلا أيضًا تشعر بسعادة كبيرة لك. ولكن هناك سؤال يراودني: هل ستبقى معهم هناك؟”
أجاب نوح بعفوية:
Sure, why would I be away from my family again?”
“بالتأكيد، فما الذي يدفعني للابتعاد عن عائلتي مرة أخرى؟”
قهقه ستيفن قليلاً ثم تابع بصوت جاد:
“I didn’t mean it, of course, but if you stay with them, you’ll still be stuck in prison.”
“لم أقصد ذلك بالطبع، ولكن إذا بقيت معهم، فستظل عالقًا في السجن.”
تجعدت جبهة نوح، وعلامات الاستفهام بادية على وجهه، قائلاً بدهشة:
What do you mean?
“ماذا تعني؟”
قال ستيفن بوضوح وحزم:
Don’t you realize that everyone now sees you as one of the thieves? You came to Egypt and were considered to have stolen its antiquities, which placed you in a position of betrayal…. You are a spy on Egypt and stealing its archaeological information.
ألا تدرك أن الجميع يرونك الآن كأحد اللصوص؟ لقد أتيت إلى مصر واعتبرت من سرق آثارها، مما وضعك في موضع الخيانة… أنت جاسوس على مصر وتسرق معلوماتها الأثرية”
-But my wife, Rahaf, says I was not a thief, but rather a Ship Captain.”
“لكن زوجتي رهف تقول إنني لست لصًّا، بل كنت قبطانًا.”
-But your job now is to steal.”
“لكن عملك الآن هو السرقة.”
سكت نوح، وهو يشعر بعجز عميق يثقل كاهله، حينما هاتفه ستيفن مرة أخرى بصوت مفعم بالقلق:
-You are like my son, Peter, and we considered you part of our family. I fear for you if you stay there, because you will certainly fall into the grip of the law, as your sins have not been erased yet.”
“أنت مثل ولدي، يا بيتر، وقد اعتبرناك جزءًا من عائلتنا. أنا أخشى عليك من أن تبقى هناك، لأنك بالتأكيد ستقع في قبضة القانون، فخطاياك لم تُمحَ بعد.”
زفر نوح بعمق، وهو يتحدث بنبرة استسلام ومرارة:
And what should I do, Papa Steven?”
“وماذا عليّ أن أفعل، بابا ستيفن؟”
-Come back to us, and stay in Rome until your file is forgotten. After that, you can go back to your family and settle down with them.
“فلتعد إلينا، وابقَ في روما حتى يُنسى ملفك. بعد ذلك، يمكنك العودة إلى عائلتك والاستقرار معهم.”
-“How long will it take for me to be away from them again?”
“كم ستستغرق فترة ابتعادي عنهم مرة أخرى؟”
-According to Egyptian law, the crime of stealing antiquities is expected to disappear within a period ranging from ten to fifteen years, until your case is erased from public opinion.
“وفقًا للقانون المصري، يتوقع أن تزول جريمة سرقة الآثار في فترة تتراوح من 10 إلى 15سنة، حتى تنمحي قضيتك من الرأي العام.”
صرخ نوح بمرارة:
No, I can’t stay away from them for that long. This is more than I can bear.
“لا، لا أستطيع الابتعاد عنهم طوال هذه المدة. إن ذلك يفوق قدرتي على التحمل.”
– Think about what you said carefully, and then decide. Good-bye.
فكر في ما قلته جيدًا، ثم قرر. مع السلامة.
ثم أغلق ستيڤن المكالمة تاركًا نوح ينفجر في زفرة قوية، كاد البكاء أن يتفجر من عينيه، معبرًا عن إحساسه بالعجز الذي يثقل كاهله. التفت إلى صوت فرانكو خلفه، وقد نادى عليه قائلاً:
“Peter”
“بيتر.”
التفت نوح ليجد الثلاثة أمامه، ينظرون إليه بقلق وحيرة، تجسد في عيونهم مخاوفهم من المجهول وما قد تسفر عنه قراراته. قالت جين، بصوت يتخلله قلق عميق:
What is your decision now?
“وما هو قرارك الآن؟”
نظر نوح إليهم بضعف، وكأن الألم والتردد يعصران قلبه، ثم قال بصوت مملوء بالهوان:
“I’m confused…I don’t know what decision to make.”
“أنا في حالة من التشتت… لا أعلم ما الذي ينبغي عليّ اتخاذه من قرار.”
صاحت جين، وقد أضحت نبرتها حازمة وقوية:
There is no room for confusion here, the choice is completely clear. If you stay here, you will be imprisoned; But if you go with us, you will remain free. Which choice seems more obvious than being free?
“لا مجال للحيرة هنا، فالاختيار واضح تمامًا. إن بقيت هنا، فسوف تُسجن؛ أما إذا ذهبت معنا، فستظل حرًا طليقًا. أي الاختيارين يبدو أكثر وضوحاً من أن تكون حرًا؟”
تحدث توم قائلاً ليفك حيرته بعض الشيء:
I will arrange your papers so that you can travel to Rome without revealing your true identity. I have companions who are skilled in this field and they have managed to smuggle out many characters in this way.”
“وأنا سأقوم بترتيب أوراقك لتتمكن من السفر إلى روما دون الكشف عن هويتك الحقيقية. لدي رفقاء ماهرون في هذا المجال وقد تمكنوا من تهريب العديد من الشخصيات بهذه الطريقة.”
نظر نوح إليهم بدهشة، مستشعرًا أن هذه العصابة ماكرة للغاية في تنظيم كل شيء. ما الذي وضعه بينهم؟ هو ليس كذلك… لقد وُضع بالمكان الخاطئ… يريد رهف.. نعم كل ما يتمناه الآن هو أن يحتضن رهف، ليذيب بحضنها همومه ومخاوفه التي أثقلت كاهله.
نظرت جين إليه بتحديق عميق، وأمسكت بنظراتها العازمة على تردده، قائلة:
Why so much hesitation, Peter?
“لماذا كل هذا التردد، يا بيتر؟”
صاح نوح بهم جميعًا وكأنه قد فاض به:
Because I don’t want to stay away from my wife, Jane…. I don’t want to stay away from her… Here I am, four years have passed with you, and I never felt like I belonged, until I saw her. I only found myself in her presence, and I promise myself that I will never return without her with me, because without her, I have no life and no homeland.”
“لاني لا اريد الابتعاد عن زوجتي يا جين…. لا اريد الابتعاد عنها… ها أنا ذا، أربع سنوات مضت بينكم، ولم أشعر بالانتماء قط، حتى أبصرتها. لم أجد نفسي إلا في ظل وجودها، وإنني لأعاهد نفسي ألا أعود أبدًا إلا وهي معي، فبدونها، لا حياة لي ولا وطن.”
قال توم بلهجة جادة، وقد ارتسمت على وجهه معالم الحسم:
So, are you taking her with you?”
“إذن، هل ستأخذها معك؟”
قال نوح بثقة متجددة، وكأنه قد اتخذ قراره النهائي:
Of course, Rahaf and my daughter will come with me to Rome, until those years are over. After that, we will all return to Egypt.”
“بالتأكيد، رهف وابنتي سيأتيان معي إلى روما، حتى تنقضي تلك السنوات. وبعد ذلك، سنعود جميعًا إلى مصر.”
غادر رامي، وظلّ سمير وحمزة جالسَيْن يتسامران عمّا حدث. قال سمير بعفوية:
“بس يخربيت دماغه… عارف؟ أنا مبسوط اوي إننا اتفقنا. آه، حاسه طمّاع شوية، وفيه شوية معلومات عايز ياخدها على الجاهز، ومش عاوز يدفع مليم زيادة… بس ماقدرش أنكر إن شراكتنا معاه هتنقلنا في حتة تانية… حمزة؟ حمزة!”
كان حمزة شاردًا، يعيد في ذاكرته أحداث اليوم، وكيف نظر إليها، وكيف نظرت إليه. يبدو أنها تعرفه… وهو يعرفها… ماذا دار بينهما في المطبخ؟ أين رآها من قبل؟
أسئلة كثيرة تتقافز في رأسه بلا إجابة، حتى استفاق على صوت سمير يناديه:
– ها؟
– ها إيه! بنادي عليك بقالي ساعة… فين سرحان كده؟!
وضع حمزة يده على رأسه بألم:
– معلش يا سمير… دماغي فيها ميت حاجة وحاجة، وتعبان. عايز أنام… مش قادر أتكلم تاني خلاص.
استأذن سمير وغادر المنزل، بينما أسرع حمزة بخطوات مقتضبة نحو غرفة غزل. فتح الباب دون أن يطرقه، ليجدها جالسة على الأرض، تضمّ ركبتيها إلى صدرها، تحدّق في الفراغ، وكأنها تنتظر لحظة كشفها، طردها، أو تقييد يديها بالأصفاد… تنتظر صوت سرينة الشرطة.
ليس في ذهنها الآن أي سيناريو للنجاة.
نظرت إليه وبلعت ريقها، بينما بدأت ضربات قلبها تتسارع. نطق هو بجملة واحدة:
– إيه اللي حصل النهاردة ده؟
لم تجبه، واقترب منها، وظلّت هي تبتعد، فاستغرب من تصرفها، وفجأة تغيرت ملامح وجهه الغاضبة الى لين حينما تذكر أنه صرخ بها اليوم وهي خائفة منه تهاب ان يفعل بها شيئا… آخ يا حمزة…الا ترى الرعب بعينيها بسبب صراخك اليوم فلتكن لطيفا معها… وقال بنبرة حنونة:
– اهدي يا سمر… مش هأذيكِ… مالك خايفة كده ليه؟
حين نطق اسم “سمر” تنفّست الصعداء، وهدأ قلبها قليلًا، لكن ليس تمامًا.
اليوم أو غدًا، سيتم كشف كل شيء، وسيحكي رامي ما يعرفه عنها، لن يتركها وشأنها.
وضع يده على شعرها، ومسح عليه بحنان، وهو يبتسم:
– أنا آسف يا سمر… آسف إني زعقت النهاردة… ممكن متزعليش مني؟ حقك عليّ.
ابتسمت له غزل برضا، وبدأ خفقان قلبها يهدأ شيئًا فشيئًا بنبرة صوته الحنونة.
سألها:
أمالت رأسها بخجل، فقال بنفس النبرة:
– هانزل أجهزلك العشا… تكوني جهزتِ لنا فيلم حلو نتفرج عليه؟
ابتسمت غزل بعفوية، ونهضت من مكانها وقفزت على الفراش، وأمسكت ريموت التلفاز.
بينما كان حمزة يبادلها نظرة أخيرة قبل أن ينزل.
أيًا كانت تعرف رامي أم لا؟؟ فإن رؤيتها له اليوم زادت حالتها سوءًا، وضاعفت من اضطرابها.يجب أن يكون أكثر هدوءًا معها، خصوصًا بعد أن صرخ في وجهها وصارت تخاف منه… فليبث في قلبها الاطمئنان تجاهه كي يتحسن وضعها وتُشفى سريعا.
وبالفعل، أتى حمزة بالطعام، ودخل ليجدها قد رفعت شعرها كعكة، وتركَت غُرّة مجعدة تنسدل على جبهتها، تزيد من لطف ملامحها.
ابتسم رغمًا عنه، ووضع صينية الطعام على الفراش، ونظر إلى التلفاز.
وظلّا يضحكان طوال الليل على الفيلم، يستمتعان بأجواء المساء، ويزيحان عن نفسيهما توتر اليوم.
فقد كان يومًا شاقًا لكليهما.
______________________________
تحرك نوح برفقة عائلته، وقد عم الفرح بين الجميع لعودته بينهم. وقد اتفق مع زملائه على أنه سيعود إليهم بعد أن يقنع رهف بالذهاب معه إلى روما، وهو كاذب في هذا، إذ كان ينوي قضاء الوقت مع والدته قبل مغادرته.
صعد نوح برفقة العائلة التي تضم عائلة زوجته ووالدته، وتبين أن عائلته الحقيقية هي عائلة زوجته، فقد شعر بانتماء عميق وسريع لهم، لاسيما لوالدة رهف التي استقبلته كابنها. ظل يتبادل الحديث والضحك مع والدته والجميع، وكأن هذا الانتماء الجديد قد أعاد إليه جزءًا من نفسه كان مفقودًا.
كأنما التقى بمكانه الطبيعي بين هؤلاء الناس، حيث نال منهم دفء العلاقة وصداقة القلب، وهو الذي عاش سنوات من الغربة العاطفية. شعور بالارتياح الغامر امتلكه وهو يشارك هذه اللحظات السعيدة، بينما كان الحضور يشعرون بالسعادة في تجمعهم، مما جعله يدرك كم كان ينقصه هذا الشعور الحقيقي بالانتماء والدفء العائلي.
كانت رهف بالمطبخ ولكنها تراقب ضحكاته ونظراته وبين الحين والآخر تلتقي أعينهم صدفة، فتشعر رهف بخفقان قلبها يشتد وكأنها تعيش أولى لحظات حبها. كان نوح يجلس لوجي على قدمه، يداعبها ويضحك معها، بينما كانت العائلة تروي له مواقف طريفة كان جزءًا منها، حتى وإن كان لا يتذكر تفاصيلها فلا مشكلة له بأن يسمعها ويتخيلها ويساعد نفسه على تذكرها.
أخذت رهف تتنهد بعمق، مشبعة مشاعرها بالعشق، وهي تعجن العجين وتشكله بأيديها برقة واهتمام. شعرت بيد والدتها سعاد تضربها بكتفها بلطف، قائلة: “بتحبي جديد ولا ايه يا فوفا.”
ضحكت رهف بسعادة تغمرها: “فعلا يا ماما… أنا حاسه إني بحبه من أول وجديد ومبسوطة بالشعور دا…”
فقالت سعاد بتحذير: “اوعي بقى خالتك ميرفت تعرف… عشان حسن ابنها لو شم خبر إن نوح معانا…. هيقبض عليه.”
طأطأت رهف رأسها للاسفل بحزن وهي تنظر للعجين وتمرر اصابعها به بعنف لتفيض مرارتها: “ما هو مفيش حاجة معكننة عليا خبر رجوعه غير انه راجعلي ببلوة… وكمان البت جين دي انا مش مرتاحالها…. احنا بنات وبنفهم نظرات بعض كويس… البت بتبصله بطريقة انا فاهماها كويس… بس وربي ما هحلها… وريني بس هتقرب منه تاني ازاي وانا اخلص عليها ويبقى هو دخل السجن بتهمة سرقة آثار وانا دخلت بقتل ويلا بقى اللي يحصل يحصل.”
ضحكت سعاد بقهقهة عالية: “ياربي على جنانك يا رهف… اسكتي… كملي عجن… ما تسيبيني انا اعملها وروحي اقعدي معاه بدل ما عينك ناقص تخرج من مكانهم وتجري عليه تحضنه.”
ابتسمت رهف وهي تنظر للعجين وتكمل تشكيله بحب: “لا طبعا…. هو كان بيحب فطيرة السكر من ايدي لازم اعملهاله وادوقهاله في بوقه… وماما هتعمله محشي الكرنب اللي بيحبه بكرة فهبعت حسناء بكرة تنزل الصبح بدري تجيب كرنب من السوق وتوديها على بيت حماتي وانا هروح على هناك واساعدها في الاكل… انتِ مش متخيلة يا ماما انا قلبي طاير من السعادة ازاي… نوح رجع بعد اربع سنين!! حبيبي رجع تاني بعد ما الكل كان فاكر انه مات ولما عرفوني ان السفينة انفجرت كان موته امر مفروغ منه بس ربنا استجاب ليا ولعياطي طول الاربع سنين على فراقه ورجعهولي تاني.. الحمد لله يا رب..الحمد لله.”
وفجأة، اجتاحت دموع عينيها، لتنساب برقة على وجنتيها. لم تستطع رهف أن تمنع نفسها من الانهيار في أحضان والدتها، فتخلت عن العجين واحتضنت سعاد بشدة، وهي تبكي بدموع اشتياق وحنين. كانت دموعها تعبيرًا عن فرحتها الغامرة بعودة نوح إليهم مجددًا، بعد طول غياب.
عندما لمحها نوح بعينيه كالعادة تفاجأ بها في حضن والدتها يبدو أنها تبكي!…نعم إنها تبكي هرع إليها مسرعًا بعد أن أنزل لوجي من على ركبتيه واقترب من المطبخ..صاح بأسمها بلهفة تجتاح صوته ونبرته معبرة بالاهتمام والقلق عليها:”رهف… بتعيطي ليه!”
ابتعدت رهف عن والدتها سعاد، ونظرت إلى نوح بابتسامة تملؤها الدموع، ثم رمت نفسها في أحضانه بكل قوة، معانقة إياه بشغف وهي تهمس: “مش مصدقة إنني شايفاك وقادرة أحضنك تاني. مش مصدقة إنك رجعتلي من تاني.”
تصدّع قلبه تحت وطأة مشاعره العميقة، وشعر بأن قلبه تحت سيطرتها هي كفيلة بأن تحركه أينما شاءت! وببطء، رفع يده ليلامس خصلات شعرها، ويمسح برفق على رأسها، بينما يحيطها بذراعه الأخرى ليجعل جسدها يلتصق به أكثر. دفن رأسه في عنقها، شعرت رهف بشفتاه تلامسان رقبتها بدفء، وأنفاسه الدافئة تلامس خصلات شعرها، مما جعل رهف تنغمس في هذا الحضن الدافئ، غارقة في الشعور بالحب والحنان. تخللت لحظات الصمت والهدوء حولهم، حتى نسي الجميع أنهم في منزل العائلة، وأن هناك أعين تراقبهم.
لكن تواصل هذا الهدوء إلى أن نبهتهم لمسات صغيرة لذراعين صغيرين تحيط بهما. كانت طفلتهما لوجي، بجمالها الطفولي، قد انضمت إليهما، عانقتهما بحب خالص وهي تقول: “دخلوني معاكم أنا كمان.”
ابتعد نوح قليلاً عن رهف، وتطلع إلى ابنته الجميلة بابتسامة تتوهج بالحب، ثم انحنى ليحملها على ذراعيه. وفي اليد الأخرى، عانق زوجته، واحتضن ابنته بكل حنان، بينما عم الفرح أرجاء المكان بلم شمل هذه العائلة الصغيرة.
وصل نوح إلى منزله… أو ما يُطلق عليه الناس “منزله” هو وعائلته الصغيرة. نزلت لوجي من السيارة بسرعة الطفولة، تمسك بيد والدها بفرحة خالصة، بينما تبعتها رهف بخطوات هادئة، لتعانق ذراعه برفق، فيتقدم الثلاثة معًا نحو الداخل، كأنهم يتخذون أول خطوة جديدة في حياتهم.
توقف نوح عند عتبة الباب، وكأن المكان أعاد إحياء ذكرياته المدفونة. رأى ضحكات طفلة صغيرة تتردد في الأرجاء، وأصوات رهف تعانق الهواء. شاهد نفسه يركض وراء رهف في أروقة المنزل، ضحكاتهما تملأ الفراغات، وكأن الزمان يتوقف للحظة، مرتسمًا أمامه مشهدًا من الماضي.
لوجي، بفرحة الطفولة التي لا تنضب، أخذت يد نوح، تجرّه برقة نحو داخل المنزل، لتريه كل زاوية وركن فيه، بينما رهف كانت تُعد له حمامًا دافئًا وملابس نوم مريحة، وترش عطرًا جذابًا في غرفتهم. أما نوح، فقد وجد نفسه في غرفة لوجي، تلك الغرفة التي استُوحي تصميمها من براءة الطفولة، مليئة بالألعاب وصور الشخصيات الكرتونية. كان السرير مرتبًا بعناية، والخزانة منظمة بشكل مدهش، إلى جانبها كرتونة كبيرة.
ضحكت لوجي بفرح، وتقدمت نحو الكرتونة، تجرّ نوح معها للجلوس أمامها. فتحت الكرتونة بحماس طفولي، لتكشف عن مجموعة كبيرة من الألعاب، معظمها للإناث. أفرغت لوجي الكرتونة كاملة على الأرض، وابتسمت وهي تلتقط لعبة، تقول بحنين: “دي أول لعبة جبتهالي والمقربة لقلبي.”
ثم تناولت لعبة أخرى، قائلة بطفولة بريئة: “والدبدوب ده كسبناه أنا وانت في لعبة كانت في مول، وجبنا الدبدوب سوا… بجد، كان أحلى يوم، ورجعنا ولعبنا بيه هو وبقية العرايس.”
أخذت الثالثة، وكانت ملابس مخصصة للطباخين صغيرة على حجم جسد لوجي الصغير، وضحكت قائلة: ” كنت بلبسهم وبفضل العب بألعاب الطبخ اللي عندي بس مرة اخدتني للمطبخ ولبست زيي وقولتلي نعمل سوا بيتزا كنت لسه صغيرة وفرحت اوي ساعتها و كان فيه كرتون بيجي على التلفزيون عن راجل عجوز وبنت صغيرة معاه بتساعده، مثلنا أنا وانت. وبقيت عايزة دقنك تبقى بيضة زي الراجل العجوز عشان نمثل البرنامج صح، جبنا دقيق وقعدت أحطلك دقيق على دقنك وشعرك عشان يبان إنك عجوز…”
كانت حكاياتها وذكرياتها مع نوح تُعيده إلى زمنٍ مضى، زمنٍ لم تعد فيه تلك الذكريات حية في عقله. شعر بسعادة غامرة وهو يستمع إليها تحكي عن ماضٍ كان يربطه بها، في حين كان عقله يحاول جاهدًا تذكّر أي شيء مما تقوله، لكنه فشل.
صاحت لوجي بحماس: “ساعتها اتصورنا بكاميرا كانت عند ماما… استنى، ماما معاها الصور دي… ماما”
دخلت رهف الغرفة، وهي تحمل ألبومًا صغيرًا، وابتسامة تزين وجهها، وقالت: “بتدوروا على ده؟”
ضحكت لوجي حين رأت الالبوم الذي يجمع كل صور ذكرياتهم ثم تقدمت رهف نحوهم لتجلس بجانبهم، ونظرت إلى نوح بسعادة وهي تضع الألبوم بين يديه، قائلة بحب: “افتحه انت.”
نظر نوح إلى الألبوم، وفتح الصفحة الأولى، ليجد صورة تجمعه برهف، فتحدثت رهف بحب وحنين للماضي: “دي صور خطوبتنا… بص كنت شاب صغنون وعسل إزاي.”
نظر نوح إلى رهف بابتسامة خفيفة، ثم عاد لتقليب باقي الصور، فقالت رهف بشغف: “وده أول عشا بعد خطوبتنا… كنت واد جنتل الصراحة، وجبتلي ورد وأكلنا بعدها آيس كريم، وفضلنا نتمشى على البحر شوية… ياااه، كانت أيام الخطوبة أيام حلوة.”
ابتسم نوح وهو يتأمل الصور، متلمسًا خيوط الزمن التي تباعدت بين الماضي والحاضر. كم كان صغيرًا حينذاك، وقد بدت رهف أمامه في تلك الصور وكأنها تجسد بهاء الشباب وعذوبة الجمال. كان شعرها الطويل المتدفق، بسواده الذي أضفى عليها سحرًا لا يُرى بالعين المجردة، ينساب على كتفيها كليل هادئ يحيط بنجماته. كانت الصور تبرز جمال رهف بكل تفاصيله، إلى أن وصل إلى صور زواجهما، حيث كانت البهجة تملأ الأجواء، ولوجي تتراقص فرحًا برؤية تلك اللحظات مجددًا.
كانت رهف في ثوب زفافها تجسد الروعة، وكأنها لوحة فنية أبدعها الخالق في ذلك اليوم المميز. استمر نوح في تقليب الصور، كمن ينقّب عن لحظات مفقودة، حتى وقعت عيناه على صورة لرَهف وهي حامل، وبطنها المنتفخ ينذر ببداية حياة جديدة. وقف بجانبها في الصورة، والسعادة ترتسم على وجهه، يضع يده برفق على بطنها، وكأنه يلامس بيده جنينًا لم يولد بعد، وذكريات لم تُنسج بعد. قالت رهف حينها، وقد تملّكتها سعادة لا تُوصف:”هنا عرفنا إنها بنت، وانت كنت فرحان أوي، وقعدت طول الشهور الباقية مش بتعمل حاجة غير إنك تشتري فساتين وتوك. ما احتاجتش أجيب حاجة للبيبي ولا أفكر أجيبهم إزاي، لا، انت كنت متولي المهمة دي لوحدك، أنا بس كان عليّا اني أولد.”
ردت لوجي بحماس: “ماما وريله صورة لما طبخنا أنا وهو بيتزا.”
ابتسمت رهف وقالت: “حاضر، جاية في السكة أهي.”
مرت صور أخرى كانت تجمع لوجي ونوح، فقالت رهف بملامح تغمرها الحنين: “حرفيًا كنت مجنون بيها… كل ثانية تصورها… وأجي أقولك يا بني كل الصور دي ليه؟ تقولي خايف تكبر بسرعة ومحسش بيها… فضلت تصورها بكل مراحل عمرها لحد ما بدأت تمشي أول مرة، وبص، خلتني أصورك وانت ماسك إيديها الاتنين وهي واقفة على رجليك وبتضحك. الصورة دي الأقرب لقلبي.”
نظر نوح إلى الصور وابتسم، لكن تلك الابتسامة كانت تحمل في طياتها خليطًا من الحنين والحزن. الصور أمامه كانت تعكس براءة طفولة وسعادة نقية، مشاعر كان يعيد اكتشافها، وكأنها رسائل من الماضي تخاطب قلبه المتعب. أدرك نوح فجأة السبب الذي كان يدفعه لجمع كل هذه الذكريات مع ابنته وكأنها كنوز يخشى ضياعها. كان وكأنه يعلم في أعماق قلبه أنه سيأتي يوم يفقد فيه القدرة على استحضار هذه اللحظات، تلك اللحظات التي نسجت تفاصيل حياته وجعلتها أكثر دفئًا وإشراقًا.
في تلك اللحظة، شعر بوخز في قلبه، كأنه طعنة خفيفة لكنها عميقة، حين أدرك أن كل تلك الجهود التي بذلها لحفظ ذكرياته قد جاءت من خوفه الذي تحول الآن إلى واقع مرير. لمح ظلًا طفيفًا يتكون في ذاكرته، ولكنه كان كالسراب، يحاول ترتيب الأحداث، يقترب ثم يبتعد، يتلاشى في الأفق. كان كمن يسير في ضباب كثيف، يحاول الوصول إلى شيء يعرفه، لكنه لا يستطيع أن يمسك به. كل صورة كانت تفتح له بابًا، لكن أبواب ذاكرته كانت موصدة، ترسل له شذرات من الماضي لكنها لا تمنحه الوضوح الكامل.
همس بصوت موجوع: “كنت بقولك خايف تكبر بسرعة واديني اختفيت وكبرت بسرعة فعلا منغير ما اشوفها.”
كان همسه منخفضًا، بالكاد مسموعًا، فلم تنتبه له لوجي، لكن رهف التقطته، وشعرت بقلبها يعتصر ألمًا لحال زوجها. بادرته بإمساك يده، وضغطت عليها برفق، ثم تحدثت إليه بصوت يفيض بالدفء والحنان، محاولةً أن تبعث فيه شعورًا بالطمأنينة وسط دوامة الذكريات التي عاودت اجتياحه: “المهم دلوقتي انك في وسطنا ومع بعض… متخليش اي افكار تانية تبوظ عليك فرحتك ركز في الحالي وانسى اي حاجة ممكن تزعجك لما ييجي وقت تحس فيه بسعادة ويخبط عليك شعور هيإذيك من جوا مشيه بعيد عنك… وادي للفرح حقه منغير ما تخلي حزنك يأثر عليه في فترته.”
ابتسم نوح لها، وقد تملّكه إعجاب عميق نحوها، ثم عاد ليغوص في ذكريات الصور القديمة معهما. وحينما ظهرت الصورة التي كانت لوجي تنتظرها بشغف، أشارت بإصبعها الصغير نحوها، وكأنها تُحيي لحظة زمنية خالدة.
في تلك الصورة، كان نوح يبدو وكأنه خارج من عمق ذاكرة مفعمة بالحنين؛ ذقنه وشعره مُغطّيان بالدقيق، الذي اكتسب لونًا رماديًا باهتًا بفعل سواد ذقنه الطبيعي. أما على خديه، فقد تجمعت بقايا الطحين، نتيجة مزاح لوجي الطفولي، الذي كان يضفي على المشهد براءة وسعادة لا تشوبها شائبة. وهما يخلطان العجين بابتسامات تنضح ببراءة الطفولة وسعادة اللحظة، تلك الابتسامات التي اختزلتها الكاميرا في لقطة واحدة، لكنها كانت كافية لتُضيء ذاكرة نوح وتحفز فيها دفء الأيام الجميلة.
كانت تلك الذكريات والصور كضوء يخترق عتمة المساء في قلب نوح، وكأنها تعيد إليه إشراق الحياة التي عاشها مع رهف ولوجي. لقد كانت حياته زاخرة بالجمال بوجودهما، وشعر بسعادة غامرة وامتنان عميق لعودتهما إلى قلبه وحياته مرة أخرى، وكأنهما يبعثان فيه الحياة من جديد بعد أن ظن أنها انطفأت.
بعد أن استسلمت لوجي لنوم هادئ في أحضان والدها على السرير الصغير في غرفتها، تبادل نوح لحظة هدوء مفعمة بالحب وهو يبتعد عنها بهدوء ويغطيها بحنان ثم خرج من الغرفة ببطء وفتح بابها ثم اغلقه وراءها بصوت هادئ حتى لا تستيقظ ابنته لينتبه من وقوف رهف أمامه قائلة بتساؤل:
“بقالها اربع سنين نفسها تنام في حضنك… تقوم سايبها وماشي؟”
قال نوح بصوت يتسلل منه الضعف والحب، وعينيه تشعان بشغف عميق لا يخفى: “مهو أنا عايز أنام في حضنك انتِ!”
في لحظةٍ تفيض رومانسيةً، حمل نوح رهف بين ذراعيه كمن يحمل قطعة من روحه، متوجهًا نحو غرفتهما. تلاقت عيونهم بشغفٍ خفي، كأنهما يتبادلان عشقًا وشوقًا صامتًا لا تحتاج الكلمات للتعبير عنه. دخل الغرفة، ثم أغلق الباب خلفه بقدمه….فليحظوا بخلوتهم كأزواج.
كان زين ورحيم يتحدثان عبر الهاتف.
ابتسم رحيم بشرود وهو يجيب:
– تمارا… بنت جميلة أوي يا زين… نقية وصافية… عنيها جميلة أوي… عمياء، بس طيبة الدنيا كلها في قلبها.
ضحك زين قائلاً:
– أوووه… رحيم بيحب أخيرًا!
– لأ، مش حب أكيد… هي بس عجبتني… يعني إنت عارف إني بتشدّ لنوعي القديم.
– نوعك القديم، آه…
أسند رحيم ظهره، وقال بألم:
– طبعي القديم اللي نفسي أرجعله… لقيت “رحيم بتاع زمان” فيها… وكأني بدوّر على نفسي ولقيتها فيها!
ضحك زين وقال ممازحًا:
– طب يا عسل، هنعمل إيه دلوقتي؟!
– تلاقي رجالة أشرف عرفوا مكاننا وبعتوا ناس سرقونا… فكك، مش هنقول للزعيم أي حاجة… ما هو معاه قد كده، لو خسر شماعة من المحل، فمعاه المول كله.
قهقه زين قائلاً:
– أشرف إيه يا عم؟! ده تلاقيه مرجعش أصلاً من السفرية.
اعتدل رحيم في جلسته وقال بجديّة:
– مين ده اللي مرجعش؟! رجع أكيد.
رد زين ساخرًا:
– رجع إيه يا اهبل؟! ده لسه منزّل بوست من كام ساعة وهو جنب برج إيفل على الإنستا، والإنستا بيبيّن موقعك، كان في فرنسا… لسه مرجعش، ولا حتى عرف بالبلوة اللي حصلت له! وإحنا قافلين كل الخطوط الأرضية اللي توصّل أي رقم من مصر لموبايله، يعني حتى لو حاولوا يتّصلوا بيه، مش هيعرفوا، و مراته وعياله هكذا محدش يقدر يبلغوا اي حاجة الا لو اتصل استفسر واحنا متابعين الخط بتاعه يعني اي مكالمة هنقطعها مازن ماسك شبكات البلد كلها وارقامهم متنساش اننا حاطين كل احتياطاتنا ورغم كل ده تخيل نتسرق من بيتنا!!
نهض رحيم من جلسته، يبلع ريقه، ودماغه تشتعل بسؤال واحد:
إن كان أشرف لم يَعُد بعدُ من سفره، فلِمَن أعطى المال؟!
غلب النعاس عيني غزل، واستسلمت لهدوء الليل، كطفلةٍ أرهقها البكاء فنامت على نفسها. راح يتأمل ملامحها الساكنة، وابتسامة وادعة ترتسم على شفتيه دون وعي، وكأن رؤيتها بهذا الصفاء قد أطفأت شيئًا من ضجيجه الداخلي.
مدّ يده برفق وأزاح خصلةً سقطت على وجهها، ثم غطّاها بلحافٍ ناعم. أطفأ التلفاز، وخرج من الغرفة بخطى هادئة، وأغلق الباب خلفه برفقٍ يشبه التنهيدة.
في غرفته، ألقى بجسده المثقل على السرير، كمن أنهكه التعب الجسدي والعقلي معًا. زفر بعمق، زفرةً خرجت من أعماقه، وكأنها تحمل معها صخب اليوم بأكمله.
صمتٌ ثقيل خيّم على اللحظة… حتى قطعه رنين الهاتف.
أدار رأسه ببطء، نظر إلى الشاشة، فاستوقفه الاسم:
الساعة كانت الثالثة مساءً… توقيت غريب لمكالمة مفاجئة!
تردّد للحظة، ثم أجاب، فجاءه صوت رامي متردّدًا:
– أنا آسف إني برنّ عليك في وقت زي ده… بس… أنا محتاجك في موضوع مهم.
توقعاتكم
دمتم سالمين
متنسوش تصلوا علنبي


